الذنوب قنطرة البلايا 🌿
كم من كلمة جرت على لسان عارف بالله، فكانت للقلوب غذاء، وللأرواح دواء، وللسائرين إلى ربهم مصباحًا يهتدون به في ظلمات الطريق، وصبغةً من نورٍ وهداية.
ومن تلك الكلمات الخالدة؛ قول الفضيل بن عياض رحمه الله: «إني لأعصي الله، فأجد ذلك في خُلُق زوجتي ودابتي».
وهي كلمة لو استقرت في وجدان المسلم؛ لكانت له مِرقاةً إلى التوبة، وزاجرًا عن الغفلة، ومفتاحًا لصلاح الحال وسعادة المآل.
لأنها كلمة تهزّ النفس من أعماقها، وتفتح عليها بابًا من أبواب الحقائق الكبرى: أن كل ما يُصيب المرء من تبدّل في حالٍ، أو ضيق في أمر، أو جفاءٍ في قلب، أو تغيّرٍ في أهل، إنما مردّه إلى ذنبٍ أذنب، وجريرةٍ بينه وبين ربّه لم يُمحَ أثرها بعد.
وياله من معنى عظيم: أن يرجع المرء باللائمة على نفسه عند كل بلاءٍ يطرق بابه، أو ضيقٍ يلمّ به، أو قلبٍ يتنكّر له، أو طاعةٍ تفوته، أو أهلٍ يتغيّرون عليه.
هنالك لا يلتمس الأعذار في الناس، ولا يلقي بالتبعة على الظروف، بل يفتش في خبايا قلبه عن ذنبٍ خفيٍّ أحدث عليه ما يكره. وهل في كتاب الله شاهد أصدق من قوله تعالى: ﴿وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم﴾، وقوله: ﴿من يعمل سوءًا يُجز به﴾؟
وهذا هو السرّ الذي فهمه السلف؛ فما رأوا حادثًا يطرأ عليهم؛ إلا ردّوه إلى نفوسهم، وما نزلت بهم بليّة إلا قالوا: هذا بما كسبت أيدينا.
فهكذا كان دأب السلف؛ قلوب يقِظة، وضمائر حيّة، لا تترك حادثًا عارضًا دون أن تردّه إلى الذنب.
و لقد رُوي أن أحدهم نبح عليه كلب على غير عادته، فقال: (ما نبح عليّ هذا الكلب إلا بذنب أحدثتُه). ثم استغفر واسترجع، فما لبث أن سكن الكلب. أيّ قلب هذا الذي يقرأ في نباح الحيوان صحيفةَ ذنوبه؟!
ومن هنا تتجلّى عظمة الاستغفار، فهو التِّرسُ ضد المصائب، والملجأ من البلايا، والدَواء لكل علةٍ تنشأ من الذنوب.
فالذنوب أصل الشرور، ومصدر البلايا، وما على وجه الأرض كربٌ ولا همّ إلا وهو من جرّائها.
و العبد إذا أكثر من الاستغفار، ولاذ بربه؛ وجد الله غفورًا رحيمًا، يرفع عنه أثقال الذنوب، ويقيه شرورها وعواقبها.
فليكن لك – أيها السائر – في هذا المعنى زادٌ لا ينفد، فإذا وجدت قلبك يتنكّر، أو دنياك تتعسّر، أو أهلك يتغيّرون، فلا تفتّش عن علل الناس، بل فتّش عن ذنبك أنت؛ فإذا وقفت عليه سارعت إلى الاستغفار والتوبة، تطرق بهما أبواب السماء، حتى تُفتَح لك، وتجد ربك كما أخبر: «غفورًا رحيمًا».
فإن الطريق إلى الراحة أن تضع إصبعك على جرحك، لا على جراح الآخرين، ثم تبكي على خطيئتك بين يدي ربك، وتقول: (ربّ اغفر لي، وتب علي، إنك أنت التواب الرحيم).
فإن فعلت ذلك؛ وجدت السكينة تهبط عليك كما تهبط الرحمة على قلوب المخبتين.
كم من كلمة جرت على لسان عارف بالله، فكانت للقلوب غذاء، وللأرواح دواء، وللسائرين إلى ربهم مصباحًا يهتدون به في ظلمات الطريق، وصبغةً من نورٍ وهداية.
ومن تلك الكلمات الخالدة؛ قول الفضيل بن عياض رحمه الله: «إني لأعصي الله، فأجد ذلك في خُلُق زوجتي ودابتي».
وهي كلمة لو استقرت في وجدان المسلم؛ لكانت له مِرقاةً إلى التوبة، وزاجرًا عن الغفلة، ومفتاحًا لصلاح الحال وسعادة المآل.
لأنها كلمة تهزّ النفس من أعماقها، وتفتح عليها بابًا من أبواب الحقائق الكبرى: أن كل ما يُصيب المرء من تبدّل في حالٍ، أو ضيق في أمر، أو جفاءٍ في قلب، أو تغيّرٍ في أهل، إنما مردّه إلى ذنبٍ أذنب، وجريرةٍ بينه وبين ربّه لم يُمحَ أثرها بعد.
وياله من معنى عظيم: أن يرجع المرء باللائمة على نفسه عند كل بلاءٍ يطرق بابه، أو ضيقٍ يلمّ به، أو قلبٍ يتنكّر له، أو طاعةٍ تفوته، أو أهلٍ يتغيّرون عليه.
هنالك لا يلتمس الأعذار في الناس، ولا يلقي بالتبعة على الظروف، بل يفتش في خبايا قلبه عن ذنبٍ خفيٍّ أحدث عليه ما يكره. وهل في كتاب الله شاهد أصدق من قوله تعالى: ﴿وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم﴾، وقوله: ﴿من يعمل سوءًا يُجز به﴾؟
وهذا هو السرّ الذي فهمه السلف؛ فما رأوا حادثًا يطرأ عليهم؛ إلا ردّوه إلى نفوسهم، وما نزلت بهم بليّة إلا قالوا: هذا بما كسبت أيدينا.
فهكذا كان دأب السلف؛ قلوب يقِظة، وضمائر حيّة، لا تترك حادثًا عارضًا دون أن تردّه إلى الذنب.
و لقد رُوي أن أحدهم نبح عليه كلب على غير عادته، فقال: (ما نبح عليّ هذا الكلب إلا بذنب أحدثتُه). ثم استغفر واسترجع، فما لبث أن سكن الكلب. أيّ قلب هذا الذي يقرأ في نباح الحيوان صحيفةَ ذنوبه؟!
ومن هنا تتجلّى عظمة الاستغفار، فهو التِّرسُ ضد المصائب، والملجأ من البلايا، والدَواء لكل علةٍ تنشأ من الذنوب.
فالذنوب أصل الشرور، ومصدر البلايا، وما على وجه الأرض كربٌ ولا همّ إلا وهو من جرّائها.
و العبد إذا أكثر من الاستغفار، ولاذ بربه؛ وجد الله غفورًا رحيمًا، يرفع عنه أثقال الذنوب، ويقيه شرورها وعواقبها.
فليكن لك – أيها السائر – في هذا المعنى زادٌ لا ينفد، فإذا وجدت قلبك يتنكّر، أو دنياك تتعسّر، أو أهلك يتغيّرون، فلا تفتّش عن علل الناس، بل فتّش عن ذنبك أنت؛ فإذا وقفت عليه سارعت إلى الاستغفار والتوبة، تطرق بهما أبواب السماء، حتى تُفتَح لك، وتجد ربك كما أخبر: «غفورًا رحيمًا».
فإن الطريق إلى الراحة أن تضع إصبعك على جرحك، لا على جراح الآخرين، ثم تبكي على خطيئتك بين يدي ربك، وتقول: (ربّ اغفر لي، وتب علي، إنك أنت التواب الرحيم).
فإن فعلت ذلك؛ وجدت السكينة تهبط عليك كما تهبط الرحمة على قلوب المخبتين.
Forwarded from قناة د. ياسر المطيري
شرح المعلقات العشر.pdf
23.6 MB
هذا أنفع شرح للمعلقات فيما أعلم (نفيسٌ يُكتم عن العدو) كتبه عدد من أساتذة الأدب، وأحسنوا أيما إحسان، فإن الشروح القديمة تعنى في غالبها باللغة والإعراب، ويعييك أن تصل إلى المعنى وتستبين به عبقرية الشعر الجاهلي واستحقاق المعلقات خاصة لهذه المكانة.
وأذكر أنني قرأت بعض المعلقات على عالم موريتاني توفي رحمه الله وطلبت منه أن يتفضل ببيان المعنى الجُمْلي عقب شرح البيت، فثقل عليه واعتذر بأنه لم يَدرُس هكذا. فهذه المهمة ليست يسيرة وهي الغاية وغيرها وسيلة إليها.
وهذا الشرح مبني على الشروح المتقدمة وليس مناقضًا لها، فاقرأه سواء حفظت المعلقات أم لم تحفظها، وقد قال الإمام أحمد لما سُئل عن الشعر: أما الجاهلي فما أنفعه.
وأذكر أنني قرأت بعض المعلقات على عالم موريتاني توفي رحمه الله وطلبت منه أن يتفضل ببيان المعنى الجُمْلي عقب شرح البيت، فثقل عليه واعتذر بأنه لم يَدرُس هكذا. فهذه المهمة ليست يسيرة وهي الغاية وغيرها وسيلة إليها.
وهذا الشرح مبني على الشروح المتقدمة وليس مناقضًا لها، فاقرأه سواء حفظت المعلقات أم لم تحفظها، وقد قال الإمام أحمد لما سُئل عن الشعر: أما الجاهلي فما أنفعه.
أعطِ الصباحَ فرصة 🌧️ 🌱
هذا عنوان كتابٍ محبّبٍ إليَّ من كتب الأديب عبدالوهاب مطاوع، اقتبسه من قصة مؤثّرة، عن ثلاثةٍ من البائسين اجتمعوا في ليلةٍ شديدة السواد على متن جسرٍ عالٍ. ولم يكن بينهم موعدٌ ولا معرفةٌ سابقة، غير أنّ البؤس ساق خطاهم إلى الموضع نفسه، والفكرة السوداء جمعت قلوبهم، وهي: أن يلقوا بأجسادهم في لجّة النهر، علّهم يطفئون نارًا تستعر في صدورهم.
جلسوا إلى بعضهم، ففضّ كل واحدٍ كنانة همّه، وباح بسرّ علّته، فإذا هي جراح مختلفة يجمعها عنوان واحد: اليأس. وحين أوشكوا على المضي إلى النهاية، تمهّل أحدهم وقال: "لِمَ لا نؤجِّل حتفنا إلى الغد؟ فلعلّ فجرًا جديدًا يبدّد شيئًا من ظلامنا، فإن لم يفعل عدنا إلى الجسر وأتممنا ما عزمنا عليه".
أشرق الصباح، فتنفّس اثنان منهما هواءً غير الذي عرفاه، ورأيا في الأفق خيطًا من نورٍ يتدلّى على قلبيهما، فأحسّا أنّ الحياة – وإن جارت – ما زالت تحتمل صفحةً بيضاء. فآثرا الرجوع، وانثنى عزمهما عن القرار الموحش.
أمّا الثالث، فلم يعد. وحين انتظراه عند الجسر فلم يريا له أثرًا، علما أنّ الليل ابتلعه، وأنه لم يرضَ أن يمنح الصباح حقَّه من الفرصة. عندها تنفّس أحدهما زفرة طويلة وقال، وفي صوته حشرجة ندم:
ليته أعطى الصباحَ فرصة.
نعم، ما أروع الصباح حين يُقبل وفي يده مفاتيح الأمل، وفي عينيه بشائر الرجاء! وما أجمل أن نستقبله بقلوبٍ نقية، لا تثقلها أحمال الأمس، ولا تكدرها هموم الليل؛ بل نفتح له أبوابنا كما نفتح الأبواب لضيف كريم طال انتظاره. وما أجمل أن نضع أثقال الأمس خلفنا ظهريًا، ونقول لأنفسنا: اليوم غير البارحة، والغد غير اليوم.
إنّ الصباح ليس مجرّد انتقالٍ من ظلمةٍ إلى نور، ولا من سكونٍ إلى حركة؛ بل هو وعدٌ جديد بأن في الحياة بقيّة، وأن في العمر فرصة، وأن الأمل لا يزال حيًّا يتنفّس في أفق الكون. فمن صدّق هذا الوعد، دخل عليه الصباح مشرقًا بالخير، ومن أعرض عنه؛ بقي في ظلام قلبه، وإن توسطت الشمس كبد السماء.
والصباحُ في حقيقته امتحانٌ لحسن الظن؛ فمن استقبله بالفأل أزهرت في قلبه رياض الأمل، وصارت ساعات النهار عنده جداول من نور، ومن استقبله باليأس لم يرَ فيه إلا امتدادَ ليلٍ طويلٍ يوشك أن يخنق روحه.
وإن تعجبْ فَعَجَبٌ من ذلك القلب اليائس، وفي السماء ربٌّ يقول: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾، ومن ذلك المؤمن الذي يضيق صدره؛ وهو يعلم أنّ الله أرحم به من نفسه!
إنّ التفاؤل – يا صاح – هو زينة الصباح، ونافذةُ الروح إلى رحمة الله، واليقين بالله هو لحنه العذب وجناحه الذي يُحلّق به فوق محن الأيام.
وما من ليلٍ مدلهمّ إلا يعقبه فجرٌ ضاحك في وجه الدنيا.
وكم من مهمومٍ أطلّ عليه الفجر مثقلاً بالهموم، فإذا به حين يذكُر أنّ الله قريب، وأن رحمته واسعة، وأن عطاؤه أجزل، تنفرج في صدره أبواب الرجاء، كأنّ الفجر لم يُخلق إلا لأجله. وكم من مكدودٍ أنهكته الليالي، فإذا بالصباح يُعيد إليه قواه، ويُذكّره أن الله يُبدل بعد العُسر يُسرًا، وبعد الضيق فرجًا، ويُنشّطه ببشرى خفيّة: أنّ القادم أجمل، وأن الله يُخبئ له من الخير ما لم يخطر له على بال.
تُذكّرني المشارق كلَّ يومٍ
بأنّ الله لا يُبقي الظلاما
فأعطِ الصباحَ فرصة! لا تستقبلْه بوجهٍ عابس، ولا بنفسٍ مثقلة بظنون الأمس؛ بل استقبله كما يستقبل العطشان كأس الماء، وكما يستقبل المسافرُ البعيدُ بشائرَ الوصول. واجعل أوّل أنفاسك فيه تسبيحًا، وأوّل خُطاك دعاءً، وأوّل نظراتك توكّلًا ورجاءً، ثم انظر كيف يتبدّل نهارك، وكيف تُزهر في قلبك حدائق لم تزرعها بيديك.
وإنك حين تُعطي الصباح فرصةً، فكأنك تعطي نفسك عمرًا جديدًا، تشعر معه أن الهواء أطيب، والنور أرقّ، والقلب أخفّ. وما أجمل أن تستقبل هذا الزائر الكريم بقلبٍ متفائل، كأنك تقول له: ها أنا ذا ، ما زلت أؤمن أنّ الغد يحمل لي فرحًا وفرجًا، وأن رحمة الله أوسع من كل ضيق. فمن أيقن أنّ الله أرحم به من نفسه، وأن الغد بيد من لا يُخطئ تدبيره، لم يعرف لليأس طريقًا، ولم يذق للقنوط طعمًا.
فالطريق إلى السعادة يبدأ بابتسامة في الصباح، تُترجمها الثقة بالله، وتُزيّنها بشارة الفأل الحسن، وتُكلِّلها قوة الإيمان.
فأعطِ الصباحَ فرصةً أيها القلب؛ لعلّ الله يجعل فيه بدايةَ فرحٍ لم يخطر لك على بال، وبابَ رحمةٍ لم تطرقه يدُك قط. وما أجمل أن يكون أوّل ما يلقاك مع الفجر يقينٌ يملأ روحك: أنّ الله لا يُخلف وعده، وأن الغد يحمل لك من الخير ما تُبشّرك به أنوار الفجر. فإنك إن تفعل، وجدت فيه ما يردّ الروح ويُحيي الأمل.
فلنُعطِ الصباحَ فرصةً، لعلّه يهبنا ما عجزت الليالي أن تهبه. فرجوتك – يا صاحبي – ألّا تُغلق بابك في وجه الصبح، ولا تبخل على نفسك بفرصته. دع قلبك يتهجّى بشائر الفأل، ودع روحك تطير بجناحي اليقين. حينها فقط ستعرف أنّ الصباح هدية، وأنّ الدنيا – على ما فيها – ما زالت جميلة.
هذا عنوان كتابٍ محبّبٍ إليَّ من كتب الأديب عبدالوهاب مطاوع، اقتبسه من قصة مؤثّرة، عن ثلاثةٍ من البائسين اجتمعوا في ليلةٍ شديدة السواد على متن جسرٍ عالٍ. ولم يكن بينهم موعدٌ ولا معرفةٌ سابقة، غير أنّ البؤس ساق خطاهم إلى الموضع نفسه، والفكرة السوداء جمعت قلوبهم، وهي: أن يلقوا بأجسادهم في لجّة النهر، علّهم يطفئون نارًا تستعر في صدورهم.
جلسوا إلى بعضهم، ففضّ كل واحدٍ كنانة همّه، وباح بسرّ علّته، فإذا هي جراح مختلفة يجمعها عنوان واحد: اليأس. وحين أوشكوا على المضي إلى النهاية، تمهّل أحدهم وقال: "لِمَ لا نؤجِّل حتفنا إلى الغد؟ فلعلّ فجرًا جديدًا يبدّد شيئًا من ظلامنا، فإن لم يفعل عدنا إلى الجسر وأتممنا ما عزمنا عليه".
أشرق الصباح، فتنفّس اثنان منهما هواءً غير الذي عرفاه، ورأيا في الأفق خيطًا من نورٍ يتدلّى على قلبيهما، فأحسّا أنّ الحياة – وإن جارت – ما زالت تحتمل صفحةً بيضاء. فآثرا الرجوع، وانثنى عزمهما عن القرار الموحش.
أمّا الثالث، فلم يعد. وحين انتظراه عند الجسر فلم يريا له أثرًا، علما أنّ الليل ابتلعه، وأنه لم يرضَ أن يمنح الصباح حقَّه من الفرصة. عندها تنفّس أحدهما زفرة طويلة وقال، وفي صوته حشرجة ندم:
ليته أعطى الصباحَ فرصة.
نعم، ما أروع الصباح حين يُقبل وفي يده مفاتيح الأمل، وفي عينيه بشائر الرجاء! وما أجمل أن نستقبله بقلوبٍ نقية، لا تثقلها أحمال الأمس، ولا تكدرها هموم الليل؛ بل نفتح له أبوابنا كما نفتح الأبواب لضيف كريم طال انتظاره. وما أجمل أن نضع أثقال الأمس خلفنا ظهريًا، ونقول لأنفسنا: اليوم غير البارحة، والغد غير اليوم.
إنّ الصباح ليس مجرّد انتقالٍ من ظلمةٍ إلى نور، ولا من سكونٍ إلى حركة؛ بل هو وعدٌ جديد بأن في الحياة بقيّة، وأن في العمر فرصة، وأن الأمل لا يزال حيًّا يتنفّس في أفق الكون. فمن صدّق هذا الوعد، دخل عليه الصباح مشرقًا بالخير، ومن أعرض عنه؛ بقي في ظلام قلبه، وإن توسطت الشمس كبد السماء.
والصباحُ في حقيقته امتحانٌ لحسن الظن؛ فمن استقبله بالفأل أزهرت في قلبه رياض الأمل، وصارت ساعات النهار عنده جداول من نور، ومن استقبله باليأس لم يرَ فيه إلا امتدادَ ليلٍ طويلٍ يوشك أن يخنق روحه.
وإن تعجبْ فَعَجَبٌ من ذلك القلب اليائس، وفي السماء ربٌّ يقول: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾، ومن ذلك المؤمن الذي يضيق صدره؛ وهو يعلم أنّ الله أرحم به من نفسه!
إنّ التفاؤل – يا صاح – هو زينة الصباح، ونافذةُ الروح إلى رحمة الله، واليقين بالله هو لحنه العذب وجناحه الذي يُحلّق به فوق محن الأيام.
وما من ليلٍ مدلهمّ إلا يعقبه فجرٌ ضاحك في وجه الدنيا.
وكم من مهمومٍ أطلّ عليه الفجر مثقلاً بالهموم، فإذا به حين يذكُر أنّ الله قريب، وأن رحمته واسعة، وأن عطاؤه أجزل، تنفرج في صدره أبواب الرجاء، كأنّ الفجر لم يُخلق إلا لأجله. وكم من مكدودٍ أنهكته الليالي، فإذا بالصباح يُعيد إليه قواه، ويُذكّره أن الله يُبدل بعد العُسر يُسرًا، وبعد الضيق فرجًا، ويُنشّطه ببشرى خفيّة: أنّ القادم أجمل، وأن الله يُخبئ له من الخير ما لم يخطر له على بال.
تُذكّرني المشارق كلَّ يومٍ
بأنّ الله لا يُبقي الظلاما
فأعطِ الصباحَ فرصة! لا تستقبلْه بوجهٍ عابس، ولا بنفسٍ مثقلة بظنون الأمس؛ بل استقبله كما يستقبل العطشان كأس الماء، وكما يستقبل المسافرُ البعيدُ بشائرَ الوصول. واجعل أوّل أنفاسك فيه تسبيحًا، وأوّل خُطاك دعاءً، وأوّل نظراتك توكّلًا ورجاءً، ثم انظر كيف يتبدّل نهارك، وكيف تُزهر في قلبك حدائق لم تزرعها بيديك.
وإنك حين تُعطي الصباح فرصةً، فكأنك تعطي نفسك عمرًا جديدًا، تشعر معه أن الهواء أطيب، والنور أرقّ، والقلب أخفّ. وما أجمل أن تستقبل هذا الزائر الكريم بقلبٍ متفائل، كأنك تقول له: ها أنا ذا ، ما زلت أؤمن أنّ الغد يحمل لي فرحًا وفرجًا، وأن رحمة الله أوسع من كل ضيق. فمن أيقن أنّ الله أرحم به من نفسه، وأن الغد بيد من لا يُخطئ تدبيره، لم يعرف لليأس طريقًا، ولم يذق للقنوط طعمًا.
فالطريق إلى السعادة يبدأ بابتسامة في الصباح، تُترجمها الثقة بالله، وتُزيّنها بشارة الفأل الحسن، وتُكلِّلها قوة الإيمان.
فأعطِ الصباحَ فرصةً أيها القلب؛ لعلّ الله يجعل فيه بدايةَ فرحٍ لم يخطر لك على بال، وبابَ رحمةٍ لم تطرقه يدُك قط. وما أجمل أن يكون أوّل ما يلقاك مع الفجر يقينٌ يملأ روحك: أنّ الله لا يُخلف وعده، وأن الغد يحمل لك من الخير ما تُبشّرك به أنوار الفجر. فإنك إن تفعل، وجدت فيه ما يردّ الروح ويُحيي الأمل.
فلنُعطِ الصباحَ فرصةً، لعلّه يهبنا ما عجزت الليالي أن تهبه. فرجوتك – يا صاحبي – ألّا تُغلق بابك في وجه الصبح، ولا تبخل على نفسك بفرصته. دع قلبك يتهجّى بشائر الفأل، ودع روحك تطير بجناحي اليقين. حينها فقط ستعرف أنّ الصباح هدية، وأنّ الدنيا – على ما فيها – ما زالت جميلة.
بمناسبة قرب المولد النبوي فهذه منظومة نظمها شيخنا الأستاذ الدكتور بدر بن ناصر العواد، خصّصها لبيان حكم الاحتفال به.
ونسأل الله الكريم أن ينفع بها ناظمها وقارئها.
ونسأل الله الكريم أن ينفع بها ناظمها وقارئها.
ذكرى وفاء، على طرقات النسيان 🌧️🌱
ما أبهى تلك الزيارات في ميزان الوفاء، وما أصفاها في رياض الأرواح، وما أعطرها في سجلّ الذكرى، نزور بها رجالًا كانوا بالأمس من صُنّاع الحياة، يغرسون في القلوب بذور التربية، ويصبغون الأيام بألوان العطاء.
لقد كانوا في ما مضى منارات تهدي، وأيدٍ تبني، وعقولًا تصوغ من التربية والتعليم صروحًا شامخة، ثم آثروا السكون وتواروا عن الأنظار.
و زيارات كهذه ليست كسواها؛ إذ تنبعث منها أنفاس الماضي العاطر، وتشرق فيها شمس الوفاء، فتستيقظ القلوب على معنى العرفان، وتنهض النفوس لتشهد أن أثر أولئك العظماء لا يمحوه غياب، ولا يغيبه ستر فإذا جئناهم؛ أحيينا في أنفسنا عهدًا مضى، وأيقظنا في أرواحنا ذكرى تلك الساعات التي كانت تُنشئ النفوس إنشاءً، وتبني القلوب بناءً.
كان ـ أيّام دراستنا الجامعية ـ ملءَ السمع والبصر، تتجه إليه القلوب قبل الأبصار، ويزدحم مكتبه بالطلاب حتى ليكاد يضيق بهم مكانه. فإذا خرج إلى قاعة الدرس، سار من حوله رهط من طلابه يسألونه ويستفتونه، وهو يفيض عليهم من علمه، ويجيبهم بما اعتاد من بشاشة الوجه، ورحابة الصدر، وابتسامة لا تفارقه. ثم أدبر الزمان، وأثقلته العلَل، فآثر التقاعد بعد أن أقعدته الأمراض، وانقطع عن دروسه العامرة في مسجده. ولمّا زرتُه في داره، وجدتُ رجلاً يُصارع مرارة الجحود، ويشكو ألم النكران؛ تمرّ به الأيام بل الأسابيع، فلا زائر يطرق بابه، ولا صاحب يأنس بحديثه. وكنتُ ألمح في نبرات صوته أنينًا مكتومًا، وفي خلجات كلماته حسرةً لا تخفى، كأنما يقول في صمت: أهذا يكون جزاء السنين؟!
وإن ندائي لنفسي، ثم لإخواني من طلاب العلم، أن نتلمّس هؤلاء الكبار الذين أودع الله في أعمارهم بركةً، وفي أيّامهم أثرًا، وفي ماضيهم نفعًا لا يزول. فلنغتنم بقايا أعمارهم، ولنطرق أبوابهم بين الفينة والأخرى، نزورهم زيارة وفاء، ونحيطهم بما يليق بمكانتهم وفضلهم، ونُشعرهم أنّ بركتهم لا تزال تظلّلنا، وأن بصماتهم لم تزل محفورة في وجداننا، وأن أثرهم لا تمحوه الأعوام، ولا يغيبه تعاقب الجديدين. فإن غابوا عن الأنظار، فما غابوا عن القلوب، بل ازدادوا في الضمائر رسوخًا، وفي الأرواح حضورًا. وإنها ـ والله ـ لزيارة تُحيي فيهم الأمل، وتردّ إليهم الروح، وتبقى لهم ولنا ذخرًا في صحائف البر والإحسان.
ما أبهى تلك الزيارات في ميزان الوفاء، وما أصفاها في رياض الأرواح، وما أعطرها في سجلّ الذكرى، نزور بها رجالًا كانوا بالأمس من صُنّاع الحياة، يغرسون في القلوب بذور التربية، ويصبغون الأيام بألوان العطاء.
لقد كانوا في ما مضى منارات تهدي، وأيدٍ تبني، وعقولًا تصوغ من التربية والتعليم صروحًا شامخة، ثم آثروا السكون وتواروا عن الأنظار.
و زيارات كهذه ليست كسواها؛ إذ تنبعث منها أنفاس الماضي العاطر، وتشرق فيها شمس الوفاء، فتستيقظ القلوب على معنى العرفان، وتنهض النفوس لتشهد أن أثر أولئك العظماء لا يمحوه غياب، ولا يغيبه ستر فإذا جئناهم؛ أحيينا في أنفسنا عهدًا مضى، وأيقظنا في أرواحنا ذكرى تلك الساعات التي كانت تُنشئ النفوس إنشاءً، وتبني القلوب بناءً.
كان ـ أيّام دراستنا الجامعية ـ ملءَ السمع والبصر، تتجه إليه القلوب قبل الأبصار، ويزدحم مكتبه بالطلاب حتى ليكاد يضيق بهم مكانه. فإذا خرج إلى قاعة الدرس، سار من حوله رهط من طلابه يسألونه ويستفتونه، وهو يفيض عليهم من علمه، ويجيبهم بما اعتاد من بشاشة الوجه، ورحابة الصدر، وابتسامة لا تفارقه. ثم أدبر الزمان، وأثقلته العلَل، فآثر التقاعد بعد أن أقعدته الأمراض، وانقطع عن دروسه العامرة في مسجده. ولمّا زرتُه في داره، وجدتُ رجلاً يُصارع مرارة الجحود، ويشكو ألم النكران؛ تمرّ به الأيام بل الأسابيع، فلا زائر يطرق بابه، ولا صاحب يأنس بحديثه. وكنتُ ألمح في نبرات صوته أنينًا مكتومًا، وفي خلجات كلماته حسرةً لا تخفى، كأنما يقول في صمت: أهذا يكون جزاء السنين؟!
وإن ندائي لنفسي، ثم لإخواني من طلاب العلم، أن نتلمّس هؤلاء الكبار الذين أودع الله في أعمارهم بركةً، وفي أيّامهم أثرًا، وفي ماضيهم نفعًا لا يزول. فلنغتنم بقايا أعمارهم، ولنطرق أبوابهم بين الفينة والأخرى، نزورهم زيارة وفاء، ونحيطهم بما يليق بمكانتهم وفضلهم، ونُشعرهم أنّ بركتهم لا تزال تظلّلنا، وأن بصماتهم لم تزل محفورة في وجداننا، وأن أثرهم لا تمحوه الأعوام، ولا يغيبه تعاقب الجديدين. فإن غابوا عن الأنظار، فما غابوا عن القلوب، بل ازدادوا في الضمائر رسوخًا، وفي الأرواح حضورًا. وإنها ـ والله ـ لزيارة تُحيي فيهم الأمل، وتردّ إليهم الروح، وتبقى لهم ولنا ذخرًا في صحائف البر والإحسان.
للتسجيل في القسم *النسائي*، يُرجى الانضمام إلى قناة التلقرام الخاصة بالمسار المطلوب:
- مسار الإتقان.
https://www.tg-me.com/+pxFRMSkEWHAyMmFk
- مسار الحفظ (وجه،وجهان).
https://www.tg-me.com/+bHa34PHkI0w4NTY0
-لمتابعة قناة جمعية متقن على واتساب:
https://whatsapp.com/channel/0029VbAdptx6BIErEg3iDF31
- مسار الإتقان.
https://www.tg-me.com/+pxFRMSkEWHAyMmFk
- مسار الحفظ (وجه،وجهان).
https://www.tg-me.com/+bHa34PHkI0w4NTY0
-لمتابعة قناة جمعية متقن على واتساب:
https://whatsapp.com/channel/0029VbAdptx6BIErEg3iDF31