Telegram Web Link
أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث عمران بن حصين، وجاء عن ابن مسعود، أن النبي ﷺ قال: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ». وأخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ: هَلْ فِيكُمْ أَحَدٌ صَحِبَ رَسُولَ اللهِ ﷺ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ. فَيُفْتَحُ لَهُمْ. ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ: هَلْ فِيكُمْ أَحَدٌ صَحِبَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ. فَيُفْتَحُ لَهُمْ. ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ: هَلْ فِيكُمْ أَحَدٌ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ. فَيُفْتَحُ لَهُمْ».

نعم عباد الله!

ولهذا أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ. وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ. وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ».

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ﷺ تسليماً كثيراً.

أما بعد:

أيها المؤمنون! إن حب أصحاب رسول الله ﷺ أصل من أصول الإسلام، وبغضهم أصل من أصول النفاق والكفر بالله ـ عياذاً بالله! ـ. ففي الصحيحين من حديث أنس، أن النبي ﷺ قال: «الْأَنْصَارُ لَا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ».

وهكذا عباد الله! الأصل الثالث من أصول الإسلام: فهم السلف الصالح الذين ذروتهم صحابة رسول الله ﷺ. فأصول الإسلام: القرآن، ثم السنة، ثم فهم السلف الصالح رضي الله عنهم. ولم يسر على نهج النبوة، وعلى طريق الإسلام، من لم يفهم الإسلام بفهم الصحابة الكرام. ولهذا قال المولى جل وعلا: ﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ﴾.([9]) فالهداية منوطة ومشروطة بالسير على نهج الصحابة الكرام، ومن سار على ذلك المنوال، وذلك الطريق. وقال ربنا سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)﴾.([10]) وذروة المؤمنين صحابة رسول الله ﷺ بعد الأنبياء.

فلذلكم عباد الله! وجب علينا حبهم، رضوان الله عليهم أجمعين، ومعرفة منازلهم العظيمة التي سطروها للإسلام والمسلمين، والتي يضيق المقام لسرد بعضها. فلو نظرت في تراجم الصحابة لرأيت العجب العجاب من بذل الأنفس، والأموال، والأعمار، وما يملكون في خدمة هذا الدين. ثم يأتي زنديق من الزنادقة، أو ملحد من الملاحدة، يتنقص خير الخلق بعد الأنبياء، وربما ذكر ما حصل من الأشياء التي لم يسلم منها البشر.

نعم عباد الله!

ولهذا وجب الكف عما صدر بين الصحابة. ومن وقع في الصحابة فإنه يقتل مرتداً، زنديقاً، ولا يُسكت عن ذلك بقدر ما يستطيع. ولا يجوز مؤمن بالله واليوم الآخر أن يسمع السب والوقيعة في صحابة رسول الله ﷺ، ورضي الله عنهم، وكأن الأمر لم يحصل فيه شيء، كأن الأمر سهل. لا والله، بل الأمر خطير؛ فالطعن في الصحابة طعن في رسول الله ﷺ، بل طعن في رب العالمين؛ لأن الله مدحهم وزكاهم، وزكاهم رسول الله ﷺ، وهم طريق الإسلام، فهم الذين حملوا الإسلام. وانظر إلى تراجمهم، فهذا مات بالعراق، وهذا مات بالشام، وهذا مات بإفريقيا، وهذا مات بكذا. ما ذهبوا لتجارة، ولا ذهبوا لسياحة، ولا ذهبوا لفسحة؛ وإنما ذهبوا غزاة في سبيل الله، وذهبوا دعاة إلى الله جل وعلا.

ولله در القحطاني إذ يقول:

قُلْ خَيْرَ قَوْلٍ فِي صَحَابَةِ أَحْمَدَ * وَامْدَحْ جَمِيعَ الْآلِ وَالنِّسْوَانِ

"قُلْ خَيْرَ قَوْلٍ فِي صَحَابَةِ أَحْمَدَ": أحسن الأقوال في الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

دَعْ مَا جَرَى بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي الْوَغَى *
بِسُيُوفِهِمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ

فَقَتِيلُهُمْ مِنْهُمْ وَقَاتِلُهُمْ لَهُمْ *** وَكِلَاهُمَا فِي الْحَشْرِ مَرْحُومَانِ

اللهم! آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا، ولاة أمورنا.

والحمد لله رب العالمين.
----------------------------------
([1]) خطبة جمعة بتاريخ: [16/ربيع الأول/١٤٤٣ هـ‍].

([2])[النساء: 11].

([3])[آل عمرأن: 102].

([4])[الأحزاب: 70، 71].

([5])[آل عمران: 110].

([6])[التوبة: 100].

([7])[الفتح: 10].

([8])[الحشر: 8، 9].

([9])[البقرة: 137].

([10])[النساء: 115].

📮 رابط الخطب على القناة الرسمية للشيخ حفظه الله.⤵️
http://www.tg-me.com/abuamroalhgoury
https://www.tg-me.com/sharh_elsodor

🎙هلاك الظالمين والعاقبة للمتقين ([1])

إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

﴿يَا أيهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ أن اللَّهَ كَأن عَلَيْكَمْ رَقِيبًا﴾.([2])

﴿يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأنتُم مُسْلِمُونَ﴾.([3])

﴿يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا. يُصْلحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيماً﴾.([4])

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، و﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾.([5])

أيها الناس:

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)﴾.([6]) فالله سبحانه تعالى خلق هذا الإنسان، وأوجده في هذه الحياة؛ لطاعة الرحمن، ولعمارتها بالطاعات والقربات، وغير ذلك من المبرات. ولكن صنفاً من بني آدم سول لهم الشيطان، وزين لهم الشيطان، فأغواهم، فأضلهم، بعد قدر الله جل وعلا؛ ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)﴾.([7]) وهذا الصنف أصناف كثر، وأنواع مختلفة، من أهل الشرك والكفر والضلال، وأهل البدع والعصيان، وهم يتفاوتون.

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أمماً من أهل الإجرام، ومن أهل العصيان، طغوا، وبغوا، وتجبروا، وعصوا، ولكن الجبار لم يهملهم؛ ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)﴾.([8]) مهما بلغ الفجور والشر، مهما أُمهل فلن يُهمل، فلن يُهمل، فلن يُترك. فإن الله عز وجل شديد العقاب، فإن الله سريع الحساب، فإن الله سبحانه وتعالى غالب على أمره. ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)﴾.([9]) ضرب الله عز وجل مثلاً واقعاً، ملموساً، لأمم كثيرة، لم يوجد مثلها الطغيان، والكفران، والعصيان، والظلم، والبطش: ﴿لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)﴾.([10])

وفرعون اللعين الذي قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)﴾([11]) كما ذكر الله عنه، وقال كما قال الله: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)﴾.([12]) ادعى الربوبية، ادعى أنه الخالق، الرازق، وأنه المدبر، وأنه... وحصل ما حصل من الأذى للمسلمين لبني إسرائيل. ولكن الله سبحانه وتعالى أخذه أخذ عزيز مقتدر، انتقم الله منه. خرج في حشمه، وخدمه، وملإه، وكبار قومه متغطرساً، متكبراً، متعالياً، زعم للقضاء على موسى وقومه: ﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55)﴾([13]): هؤلاء قلة سنقضي عليهم. فتبعهم بكبار دولته، وأشراف مملكته، وليس فيهم شريف: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)﴾([14]): قال أصحاب موسى: لحقنا العدو، البحر أمامنا والعدو من ورائنا. فقال موسى الكليم عليه الصلاة والسلام: ﴿كَلَّا﴾: لسنا مدركين ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)﴾.([15]) فأنجاه الله وقومه، وأهلك فرعون وقومه أجمعين. ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)﴾.([16]) تلفظ بالإيمان لفظاً ومعنىً، وتذلل في وقت لا ينفعه: آمنت أنه لا إله إلا الله، وهذا كان المطلوب.
﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)﴾.([17]) قال الله: ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾.([18]) ليعتبر أهل الإجرام، وأهل العصيان، وأهل الفجور، وأهل الشر، أنهم مهما بلغوا ما وصلوا إلى مبلغ فرعون. وأخذه الله سبحانه وتعالى وصار عبرة، وعظة، وآية، لمن خلفه إلى قيام الساعة.

وهذا قارون الذي قال الله جل وعلا: ﴿وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾([19]): مفاتيح الخزائن تثقل على العصابة من الناس، على المجموعة، تثقل عليهم بحملها. هذه المفاتيح فكيف بالخزائن؟ قال الله تعالى: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾([20]): خسف الله به وبداره وبأمواله وبما معه. ﴿فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ﴾([21]): إن الظالم مهما كان معه من الظلمة، مهما كان معه من الفجرة، مهما كان معه من المدافعين، فإنهم سيتخلون عنه، فإنهم سيتبرأون منه في الدنيا أو في الآخرة. وإذا أتاه بطش الله، وعذاب الله، ونقمة الله تعالى، فما له من فئة، وما له ناصر، وما له معين، ولا أحد يقدر على رد عذاب الله.

نعم عباد الله!.

وهكذا ما حصل لغيرهم من أنبياء الله ورسله من الأذى من أعداء الرسل، مكن الله لرسله. قوم نوح عليه الصلاة والسلام سخروا منه سخرية عظيمة، وكانوا إذا سمعوا كلامه تغطوا بثيابهم، ووضعوا أصابعهم في آذانهم، وأصروا على عنادهم وكفرهم، وآذاهم. ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)﴾.([22]) ما نفع . قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)﴾([23]): فسيعلم الظالمون، والكافرون، والفاجرون، من يأتيه عذاب يخزيه، من تأتيه نقمة الله. ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)﴾.([24]) فمن أنجى نوحاً ـ عليه الصلاة والسلام ـ في ذلك الطوفان الذي ملأ الأرض كلها، والذي أنجى إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ في وسط النيران، والذي نجى محمداً ـ عليه الصلاة والسلام ـ في غار صغير، سنيجي عباده، وسينصر عباده الصالحين، وسيدمر وينتقم من أهل الكفر والفجور وأهل الشر، أعداء السرل وأعداء أتباع الرسل، إلى يوم الدين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ﷺ تسليماً كثيراً.

أما بعد:

عباد الله! فكما سمعنا بعض المقتطفات من بعض أهل الشر وأهل الكفر والعناد، فكذلك كانت العاقبة لأهل الإيمان والتقى. ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)﴾.([25]) قال الله: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا﴾.([26])

وهكذا عباد الله!، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)﴾.([27]) ويقول الله تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)﴾.([28]) قال الله: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)﴾.([29])
فلذلك على أهل الإيمان مزيد الاستقامة، ومزيد التقى، والثقة بالله، والاعتصام بدين الله تعالى، واللجوء إلى الله بكثرة الدعاء والتضرع. ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾.([30])

أخرج الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في جامعه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، يَرْفَعُهَا اللهُ فَوْقَ الْغَمَامِ، وَيَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ». والحديث صحيح لغيره. «وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ». ظلمت الأمة الإسلامية جمعاء من الكفار والمنافقين والمشركين، وظلم هذا البلد على وجه الخصوص؛ لما فيه من الخير والتقى. ولكن الله ليس بغافل، ولكن الله عز وجل ليس بغافل عنهم، وسيأتيهم عذاب الله.

فالصبر، الصبر، الثبات، الثبات، الثقة بالله، الدعاء، وهو من أعظم أسباب النصر. «وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ».

والحمد لله رب العالمين.
----------------------------------
([1]) خطبة جمعة بتاريخ: [٢٣/ربيع الأول/١٤٤٣ هـ‍].

([2])[النساء: 11].

([3])[آل عمرأن: 102].

([4])[الأحزاب: 70، 71].

([5])[الأنعام: 134].

([6])[البقرة: 30].

([7])[ص: 82، 83].

([8])[هود: 102].

([9])[الفجر: 6، 14].

([10])[الفجر: 8، 9].

([11])[النازعات: 24].

([12])[الزخرف: 51].

([13])[الشعراء: 54، 55].

([14])[الشعراء: 61].

([15])[الشعراء: 62].

([16])[يونس: 90].

([17])[يونس: 90].

([18])[يونس: 91، 92].

([19])[القصص: 76].

([20])[القصص: 81].

([21])[القصص: 81].

([22])[نوح: 5، 9].

([23])[هود: 38، 39].

([24])[هود: 41، 43].

([25])[الأعراف: 128].

([26])[الأعراف: 137].

([27])[غافر: 51].

([28])[القصص: 83].

([29])[يوسف: 110].

([30])[النمل: 62].

📮 رابط الخطب على القناة الرسمية للشيخ حفظه الله.⤵️
http://www.tg-me.com/abuamroalhgoury
https://www.tg-me.com/sharh_elsodor

🎙رَجُلٌ أُمَّةٌ وَحْدَهُ ([1])

إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

﴿يَا أيهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ أن اللَّهَ كَأن عَلَيْكَمْ رَقِيبًا﴾.([2])

﴿يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأنتُم مُسْلِمُونَ﴾.([3])

﴿يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا. يُصْلحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيماً﴾.([4])

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى رسول ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الناس:

أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ أَكْرَمِ النَّاسِ؟ قَالَ: «يُوسُفُ نَبِيُّ اللهِ، اِبْنُ نَبِيِّ اللهِ، اِبْنِ نَبِيِّ اللهِ، اِبْنِ نَبِيِّ اللهِ، اِبْنِ خَلِيلِ اللهِ». قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: «فَعَنْ مَعَادن الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، خِيَارُهُمْ فِي الْإِسَلَامِ إِذَا فَقُهُوا». وجاء أيضاً في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله ﷺ قال: «النَّاسُ مَعَادِنٌ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَخِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ».

الناس معادن عباد الله!، فمنهم الذهب وأغلى وأعلى، ومنهم الفضة، ومنهم النحاس، ومنهم، ومنهم... بين رديء وحسن، بين غال عال، وبين رخيص هيّن. وذروة الخلق وأشرف الخلق أنبياء الله ورسله عليهم الصلوات والسلام.

والناس مراتب في الفضل ومنازل بقدر ما يسيرون على نهج النبوة وعلى طريق الحق والإسلام والسنة. فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه، قال: مَرَّ رَجُلٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله ﷺ: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟» رجل ذو شعرة وذو هيئة، «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! هَذَا حَرِيٌّ إِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ». حري أن ما أراده يفعله؛ لأنه ذو جاه، وذو منزلة، عند الناس. ومر رجل آخر في حالة رثة، فقال النبي صلى الله ﷺ: «مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! هَذَا إِنْ شَفَعَ لَا يُشَفَّعْ، وَإِنْ خَطَبَ لَا يُنْكَحُ، وَإِنْ قَالَ لَا يُسْمَعُ لَهُ. قَالَ ﷺ: «لَهَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِنْ ذَاكَ». هذا الذي لا تدرون ما حاله عند الله، هذا الذي في نظر الناس مسكين، حقير، رفيع عند الرحمن.

وفي صحيح الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «رُبَّ أَشْعَثَ، أَغْبَرَ، مَدْفُوعٌ بِالْأَبْوَابِ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ»؛ لكرمه عند الله ولعلو منزلته. ورب إنسان عند الناس عظيم، وعند العظيم تعالى حقير؛ ببعده عن الله، وعن طاعة الله جل وعلا.

ومن الناس من هو أمة، أمة وحده. من الناس من هو أمة؛ ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾.([5]) وليس هذا خاصاً في الأنبياء، فالأنبياء ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ هم ذروة الخلق، ولكن بعدهم أناس صالحون. فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: «ذَهَبَ زَيْدٌ بْنِ عَمْرٍو بْنِ نُفَيْلٍ ـ والد سعيد بن زيد، الصحابي، أحد العشرة المبشرين بالجنة ـ، ذَهَبَ إِلَى يَهُودَ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَقَالُوا: إِنَّكَ لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى يَكُونَ لَكَ نَصِيبٌ مِنْ غَضَبِ اللهِ. قَالَ: وَاللهِ إِنَّمَا أَفِرُّ مِنْ غَضَبِ اللهِ. فَتَرَكَهُمْ. ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى النَّصَارَى فَسَأَلَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، فَقَالُوا: إِنَّكَ لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى يَكُونَ لَكَ نَصِيبٌ مِنْ لَعْنَةِ اللهِ. قَالَ: وَاللهِ إِنَّمَا أَفِرُّ مِنْ لَعْنَةِ اللهِ. ثُمَّ تَوَجَّهَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ! إِنِّي عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، حَنِيفاً، مُسْلِماً، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ».

وجاء عند الحاكم في مستدركه، والدارمي في سننه، من حديث زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه، أن النبي ﷺ قال: «يُبْعَثُ زَيْدٌ بْنِ عَمرٍو بْنِ نُفَيْلٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ». يبعث أمة وحده، ومات قبل بعثة رسول الله ﷺ.
وفي الصحيحين من حديث عائشة لما نزل الوحي على رسول الله ﷺ، فرجع إلى خديجة فأخبرها الخبر. فأخذته إلى ورقة بن نوفل رضي الله عنه، فقالت: «أَيْ ابْنِ عَمِّ! اِسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ: مَاذَا تَرَى؟». فأخبره النبي ﷺ بما يحصل، بما يسمع، بما يرى، من الوحي وجبريل عليه الصلاة والسلام. فقال ورقة: «هَذَا وَاللهِ النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، لَيْتَنِي أَكُونُ فِيهَا جَذَعاً»؛ أي: شاباً قوياً، «إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَأَنْصُرُكَ نَصْراً مُؤَزَّراً». ليتني فيها جذعاً، وأكون بطلاً، ومناصراً، ومعيناً. قال: «أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟»: أومخرجي قومي؟ قال: «نَعَمْ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِمْثِلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ». عودي الأنبياء والرسل عليهم الصلوات والسلام، عودي أئمة الإسلام، وفي التاريخ نماذج كثيرة. فلما مات رسول الله ﷺ ارتد أكثر العرب، ارتد أناس كثير، وقالوا في ذلك شعراً ونثراً: أيورثها بعده أبا بكر؟ فعزم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه على قتالهم. فقال الفاروق وما أدراك ما الفاروق: «كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لِا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ»؟. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقاً ـ وفي رواية: «عِقَالًا» ـ كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ الْفَارُوقُ: فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ أَنَّ اللهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ فَرَأَيْتُ أَنَّهُ الْحَقَّ». فوطد الله عز وجل به رجالاً، وثبت الله به الأمة، ونكل بأولئك جميعاً. فمن تاب وراجع أمره، ومن قُتل مرتداً.

وهكذا خلفه خلفاء الإسلام، قال علي ابن المديني رحمه الله: "نفع الله الإسلام برجلين: أبو بكر في الردة، والإمام أحمد في المحنة". الإمام أحمد بن حنبل، إمام أهل السنة والجماعة في زمنه، لما تأول كثير من الناس، ولما حصلت الفتنة وعمت وطمت، القول بخلق القرآن، ومن لم يقل إن القرآن مخلوق، ضُرب، أو قُتل، أو سُجن. فثبت الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ ثبوت الجبال الرواسي: القرآن كلام الله ليس بمخلوق. ولا تزال أقواله مذكورة، مأثورة، شهيرة، مسطرة في كتب الإسلام إلى يومنا الحاضر، وستظل بإذن الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وكانت العاقبة لأهل الحق وذهب الباطل بأهله. وصاروا في خبر كان، وأعز الله الإمام أحمد ومن سار على وفق ما سار عليه.

نعم، عباد الله!

رجل واحد، رجل واحد، يتحدى أمة كبيرة، كثيرة، برجالها، بقوتها. إنه التوحيد، إنه السنة، إنه الإسلام الحق، إنه الثبات. إن التذبذب، إن التضعضع، إن التقهقر، لا يجدي يا مسلمون! لا يجدي والله، لا يجدي إلا الحق. أعداء الإسلام بما لديهم من قوة، وما لديهم من تقدم ـ زعموا ـ، وما لديهم، يخافون من شخص لا يملك مالاً، ولا يملك سلاحاً، ولا يملك ما يملكون. أين النووي؟ وأين المغناطيسي؟ وأين وأين وأين ذلك السلاح؟ إنها قوة القوي العزيز، إنها قوة الجبار القوي؛ ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)﴾.([6])

إن حوادث التاريخ تحدثنا كثيراً عن أناس كثر، سابقاً وفي هذا الزمن، رفعهم الله، وجعل الغرب والشرق يخافون من رجل واحد، وهم يمتلكون مئات الآلاف من الجيوش القوية، ومن الأسلحة. ما بالهم؟ وما شأنهم؟ ذلة الباطل، وضعف الباطل أمام الحق. وإن كان في الظاهر ضعيفاً ولكنه قوي بقوة الله، ومنصور بنصر الله، وغالب بإذن الله تعالى.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ﷺ تسليماً كثيراً.

أما بعد:

أيها المؤمنون! إن ملايين من البشر لا يحركون لدول تسمى بالعظمى شيئاً ولا يبالون بهم، ولكنهم يخافون من أهل الحق. ولذلك عبد الله! إذا أردت النصر فعليك بالثبات، فعليك بلزوم الحق، بملازمة طريق الحق. ولا يضرك إن شردت، أو قتلت، أو مزقت، لا يضر.

ففي صحيح الإمام مسلم من حديث صهيب رضي الله تعالى عنه، قصة ذلك الملك والساحر والراهب والغلام. غلام كان يتعلم السحر عند الساحر، فمر براهب، فأخذ عنه الحق ودين الإسلام والاستقامة، وواجه أمة وحده، واجه أمة وحده، حتى أعيا الملك الظالم، الفاجر، الذي كان يدعي الربوبية. وكلما فعل له مكيدة، قال لهم: «اِذْهَبُوا بِهِ إِلَى الْبَحْرِ». فألقوا في البحر، وعاد سالما. «اِذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلٍ». فرجف الجبل، وعاد سالماً. غلام، ولد. فعند أن عجز ولم يقدر، قال ذلكم الغلام: «إِنَّكَ لَنْ تَقْدِرَ عَلَيَّ حَتَّى تَجْمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ تَأْخُذُ سَهْماً مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ تَرْمِينِي، وَتَقُولُ: بِسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ».
ففعل ذلك الملك ما قال الغلام، فمات الغلام في سبيل الله. ولكن أسلم الناس جميعاً، فقالوا: «آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ». ولذلك حفر الأخاديد، وأشعل فيها النيران، وجعل يقحمهم في النار إلا أن يرجعوا إلى ما كانوا عليه من عبادته. فجاءت امرأة معها غلام صغير تنظر إليه، تخاف أنها تدخل النار مع ذلك الغلام وهو في المهد، فقال: «يَا أُمَّاهُ! إِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ، فَاصْبِرِي». وعظ أمه. فلم يضر ذلك ـ عباد الله! ـ أمة المليار وسبعمائة مليون. إنه لا يهابكم أعداؤكم إذا داريتموهم، أو ضعفتم أمامهم؛ إنما يهابكم الأعداء إذا رجعتم إلى دينكم. ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)﴾.([7])

فلن يضرنا أعداؤنا أبداً ما زلنا مستمسكين، ما زلنا محافظين على شرع الله. وهذه هي القوة، وهذه هي النصرة على الأعداء. لا بالخوف منهم، ولا بمداهنتهم، ولا بمجاملتهم. فهذا لا يزيدنا إلا ضعفاً، ولا يزيدهم إلا تسلطاً.

والحمد لله رب العالمين.
----------------------------------
([1]) خطبة جمعة بتاريخ: [30/ربيع الأول/١٤٤٣ هـ‍].

([2])[النساء: 11].

([3])[آل عمرأن: 102].

([4])[الأحزاب: 70، 71].

([5])[النحل: 120].

([6])[غافر: 51].

([7])[آل عمران: 100، 101].

📮 رابط الخطب على القناة الرسمية للشيخ حفظه الله.⤵️
http://www.tg-me.com/abuamroalhgoury
https://www.tg-me.com/sharh_elsodor

🎙السلامة سلامة الدين ([1])

إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكَمْ رَقِيبًا﴾.([2])

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنتُم مُسْلِمُونَ﴾.([3])

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا. يُصْلحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيماً﴾.([4])

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى رسول الله ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، و﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾.([5])

أيها الناس:

يقول المولى تبارك وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾.([6]) وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)﴾.([7])

إن مكر أعداء الإسلام يختلف ويتنوع، وتتنوع طرقه وأساليبه، وكلما فشلوا في طريقة وأسلوب أتوا بأسلوب آخر أخبث وأشر. والقصد من ذلك كله هو صرف المسلمين عن دينهم، أو زعزعتهم عن إيمانهم.

ولذلكم، عباد الله! فأعظم ما يحصله المؤمن سلامة دينه. فسلامة الدين لا يعادلها شيء من الأشياء، غالية كانت أو رخيصة، كبيرة أو صغيرة، عظيمة أو حقيرة.

ولذلك، عباد الله! لم يقارن ربنا عز وجل بالدين شيئاً. ولهذا أمر بمفارقة الأوطان، ومفارقة الأحباب والأصحاب والخلان، والتخلي عن الأموال إذا كانت تتعارض مع دين الله ـ جل وعلا ـ، إذا كانت تتعارض مع الدين أو على حساب الدين. فكل شيء هين وحقير.

فاحرص على دينك عبد الله! مهما كان الثمن، ولو كان الثمن دمك أو مالك، فإن الدين لا يعادله شيء أبداً. ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ﴾.([8]) وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا﴾.([9]) قد افترى على الله كذباً وزوراً من رضي بدينه بدلاً، أو من داهن في دينه، أو جالس أهل الطغيان وأهل الفجور على حساب دينه.

ولذلكم، شرع الله سبحانه وتعالى الهجرة؛ ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾: كنا لا نقدر على إقامة الدين، أُهنّا، تعرضنا للإهانة والأذى. قال الله: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)﴾.([10]) فلماذا شرعت الهجرة عبد الله؟ وكانت واجبة نصاً وإجماعاً، إلا إن عجز المؤمن عن إقامة في دينه. فكيف إذا كان دينه يذهب بالتنازلات، ويذهب بالمجاملات، ويذهب بالمداهنات؟ لا، يا عبد الله! دينك أغلى ما تملك.

ولهذا خرج صحابة المختار عليه الصلاة والسلام، ورضي الله عنهم، مهاجرين إلى أرض النجاشي، خرج جماعة من الصحابة من الرجال والنساء إلى أرض النجاشي؛ ليعبدوا الله فراراً بدينهم، كما جاء في مسند الإمام أحمد من حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها. فسمعت قريش بما حصل لهم وبما هم عليه. فأرسلوا رجلين جلدين، عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي أمية، في طلبهم.
فلما قدموا إلى النجاشي، قالوا: «أَيُّهَا الْمَلِكُ! إِنَّهُ قَدِمَ إِلَى بِلَادِكَ غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، تَرَكُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِ الْمَلِكِ، وَجَاءُوا بِدِينٍ مُخْتَرَعٍ. وَإِنَّ قَوْمَنَا أَرْسَلُونَا فِي طَلَبِهِمْ، وَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْناً، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ...» الحديث، الحديث بطوله. فلما تكلم جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، قال: «أَيُّهَا الْمَلِكُ! إِنَّا كُنَّا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، كُنَّا نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ...» وعدّد عليه أمور الجاهلية... «فَبَعَثَ اللهُ فِينَا نَبِيّاً نَعْرِفُهُ مِنَّا»، وذكر أمور الإسلام التي دعا إليها رسول الله ﷺ. قال جعفر: «فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا، وَمَنَعُونَا، وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا، فَلُذْنَا بِأَمْرِكَ؛ رَجَاءَ نَعْبُدَ اللهَ، لَا نُؤْذَى...» الحديث بطوله.

فنعم، عباد الله!

كان خروج هؤلاء الصحابة الأخيار، رضي الله عنهم، من أحب البقاع إلى الله تعالى إلى أرض النجاشي، إلى أرض الحبشة؛ فراراً بالدين.

وفي حديث أسماء بنت عميس في الصحيحين: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ جَعَلَ لِأَصْحَابِ الْحَبَشَةِ هِجْرَتَيْنِ». نعم، عباد الله! فلما هيّأ الله عز وجل المدينة، هاجر من هاجر من الصحابة الكرام إلى المدينة، إلى طابة، إلى طيبة. وتجهز أبو بكر رضي الله عنه مهاجراً، فقال له النبي ﷺ: «اِنْتَظِرْ، فَإِنِّي أَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي...». الحديث عند البخاري عن عائشة بطوله، حديث الهجرة. وهاجر بعد ذلك رسول الله ﷺ من مكة إلى المدينة، وقال: «وَاللهِ إِنَّكِ لَأَحَبُّ أَرْضُ اللهِ إِلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ». والحديث عند الترمذي، وهو حديث صحيح. فخرج رسول الله ﷺ، وخرج أصحابه الكرام، رضي الله عنهم، وهاجروا. وكانت الهجرة في بداية الإسلام من أعظم الواجبات؛ فراراً بالدين إلى حيث يعبد الله عز وجل المسلم، لا يؤذى، لا يفتن، لا يمنع من إقامة دينه.

ولهذا ذكرت الهجرة مع أجلّ الأعمال وأفضلها على الإطلاق؛ وهو الإخلاص لله تعالى، وفي أشرف حديث، لا يخلو باب، ولا موضوع، إلا وهو ذروته؛ حديث عمر في الصحيحين: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى. فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ؛ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا؛ فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ». فذكرت الهجرة مع الإخلاص الذي هو أول الشروط بعد الإيمان، وأحد الشرطين في صحة جميع الأعمال؛ لعظم الهجرة إن كانت فراراً بالدين، وكانت خالصة لوجه الله تعالى.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ﷺ تسليماً كثيراً.

أما بعد:

جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: «كَانَ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْساً، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَسَأَلَهُ: هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: وَأَنَّى لَكَ التَّوْبَةُ؟». راهب، ليس عنده من العلم. «وَأَنَّى لَكَ التَّوْبَةُ؟ فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلِ بِهِ الْمِائَةَ. ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى عَالِمٍ، فَسَأَلَهُ: هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ وَلَكِنْ أَرْضُكَ أَرْضُ سُوءٍ، فَانْظُرْ إِلَى بِلَادِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاساً صَالِحِينَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ». فخرج من بلاده التي فيها من أهل السوء، ومن أهل الشر، إلى الأرض الصالحة. «فَلَمَّا كَانَ فِي الطَّرِيقِ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلِائِكَةُ الْعَذَابِ. مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ تَقُولُ: جَاءَ إِلَى اللهِ تَائِباً، مُقْبِلاً. وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ تَقُولُ: لَمْ يَعْمَلْ خَيْراً قَطُّ. فَأَرْسَلَ اللهُ مَلَكاً فِي صُورَةِ رَجُلٍ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتُهُمَا كَانَ أَقْرَبُ. فَقَاسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ، فَكَانَ إِلَى الْأَرْضِ الصَّالِحَةِ أَقْرَبُ»، وفي رواية: «أَنَّهُ نَأَى بِصَدْرِهِ»، وفي رواية: «أَنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ أَنْ تَقَارَبِي، وَإِلَى الْأَرْضِ الَّتِي فَارَقَهَا أَنْ تَبَاعَدِي. فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ». خرج بدينه فارّاً بدينه؛ ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾.([11])
عباد الله! إن السلامة سلامة الدين، والله، سلامة العقيدة، أن يكون العبد سليماً في دينه، لا يحمله على الباطل، وعلى الشر، وعلى السكوت على المنكرات، وإقرار المنكرات، فضلاً عن الثناء عليها ومدحها. فماذا حصل إنسان ضاع من دينه ما ضاع؟ وإن ملكت الدنيا بأسرها. وإن حصلت على دينك وسلم دينك فأينما ذهبت، فالأرض أرض الله، والبلاد بلاد الله، وجزاؤك عند الله تعالى.

ولهذا هاجر سائر الأنبياء والرسل، وأخرجوا من ديارهم، وهاجر إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأسس المسجد الحرام، وأسس المسجد الأقصى، وفتح الله عز وجل البلاد بعد أن هاجر نبينا محمد ﷺ إلى المدينة.

فلذلك، عبد الله! أبشر بالسعة، وبالخير وبالسَّنة، وبالرفعة، إذا سلم لك دينك، أين كنت، وكيف كنت، إذا كان دينك سليماً وعقيدتك صحيحة. وإذا تنازلت عن دينك وتقهقرت إلى الوراء، وإن بقيت بوطنك، فماذا حصلت؟ إلا النكسات، إلا التنازلات.

فهنيئاً لمن حافظ على دينه؛ فهذا الذي يبقى. وويح! وويل! والله، لمن تنازل عن دينه بأي ثمن، ولا ثمن يُعادل به الدين.

والحمد لله رب العالمين.
----------------------------------
([1]) خطبة جمعة بتاريخ: [٠٧/ربيع الثاني/١٤٤٣ هـ].

([2])[النساء: 11].

([3])[آل عمران: 102].

([4])[الأحزاب: 70، 71].

([5])[الأنعام: 134].

([6])[البقرة: 109].

([7])[آل عمران: 100، 101].

([8])[إبراهيم: 13، 14].

([9])[الأعراف: 88، 89].

([10])[النساء: 97، 98].

([11])[النساء: 97].

📮 رابط الخطب على القناة الرسمية للشيخ حفظه الله.⤵️
http://www.tg-me.com/abuamroalhgoury
https://www.tg-me.com/sharh_elsodor

🎙تحذير البشر من الغضب جماع الشر([1])

إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكَمْ رَقِيبًا﴾.([2])

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنتُم مُسْلِمُونَ﴾.([3])

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيماً﴾.([4])

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الناس:

قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: حدثنا يحيى بن يوسف، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين ـ وهو عثمان بن عاصم بن حصين ـ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَوْصِنِي. قَالَ «لَا تَغْضَبْ»، فردد مراراً قال: «لَا تَغْضَبْ».

هذا الحديث العظيم من قواعد الإسلام، ومن أصول الأحكام، وهو الحديث السادس عشر من كتاب "الأربعين النووية"، وهي الأحاديث التي عليها مباني الإسلام.

وجاء في مسند الإمام أحمد من حديث جارية بن قدامة رضي الله تعالى عنه أنه هو السائل. وجاء في بعض طرق الحديث، أنه قال: «يَا رَسُولَ اللهِ! أَوْصِنِي، وَأَقْلِلْ عَلَيَّ؛ لَعَلِّي أَعْقِلُهُ». فأوصاه بهذه الوصية العظيمة.

فهذا الحديث من أصول الإسلام، ومن قواعد الأحكام، ومن جوامع الكلم، من جوامع كلم النبي ﷺ. وهو كلام قليل، كلام يسير، يحوي أحكاماً ومسائل كثيرة. كلمتان يسيرتان، يحفظها الصغير والكبير، طالب العلم والعامي: «لَا تَغْضَبْ». وهذا يجمع البعد عن الشر كله؛ فجماع الشر كله يندرج تحت الغضب.

وأخرج البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: كَانَ الْحُرُّ بْنِ قَيْسٍ مِنْ أَصْحَابِ مَجْلِسِ عُمَرَ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ هُمْ جُلَسَاؤُهُ، شُيُوخاً كَانُوا أَوْ شُبَّاناً، فَقَالَ لَهُ عُيَيْنَةُ بْنِ حُصَيْنٍ: هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ ـ أي: عند عمر ـ، فَتُدْخِلُنِي عَلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَدْخَلَهُ الْحُرُّ عُلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ، قَالَ: هِيهْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ! مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَلَا تَحْكُمُ فِينَا بِالْعَدْلِ. فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِهِ. فَقَالَ الْحُرُّ بْنِ قَيْسٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)﴾[الأعراف: 199]، وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ. قَالَ الْحُرُّ بْنِ قَيْسٍ: وَاللهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ، وَكَانَ وَقَّافاً عِنْدَ حُدُودِ اللهِ».

وهذه الآية أجمع آية، وأفضل دليل، في مكارم الأخلاق وحسن الأدب: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)﴾.([5])

وقال المولى جل وعلا في صفات عباد الرحمن: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)﴾.([6])

نعم عبد الله! إذا تأملت أصول الشر بين الناس تجد أن السبب الرئيسي هو الغضب، وأن الحليم وإن غضب كف غضبه. وهذا هو المقصود من الحديث، لا تنفذ غضبك. أما الغضب فصفة جبلية في أي إنسان، ولكن إذا غضبت فاكظم، إذا غضبت فاكفف، إذا غضبت لا تنفذ غضبك. هذه هي القوة، وهذه هي الشجاعة.

أخرج الشيخان في صحيحهما من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالسُّرْعَةِ، وَلَكِنَّ الشَّدِيدَ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ». «لَيْسَ الشَّدِيدُ»: ليس الشجاع، وليس القوي، الذي يصرع الناس، ويضرب هذا، ويقتل هذا، ويشتم هذا، ويسب ذاك... هذا الأحمق، هذا هو الأحمق، الذي لأي ما غضب يغضبه يقول ما على لسانه، وما ظهر في قلبه، وما أزه الشيطان، وما نفخ فيه الشيطان. هذه من صفات الحمقى، ومن صفات الأحمق.

أما الحليم، أما الشديد، أما القوي؛ الذي يملك نفسه عند الغضب.

فإذا سبك إنسان وكلت عليه بالصاع صاعين أو ثلاثة، وكلت عليه الشتائم، وهكذا قفزت للمضاربة؛ فهذا دليل قوي أنك ضعيف، بل وفي غاية الضعف.
أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا تَعُدُّونَ الْقَوِيَّ فِيكُمْ؟». قَالُوا: الَّذِي يَصْرَعُ النَّاسَ. قَالَ: «لَا، وَلَكِنَّ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ». ولذلك إذا حصل لك ما يغضب الإنسان، وكل إنسان يغضب، وكنت قوياً، رابط الجأش، تأمل في الأمر، وتأنّ. وإن الرد سهل، الرد سهل. لكن إذا قلت كلاماً لا يرضي الله، يغضب خلق الله، فإنك قد لا تقدر بعد ذلك على معالجة ذلك الخطأ إلا بصعوبة. بدل أن كنت قوياً صاحب حق، عزيزاً، صرت ضعيفاً، صاحب باطل، ذليلاً.

وثبت من حديث عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه، أن النبي ﷺ قال: «وَأَسْأَلُكَ الْعَدْلَ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ». فهذا هو المنصف، وهذا هو الحازم؛ الذي إن غضب لازم العدل، وإن رضي لازم العدل، لا يحمله غضب ولا فرح على غلو ولا شطط، على مجاوزة؛ «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يُكَبُّ النَّاسُ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ». أخرجه الترمذي وهو حديث حسن. وهل يكب الناس، هل يلقون في النار على وجوههم؛ إلا حصائد الألسنة؛ إلا بسب كلمات حصلت في حالة الغضب.

أما في حالة الرضا، فالناس كلهم أصحاب، وهذا يحب هذا. وإنما تحصل الفواقر، وتحصل المشاكل، في حال غضب من لا يملك نفسه. وما قُتل من قُتل إلا بسبب الغضب. وكم قطعت من الحقوق، كم سفكت من الدماء، كم تمزقت من الأسر بأمور الطلاق، والخلع، وما أشبه ذلك، وكم تقاتل من الإخوان وسفك هذا دم ذاك، وكم حصل من التقاطع، والتدابر، والتشاحن، وغير ذلك؛ إلا بسبب تنفيذ الغضب؛ إلا أنه إذا غضب لم يملك نفسه، لم يتحكم في نفسه.

لا تغضب، لا تنفذ غضبك، أمسك عليك لسانك، كف عليك جوارحك، تأمل في الموضوع، لا تستعجل، ادرس الموضوع، فكر في الكلام الذي تقوله، وفي التصرف الذي تتصرفه، لا يستطيع أحد أن يدخل عليك بشيء؛ وتبقى صاحب الحق، مرفوع الرأس، عزيزاً، منيعاً، وأنت قد غضبت، لكن لم تنفذ ذلك الغضب.

وإذا استسلمت لغضبك ولأز الشيطان فإنك تصير بعد ذلك ذليلاً، وإن كنت من بُدئ بالبغي عليك، وبالظلم لك، وبالجور عليك؛ تصير باغياً، وظالماً، ومعتدياً، وتحتاج أن تعالج ما حصل منك.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ﷺ تسليماً كثيراً.

أما بعد:

أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: قالت: «مَا غَضِبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَطُّ، وَمَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ قَطُّ، إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللهِ، فَيَغْضَبُ للهِ تَعَالَى». ما انتقم لنفسه، إن سُب، أو شُتم، أو حصل ما حصل، أُخذ حقه، ما غضب لنفسه. إلا أن تنتهك حرمات الله، إلا أن تقع المعاصي فيغضب لله. وهذا الغضب المحمود؛ أن الإنسان يغضب لله تعالى، لا لنفسه. أما نفسه، فيصبر، ويكظم.

أخرج الترمذي من حديث معاذ بن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظاً وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، خَيَّرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَّامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ، يَخْتَارُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ». هذا حديث حسن.

«مَنْ كَظَمَ غَيْظاً»: سُبّ، أو شُتم، أو أُوذي، وما أشبه ذلك، وهو قادر أن يخرج هذا الغيظ، وقادر أن يرد عليه بمثله أو أكثر، قادر أن ينتقم منه، لكنه تذكر قول الله: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)﴾.([7]) كظم غيظ، وعفو عن الناس، بل وإحسان. «خَيَّرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَّامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ»: أمام الأشهاد جميعاً. «يَخْتَارُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ»: من حيث الجمال، ومن حيث العدد، ومن حيث الصفات.

فهنيئاً هنيئاً لمن كان حليما، هنيئاً لمن كان صابراً، هنيئاً لمن كان قوياً، شجاعاً، الذي يملك نفسه عند الغضب.

سبحانك اللهم! وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك.
----------------------------------
([1]) خطبة جمعة بتاريخ: [١٤/ربيع الثاني/١٤٤٣ هـ].

([2])[النساء: 11].

([3])[آل عمران: 102].

([4])[الأحزاب: 70، 71].

([5])[الأعراف: 199].

([6])[الفرقان: 63].

([7])[آل عمران: 134].

📮 رابط الخطب على القناة الرسمية للشيخ حفظه الله.⤵️
http://www.tg-me.com/abuamroalhgoury
https://www.tg-me.com/sharh_elsodor

🎙نعمة الرحمن بأهمية الإتقان ([1])

إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

﴿يَا أيهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ أن اللَّهَ كَأن عَلَيْكَمْ رَقِيبًا﴾.([2])

﴿يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأنتُم مُسْلِمُونَ﴾.([3])

﴿يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا. يُصْلحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيماً﴾.([4])

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى رسول الله ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، و﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾.([5])

أيها الناس:

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4)﴾.([6]) فكل إنسان يعمل، وكل إنسان في ما هو فيه من الأعمال الصالحة أو الطالحة. أما أصحاب المعاصي والذنوب والخطايا فهؤلاء مستحقون لعذاب الله، ولا يؤجرون على ذلك. وأما من يعمل العمل الصالح، فمنهم من يؤجر على عمله ويثاب عليه، ومنهم من في ظاهره يعمل الصالح وهو في باطنه مأزور؛ وذلك لإخلاله بشروط هذا العمل وما يجب فيه.

ومن ذلك عباد الله!: الإتقان في العمل، والإحسان في العمل الصالح، فإن كثيراً من الناس يعمل لكنه لا يؤجر على العمل، بل يأثم عليه؛ لأنه أخل بركن عظيم من أركانه وهو الإحسان.

أخرج الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه من حديث شداد بن أوس رضي الله تعالى، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ». «كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ»: أوجب الإحسان، فرض الإحسان، في جميع الأعمال. فمن لم يحسن في عمله، من لم يتقن العمل، فإن عمله لا يقبل.

والإحسان أعلى مراتب الدين كما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في حديث جبريل الطويل، إلى أن قال: مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». كيف إذا كنت تعمل العمل الصالح وأنت تنظر إلى رب العالمين وهو يراك؟ فلا شك أنك ستقوم بإتقان هذا العمل وإحسانه. «فَإِنْ كُنْتَ لَا تَرَاهُ»: وهذا هو الحال في الدنيا، «فَإِنَّهُ يَرَاكَ». فالمراقبة، والإحسان، والإتقان؛ أن تؤدي هذا العمل كما كنت لو تنظر إليه. «فَإِنَّهُ يَرَاكَ»، ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)﴾.([7]) لا تخفى عليه خافية، يعلم كل صغيرة وكبيرة. أما علمت أن لديك رقيباً وعتيداً؟ أما تعلم أن لديك ﴿كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)﴾([8])؟ ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾([9])، ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)﴾.([10])

نعم عبد الله! ليس الشأن أنك تؤدي العمل فحسب؛ بل تؤديه كما أراد الله عز وجل وكما شرع على لسان رسوله ﷺ. أما إذا قمت بالعمل رئاء الناس، أو سمعة، أو تخلصاً من المحاسبة والمطالبة، فإن ذمتك لا تبرأ إلا أن تؤدي كما أُمرت؛ ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾.([11])

أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: دَخَلَ رَجُلٌ الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. ثُمَّ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَقَالَ: «اِرْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ». قَامَ، وَقَرَأَ، وَرَكَعَ، وَسَجَدَ، وَرَفَعَ. قَالَ: «اِرْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ». فَرَجَعَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. ثُمَّ عَادَ، فَسَلَّمَ. قَالَ: «اِرْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ». فَعَادَ فِي الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: «وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أُحْسِنُ غَيْرَهَا، فَعَلِّمْنِي»: لا أحسن صلاتي إلا على هذا الوجه، فعلمني كيف أصلي صلاة صحيحة.
قال المصطفى ﷺ: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَأَسْبِغِ الْوُضُوءَ، ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ، فَكَبِّرْ، وَاقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ. ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعاً، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَافِعاً، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً، ثُمَّ اجْلِسْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِساً، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً، وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا». وهذا الحديث مشهور بـ "حديث المسيء صلاته" أو "المسيء في صلاته"؛ أي: الذي أساء فيها ولم يحسن فيها. فعلمه رسول الله ﷺ كيف يصلي صلاة حسنة.

فكم من الإساءات في أعمال كثيرة، في الطهارة، في الصلاة، في الصيام، في الصدقات، في البر إلى الجيران، إلى الوالدين، إلى غير ذلك. كم من الإساءات يسيء العبد في عمله ولا يحسنه، فيذهب عمله، فيذهب فلا ينتفع به. إما لعدم الإخلاص، وإما لعدم المتابعة، وإما لانتقاض شرط من شروط العبادة.

وكم تسمع من الناس: "افعل وربك المتقبل". إذا عملت عملاً كما أراد الله وكما شرع على لسان رسوله ﷺ فإن الله يتقبل منك، أما إذا أخللت بذلك فإنه لا يقبل. ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبَلُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ». لا يقبل العمل إذا اختل شرط من شروطه، إذا أسأت في هذا العمل، سواء في عباداتك أو طاعاتك، فأنت عبد مأمور، واجب عليك الالتزام، والاتباع، والانقياد، وأن تفعل كما أمرك الله. أو في أمور دنياك، في سائر الأمور، في بيعك، وفي شرائك، وفي نكاحك، وفي معاملاتك... وفي سائر أمورك.

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَحَدَكُمْ إِذَا عَمِلَ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ». وهو حديث حسن. يحب أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقن هذا العمل، أن يحسن هذا العمل، وألا يدخل في شيء لا يحسنه. أولاً يتعلمه، ويتقنه، ويحسنه، ثم يعمل عملاً متقنا يحبه الله، ويرضى الله عنه، يحبه الناس، يؤجر على ذلك. ولهذا قالوا: يَا رَسُولَ اللهِ! الرَّجُلُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ فَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ». أخرجه مسلم. «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ»: هذه بشارة له بالقبول ـ بإذن الله ـ؛ لأنه عمل العمل كما أراد الله؛ لأنه فعل ما يقربه إلى الله. فلا يكن همك المطالبة، أو المحاسبة، ولكن ليكن همك رضاء الله جل وعلا؛ ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)﴾.([12])

فاحرص على إرضاء الله، وعلى إتقان أعمالك، يكتب الله عز وجل لك الأجور الكثيرة، ويرضى الناس عنك، وإذا رضوا عنك ـ أعني الصالحين ـ دعوا لك، وهكذا أثنوا عليك. وجاء في حديث ابن عباس وأنس، وهو حسن، أن النبي ﷺ قال: «خَيْرُ النَّاسِ مَنْ مَلَأَ أُذُنَيْهِ مِنْ ثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ خَيْراً وَهُوَ يَسْمَعُ، وَشَرُّ النَّاسِ مَنْ مَلَأَ أُذُنَيْهِ مِنْ ثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ وَهُوَ يَسْمَعُ». فلان سيء، فلان لا يحسن، فلان مخادع، فلان مغالط، فلان غشاش، فلان وفلان... هذا بما كسبت يداك وبما عملت؛ لأنك كان قصدك هو أن تنتهي العمل، ليس قصدك أن ترضي الله، وأن تتقن عملك، وأن تؤجر على هذا العمل.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ﷺ تسليماً كثيراً.

أما بعد:

عبد الله! هذا الحدث العظيم، حديث شداد: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ»؛ أي: أوجبه. فإذا أتقنت أعمالك الصالحة، وأعمالك الدنيوية؛ وفرت على نفسك وأجرت الأجر الجزيل.

نعم عبد الله!

وإذا لم تتقن، حالك كحال من يرقع ثوباً مخرقاً، يرقع من هنا، وينخرق من مكان آخر. ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)﴾.([13])

فهذه المرتبة، وهذه الدرجة العظيمة، الإحسان أعلى مراتب الدين. أعلى مراتب الدين: الإسلام، ثم الإيمان، ثم الإحسان.

فلهذا عبد الله! إياك والغش في أعمالك، والتخلص بأي شيء، فإنك إنما تخادع نفسك، فإنك إنما تغش نفسك، فإنك إنما تضر نفسك. ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)﴾.([14])

أعمالك التي تتعب فيها وتدأب، التي تتعب فيها وتنصب، احرص عليها بإحسانها، بإتقانها، بتخليصها من الشوائب التي تفسدها وتضرها، وأعظمها الرياء، والسمعة، وطلب الدنيا. صن هذه الأعمال بالصدق مع الله، والإخلاص لله سبحانه وتعالى، والمتابعة للنبي ﷺ، والإحسان إلى الخلق قدر المستطاع؛ يبارك الله ـ جل وعلا ـ في العمل اليسير، في العمل الحقير.
إذا أحسنت وأتقنت؛ يضاعف الله أضعافاً كثيرة؛ «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطَّيِّبَ؛ فَإِنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا، فَيُرَبِّيهَا لِأَحَدِكُمْ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ حَتَّى تَصِيرَ مِثْلَ الْجَبَلِ». أخرجاه عن أبي هريرة. عمل يسير أحسنت فيه، أتقنت فيه؛ فإن الله يضاعفه، فإن الله يبارك فيه.

ورب عمل يسير كان سبباً لنجاتك من النار، ودخولك الجنة. فقد جاء في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اِتَّقُوا اللهَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ». عمل يسير، نصف تمرة قد تكون سبباً في نجاتك من النار ـ بإذن الله ـ؛ لإحسانك، وإتقانك، واستقامتك.

ورب أعمال كبيرة، عظيمة، كانت هباءً مثنوراً؛ لأنك لم تؤسسها على الأساس الصحيح، على الإخلاص، والصدق، والإتقان.

سبحانك اللهم! وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك.
----------------------------------
([1]) خطبة جمعة بتاريخ: [٢١/ربيع الأول/١٤٤٣ هـ‍].

([2])[النساء: 11].

([3])[آل عمرأن: 102].

([4])[الأحزاب: 70، 71].

([5])[الأنعام: 134].

([6])[الغاشية: 1، 4].

([7])[الشعراء: 218، 219].

([8])[الانفطار: 11، 12].

([9])[يونس: 61].

([10])[الأنبياء: 47].

([11])[القصص: 77].

([12])[الشعراء: 218، 219].

([13])[البقرة: 195].

([14])[الفرقان: 23].

📮 رابط الخطب على القناة الرسمية للشيخ حفظه الله.⤵️
http://www.tg-me.com/abuamroalhgoury
https://www.tg-me.com/sharh_elsodor

🎙فتح الرحمن بالوضوح والبيان ([1])

إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

﴿يَا أيهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ أن اللَّهَ كَأن عَلَيْكَمْ رَقِيبًا﴾.([2])

﴿يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأنتُم مُسْلِمُونَ﴾.([3])

﴿يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا. يُصْلحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيماً﴾.([4])

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى رسول الله ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الناس:

يقول المولى تبارك وتعالى في كتابه الكريم: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾.([5])

فهذه الآية الكريمة فيها بيان شافٍ، وافٍ؛ أن القرآن كامل، وأن الإسلام كامل، وأن الدين شامل، وأن الله ـ جل وعلا ـ رضي الله هذا الدين ولم يرض ما سواه؛ ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)﴾.([6])

وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ﴾([7])؛ أي: هذا القرآن، وهذا الإسلام، بيّن، واضح، جلي، لا لبس فيه ولا غبش. ولهذا قال المولى جل وعلا: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾([8]): لتجلي، لتوضح، لتظهر، هذا الدين. قال الله عز وجل ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾.([9])

ولهذا، جاء عن العرباض رضي الله تعالى عنه، أن النبي ﷺ قال: «تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ»: وهو حي قبل موته، اكتمل الدين، ووضح الدين. «تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ»: على الشريعة البيضاء، وعلى الملة البيضاء، الواضحة، الناصعة، الجميلة. «تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ». أتبتغي غير الوضوح؟ فإلى الظلمات، أتبغي غير الحق؟ فإلى الضلال، أتبغي غير السنة؟ فإلى البدعة.

«تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ».

وقد جاء في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ. فَمَنِ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ يُوشِكُ أَنْ يقع فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ. أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ. أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ؛ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ». تنبيهات: «أَلَا»: تنبيه. «فِي الْجَسَدِ مُضْغَةٌ»: هذه المضغة هي ملك الجسد، عليها مدار الأمور، صلاحًا وفسادًا. فإن صلحت القلوب صلحت الجوارح، صلحت الأعمال. وإن فسدت القلوب، فماذا يصلح؟

نعم، عباد الله!

فالأمور بيّنة واضحة. فاسلك الوضوح، واسلك البيّن، وخذ بالبيضاء ليلها كنهارها، الليل والنهار فيها سواء. فمن سلك هذا الطريق، ولزم الحق، وأخذ بالواضح الجلي الذي لا يخفى على جميع الناس أبدًا.

ولهذا قال النبي ﷺ: «وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ»: معنى هذا: أن كثيرًا من الناس، من العلماء، ومن طلاب العلم، ومن أهل الخير، يعلمونها، ويفهمونها. فعض عليها بالنواجذ، فخذ بالواضح في كل أمورك: في عقيدتك، في منهجك، في سلوكك، في معاملاتك، في بيعك، في شرائك، في سائر أمورك.

احذر الغبش، اخذر الدخن، احذر الغش، احذر التلبيس، احذر المكر والخداع على حساب دينك، احذر، احذر... يا عبد الله! خذ بالواضح الجلي الذي بينه الله في كتابه، ولأجله أنزل كتابه، وبعث رسوله، وبينه نبينا محمد ﷺ.

وقد جاء عند الطبراني من حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه، أن النبي ﷺ قال: «لَمْ يَبْقَ يُقَرِّبُ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُ مِنَ النَّارِ إِلَّا وَقَدْ بُيِّنَ لَكُمْ». بينه الله في كتابه.
وهذا معنى الكمال في هذا الدين: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾.([10]) فمحال أن يكون كاملاً وفيه نقص، وفيه عدم الوضوح. بل هو واضح في غاية الوضوح والجلاء لمن وفقهم الله، لمن بصرهم الله.

فلذلك، عبد الله! خذ بالواضح الجلي المبين في كتاب الله، والمبين في سنة رسول الله ﷺ؛ تعش عزيزًا، تعش رفيعًا، تعش سليم الدين والعرض.

«فَمَنِ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَعِرْضِهِ». «اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ»: أخذ بالأحوط وبالسلامة لدينه، ليس فيه شبهة، وليس فيه شك ولا ريبة. «اسْتَبْرَأَ لِعِرْضِهِ»: موضع المدح والذم، لا أحد يتكلم فيه، ولا يقول فيه. وإن تكلم مغرض أو حاقد، فإنها تبور؛ لأنك لم تجعل على نفسك سبيلاً.

فلذلك عبد الله! خذ بالواضح الجلي، وابتعد عن الشبهات، ومواطن الشبهات، وأفعال الشبهات، والمشبوهين. فكل ما كان ذريعة إلى حرام، أو إلى معصية، أو بدعة، أو إلى شر، فابعد بنفسك عن مواطنه، وخذ بالواضح الجلي الذي لا يكون فيه أي لبس؛ «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، والْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ». رواه مسلم عن النواس.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ﷺ تسليماً كثيراً.

أما بعد:

أيها المؤمنون أخرج الترمذي في جامعه من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ». هذا الحديث أصل من أصول الإسلام، وهكذا حديث النعمان؛ ولذلكم ذكرهما النووي في "الأربعين النووية" التي يحفظها الصغار والكبار، العلماء، وطلاب العلم، وعوام الناس؛ لصغر حجمها، ولكبر، وعظم نفعها، وعليها مدار الإسلام.

دع ما تشك ما فيه، دع ما فيه شبهة؛ فإنك تكون خائفًا وجلاً على غير ثبات وطمأنينة. «فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ»: اصدق مع نفسك، اصدق مع ربك، اصدق مع نبيك، اصدق مع خلق الله أجمعين. كن واضحًا بيّنًا، في طريقك، في أقوالك، في أفعالك، في سائر أمورك؛ تعيش مطمئنًا. إن عشت، عشت عزيزًا، وإن مت، مت حميدًا.

نعم يا عبد الله!

وإياك والشبهات، ومواطن الشبه، وأفعال الشبه؛ فإنك تبقى مرتابًا، شاكًّا، وربما حائرًا، مترددًا؛ بسبب ما فعلت، وتحتاج أن تبذل الأعذار، وأن تتكلم بالكلام، وأن توضح لهذا، وتبين لذاك...

فكن واضحًا من أول أمرك، من أول أمرك كن واضحًا، على كتاب الله، على سنة رسول الله ﷺ، ملازمًا للحق، ولأهل الحق، على الوضوح والبيان.

ما أحسنها! ما أجملها! ما أعظمها! من طريقة سار عليها أنبياء الله ورسله، عليهم الصلوات والسلام، سار عليها الصحابة الكرام، سار عليها أئمة الإسلام.

«فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ». وإن الشبهات ريب، وإن التلبيس كذلك.

وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.

سبحانك اللهم! وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك.
----------------------------------
([1]) خطبة جمعة بتاريخ: [٢٨/ربيع الثاني/١٤٤٣ هـ‍].

([2])[النساء: 11].

([3])[آل عمرأن: 102].

([4])[الأحزاب: 70، 71].

([5])[المائدة: 3].

([6])[آل عمران: 85].

([7])[آل عمران: 138].

([8])[النحل: 44].

([9])[النحل: 89].

([10])[المائدة: 3].

📮 رابط الخطب على القناة الرسمية للشيخ حفظه الله.⤵️
http://www.tg-me.com/abuamroalhgoury
https://www.tg-me.com/sharh_elsodor

🎙المقامات الطاهرة بأن الصلاة أعظم شعائر الإسلام الظاهرة ([1])

إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

﴿يَا أيهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكَمْ رَقِيبًا﴾.([2])

﴿يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأنتُم مُسْلِمُونَ﴾.([3])

﴿يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا. يُصْلحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيماً﴾.([4])

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى رسول الله ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الناس:

إن الله سبحانه وتعالى لم يخلق الخلق عبثًا، ولن يتركهم سدًى؛ وإنما خلقهم لتلك الحكمة العظيمة، والغاية السامية، والمنزلة الرفيعة؛ وهي عبادته جل وعلا.

ولذلك يقول المولى جل وعلا: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)﴾.([5]) فهذا الأمر لا لحاجة منه ـ جل وعلا ـ إلى عبادتنا، ولا إلى طاعتنا، ولكن لحاجتنا إلى عبادته، وإلى طاعته.

ولذلكم، فأجل العبادات الظاهرة، وأزكى الطاعات الظاهرة، الصلاة. هذه الشعيرة العظيمة التي تتكرر علينا كثيرًا، وينبغي أن تتكرر، وأن تتقرر، وأن نحسنها، وأن نشعر بأهميتها.

أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ. قَالَ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا». قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ». قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ».

ولذلكم ـ معاشر المسلمين! ـ ينادى لهذه الشعيرة العظيمة بأفضل الكلام، وفي أفضل الأماكن، وبأحسن الأصوات، وبأعلى المكبرات. ينادى في اليوم خمس مرات لهذه العبادة العظيمة؛ لعظمها؛ لأهميتها؛ لمنزلتها الرفيعة. ينادى بأفضل الكلام: :"الله أكبر": الله أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وطاعته مقدمة على كل شيء. ثم كلمة التوحيد التي تدخل بها الإسلام، وأجلّ الكلام على الإطلاق، مع إقرار وإذعان: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله". كلمة التوحيد، كلمة المتابعة. ثم ينادى بذلك الكلام الذي يدخل إلى أعماق القلوب الحية، والقلوب الزكية: "حي على الصلاة": هلموا إلى السعادة، إلى النجاة، إلى الصلاة، إلى صلة بينك وبين ربك. "حي على الفلاح": هذا هو الفلاح، هذا هو الفوز، تعال!. لا فلاح في دنياه، ولا في نوم، ولا في أي أمر من الأمور، ولو كان طاعة لله، ولو كان من أجل القرب، فإنك إذا سمعت هذا النداء فشمر. ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾([6]): اتركوا البيع، اتركوا ما تجدون من بيع، من أهل، من مال، من أي أمر كان. وسارع إلى نداء الرحمن، إلى طاعة الديان ـ جل وعلا ـ.

ولهذا كان أنبياء الله ورسله عليهم الصلوات والسلام أشد الناس حرصًا ومبادرة إلى هذه الشعيرة العظيمة. قال المولى الكريم عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾.([7]) أقمنا شعائر هذا البيت، وبنينا هذا البيت، وأسكنت ذريتي في هذا المكان؛ لإقامة الصلاة، لطاعة الله.

نعم، عباد الله!.

فهكذا يقول الخليل عليه الصلاة والسلام، إلى أن قال: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)﴾.([8]) هذا الذي أقام الصلاة، وواظب عليها، وداوم عليها، يدعو الله أن يديمه على ذلك: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ﴾: محافظا عليها، مديما لأدائها، واجعل ذريتي كذلك.

وقال الله تعالى عن لقمان الحكيم: ﴿يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾.([9]) هذه الوصايا العظيمة التي ذكرها الله تعالى في كتابه، كان من أهمها أنه أوصى ولده بإقامة الصلاة.
وقال الله تعالى عن اسماعيل: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)﴾.([10])

وقال الله تعالى عن المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)﴾.([11]) أوصاه الله، وأوصى جميع الأنبياء والرسل. والصلاة فريضة في جميع الملل والنحل والأديان المنزلة من السماء، وهي أعظم فروض الإسلام الظاهرة.

ولذلك ـ كما سمعت ـ ينادى لها بأندى الاصوات، وأعلى الأصوات، في اليوم خمس مرات. وتبنى لها البيوت ـ بيوت الله ـ، لا بيوت الملوك، ولا الرؤساء، ولا التجار، ولكنها بيوت الرحمن، تؤدى في بيوت الرحمن؛ ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)﴾.([12])

الصلاة: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾.([13]) تفتتح يومك بالصلاة، وتختتم ويومك بالصلاة، وفي أثناء ذلك. هذا لأهميتها، هذا لعظمها. ولهذا قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ الطِّيبُ، وَالنِّسَاءُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ». أخرجه النسائي عن أنس، وهو حديث صحيح. «جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»؛ أي: داخل الصلاة لما أكون أصلي أكون في قرارة عين. ولم يقل: «بالصلاة»؛ أي: أن أعلى مقام قرة العين داخل الصلاة.

وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، عن رجل من أصحاب النبي ﷺ، أن النبي ﷺ كان يقول: «يَا بِلَالُ! أَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ». راحة، سعادة، فوز، نجاة. ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)﴾.([14]) أعظم الفلاح بعد توحيد الله، وأجل الأعمال مطلقًا بعد التوحيد، الصلاة. وأما الأعمال الظاهرة، فهي أجلها مطلقًا. وفي الأحاديث الكثيرة في الصحيحين وغيرهما عن عدد كبير من الصحابة، أن الصلاة الركن الثاني من أركان الإسلام.

الصلاة يا عبد الله! أين ضميرك؟ أين شعورك؟ أين إيمانك؟ وأنت تسمع النداء وكأنك لا تسمعه، وقد بال الشيطان، وفرخ في أذنيك، وأنت تتغافل عن الصلاة، أو تأتي متأخرًا.

ما بالك يا عبد الله! تسمع النداء فلا تبادر، أليس النداء لك؟ أليس الخطاب لك؟ ألست المدعو؟

لو أنك موظف وتأتي دائمًا في آخر الدوام، أو في منتصف الدوام، أو في عمل من الأعمال، وتأتي متأخرًا، أو تفتح محلك بعد الناس، ماذا كان خطاب الناس لك؟ فكيف وأنت دائمًا تفوتك الركعة، والركعتان، والثلاث؟ فكيف إذا كانت تفوتك الصلاة؟ كيف إذا كنت متهاونًا؟

احذر يا عبد الله!، احذر على نفسك!، هذه مدرسة، هذه مدرسة، يدخلها المسلم في اليوم خمس مرات، فإن نجح في هذا الاختبار فقد ظفر وفاز، فقد ذهبت ذنوبه، فقد كتبت حسناته، وكفرت سيئاته. قال النبي ﷺ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا غَمْرًا جَارٍ بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ أَيَبْقَى مِنْ دَرَنَهِ شَيْءٌ»: أيبقى به وسخ. قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: «كَذَلِكَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا». أخرجاه. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ فِي بَيْتِهِ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ، لَا يُنْهَزِهُ إِلَّا الصَّلَاةَ، لَمْ يَخْطُو خُطْوَةً إِلَّا رُفِعَ بِهَا دَرَجَةً، وَحُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ، حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ. فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَ فِي صَلَاةٍ مَا دَامَتِ الصَّلَاةُ تَحْبِسُهُ. وَالْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ! اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ! ارْحَمْهُ، اللَّهُمَّ! تُبْ عَلَيْهِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ».

قال الإمام ابن حبان في صحيحه: "في أربع ركعات ست مائة سنة عن النبي ﷺ". في أربع ركعات ست مائة سنة، بين واجب ومستحب. يا لها من عبادة عظيمة! يا له من عمل جليل! أكرمنا الله به؛ ليرفع درجاتنا، ويكفر سيئاتنا.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "في الصلاة أكثر من مائة أدب نبوي بين واجب ومستحب".

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ﷺ تسليماً كثيراً.

أما بعد:
أيها المسلمون: أخرج الإمام الترمذي في جامعه بإسناد الحسن. قال: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلَاةُ، فَإِنْ صَلَحُتْ صَلُحَ سَائِرُ عَمَلِهِ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَسُدَ سَائِرُ عَمَلِهِ». فإن أقمت صلاتك، وأحسنت صلاتك، وأديت صلاتك كما أمرك ربك، فما دون ذلك أهون، والله غفور رحيم. وإن فسدت هذه العبادة، فماذا معك؟ فماذا حصلت؟ ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)﴾([15]): تركنا الصلاة. قال الله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)﴾.([16]) ولهذا يقول نبينا محمد ﷺ: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ». أخرج أبو داود عن بريدة، وهو حديث صحيح. وفي صحيح مسلم عن جابر، قال: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَيْسَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ أَوِ الشِّرْكِ إِلَّا الصَّلَاةُ». فرقان بين المسلم والكافر أداء الصلاة، فرقان بين المنافق وبين المؤمن الصادق الصلاة. ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى﴾([17]): هذه صفات المنافقين، إذا قام الى الصلاة قام كسلانًا بغير نشاط، بغير محبة لها. أما المؤمن، فإنه يقوم بأريحية، وبطيبة نفس، وباطمئنان.

ولذلك فأشرف المقامات أن تكون في صلاتك. جاء في الصحيحين من حديث أنس، أن النبي ﷺ قال: «إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ» فإنما يناجي ربه. وجاء في صحيح مسلم من حديث علي، وابن عباس، أن النبي ﷺ قال: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ». وأنت تأتي في أكمل الهيئات؛ ﴿يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾.([18]) فلذلك شرع الله الطهارة الكاملة، وهذا شرط من شروط الصلاة، وشرع الله عز وجل كمال الزينة، والتجمل، وفي أفضل الأمان؛ لشرف هذه العبادة، ولشرف هذا المقام.

سبحانك اللهم! وبحمدك، لا إله الا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك.
----------------------------------
([1]) خطبة جمعة بتاريخ: [٦/جمادى الأولى/١٤٤٣ هـ‍].

([2])[النساء: 11].

([3])[آل عمرأن: 102].

([4])[الأحزاب: 70، 71].

([5])[الذاريات: 56، 58].

([6])[الجمعة: 9].

([7])[إبراهيم: 37].

([8])[إبراهيم: 40].

([9])[لقمان: 17].

([10])[مريم: 54، 55].

([11])[مريم: 30، 31].

([12])[النور: 36، 37].

([13])[هود: 114].

([14])[المؤمنون: 1، 2].

([15])[المدثر: 42، 43].

([16])[الروم: 31].

([17])[النساء: 142].

([18])[الأعراف: 31].

📮 رابط الخطب على القناة الرسمية للشيخ حفظه الله.⤵️
http://www.tg-me.com/abuamroalhgoury
2025/02/23 22:39:13
Back to Top
HTML Embed Code: