Telegram Web Link
لن يعرفني أحد
كما تعرفيني
عيناكِ اللتان كنا ننام فيهما
كانتا تصنعان لأحلامي
حظاً لا تستطيعه كل ليالي العالم
عيناك اللتان فيهما كنت أتجول
تمنحنان إشارات الطرق
اتجاهات أبعد من الأرض
وفي عينيك اللتين تفضحان
وحدتنا اللامتناهية
لا نعود من يظنون أننا هما
لن يعرفك أحد
كما أعرفك.
وها أنتِ..
كما كنتِ قديماً
أشتاقك ولو فرقت بيننا بحار الدنيا ..
وأحبك وأنا هنا .. وأنتِ هناك، أراكِ بأشياء أعمق من عيني، وأحسك بأشياء أصدق من حسي، ألقاك وإن كنت بعيدة .. وأسمعك وليس بيننا کلام .. وأشم عطرك وإن كنت خارج حدود الأرض، مستقرة في قلب يحتوي القليل مني والكثير منك.
هذه البحيرة ليست ماء. كانت شخصًا تحدثتُ إليه طويلاً، ثم ذاب!
ولا أحاول الآن النظرَ إلى ماء بل استعادةَ شخص ذائب.
كيف يصير الناس هكذا بحيرات، يعلوها ورق الشجر والطحلب؟!
قطرةً قطرة ينزل الموتى على بابي
ومركبٌ يتوقف من أجلي تحت الشمس
وجالية فقيرة من الرعشات تعود إلى الرمل.
لم أرتجف. لكني جُننت. الماء بارد لكني لم أرتجف. فقط ارتعشتُ قليلاً. ثم جُننت.
على سطح البحيرة ورقة، كانت عينًا. على الضفَّة غصن، كان ضلعًا بشريًا.
أحاول الآن جَمْعَ الأوراق والغصون. أحاول جمع شخص كنت أحبُّه.
لكن مرَّ كثيرون من هنا، جمعوا ورقًا وحطبًا ليشعلوا مواقدهم.
لن يتمَّ أبدًا جمْعُ شخص. لن يتمَّ جمع أعضاء كاملة. كثير منها احترق.
مع ذلك لا بدَّ من أن أعيد شخصًا كنت أحبّه. على الأحبَّاء أن يعودوا إذا ناديتهم. عليهم أن يعودوا ولو كانوا ماء. لو كانوا أمواتًا. لو كانوا طحلبًا… على الطحلب أن يصير إنسانًا حين تستدعيه. ويأتي لو مبلَّلاً، لو مترهّلاً، لو عفنًا. عليه أن يعود صديقًا ولو مات منذ ألف عام.
يجب أن تكون هناك طريقة ما لجمع الناس عن الضفاف. طريقة لإعادة الأوراق والأغصان الطافية على البحيرات، بشرًا.
لم أرتجف. الأعضاء ارتجفت. وكان عليَّ أن أسدَّ الفراغ بين مفاصلها كي أوقف ارتجافاتها وتهدأ.
ولكن، كم طويلةٌ المسافةُ بين مفصلين! وكم أحتاجُ إلى ردم لسدّ الفراغ بينهما!
كم هي طويلة المسافة بين ضلع وضلع!
أجري بطيئًا، مثل آخر نقطة ماء نزلتْ، وتأخرتْ عن السيل.
أجري بطيئًا زاحفًا للالتحاق بالجريان، وأتبخَّر رويدًا رويدًا.
لن أصل. بعضي سيصير في الفضاء. وبعضي سيغرق في الأرض.
تأخرتُ عن رفاقي ولن أصل. أزحف لكني لن أصل.
قطَعٌ مني أفقدها، وقطعٌ ترافقني منهَكَة، وقطع تصير هباء.
حتى إذا وصلتُ، أيُّ شيء مني سيصل؟!
حولي عشب وحصى وتراب. طيرٌ ينقدُ بعضي. ونملٌ يأكل بعضي. وبعضي للعشب والحصى والتراب.
أجري بطيئًا وفوقي يصعد خيطٌ مني، وتحتي ينزل خيط مني. أجري بطيئًا بين إبرتين، تخيطان عدمي.
نزلتُ آخرَ نقطة. كنتُ في غيمة ونزلتُ. هل أنا الباحث عن شخص ذائب أم أنا الذائب؟ أم أني، من كثرة البحث عن ذوبانه، ذبتُ مثله؟
وصرتُ، عوض أن أبحث عنه، أبحث عني!
أرى على الطريق أشخاصًا عابرين. بعضُ ما بقي مني يرى أشخاصًا. هؤلاء، على الأرجح، لم يفقدوا شخصًا أحبُّوه. أم أنهم فقدوه، ومع ذلك يكملون الطريق؟!
لا أعرف كيف لا تتوقف أرجلنا عن المشي حين نفقد شخصًا نحبُّه. ألم نكن نمشي لا على قدمينا بل على قدميه؟ ألم تكن النزهة كلها من أجله؟ ألم يكن هو النزهة؟
كيف يمشي واحدٌ إذا فقد شخصًا! أنا، حين فقدت شخصًا، توقفت. كان هو الماشي وأنا تابعه. كنت الماشي فيه.و حين توقَّف، لم تعُدْ لي قدمان.
تأخرتُ وزاحفٌ وأتبخَّر. كيف إذن سأُعيد شخصًا ذاب؟ أليس عليَّ بالأحرى أن أعيد أولاً نفسي؟ أن أعود على الأقل قطرةَ ماء كاملة، تنزل على ورقة، على عين، على ضلعٍ على ضفَّة؟
أليس عليَّ، لكي أُخرج من الطحلب شخصًا، أن أكون على الأقل من ماء البحيرة؟
تأخرتُ ولن أصل. كلُّ ما أفعله أني أرى، أرى من بعيد. رؤيةٌ مشوَّشة من عين شيء لا هو غيمة، ولا هو ماء، ولا جماد ولا بخار.
إني، إذن، لا أرى.
كلُّ هذا مجرَّد خيال. عتمةٌ تستجدي عتمة. ولن أرى ولن أصل ولن أستعيد شخصًا ولن أعيده…
إني، فقط، أحاول أن أزحف. أحاول أن ألحق برفاقي.
لكنهم صاروا بعيدين، بعيدين جدًا.
ربما كنتُ في الماضي شخصًا يبحث عن شخص ذابَ أو ربما كنت أنا الذائب. الآن، حتى ولا قطرة. وفي تماهيَّ المرعب بين الماء والبخار والشخص، أبحثُ عن إسمٍ أعرّفُ به نفسي حين ألتقي النمل والعشب والطير. أنت الزاحف مثلي، ستتوقَّف حتمًا على نتوء. ارسلْ لي من هناك نداء، وبه سأسمّي نفسي.
متماه بين ماء وجماد وبخار. مع ذلك لي مفاصل!
ومفاصلي بينها فراغات. ترتطم المياهُ بها، ترتطم الرياح بها، ويرتطم الناس.
ناسٌ كثيرون يعبرون الآن بين مفاصلي. لا أعرف من أين يأتون ولا إلى أين يذهبون. لكنهم يرتطمون بعظامي.
ناسٌ التقيتُهم مرَّة، ناسٌ التقيتُهم مرات، وناس لم ألتقِهم… لكنهم يتدفَّقون الآن، ويدقُّون على عظامي.
عليَّ أن أفتح هذه العظام لكي يدخلوا.
لو كانت هذه العظام بابًا!
من أين جاؤوا؟!
أظنُّ أن الذين ننظر إليهم يدخلون في أجسادنا عَبْرَ عيوننا ويصيرون دمًا و لحمًا.
وبعضهم يصير من المارة التائهين بين مفاصلنا.
… ونستمرُّ، هكذا، نسمع طَرقات على عظامنا.
إني أسمع الآن دقَّات ماء وعليَّ أن أفتح.
مع أنّ وعاءَ الصمتِ هو الوحيدُ يلمعُ بيننا
أعرفكَ أيّها العالم
أيّها العجوز القمئ في صحن ذاكرتي.
و إنّي ، إذ أتقدم بخطى مبعثرة
إلى أبواب مودّتك المقفلة،
لا أكون ناسياً أنّ المفاتيح
التي نعثر عليها في أشواقنا
هي المفاتيح الخطأ.
أعرفُ أية مجارٍ من التأسف
أيامُك
مع أنّ كلّ شئ مضى الآن
ولم يعد يتدلى بيننا
غير عشبة الماضي الجافة.
بينما كنتَ تعبر أمكنةً واسعة
كان ثمّةَ شيء يشبه الحُبّ
يتذكّركَ
أمّا الآن
وقد قطعتَ شوارعَ غير مدثَّرة
وودّعتَ أرصفةً كثيرة
فالأمل
الذي أراد التحدّثَ إليكَ عند كلّ خطوة
يكفّ عن النداء.
أنتَ
يا من حسبَ أنَّه عبرَ كلّ الاشياء
جلستَ وقتًا أطول
في مقهى الماضي.
أطير خفيفا، منتصرا على ثقل عناصري وثقل التاريخ وثقل المكان وثقل الأشياء. أطير بعناصر رغبتي، بغياب الرغبة وغياب العناصر. خفيفًا فوق أرض لم تعدْ لي شراكة فيها. أرض غلبتُها بوهمي، بتغيير عناصرها، بتجريدها من جاذبيتها وجعْلها تدور في جاذبيتي. غلبتُ الأرضَ بجعلها كوكبًا في رأسي، لا في الأفلاك. أطير خفيفًا منتصرًا على التكوين. أسبحُ في الفضاء، فوق بلدان اندثرتْ. فوق بشر لم أعدْ وريثهم ولا عادوا نسلي. أطير وأنظر إلى الصحراء تحتي. إلى غياب الأمكنة. إلى استحالة أن ينزل الطائرُ بَعد. أطير أطير، و أبتعد. أصير نقطةً ممحوَّة.. وأختفي.
هل كان عليَّ أن أرتطم بنفسي كلَّ هذا الوقت، ويرتطمَ كلُّ شيء بي، لكي أصير في النهاية فريسة صامتة؟ ألم يكن في وسعي، من زمان، أن أخفّف عن هذا العالم الضاجّ، صوتًا؟
أجملنا الراحلون. أجملنا المنتحرون. الذين لم يريدوا شيئًا ولم يستأثر بهم شيء. الذين خطوا خطوةً واحدة في النهر كانت كافية لاكتشاف المياه.
أجملنا الذين ليسوا بيننا. الذين غادرونا خفيفين، تاركين، بتواضع، مقاعدهم لناس قد يأتون الآن، إلى هذه الحفلة.
مشينا كثيرا، باحثين عن حُبّ قليل. مشينا بقامات قصيرة في شوارع طويلة، وكنا بالكاد نُرى. نريد حُبًّا. صرخنا، الحُبُّ يطيل قاماتنا.
المقيمون طويلاً يسلبون مقاعدنا. يحوّلون أثاث بيوتنا إلى قِطعٍ منهم. بحيث نجلس -إذا جلسنا- على ضلوعهم، على عظامهم، يسحق المقيمون المقيمين؛ أما العابرون فلا يسحقون أحدًا ولا أحد يسحقهم، لا يطأون على كائنات ولا يُثقلون خطوًا على أرض؛ حتى الهواء لا يلمحهم غير لحظة.
إنني أعود لتعلقي بك، للبحث عنك بين أشيائي القديمه، لتوثيق حنيني و الكتابة لك، لإنتظارك؛ و لشعوري العظيم -المألوف و الموجع- بالخيبة لإستحالة اللقاء، لعشق الفصول الماطرة التي تشبهك و حضورك اللطيف بين غيوم ذكرياتي، لقلة حيلتي و عجزي عن تجاهلك و لحبك بيأس و خوف و خجل و أسف. يا نقطة المنتصف التي تأبى أن ترسى على طرف.
كان بيننا، ذات يومٍ، قَسَمٌ ألاَّ نفترق، شرَّعنا الأبواب والنوافذ، دَعَوْنا الجيران والمارَّة والنسيمَ ورطوبةَ العشب كي تدخل وتتدفَّأَ عندنا، كانَ بيننا قلبُ لَوْزٍ، اقتسمناهُ على الطريق و دخلْنا.
أَتركُ لك نافورةً من ثقوب النسيان، شيئاً بريئا حتى من الذكرى. هذه الإسفنجة التي كانت قلبا.
عرفت أن الأشياء دوماً مهددة بالغياب، و أنني ذات يوم كنت هنا، في هذا المكان حيث لن أكون أبدًا مرة أخرى.
بلا أمل، و بقلبي الذي يخفقُ كوردةٍ حمراءَ صغيرة، سأودِّع أشيائي الحزينةَ في ليلةٍ ما.
كنا ننبت في كل مكان، ‏نحب المطر و نقدّس الخريف، ‏حتى فكرنا ذات يوم ‏أن نبعث برسالة شكر إلى السماء، ‏و نلصق عليها بدل الطابع ورقة خريف. ‏كنا نؤمن بأن الجبال زائلة ‏و البحار زائلة ‏و الحضارات زائلة، ‏أما الحبّ فباقٍ. ‏و فجأة، اِفترقنا.
أتجوّل هائمًا على وجهي في الشوارع و الطرقات و الحدائق. حولي الكثير من الناس، لكني لا ألحظُ الوجُوه. أحسُّ الناس كتلة هلامية أو كتلة أثيرية، جزءاً من الهواء المُحيط بي. لا ألاحِظُ شيئًا أو وجهًا. فالإنسانُ عادةً لا يَرَى الهواءَ المُحيط به !
لا شيء أبغض من أن تشح، أن تنتصف، وجودك غائم لا تُمطر ولا تصفو، لا تصل ولا تعود، تصمت حين يبلغ الحديث نصابه، لا تطرق وتدخل ولا تعود وتذهب، لو خُيرت أن أعيش بخصلة واحة ستكون أني لا أتوسط في المحبة، أركل الأبواب بشدة أو أُغلقها بإحكام، تأخذ حُبي كاملًا أو لا تأخذهُ أبدًا، أنا لا أُوَارب.
مع مرور الزمن، سوف تفهمين ذلك .. ما يدوم، يدوم، وما لا يدوم لا يدوم .. الزمن كفيل بعلاج معظم الأشياء، وما لا يستطيع أن يعالجه الزمن، يتعين عليك أن تعالجيه بنفسك.
وربّما ستعتاد مثل هذا الإعوجاج في الأشياء، ولكن إذا تمَّ ذلك فلن تكون قادراً أبداً على رؤية العالم مرة ثانية دون أن تجعل رأسك معوجّاً.
2024/10/01 19:18:48
Back to Top
HTML Embed Code: