Telegram Web Link
تقييدات أبي الحسن
العجلة مانع التحقيق وثمار النظر ، وهي عظيمة الأثر في أخذ المرء للعلم ، وكم امرئ يركب الشطط مع صلاح عقله للفهم ، وإن تأملتَ حاله وجدته يؤتى من عجلته. يتصور ما ينافي قصر الطريق من فضول القول وتضييع الزمان ، ونفسه تؤزه للفراغ بأسرع ما أمكن ، فلا يسع العمر لبحث…
قال أبو الطيب اللغوي (ت : ٣٥١ هـ) : "وأما بغداد فمدينة مُلْك ، وليس بمدينة علم ، وما فيها من العلم فمنقول إليها ، ومجلوب للخلفاء وأتباعهم ورعيتهم ، ونيتهم بعد ذلك في العلم ضعيفة ، لأن العلم جد ، وهم قومٌ الهزلُ أغلب عليهم ، واللعب أملك لهم.

فإن تعاطى بعضهم شيئا أو شدا منه = فإنما همه المساماة به ، وبغيته المباهاة فيه ، فترى أحدهم يتكلم بغير علم ، ويهمز ليُعدَّ في العلماء ، ويذكر رغبتَه في أطراف العلم ودواوينه وفروعه وغرائبه ، ويسامِح نفسَه في أصوله وسهله وذلوله ، فهو يبنى على غير أسٍّ ، ويحب الرياسة بأهون من مسٍّ ، فلا جرم أنهم يوهمون ولا يفهمون ، ويُسألون فيَستبهِمون !"

[مراتب النحويين (ص : ١٠١)]

#ملامح_من_منهج_العلم
صح عن جرير بن حازم (ت : ١٧٠ هـ) أنه : "رأى النبي ﷺ مُسنِدًا إلى جذع زيد بن علي [زينِ العابدين بن الحسين الشهيد] ، وهو يقول : هكذا تفعلون بولدي ؟!".

[المنامات لابن أبي الدنيا "٢٩٦"]

كان زيد قد صلب أربع سنين بعد استشهاده ، وكان إماما جليلا صالحا ، وله كلمات مشهورة في منافرة الرافضة ، وكان يقول رحمه الله : "أما أنا فلو كنت مكان أبي بكر رضي الله عنه لحكمت بمثل ما حكم به أبو بكر رضي الله عنه في فدك".

[فضائل الصحابة للدارقطني "٤٦"]
حكى أبو محمد المرتعش عن الجنيد (ت : ٢٩٨ هـ) أنه قال :

"كنت بين يدي السري السقطي ألعب وأنا ابن سبع سنين ، وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر ، فقال لي : يا غلام ما الشكر ؟

فقلت : أن لا يعصى الله بنعمه.

فقال لي : أخشى أن يكون حظك من الله لسانك.

قال الجنيد : فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها السري لي".

[تاريخ بغداد (٨/ ١٧٢)]

هذه والله كلمة مبكية ، وحقيق بكل مشتغل بالعلم وذي عبارة مستحسنة ألا يزال يبكي منها ، ويخشى كون حظه من الله لسانه أو قلمه.

فالله عليم كم في النفوس من المعارف ومزوَّر الكلام الذي يحدو صاحبه الناسَ إلى الله ؛ وهو مانعٌ الزكاة بالعمل ، قليل تحريك اللسان بالذكر ، تارك نصب الأقدام في حالك الليل ، طليق البصر في ساعات الخلوة ، واسع الجيب في تحري الدرهم.

فعياذا بك اللهم من مقام الفاجر الذي تؤيد به دينك ، ولواذا بك اللهم من أن تجعل حظوظنا منك الألسنة والأقلام.
قال مالك رحمه الله :

"كان الناس في أول هذه الأمة = ليس لهم غداء ولا عشاء ، إن وجد شيئًا أكل وإلا ترك".

[مناقب مالك لابن فهر (ص : ١٩٣)]

وقد كان ذلك لضيق العيش في أول هذه الأمة ، فليكن حمد الله من العبد على ذكر إذا رأى كثرة الأطعمة وتنوعها في كل وقت ، فما أعظم نعمة ربنا ، والحمد لله الذي كفانا وأروانا غير مَكْفِيٍّ ولا مكفور ، ولا مودَّع ولا مستغنى عنه ربنا.
الصيت والمنزلة على ألسن الخلق وقلوبهم = رزق يقسمه الله كما يقسم المال ، وكم يتعاطى المرء من أسباب ذلك فلا يحصل له منه نصيب ، ويقع من ذلك شيء عظيم لمن هو دونه في تلك الأسباب.

ومن عجيب ما وقع في هذا الباب حال الشافعي وبعض معاصريه من أهل العلم رحمهم الله ، كانوا يحرصون على نسخ كتبه ، حتى تزوج بعضهم بامرأة لأنها ورثت كتب الشافعي ، ثم يأخذون ما فيها من كلامه ويجعلونه لهم ، ويخفون ذلك عن الناس ، حتى طلب بعضهم من صاحب للشافعي ألا يحدث بكتب الشافعي في بلده.

وكان الشافعي على خلاف ذلك ، يقول عن كتبه : "لوددت أن الخلق تَعْلمه ، ولم ينسب إلي منه شيء أبدا" ، ثم مات قصير العمر عن أربع وخمسين سنة ، وناهزوا هم السبعين والثمانين ، فكمل لهم من أسباب الذكر ما لم يكمل له ، ثم ما الذي كان ؟

أخذ كلٌّ ما كتب الله له من الرزق ، وملأ ذكر الشافعي وكتبه الأرض حتى هذه الساعة ، وجعل الله لأولئك رحمهم الله منزلة دون منزلته ، وبقي من تصانيفهم ما يعرفه بعض الطلبة ، وكان أمر الله مفعولا.
قال أبو العباس ابن سريج (ت : ٣٠٦ هـ) :

"إن القرآن أنزل أثلاثًا ، ثلث منها أحكام ، وثلث منها وعد ووعيد ، وثلث منها الأسماء والصفات ، وقد جمع في (قل هو الله أحد) أحد الأثلاث ، وهو الأسماء والصفات ، فقيل إنها ثلث القرآن".

[الأسماء والصفات للبيهقي "٦٣"]

إذا تدبرت هذه السورة العظيمة وجدتها دائرة على تقرير كمال الاستغناء ، وذلك أعظم وصف الخالق ، وما يفرق به بين الخالق والمخلوق ، فإن كونه واحدا منفردا دال على استغنائه عن الشريك والنظير ، وكونه صمدا دال على استغنائه عن طلب الحاجات من غيره ، إذ الصمد يُصمَد إليه بالحاجة ويقصد بها ، ودال على عدم افتقاره لها ، إذ الصمد لا جوف له يطلب الطعام ، تقدس ربنا وتنزه.

وأما كونه لم يلد ولم يولد فظاهر وجه الاستغناء فيه ، ثم لا يكون سبحانه مستغنيا في نفسه مع وجود من هو مثله ، بل من كمال غناه أنه مستغنٍ غنى فريدا لا نظير له أبدا ، كما دل عليه ختم هذه السورة بنفي الكفء والنظير ، فالرب هو الغني في الأول والآخر ، وهو الغني في نفسه وفي الخارج على الحقيقة.

#الفهم_المعطى
ما أحببت أن يبقى رجل ملء عينك ؛ فلا تطلع عليه بحضرة ذي سلطان أو امرأة أو ذي مال ، فما أقل ما يحفظ المرء نفسه عما يغض منه عند هؤلاء.
تقييدات أبي الحسن
Video
كلام حسن ، ومن غفل عن الحِكَم اللائحة في أحكام الشارع الملائم بعضها بعضا = ضعف إحكامها في نفسه ، وصارت مجردة خالية عن المضامين المرسخة لها في القلوب ، فما أيسر أن يمر عليه تحريف المضلين لها وحيلهم فيها.
العار خير من النار

سافر الحافظ المتقن عبد الرحمن بن عمر الزهري الأصبهاني المعروف برُسْتَه (ت : ٢٥٠ هـ) من أصبهان إلى الري ، ولقي بها جماعة من أئمة الحديث ، فحدث بحديث لأبي هريرة فغلَّطه فيه أبو زرعة الرازي وذكر أنه من حديث أبي سعيد ، فلما رجع لبلده كتب لهم هذا الكتاب :

"وإني كنت رويت عندكم (عن ابن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال : أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم) ، فقلتَ : هذا غلط ، الناس يروون عن أبي سعيد عن النبي ﷺ.

فوقع ذلك من قولك في نفسي ، فلم أكن أنساه حتى قدمت ونظرت في الأصل ، فإذا هو عن أبي سعيد عن النبي ﷺ ، فإن خفَّ عليك فأعلم أبا حاتم عافاه الله ومن سألك من أصحابنا ، فإنك في ذلك مأجور إن شاء الله ، والعار خير من النار".

[الجرح والتعديل (١/ ٣٣٦)]

لعل ناظرا يقول : (ليس في الأمر كبير فرق ، فأبو هريرة وأبو سعيد كلاهما ثقة مرضي) ، ولكن لولا أن الله سخر أمثال هؤلاء الذين يخافون النار إن سكتوا عن هذا الخطأ اليسير = لكان كبير فرق ، بل وألف فرق ، ولصار هدي النبي ﷺ كصحف أهل الكتاب يُعجَز عن تمييز صدقه من كذبه ، فرحمة الله تغشى تلك العظام الندية الكريمة في قبورها ، ورحمة الله على عبد الرحمن الذي لم يحمله إتقانه وكثرة طلبه على اتقاء العار بالنار.
مما يقع لحفظة القرآن أنه ربما غلط الواحد منهم في موضع لا يغلط فيه الصبي ، وكثيرا ما يكون ذلك بإثر ذنب خفي فيه ملاحظة النفس ، فيؤدَّب العبد بمثل هذا ، وكأنما ينادى : (إنما تحسن بفضلنا عليك وتسديدنا لك ، ولو وُكلتَ إلى نفسك لعجزتَ عن بنت الشفة ، فأقصر عن هذا الخاطر).

وهذا من أهم ما ينبغي على رب العلم مراعاته وتعاهده ، فما أكثر ما يغر المرء عقله وقوة عارضته وطول يده ، فتعجبه نفسه ، وربما أربى على ذلك ببغي على الخلق ، فيُصرع ليُقصِر.

وهذا المعنى يقع في سائر العبادات إلا أن النفوس أغفل عنه في مواضع عظم حظها ، أما ترى كيف أعجبت الكثرة بحُنين فلم تغن شيئا ، حتى أنزلت السكينة فصارت الغلبة لأولياء الله ؟!

#ملامح_من_منهج_العلم
من أحكام النكاح التي يقصر أكثر الناس في علمها والعمل بها ، وينبغي أن تشاع ويلقنها الأزواج = حرمة الطلاق البدعي ، وأن المرأة إذا طلقت فيجب أن تطلق طلقة واحدة في طهر لم تجامع فيه ، كما أمر الله (فطلقوهن لعدتهن).

ومن طلق امرأته في حيض ، أو جمع لها الثلاث مرة واحدة = فهو آثم معتد حدودَ الله ، سواء وقع طلاقه أو لم يقع ، كما قال ابن عباس لما سأله رجل طلق ثلاثًا : "إنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجا ، عصيت ربك".

#أنظار_في_الفقه_ومآخذه
توقير العلم يوجب ألا يُستنكَف من أخذه عمن صغرت رتبته بالنسبة لآخذه ، كان عند أبي داود حديث لم يكن عند شيخه أحمد ، قال أبو داود : "فذكرته لأحمد بن حنبل فاستحسنه ، وقال : هذا حديث غريب ، وقال لي : اقعد.

فدخل ، فأخرج محبرة وقلما وورقة ، وقال : أمله علي.

فكتبه عني ، ثم شهدته يوما آخر وجاءه أبو جعفر ابن أبي سمينة ، فقال له أحمد بن حنبل : يا أبا جعفر عند أبي داود حديث غريب ، اكتبه عنه".

[تاريخ بغداد (١٠/ ٨٠)]

ومن توقير العلم كذلك أن يوقر الشيخ فيه حال أخذه ، ولو كان تلميذا في أصل حاله ، ومن لطيف ما في هذا المعنى ما حكاه النسابة عزيز الدين إسماعيل بن الحسين العلوي المروزي (ت : بعد ٦١٤ هـ) ، قال :

"لما ورد الفخر الرازي إلى مرو - وكان من جلالة القدر وعظم الذكر وضخامة الهيبة بحيث لا يُراجَع في كلامه ، ولا يتنفس أحد بين يديه لإعظامه على ما هو مشهور متعارف - دخلتُ إليه ، وترددت للقراءة عليه ، فقال لي يوما : أحب أن تصنف لي كتابا لطيفا في أنساب الطالبيين ؛ لأنظر فيه فلا أحب أن أموت جاهلا به.

فقلت له : أتريده مشجرا أم منثورا ؟

فقال : المشجر لا ينضبط بالحفظ ، وأنا أريد شيئا أحفظه.

فقلت له : السمع والطاعة.

ومضيت وصنفت له الكتاب الذي سميته بـ(الفخري) وحملته وجئته به ، فلما وقف عليه نزل عن طُرَّاحته ، وجلس على الحصير ، وقال لي : اجلس على هذه الطُّرَّاحة.

فأعظمت ذلك وهِبْته ، فانتهرني نَهْرةً عظيمة مزعجة ، وزعَقَ فيَّ قائلا : اجلس بحيث أقول لك !

فتداخلني - علم الله - من هيبته ما لم أتمالك إلا أن جلست حيث أمرني ، ثم أخذ يقرأ علي ذلك الكتاب وهو جالس بين يدي ، ويستفهمني عما يستغلق عليه إلى أن أنهاه قراءة ، فلما فرغ من قراءته قال : اجلس الآن حيث شئت ، فإن هذا علم أنت أستاذي فيه ، وأنا أستفيد منك وأتتلمذ لك ، وليس من الأدب أن يجلس التلميذ إلا بين يدي الأستاذ.

فقمتُ من مقامي ، وجلس هو في منصبه ، ثم أخذت أقرأ عليه وأنا جالس بحيث كان أولا".

[معجم الأدباء (٢/ ٦٥٤)]

#ملامح_من_منهج_العلم
هذه موازنة معقودة في باب الرهن بين زاد المستقنع وبين عمدة الطالب ، وقد أبقيت العبارات الثابتة كما هي بالأسود ، وجعلت لكل تغيير لونًا بحسب المبين بالأعلى¹.

وهي نموذج احتيج إليه إثر مباحثة مع بعض الفضلاء عن رتب المتأخرين في العلم وما لتصانيفهم من الامتياز ، ومثل هذا نافع للمتفقه المتمذهب أيضا من هذه الجهة ، ومن جهة أخرى تتعلق بإجادة التدقيق في التعبير عن الفروع.


¹ معلوم أثر ابن النجار على البهوتي ، ويجد الناظر من ذلك هنا متابعة البهوتي لبعض عبارات المنتهى.
نقل الذهبي في السير كلاما لأبي سعد الماليني في مسألة من المسائل ، ثم صدَّر تعقبه له بقوله :

"هذه مكابرة وغلو ، وليست رتبة أبي سعد أن يحكم بهذا".

ثم لما ترجم له وصفه بقوله : "الإمام المحدث الصادق الزاهد الجوال".

فلم يكن في تقدير رتبته ما يمنع ذكر فضله الذي يستحق ، ولم يكن ذكر فضله يمنع عن تقدير رتبته التي هو فيها.

ومن تبين له هذان الأمران ، وورودهما على هذه الصفة = استقامت طريقته في معاملة أهل العلم ومعرفة أقدارهم ، وسلم من يغلو فيهم أو يجفوهم.

#ملامح_من_منهج_العلم
إخوانك في الخير والطاعة = من منن الله العظيمة عليك المستوجبة الشكر.

وكم رجلٍ قطع في السير إلى الله مراحل بإخوانه ، وكم أخٍ لك صالح قذف الله لك من أنوار الإيمان في القلب وانبعاث الجوارح بالخير ما لم يقع إلا ببركة صحبته.

ولست أحصي كم يقع لي من قسوة النفس فأجتمع ببعض أخواني فنتذاكر الشيء من علوم القلوب أو غيرها ، فأنصرف عنه ولا يلبث أن يظهر لي أثر ذلك في مستقبَل الصلاة.

وقد كان لي مع بعض إخواني مجالس نتذاكر فيها بعض العلوم ، فكان يقع في الورد الذي نتهيأ له بعض ما يشكل فأقيده ، فإذا حضر المجلس وشرعت في تقرير الإشكال ظهر لي جوابه قبل الفراغ من التقرير ، وتكرر هذا حتى لاح لي فيه معنى لطيف ، وهو أن الرحمة الإلهية (التي صحبها رزق الفهم) ربما تنزلت في ذلك الموضع ، لحسن نيات من حضره ، وقد جاء في الحديث "وغشيتهم الرحمة".

وقد صحبت بعض إخواني مرة ، فلمحته يذكر الله خفية وهو لا يعلم أني مطلع على ذلك منه ، فكان أن جرى لساني بالذكر بعدها أياما بما كان منه.

وآخر جلسنا مجلسا فوعظنا وذكّرنا ربنا ، فأحسن العظة والتذكير ، وثالث اطلعنا من حاله على ما يرينا المروءات وحسن الخلق رأي العين ، فأحيا في نفوسنا ما تميته مناظر اللئام وخلطة سفلة الناس.

وهذا الباب لعلك لو تتبعته في نفسك لوجدته لإخوانك منه شيئا كثيرا ، وفضلا يوجب عليك ذكرهم لربك في مواضع الخلوة به سبحانه وسؤاله الخير وهداية الحق لهم ، فرضي الله عن إخواننا من أهل الخير ، وجمعنا بهم في مستقر رحمته ، وأماتنا وإياهم على ما يرضيه ، والحمد لله ربنا أولا وآخرا على ما يرحمنا به من تيسير السبل إليه ، وتكثيرها = حمدا كثيرا طيبا مباركا.
قال أحمد بن سهل الرازي (ت : ق ٤ هـ) :

"وقد حدثني سعيد بن بهلول من أبناء فارس بصنعاء ، قال :

قدم يحيى بن عبد الله صنعاء ، فاختفى عند رجل منا -يعني من الأبناء - يقال له : زكرياء بن يحيى بن عمر بن سابور ، فمكث عندهم بصنعاء ثمانية أشهر مكتوما ، فكتبوا عنه علما كثيرا ، وكان الشافعي محمد بن إدريس من أصحابه".

[أخبار فخ وخبر يحيى بن عبد الله (ص : ١٩٤)]

هذه فائدة غريبة لطيفة ، ولم ينص عليها من ترجم للشافعي.

ويحيى هو ابن عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط ، وقد كان من أصحاب الصادق ، وكان إبراهيم بن أبي يحيى شيخ الشافعي من دعاته ، فليست صلة الشافعي به ببعيدة.

وهذا الخبر مما يؤكد ذهاب الشافعي لليمن مبكرا - لا مناهزا الثلاثين - ، فإن يحيى ذهب للديلم سنة ١٧٥ هـ ، وهو مما يدل على أن للشافعي مخالطة للعلوية باليمن وصحبة ، ويفسر حمله بعد ذلك معهم إلى الرشيد.
في حديث أبي سعيد عند أبي داود : "وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال".

ومما يشيع على الألسنة في معناه أنه تعوذٌ من شعور الرجل بالألم والغيظ ، فترى بعض الناس إذا رأى غضب رجل أو جرمه = يستحضر التعوذ من قهر الرجال ، ويجعل الإضافة فيه للمفعول ، أي كون الرجل مقهورا.

وهذا المعنى لا يشبه أن يكون مرادا في الحديث ، ولا أحسبه مألوفا في القديم¹ ، ثم السياق يقوي كون الإضافة للفاعل ، فيكون التعوذ حاصلا من غلبة الدين للعبد ، ومن تسلط الرجال عليه ، فهذان أعظم البلاء.

هذا النظر في المعنى ، وينبغي أن يسبقه النظر في ثبوت هذا اللفظ (قهر الرجال) ، وهو لفظ جاء في هذا الحديث ، وحديث أبي سعيد هذا لا يصح ، وجاء كذلك في طريقين من حديث أنس ، وهما مرجوح وضعيف.

وجاء في جمهرة الطرق في حديث أنس المخرجة في الصحيحين وغيرهما ، وفي حديث عبد الله بن عمرو ، وبعض المراسيل = لفظ (غلبة الرجال) ونحوه كـ(غلبة العدو - غلبة العباد - غلبة بني آدم).

وهذا اللفظ هو الأقرب للفظ النبوة ، وهو دال على صواب ما تقدم في معنى هذا الحرف ، والمراد بالاستعاذة ، والله أعلم.

_
¹ وكنت أظنه قريب العهد حتى وقفت على ترجيح التُّورِبِشْتي (ت : ٦٦١ هـ) له ، وقوله في الميسر (٢/ ٥٧٤) : "إلى هذا المعنى يسبق فهمي ، ولم أجد في تفسيره نقلا".

#النكت_من_السنن
2024/09/27 07:35:58
Back to Top
HTML Embed Code: