Telegram Web Link
جوامع الأدعية النبوية: نفحات النور، ومراقي الأرواح 🌧️

إنّ خيرَ ما يلوذُ به العبدُ في ليله إذا أظلم، ونهاره إذا اضطرب، هو الدعاءُ الصادق، المستمدّ من مشكاة الوحي، المورود من حياض الكتاب والسنة؛ حيث النورُ الطاهر، والموردُ العذب، والكلمةُ الطيبة التي تصعد إلى السماء فتُفتح لها الأبواب، وتُهيَّأ لها الإجابة.

نعم؛ إنّ في أدعية النبي ﷺ سرًّا من أسرار الهداية، وضياءً من أضواء القبول، وحلاوةً لا يذوقها إلا من أخلص في دعائه لله، عارفًا بما يقول، حاضر القلب بما يسأل، مُستبصرًا بمعاني ما يتلفّظ، وكفى بكلام الإمام ابن تيمية نبراسًا في هذا الباب، إذ يقول: "وينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة، فإن ذلك لا ريب في فضله وحسنه، وأنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا" مجموع الفتاوى (٣٤٦/١)

وإنّ من حرمان القلب، أن يردّد العبدُ كلماتٍ لا يعي معناها، ولا يفقه مدلولها، فيفقد بذلك استشعار معاني الدعاء العظيمة ولذة المناجاة وأنس القرب، وشفافية الاتصال بين العبد وربه.
أما إذا أقبل على الدعاء بقلبه، وعلِم ما يقول؛ فهناك تذوق الأرواح حلاوة الابتهال، وتتنزل عليها سكينة الرضا، ويتدفق من بين جنباتها برد اليقين.

ولأجل هذا، كان من خير ما يُتحف به القارئ، ويُهدى إلى المتعبّد، ما جمعه الشيخ العالم الدكتور عبدالرزاق البدر ـ حفظه الله ـ من أدعية النبي ﷺ واستعاذاته المباركة، مع شرح لطيف واضح، يُعين على تدبرها، ويكشف عن جواهرها، ويهيئ السالك ليفهم ما يدعو به.

فدونك هذه الكنوز النبوية، التقط منها لآلئ الدعاء، وتفيّأ ظلال الرحمة، وتزوّد بها في سيرك إلى الله، فما سلك عبدٌ درب الدعاء إلا قاده إلى باب العطاء، وفُتح له باب التوفيق على مصراعيه، وملأ يديه من الخيرات والبركات.
وهجُ العقل من زيت عقول الرجال🌱💡


ما أشبه العقل في حياة الإنسان بمصباح الزيت! لا يضيء إلا بقدر ما يُملأ، ولا يكون له نور على الناس إلا بقدر ما أُشعل فيه من معارف العلماء وتجارب العقول.

وما أضيقَ عمرَ الإنسانِ إذا لم تُزهر فيه الأفكار الطيبة، ولم تثمر فيه العلوم النافعة ! وما أضيعَ سنيَّ الحياةِ إذا مضت في لَغْوِ الحديثِ وزينة الحياة الدنيا، ولم تُغرسْ في أرضها بذور العلم والمعرفة من نبعِ التأمل والتعلّم والتجربة.

ألا وإنّ من بليغ الحكمة أن تدرك أن أعمار العلماء ليست لهم وحدهم، بل هي لمن عقل عنهم، وأحسن الانتفاع بهم، واستثمر عقولهم وما كتبوه من علوم ومعارف سلخوا فيها أعمارهم ليضيفها إلى عقله، ويزيد بها عمره العلمي، فإنك أيها الطالب، قد تقرأ في يومٍ ما خطّه مؤلفٌ في سنوات، فتنقلب هذه الدقائق التي قرأت فيها، إلى سنين تضاف إلى عمرك العقلي، وتُحسب لك في ميزان الحياة، وتختصر بهذه الكتب مسافات العمر.

وما أكثر ما يمضي العالم أو المؤلّف دهرًا من عمره، يقرأ المؤلفات ويستقرئ المطولات، ويغوص في لجج الفكر، ثم يخرج لك بلُبابٍ صافٍ، وشهد مصفّى، يضعه بين يديك كأنما يضع كنزًا على مائدة من ذهب. فهل من العقل أن تترك هذا الكنز وتفرّط به؟

نعم، ففي كتبِ العلماء وأسفار المؤلفين ونتاج الباحثين أعمار مبذولة، وأقدام مشققة، وساعات وُصِل فيها سواد الليل ببياض النهار، وأيام من السفرِ نُسجت على نَولِ الصبر والمشقة، ثم ها هي ذي بين يديك، قد نُسجت خلاصاتُها في سطورٍ، فهلّا ضممتَها إلى عقلك، وجعلتَها مِفتاحًا يفتح لك أبوابًا لم تكن لتُفتح بعُمرك وحده.

فاحرص -رحمك الله- أن تُضاعف عمرك العلمي بعلم العلماء، وأن تزيد على عقلك عقولهم، فزادُ العقول من تجارب الرجال، والعمر وإن طال؛ أقصر من أن يجرب كل شيء بنفسه، فالعمرُ لا يكفي، ولكن القراءة تَكفيه.
فمن تمام العقل أن تقرأ، لا لتزيد علمك فحسب، بل لتختصر على نفسك المسافات، وتُبصر المواضع التي سلكها غيرك وتسلكها بأقدامهم، فاعقل هذا، تكن ممن عمره يَسَعُ عمرَ أمة، وعقله يسير بأقدام العلماء، فبمثل هذه القراءات يطول العمر من غير زيادة في السنين.

أجل، إن الحصيفَ اللبيب لا يمرُّ بعقلٍ إلا استوقفه، ولا يقرأ كتابًا إلا سأل نفسَه: كيف أُضيف هذا إلى عقلي؟ فالعمرُ مهما امتدّ، أقصرُ من أن تُجْرِب فيه كلَّ ما جُرّب، وتجوس فيه خلال الديار، ومن قرأ بعقل غيره؛ فاز بضعف عمره، واستنار عقله بخلاصات العلماء.

فاجعل أيها القارئ، من كل ساعة علمٍ تسرقها من لهوك، عُمْرًا مضافًا إلى عمرك، ومن كل كتابٍ تقرؤه، عقلًا آخر يُضاف إلى عقلك، فإنما أنت بجمعك للعقول، تُوسّع مداركك، وتُضاعف أنفاسك في ميدان المعرفة.
ويا لها من ساعات من ذهب، وأعمار تُشترى بلا ثمن. ولقد أعجبني مارون عبود، وهو ينثر الحكمة بين سطور بيانه، حين قال: “إن ساعةً تنتزع كلَّ يومٍ من ساعاتِ اللهو، وتُستعمل بما يفيد، تُمكِّن كلَّ امرئٍ ذي مقدرةٍ عقلية أن يتضلع من علمٍ بتمامه".
حين تُجهضُ الأضواءُ مسيرةَ النبوغ 🌿

نرى بين آنٍ وآن طيفًا من الأشبال الغِرّ، قد أشرقت عليهم أنوار الحفظ، ورفرفت على جباههم ألوية الفهم والذكاء، فيُطرب الناس لهم، وتتهلل الوجوه لرؤيتهم، ويتسابق ذوو الهيئات إلى تقديمهم، فتُفسَح لهم المجالس، وتُعقَد لأجلهم المحافل، ويُقال فيهم وعنهم، حتى كأنّ الدنيا لم تُرزق قبلهم نابغًا، ولن تُنجب بعدهم مثيلًا!

أصدقك القول أني لا أُسَرّ برؤية طفلٍ يُقدَّم في المجالس، ويُصنَع له من الشهرة ما لم يُصنع للكبار، بل أجزع له وأخاف عليه، كأنّي أراه في مَهبّ ريح عاصف، قد أخذته يد الإعجاب من حيث لا يشعر، فألقته في تيار لا ينجو منه إلا من عصمه الله!
ويا لله، كم أَشفق على هؤلاء البراعم إذا سُلِّطت عليهم أضواء لم تألفها أعينهم، ونُزِعت عنهم براءة الطفولة نزْعًا باسم التميّز والتفوق والنجابة.

وإني وإن كنت والله أفرح بموهبة تُفتَح أو حافظٍ متقن، إلا أنّ الفرح سرعان ما يخبو، ويقوم في قلبي مقامَه وجَلٌ من العاقبة، وخوفٌ من مكر الدهر وتقلب الأحوال إذا رُفِعوا على منابر لم تتهيأ لها أقدامهم.

يا سادة، ليس كلُّ من أضاء مبكرًا دام نوره، ولا كلُّ من أُبرز صغيرًا سَلِم من داء الغرور وفتنة التصدير ودخان الأضواء.

فليست الشهرة في هذا السن إلا كالسُّمّ في الشراب، ينساب في العروق مسرورًا به، ثم لا تلبث أن تظهر تبعاته في العقل والدين والخلق.

ألا ما أتعس الطفل إذا عَلِم أنّ له مقامًا بين الكبار، وأحسَّ أنّ له في المجالس صدارة، وفي الألسنة ذِكرًا، وفي القلوب تعظيمًا! فإنّ قلبه الطري لا يحتمل ذلك، وعقله الغضّ لا يميّز بين المدح الذي يُنمّي، والمدح الذي يُردي.

أيّها الأب، أيّها المربي، إنّك إن كنت محبًّا لولدك أو تلميذك فاستره حتى يشتدّ، وغطّه حتى يكتمل، وألقِ به في حجر العلماء لا في حُضن الكاميرات، واسقه من ماء الحكمة لا من خمر المديح؛ فإنّ أخطر ما يكون على قلب الطفل أن يُقال له: "ما أذكاك! ما أنجبك! ما أعجبك! ".

فكم من موهبة كُفِنت في ثياب الظهور المبكر، وكم من غلامٍ أجهزت عليه فلاشات المصوّرين، واحتراقات التصفيق، قبل أن يتهيأ للمسير في مدارج الرجولة وأخلاق العلماء ومنازل التواضع!

إنّ التربية الحقّة، أيها المربّي النبيل، لا تكون على منصّة، ولا تُغرس في ضوء الكاميرا، ولا تُسقى في زحام التصفيق، بل تُرَبَّى النفوس في الظلّ، ويُنضَج العقل في صمت، وتُزكّى الروح في خفاء، ويُحفَظ من أعين الناس حتى إذا اكتمل بناؤه قيل له: تقدم، فإنّك إن قدّمتَ الطفل قبل أوانه؛ هدمتَ ما بنيت، وأفسدتَ عليه ما أردت إصلاحه.

ولستُ أعني أن يُهمَل الغلام إذا نَبغ، بل أقول: ليُربَّ التربية الصحيحة، تلك التي تكون في ظلّ التزكية، لا في وهج الثناء!

فاتركوا لأبنائكم الطفولة بما فيها من براءة وسذاجة، وغذّوهم بمعاني الخير والفضيلة، ودعوا عنكم لهاث التفاخر بأعمارهم الصغيرة، وقراءاتِهم الطويلة، فكم في هذه المفاخرة من خيانة، وإن غلّفها القائل بنيّةٍ حسنة! وكم من غلامٍ اشتُهر فخمد، ومُدح ففَسَد، واعتُلي المنابر فزلّت به القدم، وما كان ذنبه إلا أنه صدّقهم حين قالوا له: "أنت شيء" قبل أن يُصبح شيئًا!

واحذروا أن تزرعوا في قلوبهم شجرة العُجْب، فإنها إذا نمت اقتلعت معها كل نبتة طيبة.

فيا من أُوتي ولدُك فهْمًا، أو بُورِكَ له في الحفظ، خذه من يده إلى ساحات العلماء، وأغلق دونه أبواب الظهور، حتى يكتمل بناؤه، ويشتد عوده،
فإنّ من طاش في صغره برُفعةٍ لم يستحقها، عاش في كِبَرِه يلهث خلف بريقٍ زائل، ورضًا لا يُنال، وتقديرٍ لا يُعطى إلا للراسخين.

فدعوا الطفولة تكتمل، ودعوا العقول تُستكمَل، واتركوا للمستقبل جَمالَه، وكفوا عنهم ضوضاء الشهرة، واصرفوا عنهم ضجيج الظهور، ودعوهم ينضجون كما تنضج الثمار في أغصانها، بعيدًا عن لَغَط الناس وضجيج الدنيا.
المتأخر الذي سبق الجميع 🌧️

إذا سبقك الناس إلى المجد، فلا تظننّ أنهم بسبقهم ظفروا بكل غنيمة، وأنك بتأخّرك فاتك ركب المعالي، وتجاوزتك فُرص النجاح، فإن هذا ظن من لم يعرف حقيقة الحياة وطبيعة النجاح فيها.

إن السبق يا صاحبي أن تعرف موضع خطواتك، وأن تتّخذ من التأخُّر عزيمة، ومن قِلّة الزاد قوة، ومن ضيق الطريق سعةً في الهمّة وامتدادًا في الأمل.

فكم من سابقٍ إنما يركض على غير هدى، وما يسابق إلا ظِلّه، ويمشي في الأرض مكبًا على وجهه، ولا يدري أين المستقر، وكم من متأخّرٍ قد وَقَفَ ليحسن التأمُّل، فخرج من وقفته تلك إلى غايةٍ لا يبلغها السابقون، وهكذا النفوس الكبيرة لا تعكف على أطلالٍ ذابلة، ولا تندب حظها على أمجاد لم تُدرِكها، بل تنهض بما أوتيت من العزيمة، وتستثمر ما في يدها من إمكانات متاحة، فيحول الله تأخّرها إلى ريادة، ويجعل خُطاها البطيئة سبْقًا في المدى.

ولستُ أجد لذلك شاهدًا أبلغ، ولا دليلاً أوضح، من الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه، جاء متأخّرًا بعد أن مضت الهجرة وطُويت صفحات بدر وأُحد والخندق، وبعد أن سبق إلى الإسلام السابقون الأولون، وثبتت أقدامهم فيه، وأخذوا من الفضل ما شاء الله لهم أن يأخذوا؛ فما اهتزّت له قناة، ولا وهنت له إرادة، وما نظر إلى ما فاته من الفضل، ولم يتحسّر على ما سبق، بل نظر إلى ما بين يديه من الممكن والمتاح، و أقبل بكليّته على جمع الحديث، وجدّ في الطلب، واحتقب عزيمته، واستمسك بالحفظ كأنه يستمسك بطرف النور، فلا يُفلت منه حرف ولا معنى، واستفرغ جهده في استيعاب ما فاته من الوحي، فجعل الحفظَ سلاحَه والنيةَ مركبَه، فصار مَن تأخّر عن القافلة؛ رأسَها وسَنامها!

أجل، تأخّر في الزمان، لكنه تقدّم في الميدان والمكانة، حتى غدا محدّث الإسلام الأول، وراوية السنّة، ووعاء الوحي في الأمة، وتلك وربي منزلة لا يرقى إليها إلا من وهبه الله نفسًا لا تُصاب بالفتور، وعزيمة لا تنكسر أمام سُرعة الآخرين، فانظر كيف جعل الله لمتأخّرٍ في الزمان، سَبقًا في العلم، وخلودًا في الذكر، ورفعةً في الدين، وادّخر له هذا الفضل.
نعم، حينما تأتي متأخرًا وتكون الأول، لأن مجيئك هذا جاء بعد أن نضج وعيك، واشتد عزمك، واستقامت رؤيتك، فتكون خطوتك المتأخرة أثبتَ، ونفَسك الممتدّ أطول، وقلبك المتيقّظ أصفى.

فيا من ظن أن الأيام قد أضاعته في مساربها، وأبطأ به الزمان عن سابقيه؛ وظنّ أن فواتَ البدايات فواتٌ للغايات أقول لك:
لا تيأس ولا تأسَ ولا تبتئس، فإن الشمسَ وإن أبطأت في الشروق؛ فهي إذا طلعت ملأت الوجود نورًا، وإذا أشرقت أحرقت العتمة وأحيت الذبول!

فالعبرةُ ليست بالبدايات وحدها، بل بالنيّة الصادقة، والعمل الدؤوب، والانبعاث من مرقد الغفلة إلى رحاب الجدّ والعطاء، واستثمار الممكن والمتاح.
فانهض من حيث أنت، وابدأ من حيث بلغت، فإنما المرء بعزمه لا بعمره، وبقلبه لا بزمنه، وإن العبرة ليست بمن بدأ، ولكن بمن أتمّ، وليست بمن سبق، ولكن بمن ثبت وصدق.

فالهمّة العالية تصنع للمرء مبدأه، وإن جاء في آخر الركب، وتجعله إذا همّ أن يكون، كان!
فالحق بركب المجتهدين، وإن تأخّرتَ، فربّ متأخّرٍ بلغ القمّة، وربّ مُبكّرٍ تاه في السفح!
عظمة التدبير بين موعد الفرج وروعة اللطف 🌱🌧️

قد يتأخر عنك الفرجُ يا صاحبي، فلا يأتيك حين تشتد قبضتك في الطّلب، ولا حين تُلحّ على الأبواب بدمعك وندائك، بل يأتيك إذا شاء الله أن يأتي، في ساعةٍ لا تنبئ عنها الساعات، ولا يسبقها نذير، ولا تتقدّمها علامة، حين يأذن الله، وفي وقتٍ يختاره بحكمته، لا بهواك ولا بانتظارك، فالله سبحانه لا يعجل لعجلة عباده.

فهو الذي رتّب شؤونك من قبل أن تُخلَق، وأدار دقائق قدرك وأنت لا تشعر، فإذا آن أوان الفرج، أقبل عليك من كل صوبٍ بالعون والتسخير، وجاءتك الأسباب تمشي إليك كما لم تحتسب، بعضها تعرفه، وبعضها ينهمر عليك كالوحي، لا تدري من أين أتى ولا كيف ساقه الله إليك. فهو سبحانه، إن أذن للرحمة أن تمشي إليك، مشت، وإن أذن للكرب أن يُجلى عنك، انجلى، ولو كانت الجبال عليه مطبقة، والأبواب دونه مؤصدة، حتى لكأنها لم تُخلق بمفتاح.

وإذا شاء الله أن يُفرّج عنك، ساق إليك من الأسباب ما لا يخطر ببالك، وسخّر لك من جنوده من لم ترَهم، وجعل من عسرك يسراً، ومن دمعك ضياء، ومن ظنّك القاطع أملًا نابضًا، فإذا بملامح المشقّة تنقلب نعيمًا، وتُبصر أن ما كنت تراه بالأمس حاجزًا؛ أصبح اليوم أعظم ما يُعينك، وربّ أمرٍ كنت تراه سدًّا من حديد، فإذا هو بوابة الفرج، وربّ شيءٍ كنت تُبغضه بالأمس، فإذا هو اليوم عصاك التي تتكئ عليها، وتهش بها على ألمك، فلا تملك حينها إلا أن تخرّ ساجدًا لعظمة التدبير، وتشهَد في قلبك روعة اللطف وعجائب الرحمة التي سبقت كل شيء.
هنالك تعلم – لا باللسان بل بالوجدان – أنّ لله ساعةً إذا جاءت، انحلّت بها عُقد الدهر، وتفتّحت بها مغاليق الأرض والسماء، وأنّ رحمته لا تُدرك بالعقل، بل تُلمَح بالبصيرة، وتُرتَشف بالرضا، وبوابتها التضرع والدعاء، ومفتاحها الصبر واليقين.

﴿وَلا تَيأَسوا مِن رَوحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيأَسُ مِن رَوحِ اللَّهِ إِلَّا القَومُ الكافِرونَ﴾.
📖 كتبٌ مهمةٌ لطالب العلم  تُعينه على ضبط مسائل توحيد العبادة:
١. الرَّد على البكري (الاستغاثة).
٢. الرَّد على الإخنائي.
٣. التَّوسل والوسيلة.
⏎ ثلاثتها لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
اقرأها بتأنٍ.

📖 كتب يُنصح بها، تجمع بين الإفادة العلمية وتهذيب السُّلوك:
• قاعدة في المحبَّة ⇦ لابن تيمية رحمه الله.
• طريق الهجرتين.
• أوائل الوابل الصَّيب.
• الرِّسالة التَّبوكيَّة.
⏎ لابن القيم رحمه الله.

📖 ثلاثة كتب:
١. التَّنبيهات السَّنية على العقيدة الواسطية⇦ ﻻبن رشيد.
٢. تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التَّوحيد.
٣. شرح العقيدة الطَّحاوية⇦ ﻻبن أبي العز .
اقرأها قراءة جادة، وأبشر بفائدة كبيرة في العقيدة.

📖 ثلاثة كتب ﻻ يستغني عنها طالب علم متأهل في تأصيل العقيدة والرًّد على المخالفين:
١. نقض الدَّارمي على بِشر.
٢. ورده على الجهميَّة.
٣. التَّوحيد⇦ﻻبن خزيمة.

📖 يسأل بعض الإخوة عن شرح مختصر متميز لكتاب التَّوحيد
وأرى أن (حاشية كتاب التَّوحيد ) لابن قاسم رحمه الله جدير بالعناية؛ فهو من أفضل الشُّروح المختصرة.

📖 يسأل بعض الإخوة -غير المتخصِّصين- عن كتاب في العقيدة جامع يُكتَفى به.
لعل كتاب: (معارج القبول) للحكمي هو المناسب، كتاب نافع جدًا
أوصي بالعناية به، يتميَّز بالجمع والجودة والسُّهولة: يجمع معاقد مسائل الاعتقاد بأدلَّتها بأسلوب سهل.
وكونه بعد دراسة الواسطية: أمرٌ جيد.

📖 تفسير: (أضواء البيان) للشَّنقيطي
يندر أن يُؤلف في عصرنا كتاب يضارعه في قوَّة لغته وجودة تحقيقاته وكثرة فوائده، فلا غنى لطالب العلم عنه.

📖 كتاب: (اقتضاء الصِّراط المستقيم) ﻻبن تيمية
كتاب جليل، عظيم النَّفع، كثير الفائدة، حريٌّ بالقراءة والتَّأمل
والحاجة إليه -في هذا العصر- ماسة.

📖 كتاب: (طريق الهجرتين) ﻻبن القيم .. كتاب عظيمٌ نافع، ﻻ يستغني عنه طالب العلم.
فاقرأه؛ وستجد -بتوفيق الله- فائدة كبيرة.

📖 إذا أردت كتابًا مليئًا بالفوائد .. أشبه ببستان فيه من كلِّ الثَّمرات تروم في قراءته المتعة وزيادة اﻹيمان
فعليك بــ: (مفتاح دار السَّعادة) ﻻبن القيم.

📖 إذا أردت كتابًا نافعًا جامعًا؛ يطوّف بك في بساتين العلم المختلفة
فعليك بـ: جامع العلوم والحِكم (شرح الأحاديث الأربعين النوويَّة وزيادتها) لابن رجب.

📖 أنصح أن يجمع طالب العلم في مكتبته -ما استطاع-: كتب ابن تيمية، وابن القيم، وأئمة الدعوة، والعثيمين.

📖 كتب المعلمي رحمه الله نفيسة مفيدة؛ تتميَّز بحسن الاستقراء وجودة الاستنباط، سيما مؤلفاته في علوم الحديث، وقد طبعت مؤخرًا مجموعة مؤلفاته.

💡 "احرص على جمع الكتب؛ فلا يخلو كتاب من فائدة"
[صيد الخاطر ٣١١]
وراع في اقتناء الكتاب ثلاثة أمور: قيمته العلميَّة، حالته(تحقيقه، طباعته)، حاجتك إليه.

🔹| ️تغريدات متفرقة للشيخ أ.د. ‎
#صالح_سندي حفظه الله.
عظمة التدبير بين موعد الفرَج وروعة اللطف 🌧️🌱
المناجاة وسمو الروح في خلواتها 🌧️


من العبادات التي غفلت عنها القلوب ونُسيت في زحمةِ الأيّام، وضاعت بين أروقةِ السعي وراء المعيشة؛ عبادةٌ جليلة، لا يُحسنها إلا من زكت نفسه، ولان قلبه، وتألّقت روحه، وآنسته الخلوات..إنها عبادة المناجاة

تلك المناجاة العذبة، التي تنعش القلب وتحمل في طيّاتها من السكون ما يُنسيك ضجيج العالم من حولك.

هناك حين يُرخي الليل سدوله، وينسحب النهار بصوضائه، ويخلو القلب من غوائل الأشغال ومشاغل الأنام، يفتح العبد بابه على الله؛ يشكو إليه ما ضاق به صدره من الزمان، ويبثه ما لا يحتمله الجَنان، ويودعه حديثًا يطول ويطول حتى لا يشعر صاحبه بالليل إذا أدبر، ولا بالصبح ١إذا إذا أسفر.

فإذا صفا القلبُ من كدرِ الحياة، وانسلخ عن شواغلِ الوقت، وانكفأ على ربِّه خاشعًا؛ فُتح له باب السماء، فدخل منه متخففًا من الأثقال، يهمس إلى مولاه بأوجاعه، وينثر بين يديه حوائجه، يشكو ويرجو، ويبكي ويبث، لا يملّ ولا يكلّ، لأنّه في حضرةِ من لا تملُّ حضرته، ولا ينفد عطاءه، ولا منتهى لكرمه وجوده.

عجيب أمر هذه المناجاة!!
هي مرتبة المحسنين، وحقيقة العارفين، فيها يتهجّى القلب أبجديات الحب والرجاء، ويسكب دموع قلبه على عتبات أبواب ربّه، ويناجيه بأسلوبه، لا يتكلّف فيه ولا يتصنّع، بل بعفوية رقيقة تسري في النفس سريان الندى على زهور الفجر.

هي ليست حديثًا عابرًا يمرُّ على الشفتين، ولا أدعية تُقال بقلب غافل، بل هي سرُّ القرب ووسيلة الأنس وذِروة سنام العبودية!
هي أن تُناجي ربك كأنّه تراه، وتأنس به كأنّك جالس بين يديه، تُحدّثه بلهجتك، وتُبثّه شكواك بعفويتك،وتفيض له بسرّك كما يفيض الصديق الوفيّ لصاحبه الأمين.

في المناجاة لذّة لا يعرفها إلّا من ذاق، وسكينةٌ يفيضها الله على من أخلص..

ويا لله! كم من قلبٍ تَفتّق في ساعة مناجاةٍ عن نور لم يجده في صلواتٍ طويلة، وكم من روحٍ أشرقت بعد ليلٍ من البكاء الطويل، وكم من نفسٍ آنست في بُثّها لربها من الحلاوة ما يُنسيها الأرض ومن عليها! حتى لكأن الأرضَ غابت، والزمانَ ذاب، وما بقي في الوجودِ إلا صوتُ العبد، وهمسُ الرجاء، وحنانُ الرب!

هنالك، يُصبح القلب لسانًا، ويغدو السرّ صلاة، وتذوب اللحظات فلا يعود الزمن زمنًا، بل يصبح كل شيء سكونًا وطمأنينة.

فلا تُضيّع نصيبك من هذا الفيض الرّباني، ولا تبخل على روحك بهذه النعمة، واجعل لك في كل ليل خلوة، وفي كل سكون نجوى، تتخفّف فيها من ضجيجِ الدنيا، وتنطرح على باب الكريم تناجيه، وتُخبره بما لم تُخبر به أحدًا، فإذا فعلت ذلك؛ فحدّثني عن قلبك بعدها كيف رقّ؟
وعن روحك كيف سمت؟
وعن دمعتك كيف أزهرت لك السكينة؟
وعن زمانك، كيف امتلأ بأنس لا مثيل له، ونعيم لا يزاحمه نعيم؟
سورة البقرة… في رحاب البركة ومصباح الهداية وكنف النور 🌧️🌱


يُحدّثك كثيرٌ من الناس عن الأثر العجيب الذي طرأ على حياتهم يوم ألزموا أنفسهم قراءة سورة البقرة، وعاشوا في رحابها، وأظلّتهم أنوارها. ولا عجب في ذلك، فقد قال الصادق المصدوق ﷺ: «اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة».

ولي في هذا بابٌ من الحكايات لأصحابها لو بسطته لطال المقام، ولكني أكتفي بالإشارة دون الإسهاب، فالمقام مقام تذكير لا مقام تعداد.

إن لهذه السورة المباركة أثرًا ظاهرًا لمن واظب عليها، إذا قرأها بيقينٍ بوعد رسول الله ﷺ، لا على سبيل التجربة والاختبار.
فكم من قلبٍ غافل أيقظه الله ببركتها، وكم من مريضٍ استعصى على الأطباء مرضه فشفاه الله بها، وكم من عسيرٍ تيسّر، ومتناثرٍ اجتمع، ومضطربٍ استقام، يوم التصق بها صاحبها وارتشف من معينها ونبعها الصافي.

فيا قارئ هذه الكلمات، إن ضاق صدرك بالهمّ، أو أثقلت كاهلك الديون، أو وجدت في روحك فتورًا عن الطاعة، وضعفًا في الإيمان، أو أردت أن تُسقي قلبك من ماء الهداية الصافي؛ فالزم هذه السورة العظيمة، وواضب على قراءتها بيقين، ثم انظر كيف تشرق روحك، وينهض قلبك، وتنتعش حياتك.

ومن أعظم بركاتها أنها حصن للدين، ودرع للإيمان، ومصباح للهداية؛ وموئل للخير، فالبيت الذي تتردّد فيه آياتها ينفر منه الشيطان، كما جاء في الحديث «‌إنَّ الشيطانَ يَنْفِرُ من البيتِ الذي تُقرأُ فيه سورةُ البقرةِ». وكذلك القلب الذي يأنس بها ويعيش تحت ظلالها، لا يجد عدوّ الله إليه سبيلًا، ولا مدخلًا، لأنه قد أُحيط بسور من نور لا باب فيه يدخل منه إليه.

فإن أردتَ حياة طيبة لقلبك، ونعيمًا لروحك، فاجعلها رفيقة يومك وسمير ليلك، ولا تفرّط في تلاوتها.
وأحلف بالله — غير حانث — أنك ستجد ذلك كلّه، وزيادة، إذا داومت عليها.

ولبلوغ هذه الغاية الجليلة أوصيك بثلاث:

◉ أن تسأل الله العون، فهو الكريم الوهاب، بيده ملكوت كلّ شيء، ولا يكون إلا ما يريد، فالجأ إليه واسأله أن يفتح لك أبواب بركتها وهداياتها، وأن يعينك على المواظبة عليها.

◉ أن توقن بفضلها، ولو تأخّر المراد، فربّما ابتلاك الله لينظر صدقك ويقينك.

◉ أن تدعوه أن يجعل القرآن، وهذه السورة خصوصًا، ربيع قلبك ونور صدرك، وأن لا يحرمك أنوارها ولا يقطعك عن بركاتها.

وها هنا مادتان نفيسـتان في فضل هذه السورة، أنصحك بهما، ففيهما نفع وفائدة.


ـ رحلتي مع سورة البقرة للدكتور عبدالله الربيعة، فقد كانت رسالته الدكتوراه عنها، ومكث فيها سنوات عديدة، قال عنها: أنها أجمل أيام عمره.

https://youtu.be/QZ8AdF34Fis?si=YWyO4Q_hy2glUWCK


ـ تجربة شخصية للأخ محمود آل غالب مع هذه السورة وشيء من أثرها العجيب على حياته.

https://youtu.be/GPHE3qm_ndI?si=IVTbSWbLuuBYpYK2


اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب همومنا، وجلاء أحزاننا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنّا، واجعلنا من أهله وخاصّته.
وكان أمره فُرُطاً
عصر الجمعة، ميقات الأنوار ونفحات الأبرار 🌧️🌿
بشائر الفجر وأنفاس التفاؤل🌧️🌱

من أحبّ الصفات إلى قلبي صفةُ التفاؤل، ومن أحبّ الأشخاص إليّ المتفائلون.

إن هذه الحياة كالبحر الخِضَمّ، لا يعبرها إلا من جعل أشرعة سفينته التفاؤلَ والرجاء. ولا عجب؛ فالمتفائل ينظر إلى أقدار الله بحسن الظن، ويرى في كل ألمٍ أملًا، وفي كل محنةٍ منحة، وفي كل كسرٍ جبرًا عظيمًا.

والتفاؤل ليس فلسفةً معقّدة، ولا لغزًا صعبًا يعسر حلّه، ولا زينةً نعلّقها على جدار الأيام، ولا مجرد كلمة نُردّدها بأفواهنا بما ليس في قلوبنا؛ بل هو شعور عميق يلازم الروح، فيجعلها تستقبل الصباح بنفسٍ مطمئنةٍ مبتهجة.
هو أن يكون عندنا فنّ الاستمتاع بالأشياء الصغيرة: أن نجد في رغيف الخبز الصغير وليمة، وفي قطرات المطر موكبًا من البهجة، وفي صوت العصافير نشيدًا مطربًا.
نعم، وأن نلمح في أيسر الأشياء – في نسمةٍ عليلة، أو ظلِّ شجرة، أو بريقِ نجمة – ما يملأ القلب سرورًا، ويُنسيه أثقال الأمس ومخاوف الغد.

ومن أسرار هذه الحياة ـ وما أكثر أسرارها ـ أنك تغلبها بالتفاؤل والابتسامة، على ما كانت عليه ظروفك؛ فالحياة تنقّيها نظرةُ الرضا، ويزيدها جمالًا لمحةُ الشكر، ويُضفي عليها البهجةَ حسنُ الظن بالله والفرح به.
والتفاؤل ليس خيالًا فارغًا، بل هو قوة تبعث على النشاط في العمل؛ ومن وُهب قلبًا متفائلًا استخرج من شوك الطريق أزهارًا، واتخذ من وعورة الدرب سُلَّمًا إلى القمة.

إن الابتهاج بالحياة فنّ وملكةٌ تُربَّى كما تُربَّى الأخلاق، وعادةٌ تُكتسَب كما تُكتسَب المهارة، ومفتاحها أن نرى الخير في الناس، والجمال في الأشياء، والفرص في الأزمات، وأن نعيش الحاضر بوعي؛ فلا نُحمّل قلوبنا هموم الأمس، ولا نُضيّع أوقاتنا في أوهام الغد، بل نعيش في حدود يومنا بعفويته وروعته، نراه هبةً عظيمة من الله، نعمل فيه الصالحات، ونجدد فيه التوبة، ونصلح ما تعثّر فيه من أمورنا.

حتى لو سقطتَ في الوحل، فما يدريك؟ لعلّ هذا السقوط يكون وقودًا لقفزةٍ تسبق بها سبقًا بعيدًا.

إن في الحياة جمالًا لا يلمحه إلا من أشرقت نفسه بالتفاؤل، وانفسح صدره بالأمل، واطمأن قلبه لموعود الله؛ حتى لكأنه صفحةٌ من كتاب الرحمة، سطورها آيات البِشر والرضا.
والتفاؤل ليس أن تنسى آلامك ومواجعك، بل أن تراها طريقًا إلى أفراحك، وأن تلمح من بين ثقوب المحن عظائم المنح؛ أن تمشي في دروب الحياة وأنت على يقينٍ أن بعد كل ليلٍ دامس فجرًا صادقًا، وفي أعماق كل شدة فرجًا ينتظر ساعة الخروج، وأن وراء كل المواجع فرحًا يرسم مباهجه على صفحات أيامك.

ففي كل يوم ميلادٌ جديد لمن أراد أن يولد، ويفتح صفحة جديدة مع الحياة. ومع بزوغ كل فجر وعدٌ صادق بأن الليل مهما أغطش ستبدّده أنوار الصباح، وأن الريح التي تُلهب وجهك بالسموم اليوم، ستحمل إليك غدًا عبيرًا منعشًا كنسيم الصبا جاء بريّا القرنفلِ .

وإذا اشتدّ عليك ليلُ الألم فتلمّح وراءه نور الفجر، وإذا وقعت عينك على الشدة فأعدَّ المتّكأ للفرج. ولا عزاء لأولئك المتشائمين الذين إن فُتحت لهم أبوابُ الجنان خافوا أن تُغلق، ولو أُهديت إليهم وردة شكَوا من شوكها، وإذا قدِم إليهم الحبيب استجرّوا لحظات الفراق؛ فأنّى لهؤلاء السعادة؟

والخلاصة أن الحياة كالمرآة؛ تريك صورتك كما تقدّم لها وجهك؛ فإن أقبلتَ عليها بالبِشر ردّت إليك صورةً مشرقة، وإن أقبلتَ عليها بالعبوس ردّت إليك ظلًّا كئيبًا.

فأقبل على أيامك في حبور الواثق، وامضِ في رحلتك بروحٍ تفرح بالعواصف لأنها تحمل في طياتها المطر، وتأنس بالمجهول لأنه في تدبير اللطيف. وتذكّر دائمًا أن وجه الحياة لمن ابتسم لها، كوجه الحبيب لمن أخلص له الحب.
أنينُ تلميذٍ على غروبِ أستاذِه

أحد أشياخي ممن كان له أثر طيب علي في مسيرتي، انقطعت عنه مدة، ثم لقيته على حال غير الحال التي تركته عليها، فُتحت عليه الدنيا، وتغيّرت اهتماماته، وانشغل بالتوافه، ولم أعهده كالسابق، فتألمت كثيرًا لمّا رأيته، وألمه حتى هذه اللحظة أجده في قلبي.

فكانت هذه الرسالة التي لا أظنه سيقرأها.

———————————————
شيخي الجليل وأستاذي الذي لن أنساه:

سلام الله عليك ورحمته وبركاته من قلبٍ ما زال يَدين لك بالفضل، ويذكر أيّامك الأولى في علوّها وسموّها، كأنها أنوار الفجر حين تبزغ على أفقٍ مظلم.

لقد كنتَ لنا مضربَ المثل في السموّ والجدّ، وكنتُ كلما ذكرتك، ذكرتُ نجمًا في السماء لا تطفئه الرياح، ولا تُغَيِّبه الغيوم، كنتَ لنا كالشمس حين تُشرق على ربوع الأرض ؛ تُلهم الأرواح وتستنهض الهمم، وتفتح لنا نحو المجد أبوابًا كأنها أبواب السماء.

ترى النفوسُ همّتك فتستحي أن تركن إلى الدون، و ترى القلوبُ أثرك فتستحي أن تنزل عن علياء الهمة، كنا نرى فيك نجمًا هاديًا، يشير دومًا إلى القمة، ويرفض أن يساوم على موائد السخف، أو يركن إلى لهو العابرين.

كنا نراك فنزداد يقينًا أن الحياة لا تُحْتَمل إلا بالارتفاع، ولا تُقطع إلا بالجدّ، ولا تُثمر إلا بالعمل الدائب.

واليوم ـ وآه من هذا اليوم ـ أجدني أمام شيخٍ آخر، قد غلبت عليه شواغل الدهماء، واحتوشته صغائرُ الشأن، فغاب في عينيك ذيّاك البريق الذي كان يلهب فينا نار الطموح.
أراك قد صرفتَ قلبك إلى ما يَعبَث به الناس، مما لا نفع فيه، وأعرضت عن تلك الذرى التي كنتَ سيِّدها وربانها.

أأخطأتُ أنا حين جعلتك قدوة، أم أن عوادي الزمن غلبتك، فأطفأت قنديلك؟!
فيا ويح قلبي وهو يرى من كان يُضيء له الطريق قد أطفأ سراجَه، ومن كان يرفعنا بهمّته؛ قد آثر الركون إلى الصغائر، وما ينبغي لك أن تكون هكذا، وما عهدناك إلا عظيمًا في نفسك، عظيمًا في أثرِك.
كنا نلوذ إليك لنرتفع، فإذا بك تنزل. وكنا نستضيء بنارك، فإذا بها تنطفئ بين أيدينا!

لقد كنتَ تُعلِّمنا أن العمر لا ينبغي أن يُصرف إلا فيما يخلّد الذكر، وأن الدهر لا يترك لأبنائه إلا ما شادوا من مكارم، أو غرسوا من فضائل، فما بال لسانك اليوم لا ينطق إلا بالهَزَل، وهمّك لا يجاوز المألوف من الصغائر؟!

شيخي الغالي، إن القلوب تُصاب بخيبة حين ترى المثل الأعلى يترجّل، والقدوة تنزل عن عليائها، ولكنها مع ذلك لا تكفّ عن الدعاء ولا تيأس من يقظة الروح، وعودة الشيخ إلى محرابه، ألا فانهض ـ رجوتك ـ وعُد إلى مقامك الأصيل، وارتفع إلى موضعك الأول، فما عهدناك إلا عَلَمًا للجد، ورمزًا للعلو، وموئلًا للنفوس الكبيرة وعَلمًا يُهتدى به، ولا عرفناك إلا عَلِيًّا يطاول السماء.

إن أمتك، وتلاميذك، وأنا أولهم، لا نريد منك أن تكون كأحد الناس، بل أن تظلّ كما كنت: قنديلًا لنا في الظلام، وصوتًا يوقظ الغافلين، ورايةً للهمة العليّة. أفترضى بعد ذلك كله أن تكون كأحد الناس، وقد كنتَ عند الله ـ نحسبك ـ وعندنا فوق الناس.

إن الناس كثير، ولكن العظماء قلّة، وأنت كنتَ من أولئك القلّة الذين يرفعون الحياة كلها برفعتهم.

أيا شيخي! إن تلميذك هذا لا يعاتبك لنفسه، ولكن يعاتبك لأمته؛ إذ خسرَت فيك رجلًا من رجالها الكبار.
ويعاتبك لزمانه؛ إذ أطفأت فيه مصباحًا كان يُضيء على طريق الطامحين.
ويعاتبك لقلبه؛ إذ كان يجد فيك صورة أمله، فبات يخاف أن تضيع صورته كما ضاعت ملامحك الأولى.

شيخي الغالي:

أعيذ وجهك أن تغزو ملامحهُ
رغم العواصف إلا بسمةُ الظفرِ

دمتَ لنا كما عرفناك، عظيمًا في أثرِك، مُجدًا في مسيرتك، عاليًا في همّتك، ثابتًا على مبادئك.


واسلم لمحبك وتلميذك الداعي لك والمعترف بفضلك دومًا: طلال الحسان.
Forwarded from ثلاثين ثانية
Media is too big
VIEW IN TELEGRAM
إلى المعلم | الشيخ: طلال الحسان
2025/09/16 10:56:45
Back to Top
HTML Embed Code: