Telegram Web Link
‏أخبروه طفلاً أنّ أمه رحلتْ إلى السماء ، قضى بقية عمره يطارد قطرات المطر علَّ إحداها تُنبِتُ أمه !
‏كانت جدتي تلف الأطباق الفاخرة بقماش أبيض وتخفيها في خزانتها، ولا تخرجها إلا حين يكون في بيتنا ضيوف، وحين ماتت رأيتهم يلفونها بعناية بقماشٍ أبيض، كما كانت تفعل بتلك الأطباق الفاخرة، لا أعلم أين أخفوها ولكني ما زلت أنتظر أن تخرج من غرفتها كلما زارنا أحد.
‏تقول أمي في المرة الأولى التي بدأت فيها بالمشي قمت بملاحقة ظل فراشة حتى خرجت إلى الشارع وكدت أموت يومها بحادث دهس وكأن أول ما حاولت الركض نحوه هو الموت. اعتدت طوال حياتي ملاحقة ظلال الأشياء بدلا منها حتى دهستني الخيبات بلا شفقة ليكتمل ما بقي ناقصًا ذلك اليوم.
كل ما يسعني قوله أنَّها مشاعر غريبة! كمَنْ يمشي في طريقٍ ظنَّاً منه أنَّها طريقه، وفجأة تختفي تلك الطريق من تحت قدمَيْه، ويجُد نفسه مجبراً على التَّقدُّم في فراغٍ ليس فيه شيء ولا يعرف اتِّجاه السَّير، ومن دون أيِّ مُساعَدة.
لم يمت جدي قط، كعادته يحب المزاح، إنه يقيم على جدار المنزل، نعم هو بهذه المرونة، حتى أنني رأيته في محفظة أمي وقلادة خالتي، يتسلل إلى أحلامي وينهمر مراتٍ عدة على هيئة دمعات تباغت العائلة. كل ما في الأمر أنه سأم جسده المؤطر وقرر هذه المرة التجوّل بروحه.
لو كانت هناك حياةٌ أخرى، لوددتُ أن أكون شجرة، أقف إلى الأبد بهيئة غير حزينة ولا مبتهجة، نصفي ساكنٌ في التربة، والآخرُ يتطايرُ في الرياح، نصفي ينثر ظلاّ رطبا، والآخر يستحمُّ في ضوء شمس غاية في السكون، غاية في الفخر. لا أتّكئ على أحد أبدا، ولا أسعى وراء شيء قَط.


لو كانت هناك حياةٌ أخرى، لوددتُ أن أتحول إلى رياح، أستطيع في لحظة أيضا أن أصير سرمديّة، لا أملك أحاسيسَ مرهفة، ولا عينين ممتلئتين بالمشاعر، نصفي ينسابُ في المطر، والآخرُ يرتحل في رونق الربيع. وحيدة، أسافر إلى بعيد حاملة كلَّ الأشواق الباهتة. لا أشتاق أبدا، لا أعشق مُطلقًا.


لو كانت هناك حياةٌ أخرى، لوددتُ أن أكون طيرا، أجتاز الخلود محلّقا غير قلق من أن أضلّ الطريق. أملك آمالًا متوهّجة في الشرق، وعشّا دافئًا في الجنوب، ألاحق مغيب الشمس غربا، وأُثير أريجا صوبَ الشمال.


لو كانت هناك حياةٌ أخرى، لتمنّيت أن تصير كلّ مرةٍ نلتقي فيها أبديّة.
يجب أن نفترق و أن نمحو من الذاكرة أننا التقينا ذات ليلة باردة، بعد كل هذه السنوات القلقة، سيأخذ كل واحد منا طريقه، وسيمتطي كل واحد منا في هذا الزمن الموحش و المخيف موجته التي ستقوده نحو قدره لمواجهة عزلته وخوفه وربما موته وحيدآ مثلما جاء لهذه الدنيا.
ليس هناك ما أقوله، أنا فقط أستطيع أن أحسّ بصمت، و من شأن ذلك تحطيمي بلا توقف في صورةٍ يظنها الآخرون لحظة صفاء غامرة. حاجتي للحديث توقفت عن دفعي، لقد قلت كل شيء في وقت أقل غضاضة من الآن، عندما كان يجدر ألا أفرط بكلمة واحدة نحو كل شعور ضئيل و زائف.
كل شيء أتركه خلفي لا أعود إليه
قد لا أنهي شيئا بسهولة أتشبث به كثيرا
لكنني أجيد في لحظة غير متوقعة وضع
نقطة نهاية دون رجوع أو ندم.!
وبمرور السنين، أصبحت تقريبا خائفا أن أراها من جديد، إذ كنت أعرف أننا كنا سنلتقي في مكان لن تكون فيه لوسي هي لوسي، ولن يكون لى ما به أرأب الصدع. لا أريد القول بهذا إنني توقفت عن حبها ونسيتها، وإن صورتها شحبت. على العكس، فقد كانت تسكنني ليل نهار مثل حنين صامت، كنت أرغب فيها كما نرغب في الاشياء المفقودة الى الابد.وبما أن لوسي أصبحت بالنسبة لي ماضياً تماما (لقد ظل بوصفه ماضيا حيا دوما، لكنه مات بوصفه حاضرا)، فقد اخذت تفقد تدريجياً، بالنسبة إلي، مظهرها الجسدي المادي الملموس، لتتحول أكثر فأكثر الى خزانة أسطورة مكتوبة على رق ومخبأة في خزينة من حديد مودعة في عمق حياتي”.
ميلان كونديرا - المزحة (1965)
هناك أشياء كثيرة لا نستطيع أن نراها بوضوح إلا بعد زمن.
يبدو أن القدر يأخذني فى اتجاهات أعجب حتى مما توقعت.
القدر، أحيانا، كعاصفة رملية صغيرة لا تنفك تغير اتجاهاتها. وأنت تغير اتجاهاتك، لكنها تلاحقك. تراوغها مرة بعد أخرى، لكنها تتكيف وتتبعك.
تلعب معها هكذا مرارا، كرقصة مشؤومة مع الموت في الفجر. لماذا؟ لأن هذه العاصفة ليست شيئاً يهّب فجأة من بعيد. ليست شيئاً لا يمت لك بصله، إنها أنــت. إنها شيء ما في داخلك. وكل ما عليك فعله هو أن تستسلم لها. أدخل إليها مباشرة. أغمض عينيك، وسد أذنيك حتى لا تتسلل الرمال إليهما، وسر في العاصفة، خطوة بعد خطوة. ليس من شمس هناك، ولا قمر، ولا اتجاهات، ولا إحساس بالزمن. فقط دوامة من الرمال البيضاء الناعمة تصعد الى السماء كعظام مطحونة، هذه هي العاصفة التي عليك أن تتخيلها.
وعليك أن تنجو وسط تلك العاصفة الباطشة الميتافيزيقية الرمزية، بغض النظر عن مدى ميتافيزيقيتها أو رمزيتها. الخطأ ممنوع. ستقطع العاصفة اللحم كآلاف الانصال. وستنزف الناس هناك، وستنزف أنت أيضاً، ستنزفون جميعاً دماً أحمراً حاراً. وستتلقف أنت هذا الدم بيديك، دمك، ودم الاخرين.
ولحظة انتهاء العاصفة، لن تتذكر كيف نجوت منها، لن تتذكر كيف تدبرت أمرك لتنجو، ولن تدرك هل انتهت العاصفة أم لا. ستكون متيقناً من أمر واحد فقط: حين تخرج من العاصفة، لن تعود الشخص نفسه الذي دخلها، ولهذا السبب وحده، كانت العاصفة.
أجلس الآن وحيدًا
حول طاولةٍ مستديرةٍ,
أجلس الآن مستديراً
حول نفسي,
أجلس الآن كطاولةٍ ليس عليها أحد
أجلس الآن..
لا أعرف كيف!!
تفوح مني رائحة التبغ والخسائر,
قلبي دولابٌ محشوّ بعلّاقات الملابس
وبعلاقاتٍ شبه تذكارية,
رأسي علبة سردينٍ صدئةٍ
كلّما هزّته ريحٌ..
سمعت داخلي مواء قطٍ تائهٍ,
كلّما رشقني الأطفال بالحجارة
تدحرج مثل كرةٍ نحو برميل القمامة,
كلّما سألتُ عن الوقت
انفتحتُ على العدم,
وكلّما سألتُ..
صرتُ خفيفاً مثل لا شيء.
عن يميني ريح
وعن يساري ريح
تأخذني ريح
وتحطّ بي ريح
وكلّما ارتفعتُ عن سطح الفكرةِ
ازداد حنيني للسقوط فوق حقيقةٍ حادة.
أنا حجرٌ يفكّر بالطيران
وأفكّر بكتابة قصيدةٍ جديدةٍ لامرأةٍ لا أعرفها,
أفكّر برسم صورةٍ لامرأةٍ لا تجيء,
أفكّر بالطريقة التي سأدعوها بها إلى كوب من الشّـاي,
أفكّر في الطّريق الطويل المؤدي إلى باب بيتي,
أفكّر في الطّريق الطويل المؤدي إلى بيتي,
أفكّر في الطّريق الطويل إلى بيتي,
أفكّر في الطّريق إلى بيتي,
أفكّر في بيتي…
ثم أفكّر بشراء مقبضٍ للباب
وبابٍ للجدار
وجدارٍ لنا,
لكنّني الآن جائعٌ
وأريد أن أنهي هذه القصيدة
ثم أريد أن أبكي وحدي
وأنام.
تصورت حبك طفحًا خفيفًا على سطح جلدي.. أُداويه بالماءِ أو بالكحول. وبررته باختلاف المناخ وعللته بانقلاب الفصول.. وكنتُ إذا سألوني.. أقولُ هواجس نفسٍ وضربة شمسٍ وخدش صغيرعلى الوجه سوف يزول.. تصورت حبك نهرًا صغيرًا سيُحيي المراعي ويروي الحقول.. ولكنه اجتاح برًّ حياتي فاغرق كل القرى واتلف كل السهول.. وجر سريري وجدران بيتي و خلفني فوق أرض الذهول.. تصورت في البدء أن هواك يمر مرور الغمامة وأنك شط الأمان وبر السلامة و قدرت أن القضية بيني وبينك سوف تهون.. ككل القضايا.. وأنك سوف تذوب مثل الكتابة فوق المرايا.. وأن مرور الزمان سيقطع كل جذور الحنان ويغمربالثلج كل الزوايا.. تصورت أن حماسي لعينيك كان انفعالًا كأي انفعال.. وأن كلامي عن الحب كان كأي كلام يقال.. واكتشفت الآن أني كنت قصير الخيال.. فما كان حبك طفحا يداوى بماء البنفسج واليانسون.. ولا كان خدشًا طفيفًا يعالج بالعشب أو بالدهون.. ولا كان نوبة برد سترحل عند رحيل رياح الشمال.. ولكنه كان سيفًا ينام بلحمي.. وجيش احتلال وأول مرحلة في طريق الجنون.
‏أمشي في شارع طويل، أعود في رأسي إلى لقاءنا، وكل ما أفكر به حين أتذكّر حديثها أنّ قدماها قد خرجتا عن النص، خطوة واحدة خاطئة وهوَت في ما كانت تُخفيه. أنظر للأسفل وأتخيل كيف لوقع خطاي أن يخونني دون انتباه..هناك خروج عن النص جميل، يخلق معنىً آخر مذهل. وهناك نوع آخر، مثلها، إلى الفراغ.
كان يوماً عادياً، لكنه هادئ، وهذا ما يهمّ في آخر فترة، أن يكون الهدوء خلفية ما يحدث حتى لو كان كل شيء سيء.. ربما المعرفة المسبقة لما ستؤول إليه الأمور ما تجعلني لا أطلب إلا الصمت والسكون. يهرب الخوف من الألم بعيداً عني هذه المرة، كأنه لم يكن معضلتي الحقيقية فيما مضى.في رأسي الكثير من الكلمات المبعثرة، وخفة لذيذة مؤقتة لا أعرف لها سبباً، ولأني سأنسى مع الزمن ما كان واللحظات الأخاذة حين يفلت الحنان منك، ويعود الثقل ليغلّف الأشياء، أريد أن أتذكر دوماً هذا اليوم، ليس لحدوث شيء فريد يميّزه، أو لكونه خارج عن المألوف.. على العكس من ذلك.. كان يوماً عادياً، لكنه هادئ، لم أكن ظلّاً وأنت لم تكن مختبئاً، كان كل أحد فينا "في الركن البعيد الهادي" يبتسم بفعل العادة.
الحياة أثمن من أن نهدرها في علاقات متعبة، أحلام ميّتة، صداقات هشّة، كتب رديئة، أماكن لا ننتمي إليها، إن تلك الأشياء تُنقِص من اعمَارنا وتثقلنا وتستنزف من طاقاتنا، فلنبحث عن ما نجد انفسنا فيه، فنحن جديرون بأن نحيا حياة حقيقية مليئة بالشغف والحب والجمَال .
من أقسى المشاعر وأكثرها وطأة على القلب، أن تعود رويدًا رويدًا كالغريب مع من ألفته روحك وقرَّ به فؤادك، الذي كان يعي ما تعنيه من كلمة واحدة أو نظرة، الآن بات حتى عشرة أسطر لا يقوى على فهم جملة واحدة منها: " إنّي أدوس بساطك اليوم غريبًا.. بعدما كانت هذه الرُّوح منزلي ."
أنتِ لم تسلُبي مني شيئاً، لم أجلُب لكِ زهوراً يوماً ما، ولم أشتري لكِ عُطراً، ولم أهديكِ كتاباً، ولم أُشارككِ قهوةً، لم تسلُبي مني شيئاً أبداً لكُنك سلبتِ قلبي، وهذا أعظم ما يسلبُ الأنسان من الأنسان.
2024/10/01 22:31:23
Back to Top
HTML Embed Code: