Telegram Web Link
مما يكثر وقوعه في ما يختلف فيه أهل القبلة من مسائل الأصول والفروع أن بعض الناس حين يقوى ثبوت باب من الحق في نفسه ، لموافقة هوى ، أو عادة أشياخ ، أو حسن اطلاع على دلائله ، أو اشتغال بالمناظرة فيه = يشتد في معاداة مخالفه فيه أكثر مما يفعل مع مخالفه في غيره ، مما هو أكبر رتبة في الدين ، وأعظم منزلة في كلام الله ورسوله ، فيبوء بشعبة من البغي.

وقد نبه أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في كلام له حسن إلى هذا المعنى ، فقال بعدما ذكر طَرْد أبي المعالي وغيره أصولا وافقوا فيها المعتزلة ، والتزموا لوازمها من إنكار العلو مع كونهم يثبتون الرؤية :

"ولهذا صارت المعتزلة تسخر منهم ، حتى يقول قائلهم : (من سلم أن الله ليس في جهة ، وادعى مع ذلك أنه يرى ؛ فقد أضحك الناس على عقله) ، أو نحو هذا الكلام ، ولهذا صار أكثر مناظراتهم مع الفلاسفة والمعتزلة فيها من الضعف ما أطمع أولئك فيهم ، وصاروا يفزعون منهم ، ويجنبون عنهم ، ويستطيلون على إخوانهم المؤمنين.

... وهذا القدر الذي يوجد في هؤلاء = قد يوجد من جنسه في منازعيهم من أهل الإثبات ، بحيث يَعْظُم اهتمامهم لما ينازعون فيه إخوانهم -الذين يوافقونهم في أكثر الإثبات- من أدقِّ مسائل القرآن والصفات وغير ذلك = بحيث يوالون على ذلك ويعادون عليه ، مع إعراضهم عمن هم أبعد من هؤلاء عن الحق والسنة ، حتى يفضي بكثير منهم الجهل والظلم إلى أن يحب أولئك ويثني عليهم ؛ لما يرى فيهم من نوع خير ، أو أنه لا يبغضهم ولا يذمهم ، مع أنه يبغض هؤلاء ويذمهم ، وهذا من جهله بحقيقة أحوال الناس ، ومراتب الحق عند الله ، ومن ظُلْمِه ، حيث يكون غضبه لنفسه لما يناله من أذى هؤلاء أحيانًا أعظم من غضبه لربه فيما فعله أولئك.

والدين إنما يقوم بالعلم والعدل المضاد للجهل والظلم ، وبذلك أنزل الله كتبه وأرسل رسله ، والله تعالى يؤلف بين قلوب عباده المؤمنين على ما يحبه ويرضاه".

[بيان تلبيس الجهمية (٣/ ٥٤١)]

#ملامح_من_منهج_العلم
‏من أعظم أسباب النجاة حين اشتداد الفتن بالأهواء والشهوات = أن يستحضر المرء عبوديته لربه ، وأنه مملوك لا يملك شيئا ، حتى عقله الذي يظنه سينجيه لا يملك توفيقه للإصابة ، وأن ينطرح على عتبة الرب ، ويسأله برْدَ اليقين ، وأن يناجيه صادقا ملخصا :

يا سيدي لا نجاة لي بغير منك ورحمتك ، ‏لو شئت أهلكتني كما هلكوا ، فجعلتني خبيثا معجبا بهواه ورأيه ، يستحل الكفر ويعترض بعقله الخسيس على الحكمة التامة والعلم الواسع ، أو خائضا في محرَّمات الدماء والفروج والأموال ، أو نصيرا للظالمين ، أو منتحلا ضلالة داعيا لها وناصرا ، لكنك أكرمتني ، فلا تحرمني مزيد عطائك ، وفقني واهدني وسددني ، ولا تجعلني ناكصا على عقبي.

‏ولا والله لا يُضل الكريمُ المنطرحَ على بابه ، المديمَ للتذلل والسؤال ، المتأدبَ بين يدي مولاه ، ولو عظمت خطاياه.

لكنه يُضل المعجب بنفسه ، الغافل عن حقه ، الذي تريه نفسه أنه يصيب الحق بحسن نظره وتحقيقه ، وإحسانِه الإيراد والجواب ، وسعة علمه وبصره بمحالِّ الإشكال ومحيِّرات العقول ، أجارنا ربنا الكريم من هذه المنزلة.
يقع لكثير من الناس أن يسبقه عقله عند مجادلة الخصوم إلى جواب مسألة أو تقريرها على وجه يستلزم نوعا من الفساد في النظر ، ولا يفطن لذلك اشتغالا بما هو فيه ، ثم إذا فرغ من شأنه ذلك ، وأقبل على غيره مما يذهب الحق فيه بذلك الفساد = صار بين حالين أحلاهما مر :

- أن يلتزم لوازم قوله ويطرده ، فيدخل في الباطل ، وربما تقلد باطلا أكبر مما رام رده أول الأمر.

- أو يمتنع مع استلزام قوله لذلك فيتناقض ، ويمتنع أهل العقل والنصفة من قبول ما يقول لنفرة النفوس من التناقض ، وغياب معرفتهم بالحق على وجهه.

وهذا الأمر لم يزل للناس به ولع من قديم ، وقد دخلت به على الأمة المحمدية من أنواع البدع والضلالات في الأصلين وغيرهما ما لا يسهل حصره ، وزاد في الأعصر المتأخرة مع اتساع الخصومات وكثرة المتصدين للذب عن الشريعة ، مع ضعف النفوس في مقام الصبر على تحصيل العلم وتحقيق الفقه في الدين ، والله المسؤول أن يبصرنا بالحق ويجنبنا الفساد.
قال عبد الله بن المبارك :

"قال عيسى بن مريم عليه السلام : ينبغي للوصف القليل العمل الكبير ، حتى متى تصف الطريق للدالجين ، وأنت مقيم في محلة المتحيرين ؟!"

[أخبار الشيوخ وأخلاقهم ، ص : ١٣٠]
أستعذب في المقابلة بين أهل الصلاح وأهل الفساد قول أبي فراس في آخر شافيته :

خَلُّوا الفِخَارَ لعلَّامين إن سئلوا ..
يومَ السؤالِ وعمَّالين إن عَلِموا

لا يغضبون لغير الله إن غَضِبوا ..
ولا يُضِيعُون حكم الله إن حكموا

تبدو التلاوة من أبياتهم أبدًا ..
وفي بيوتكمُ الأوتارُ والنغَمُ

إذا تلوا سورةً غنَّى إمامُكم ..
قفْ بالديارِ التي لم يَعْفُها القِدَمُ

ما في ديارهم للخمر مُعْتَصَرٌ ..
ولا بيوتُهم للسوء مُعْتَصَمُ

الركنُ والبيتُ والأستارُ منزلُهم ..
وزمزمٌ والصفا والحِجْرُ والحرَمُ

وقد يروي بعض أهل زماننا البيت الرابع :

إذا تلوا سورةً غنَّى إمامُكم ..
(هبَّت هبوبًا) و(بَنْدِنْ) إنني سَدِمُ
من الناس من يلزم مجافاة الكلام في أبواب التقصير العام التي يطرقها الوعاظ ، ولا تخطئ عين الناظر ولعه بدقائق الهوى الداخلة على المتشرعة ، وما يُخِلون به من المصالح والمفاسد ، ودقيق الفقه = مما يظنه حسن نظر وبعد غور.

وما أكثر ما يحمل على ذلك دسائس من خفي الكبر ، والأنفة عن المطروق المعلوم العام الورود ، والتلذذ بعلوم الخاصة التي لا يتفطن لها أكثر الخلق ، وأشباه هذه الآفات التي تعرض للأذكياء والمثقفين حديثا ، وكانت تعرض للفلاسفة قديما فتحملهم على أنواع يختصون بها من التدين واعتناق المقالات وسبل الاحتجاج.

وما أحرى بذي الديانة من محاذرة هذه المزالق فإنها لا تهلك إلا من يظن أنه في سوق التحقيق صاحب الكسب الأعظم ، وهو المصروف عن الخير على الحقيقة.
نقد الأخبار والحكايات

يُتخفَّف في نقد الأخبار والكلمات المحكية عن أهل العلم ما لا يكون في المرفوع من كلام النبي ﷺ ، فيُسهَّل في أسانيدها ، ويُمشَّى ما رواه المجاهيل ومن في ضبطهم كلام وما فيه انقطاع ، إلا أن ذلك لا ينفي وجود النقد لهذا النوع ، وقد صنف ابن حبان "علل مناقب أبي حنيفة ومثالبه" ، وللذهبي عناية بذلك في كلمات منتثرة في سيره يعقب بها على الأخبار (١).

ويُتشدد في نقد هذا النوع إذا كان من رواية الكذَبة وشديدي الضعف ، أو ظُنَّ غلط مضمونه لغرابة لفظه أو خلافه للمعروف من مذهب صاحبه ، أو بني عليه أمر ذو بال يحتاج إلى ثبوت مبناه ، ونحو ذلك مما يعرض فيلزِم بالتشديد والتثبت.

ومن أمثلة ما لا يُمشَّى من الحكايات ما يجيء من طريق أحمد بن الصلت بن المُغَلِّس ، وهي نسخة موضوعة أخرج منها الصيمري في كتابه "أخبار أبي حنيفة وأصحابه" ، وعنه تنقل كتب التراجم كثيرا بحذف الإسناد ، وقد سئل الدارقطني : "عن جمع مكرم بن أحمد فضائل أبي حنيفة ، فقال : موضوع ، كله كذب ، وضعه أحمد بن المُغَلِّس الحماني".

[تاريخ بغداد (٥/ ٣٣٧)].

وكذلك بعض ينقله الفخر الرازي يحكيه من أخبار الشافعي ، قال ابن كثير عن تصنيفه في المناقب : "اعتمد على منقولات كثيرة مكذوبة ، لا نقد عنده في ذلك ، فلهذا كثر فيها الغرائب والمنكرات من حيث النقل".

[طبقات الشافعيين (١/ ٧٤)]

وفي الأخبار والحكايات طائفة يميز حالها من له ذوق بألفاظ الأئمة وأحوال الرجال ، حتى يكاد يستغني بذلك عن النظر في ثبوتها ، ومن أمثلة ذلك ما أخرجه ابن عساكر في تاريخه (٥١/ ٣٥٦) من طريق ابن حمكان (وهو في كتابه في المناقب غالبا) بإسناده عن الشافعي أنه قال :

"حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ ؛ لأن المعاني مبسوطة إلى غير غاية ، وممدودة إلى غير نهاية ، وأسماء المعاني مقصورة معدودة ، ومحصلة محدودة.

وجميع أصناف الدلالات على المعاني لفظ وغير لفظ ، خمسة أشياء لا تزيد ولا تنقص : أولها اللفظ ، ثم الإشارة ، ثم العقد ، ثم الخط ، ثم الذي يسمى النصبة.

والنصبة في الحال الدالة التي تقوم مقام تلك الأصناف ، ولا تقصر عن تلك الدلالات ، ولكل واحد من هذه الخمسة صورة مواتية من صورة صاحبتها ، وحيلة مخالفة لحيلة أختها ، وهي التي تكشف لك من أعيان المعاني في الجملة ، وعن معانيها في التفسير ، وعن أجناسها وأفرادها ، وعن خاصها وعامها ، وعن طباعها في السار والضار ، وعما يكون لهوا بهرجا ، وساقطا مدحرجا".

وهذا كلام لا يشبه كلام الشافعي رحمه الله ، وهو من غلط ابن حمكان ، وقد ذكره الجاحظ بالحرف في البيان والتبيين (١/ ٧٦) ، وهو به أليق.

ولمَا عند ابن حمكان من نظائر هذا الغلط = كان المزي لا يرضى أشياء من ترجمته للشافعي ، كما نقل ذلك ابن كثير في ترجمته من الطبقات (١/ ٣٣٤).
_
(١) وكثيرا ما يشير إلى الراوي محل الإشكال بتعليق الإسناد إليه ، فيقول مثلا : "سعيد بن أحمد اللخمي المصري : سمعت المزني يقول : كنت مع الشافعي يوما ..." ، فسعيد هذا مجهول ، وهي طريقة يفعلها في بعض كتبه ، وقد ذكرها في اختصاره لسنن البيهقي (١ /٥).
(وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا)

تأمل كيف حرض هؤلاء الكفرة أصحابهم على نوح عليه السلام بأن جعلوا اتباعه في ترك الشرك = تركا لهؤلاء الصالحين ، وكأن الناهي عن الشرك مبغض للصالحين مخالف لهم آمر بمشاقتهم وترك طريقتهم ، مع أنه هو أولى بهم.

وهذه خديعة للشيطان لم يزل يلبس بها على الناس ، فإذا غلوا في رجل أراهم أن الرجوع للقصد معاداة لهذا الرجل (المعلوم صلاحه ومعاداة الله لعدوه) ، فيعميهم بذلك عن الحق.

ولما قام أبو العباس ابن تيمية ومن تبعه في إنكار الاستغاثة بالنبي ﷺ زعم أهل الضلال أن ذلك انتقاص لمقام النبوة وشتم له ، فصار تابع النبي ﷺ في إنكار الشرك عند هؤلاء مرتدا يستحق القتل !

ومن المتعصبة من إذا عورض قول إمامه بالحديث ؛ جعل الأخذ بالحديث مخالفا لهذا الإمام الذي لم ينبل في الأمة إلا باتباع الحديث وانتحاله ، وهذا كله راجع إلى هذه الحيلة الشيطانية التي تعظم الرجال ثم تسلط تعظيمهم على الحق ، وتجعله عيارا عليه من حيث يشعر صاحبها أو لا يشعر.

#الفهم_المعطى
قال سبط ابن الجوزي عن جده الحافظ أبي الفرج رحمه الله :

"وأوصى جدي أن يكتب على قبره :

يا كثيرَ العفوِ عمَّن .. كَثُرَ الذنبُ لديهِ
جاءكَ المُذنِب يرجوُ الصـ .. ـفحَ عن جُرْمِ يديهِ
(أنا ضيفٌ وجزاءُ الضـ .. ـيف إحسانٌ إليهِ)".

[مرآة الزمان (٢٢/ ١١٦)]
عن عروة بن الزبير : "عن عائشة قالت: (تزوجني رسول الله ﷺ في شوال ، وبنى بي في شوال ، فأي نساء رسول الله ﷺ كان أحظى عنده مني ؟!).
قال : وكانت عائشة تستحب أن تدخل نساءها في شوال".

[أخرجه مسلم]

قد كان أهل الجاهلية يتطيرون من ذلك ويكرهونه ، فجعل ربنا في خلافهم خيرا ، فهذا شوال ، فمن أراد عقدا على امرأة ، أو بناء بها = فليجعله فيه ، فإنه مما وُجِدت بركته.
لا يضيع الله صاحب سريرة حسنة إن ضل ، إما يمن عليه بالهدى ، أو يغفر له بسعة العذر.

وكم من أسباب يُتعجَّب كيف يصل بها الهدى إلى الصادق في طلبه ، وأمور على خلاف العادة تقع ليستنقذ الله بها هذا العبد ، وهذا مجرب مشهود في مواضع مختلفة الأحوال.

وعلمُ هذا مما يبين لك أن إعراض عامة الخلق عن الحق = سببه فساد نفوسهم ، وخبث سرائرهم ، وإيثارهم على الحق سواه من المطامع ، فلا تسرف بعد ذلك في تتبع أسباب الإعراض ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات ، ولا تملأها غيظا على إخوانك المؤمنين أنْ أعرض عنهم من لعل الله قد علم فساده فطرده ، وإن تزيا بأصناف العلل ، (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم).
استدل بعض الفضلاء بقول الله (فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا) على جواز حمل المشترك على معانيه ، وقرر ذلك بأن جعل الأزواج من أنفسنا ليس كجعلها من الأنعام.

ولا ينهض هذا الاستدلال على المطلوب ، فإن (الجعل) في الآية ليس لفظا واحدا ، بل هما لفظان مستقلٌ كل واحد منهما بنفسه ، فهو مثل قولك (رأيت عينًا ورأيت عينًا) ، فهنا يصح - بلا نزاع - أن يراد بالعين الأولى الجاسوس ، وبالعين الثانية الماء ، أو بالرؤية الأولى رؤية القلب ، وبالثانية رؤية العين ، إنما يكون واحدًا لو قال الله : (جعل لكم من أنفسكم ومن الأنعام أزواجا).

- ثم هو إذا صار واحدًا فليس ثَم معنيين ليقع اشتراك في اللفظ ، بل هو معنى واحد وهو أنه جعل أزواجًا أي اثنين ، وهذا التزويج متحقق في الأنفس والأنعام بالتثنية ، فهي جعلت اثنين اثنين سواء ، فإن الجعل هنا مقصود به التزويج وهو حاصل.

- ثم لو لم يذكر التزويج = فيبقى اللفظ غير مشترك أيضًا ، إذ الجعل هو الخلق ، فهو كقولك (خلق الله الحجر والشجر) ، وأصل الخلق هو الإنشاء ، والتفاوت فيه في فعل الرب من قبيل التواطؤ ، لا الاشتراك ، فهذه ثلاثة أوجه في إبطال الاستدلال بالآية ، ولا يلزم من ذلك - كما هو معلوم - منع الجواز ولا ثبوته ، إذ هذا بحث في الدليل المعين ، والله أعلم.

#أنظار_في_الفقه_ومآخذه
قال الذهبي : "حكيت لشيخنا ابن تيمية قول الشيخ علي بن النفيس المحدث (ت : ٧٠٤ هـ) : (عمري ما رأيته في أنثى ولا ذكر) ، فدعا له الشيخ وعظمه".

[سير أعلام النبلاء (١٣/ ٥٠)]

"فدعا له وعظمه" كلمة عارضة كهذه ربما مرت فلم ينتبه لها ، نفس تعظم طاعة العباد لله ، وتحسن إليهم بها = نفس تحيا بمحبة الله على الحقيقة ، وبمثل هذه النفس ارتفع أبو العباس رحمه الله.

وقد جاء هذا المعنى عن أحمد في مرض موته ، حكى صالح فقال : "وجاء رجل من جيراننا قد خضب ، فدخل عليه ، فقال أبي : إني لأرى الرجل يحيي شيئا من السنة فأفرح".

[سيرة الإمام أحمد لابنه صالح (ص : ١٢٢)]

وهذه المعاني وأشباهها إذا قامت القلب نوَّلته الولاية ، وصار بها يسير ما تأتيه الجوارح عظيما.
العجلة مانع التحقيق وثمار النظر ، وهي عظيمة الأثر في أخذ المرء للعلم ، وكم امرئ يركب الشطط مع صلاح عقله للفهم ، وإن تأملتَ حاله وجدته يؤتى من عجلته.

يتصور ما ينافي قصر الطريق من فضول القول وتضييع الزمان ، ونفسه تؤزه للفراغ بأسرع ما أمكن ، فلا يسع العمر لبحث الاحتمال ولا لتسريح الذهن في بقع الإمكان ولا تقليب الكتب الكثيرة ، ولابد من مجافاة التوقف وإحكام القول في كل مسألة ، وأن يبين كل شيء كالشمس.

وقد كان من محاسن انحصار العلم في مجالس العلماء قديما = أنهم يخبرون الطلبة فينيلون كلا ما يصلح لنفسه ، فإن من العلم ما يضر في غير المحل القابل ، وهو على تعبير دارج لطيف كان الوالد أعزه الله يستعمله إذا آنس من بعض ولده عجلة في شيء : "الرجَّة ما يبغالها" ، وهو من مقلوب الكلام أي المسألة لا تحتاج طيشا وعجلة.

#ملامح_من_منهج_العلم
العذر ممن تواصل من الفضلاء في الأشهر الثلاثة الماضية عبر ما في الوصف ، لم تكن الرسائل تصل ، وقد زال الإشكال الآن.
قال ابن عبد البر : "وسمعت غير واحد من شيوخي يذكر أن الغازي بن قيس لما رحل إلى المدينة سمع من مالك ، وقرأ على نافع القارئ ، فبينما هو في أول دخوله المدينة في مسجد رسول الله ﷺ إذ دخل ابن أبي ذئب ، فجلس ولم يركع ، فقال له الغازي : قم يا هذا فاركع ركعتين ، فإن جلوسك دون أن تحيي المسجد بركعتين جهل - أو نحو هذا من جفاء القول-.

فقام ابن أبي ذئب فركع ركعتين وجلس ، فلما انقضت الصلاة أسند ظهره وتحلق الناس إليه ، فلما رأى ذلك الغازي بن قيس خجل واستحيا وندم ، وسأل عنه فقيل له هذا ابن أبي ذئب أحد فقهاء المدينة وأشرافهم ، فقام يعتذر إليه ، فقال له ابن أبي ذئب : يا أخي لا عليك ، أمرتنا بخير فأطعناك".

[التمهيد (٢٠/ ١٠٦)]

محمد ابن أبي ذئب (ت : ١٥٩ هـ) إمام كبير قرشي من علية أهل المدينة ، لم يُحفظ من فقهه شيء يذكر ، ولكن حسبك في قدره تفضيل أحمد له على مالك في العلم والورع ، وقد كان محمد يُشبَّه بسيد التابعين سعيد بن المسيب ، ويقوم بالحق في مواضع مخوفة لا يقوم فيها أحد.

فانظر كيف صنع هذا الإمام لما أمره رجل - في رتبة طلبته - بشيء لا لوم بتركه عند جمهرة المسلمين ، وما يصنع ذاك إلا وليٌ عَظُم الحق في نفسه عظمةً تشغله بالانقياد عن تلمس علل الترك ، كما كانت شغلته بالقيام بالحق عن السكوت في المواضع المخوفة.

وانظر كيف لم يشتد ابن أبي ذئب - وهو الصارم قوي النفس - على هذا الطارئ الذي لا فضل له ولا سابقة تكافئ فضله ، ولم يقل له : أما عرفت فضلي يا جاهل أقدار الخلق ، ويا من تعجز عن قيامي في وجه السلطان وصدعي بالحق ؟!

فإن المخلص إذا أُمِر بخير لم ينكره ، إلا أن يكون الآمر ظنه خيرا وهو ليس كذلك ، فينكر عندئذ لحظ الشريعة لا لحظ نفسه.

وتغلط طائفة في هذا الباب ، فتظن غلط المحتسِب في أدب الحسبة = يسقط تكليف الشارع بالحق الذي نقله ، ويصير عذرا عند الله في ترك ذلك الحق ، أو في ردود الفعل التي قد يرتكبها المحتسَب عليه ، وترك الأدب إنما يضر المتحسبَ لتركه الواجب عليه في احتسابه ، ولكنه لا يمنع قيام الحجة بفعله.

وإذا استحضرتَ هذا أعرضت عن غلو هؤلاء في أبواب الأدب ، ورفعها فوق أبواب الأمر والنهي ، وتجويزهم من التشديد في ترك الأدب ما لا يجوزونه في ترك أصل المنهي عنه ، الذي قد يقع له من الأدلة المنصوصة المفصلة التي لا يدخلها من الاشتباه = أكثر مما يأتي في مسائل الأدب التي يكثر أن تتنازعها دقائق في الاجتهاد وتقدير المصالح.

وأعرضتَ كذلك عن شعب من الكبر الخفية الداخلة على بعض المنسوبين إلى الصلاح ، حين يُخاطَب أحدهم بالحق في كساء غليظ ، فيحمر أنفه ويركب رأسه ، ويدع المنزلة - التي هو حري بها ومحل حسن الظن في نزولها - من لزوم الحق والانقياد إليه.

وربما غاضب إخوانه ، أو سماهم وسطا طاردا جاحدا للفضل ، وحمل عليهم في نفسه ما قد يأثم به أكثر من إثم المحتسب الذي قد يتأول ، والله يسلك بنا سبيل أسلافنا الصالحين ، ويغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات.

#الأمر_الأول
عن محمد بن الهيثم الكوفي المقرئ (ت : ٢٤٩ هـ) أنه قال : "أدركت الكوفة ومسجدها الغالب عليه قراءة حمزة ، ولا أعلمني أدركت حلقة من حلق المسجد الجامع يقرؤون قراءة عاصم".

[السبعة لأبي بكر ابن مجاهد (ص : ٧٦)]

ثم أدار الله الدنيا ، وقدر ما شاء ، فصارت الحظوة لقراءة عاصم ، وغالب أهل الإسلام في هذا الزمان يقرؤون بها من رواية حفص عنه ، وعليها مصاحفهم ، بل لا يكاد يخلو منها مصر من أمصار الإسلام.
الواجب يثاب فاعله ويستحق الثناء عليه ، هذا معنى لا يكاد يجهله أحد ، إلا أنك واجدٌ غيابَ هذا عن الناس كثيرا ، ولا تفتأ تسمع منهم من يحْقِر شأن الواجب ، ولا يرى لفاعله فضلا لكونه واجبا عليه ، وربما عظُم في نفسه ما هو دون ذلك.

تجد هذا في حقوق الخلق ، فيقول جاحد الخير من زوج أو ولد تلك الكلمة الشائعة إذا ذكره أحد أو وعظه : (هذا واجب عليه أصلا ، ما له فضل) ، مع أنه ربما استأسر للطف صديق ، وحلاوة معشره وحسن هديته.

وتجده في حقوق الرب المحضة ، فينشط قوم لمستحب العبادات (كختمات القرآن والأوراد وتهجد الليل وطلب العلم) ، ولا ينشطون لأداء الواجب منها وإصلاح خلله (كتعاهد عقل الصلوات الخمس وحفظ البصر واللسان والبطن).

والموفق من نظر إلى محبوب ربه الذي قال له : "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه" فجعل له عُظْم عنايته وهمه.

ومما يحسن التنبه له أن ما يضر تركه كما يغيب استحضار منزلته المعظمة في التكاليف الشرعية = يغيب استحضاره في النعم الإلهية التي يتضرر المرء بذهابها ، وهي لحياته كالواجب لدينه.

فتجد من الناس من يهمل سؤال الله وشكره فيما يلزمه من النعم (كالهداية والعافية والطعام والمأوى) ، ويهتم لذلك فيما لا ينقصه ، وربما ألح بسؤال الله إياه ، وعظم حصول ذلك عنده حتى يرى ذهابه كذهاب ما يلزمه ، مما هو باهتمامه وسؤاله إياه لربه وفرحته به = أولى وأحق.

#أنظار_في_الفقه_ومآخذه
قال المقري الجد (ت : ٧٥٨ هـ) :

"ولقد استباح الناس النقل من المختصرات الغريبة أربابها ، ونسبوا ظواهر ما فيها لأمهاتها ، وقد نبه عبد الحق في التعقيب على منع ذلك لو كان من يسمع - وذيلتُ كتابه بمثل عدد مسائله أجمع - ، ثم تركوا الرواية فكثر التصحيف ، وانقطعت سلسلة الاتصال ، فصارت الفتاوى تنقل من كتب لا يدرى ما زيد فيها مما نقص منها ، لعدم تصحيحها وقلة الكشف.

كان أهل المائة السادسة وصدر السابعة لا يسوغون الفتيا من تبصرة اللخمي ، لأنها لم تصحح على مؤلفها ولم تؤخذ عنه ، وأكثر ما يُعتمد اليوم هذا النمطُ ، ثم انضاف إلى ذلك عدم اعتبار الناقلين فصار يؤخذ من كتب المسخوطين كالأخذ من المرضيين ، بل لا تكاد تجد من يفرق بين الفريقين.

ولم يكن هذا فيمن قبلنا ، حتى تركوا كتب البراذعي على نبلها ، ولم يستعمل منها - على كره من كثير منهم - غير التهذيب ، وهو المدونة اليوم لشهرة مسائله ، وموافقته في أكثر ما خالف فيه المدونة لأبي محمد.

ثم كلَّ أهل هذه المائة عن حال من قبلهم من حفظ المختصرات ، وشق الشروح والأصول الكبار ، فاقتصروا على حفظ ما قل لفظه ونزر حظه ، وأفنوا عمرهم في حل لغوزه وفهم رموزه ، ولم يصلوا لرد ما فيه إلى أصوله بالتصحيح ، فضلًا عن معرفة الضعيف والصحيح ، بل حل مقفل وفهم أمر مجمل ، ومطالعة تقييدات زعموا أنها تستنهض النفوس ، فبينما نستكثر العدول عن كتب الأئمة إلى كتب الشيوخ ؛ أتيحت لنا تقييدات للجهلة ، بل مسودات [المسوخ] ، فإنا للَّه وإنا إليه راجعون ، فهذه جملة تهديك إلى أصل العلم وتريك ما غفل الناس عنه".

[نيل الابتهاج بتطريز الديباج (ص : ٤١٤- ٤١٥)]

وهذا كلام حسن جدا ، وكاشف عن كثير من أغلاط المتأخرين في تحرير مذاهب الناس وتصوير مقالاتهم ، وطرائقِ التفقه بل أخذ العلم عامة.

ومن فوائده أن الناس في زمنه يطلقون على تهذيب البراذعي : (المدونة) ، ويعلم منه وجه نقل بعض المالكية عن المدونة ما لا يوافق ألفاظها ، إذ يكون الناقل قد أطلق ذلك وهو يعني به التهذيب ، وقد كان بعض الفضلاء وقف على نظائر من هذا الضرب ونبه إليه.

#أنظار_في_الفقه_ومآخذه
كان بين ذي الرُّمَّة وهشام المَرَئي تهاجٍ ، فأعان جرير ذا الرمة بأبيات وهبها له - وهذا أمر يفعله بعض الشعراء لأصحابهم يسمى المرافدة - ، فلقي الفرزدق ذا الرمة فاستنشده هجاءه للمرئي ، فأنشده ، ثم لما مر بهبة جرير ، قال الفرزدق :

"حَسِّ ! أعد عليَّ.

فأعاد ، فقال : تالله لقد علكهن أشدُّ لحيين منك !".

[أمالي القالي (٢/ ١٥٨)]

أحسب أن من أشد عقوبة المتشبع بما لم يعط = أن يقول فيه قائل - ولو من غير مكافحة - كلمة أبي فراس هذه ، ولقد جرت على لسان خاطري مرة إذ رأيت بعض من أعرف تشبع بما هو أنفس من معدنه ، ثم ظهر الأمر كذلك.

وقد اعترتني لصاحبي هذا خجلة لما رأيته على هذا الوجه ، فبالله أيشْ حاجة الرجل إلى ما ينزله مثل هذه المنزلة ، بله سلبه الفضل أهله ؟!

نعم لا حاجة إن لم يكن من أهل الحياء ، وهم العصابة القليلة في هذا الزمان.
2024/09/27 04:24:09
Back to Top
HTML Embed Code: