Telegram Web Link
مصباح الهداية
Photo
توضيح مذهب الواقفة في مسألة عدد الأئمّة (عليهم السلام)

من الأمور المؤثّرة في استقامة البحث العلميّ أن تسيطر على الباحث فكرة الإتيان بكل غثّ وسمينٍ لنقض معتقدِ الآخر، فيقع بذلك في التخليط والضّعف والاحتجاج بما لا يسوغ، ومن ذلك: ما ابتُلي به بعض الباحثين الزيديّة من التخليط في حديثه عن إمامة الأئمّة الاثني عشر، فإنّه لما استهوته هذه الفكرة صار يحاول توظيف كل ما يقع تحت يده لإبطال النصّ والتشويش عليه حتى لو استلزم ذلك الإتيان بمقولاتٍ غير واقعيّة، وهذا الأمر لا يضرُّ النصَّ على الأئمّة شيئاً، وإنّما يكشف عن قصورِ البعض وضعفه في معرفة المذاهب ودراستها بشكلٍ مُتقَنٍ.
ومن النّماذج المؤسفة في هذا المقام: ما كتبه أحد الباحثين الزيديّة عن اعتقاد الواقفة في مسألة النصِّ فقال: (والشاهدُ أنّ قول سلف الشريفين المرتضى والرضيّ من الموسويّين كان على قول الواقفة الذين لا يؤمنون بالاثني عشر ولا بالنّصوص عليهم، ويبرأون من قول الاثني عشريّة القطعيّة..إلخ) [مقدّمة تحقيق كتاب النقض المكتفي على من يقول بالإمام المُختفي، ص13].
وهذا تخليطٌ ينمُّ عن عدم فهم مشكلة جمهور الإماميّة مع الواقفة، فإنّ الواقفة وجمهور الإمامية لا يختلفانِ في أنّ الأئمّة اثنا عشر إماماً، وإنّما وقع الخلافُ في الإمام القائم الذي يغيبُ، ومنشأ هذا الخلاف هو انحراف وكذب بعض أصحاب الكاظم (عليه السّلام)، وبغضّ النظر عن التحقيق في جذور المسألة ومناشئها، ولكن يكفينا أن نعرف أنّ ما نسبه إلى الواقفة من إنكار النصّ على الاثني عشر باطلٌ لا أصل له، وقد خُيِّل له ذلك لأنه يهوى أن يحشد الأدلة لإبطال النصّ، فهو يريدُ استغلال موقف الواقفة بحسب التصوير الذي يريد إسقاطه عليهم، في حين أنّ الواقع خلاف ذلك.
ومن اللّطيف في الأمر أنّه أشار إلى كتاب أحد المُدافعين الموسويّين من الواقفة وهو عليّ بن أحمد العلويّ الموسويّ، واستدلّ على وجوده بكلام الشيخ الطوسيّ في (الغَيْبة)، ولو أنّه تفحّص المادة المنقولة في كتاب (الغيبة) لعلم أنّ الواقفة لا مشكلة لديها في عدد الأئمّة، وإنّما الإشكال في تحديد من هو الإمام القائم الغائب، فهم قد جعلوه السّابع، وجمهور الإماميّة يعتقدون بكونه الثّاني عشر، فممّا نقله الشيخ الطوسيّ عن كتاب عليّ بن أحمد العلويّ الموسويّ الذي صنّفه لنُصرة الواقفة: (وحدّثني محمّد بن عطاء ضرغامة، عن خلّاد اللؤلؤيّ، قال: حدّثني سعيد المكيّ، عن أبي عبد الله عليه السّلام -وكانت له منه منزلة- قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: يا سعيد، الأئمّةُ اثنا عشر، إذا مضى ستّةٌ فتح اللهُ على السّابع، ويملك منّا أهل البيت خمسة، وتطلع الشمسُ من مغربها على يد السّادس) الغيبة، ص53، ح44.
فإنْ كانت الواقفة لا تعتقد بالنصّ على عدد الأئمة الاثني عشر، فكيف يروي مثل هذا الخبر لنُصرة مذهبه؟!
على أنّ جملةً ممّن قال بالوقف من الرّواة قد روى بعد الوقف رواياتٍ في النصّ على عدد الأئمّة، ولم يظهر منهم إنكارٌ للعدد ولا مجادلة في هذه المسألة، وإنّما انصبّ الجدال معهم على القائم الغائب هل هو موسى بن جعفر عليه السلام أم غيره، ومنه انفتح البحثُ حول إنكار موته -صلوات الله عليه-، هذا ما أُثِرَ عن الواقفة، ومن أراد نسبة شيء آخر إليهم فعليه بالدليل.
ومن روايات الواقفة في كتبنا حول النصّ على الأئمّة الاثني عشر ما رواه الصفّار: (حدّثنا أبو طالب، عن عثمان بن عيسى، عن سماعة، قال: كنتُ أنا وأبو بصير ومحمّد بن عمران مولى أبي جعفر بمنزله بمكّة. قال: فقال محمد بن عمران: سمعتُ أبا عبد الله يقول: نحن اثنا عشر مُحدَّثاً. فقال له أبو بصير: لسمعتَ أبا عبد الله عليه السلام؟ قال: فحلّفه مرّة أو اثنتين أنّه سمعه. قال: فقال أبو بصير: لكذا سمعتُ أبا جعفرٍ عليه السّلام يقول) [بصائر الدرجات، ج2، ص109، الجزء السّابع: باب في الأئمة أنّهم محدّثون مفهّمون. ورواه الكليني في الكافي، ج2، ص705-706، كتاب الحجة، باب ما جاء في الاثني عشر والنص عليهم، ح20.
وهذا الخبرُ مرويٌّ عند الصفّار والكلينيّ من طريق عثمان بن عيسى الذي قال فيه النّجاشيّ: (وكان شيخ الواقفة ووجهها، وأحد الوكلاء المستبدين بمال موسى بن جعفر عليه السلام)، انظر: رجال النجاشي، ص300، رقم الترجمة 817.
والأمر نفسه يجري في شأن الفطحيّة، فقولهم بإمامة عبد الله الأفطح لم يتنافَ لديهم مع النصّ على الأئمة الاثني عشر، ولذلك فإنّ من بقيَ منهم على القول بإمامته لم يجد إشكالاً في القول بإمامة الكاظم عليه السلام إلى أنْ اصطدموا في الواقع بالإشكال في زمن العسكريّ (عليه السلام) حيثُ كان العسكريّ وفقاً لحساباتهم هو الثاني عشر، وهو ما فتح عليهم إشكالاً يوجبُ إعادة النظر في مقولتهم، ولذلك بدأت الطّائفة تجد حزازةً بالنسبة إليهم، وسألوا الإمام العسكريّ عليه السلام عن كتب بني فضّال -وهم فطحيّة- فقال فيما رُوي عنه: (خذوا بما رووا، وذروا ما رأوا).
من معاجز أمير المؤمنين (عليه السّلام) || إخبارُه بسقوط الدولة العبّاسيّة على يد المغول

روى الشيخ الثقة ابن أبي زينب النعماني بسنده عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (مُلك بني العبّاس عسرٌ لا يُسرَ فيه، لو اجتمع عليهم الترك والديلم والسّند والهند والبربر والطيلسان لن يزيلوه، ولا يزالون في غضارةٍ من ملكهم حتى يَشُذَّ عنهم مواليهم وأصحاب دولتهم، ويسلط الله عليهم عِلْجاً يخرج من حيثُ بدأ مُلكهم، لا يمرُّ بمدينة إلا فتحها، وتُرفع له رايةٌ إلا هَدَّها، ولا نعمة إلا أزالها، الويلُ لمن ناواه، فلا يزالُ كذلك حتى يظفر)(¹).
وقد أخبر بذلك أيضاً الإمام الصّادق (عليه السلام) كما في رواية الشيخ الكلينيّ (رحمه الله)، قال: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن المفضل بن مزيد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له أيام عبد الله بن علي: قد اختلف هؤلاء فيما بينهم.
فقال: دع ذا عنك، إنما يجيء فساد أمرهم من حيثُ بدأ صلاحهم)
(²).
وما يتضمّنه هذان الخبران أنّ سقوط الدّولة العبّاسية يأتي من الجهة التي بدأ أمرهم منها وهو المشرق، وهي الجهة التي بدأ منها التأسيس لإقامة الدولة العبّاسيّة، واللطيفُ في الأمر أنّ هذين الخبرين رويا في كتبٍ صُنِّفت قبل سقوط الدولة العباسية بمئات السنين، فإنّ الكلينيّ قد توفي سنة 329 هجريّة والنعمانيّ تلميذه قد توفي في أواسط القرن الرابع الهجريّ.
وقال العلامة الحلي في كتابه (كشف اليقين) متحدِّثاً عن معاجز أمير المؤمنين (عليه السّلام) وإخباراته الغيبيّة: (ومن ذلك: إخباره بعمارة بغداد ومُلك بني العباس وذكر أحوالهم وأخذ المغول الملك منهم. رواه والدي رحمه الله تعالى، وكان ذلك سبب سلامة أهل الحلة والكوفة والمشهدين الشريفين من القتل؛ لأنّه لما وصل السلطان هولاكو إلى بغداد وقبل أن يفتحها هرب أكثر أهل الحلة إلى البطائح إلا القليل، فكان من جملة القليل والدي - رحمه الله – والسيد مجد الدين ابن طاووس والفقيه ابن أبي العزّ، فأجمع رأيهم على مكاتبة السلطان بأنهم مطيعون داخلون تحت الأيلية، وأنفذوا به شخصاً أعجمياً، فأنفذ السلطان إليهم فرماناً مع شخصين أحدهما يقال له (تكلم) والآخر يقال له (علاء الدين) وقال لهما: إن كانت قلوبهم كما وردت به كتبهم فيحضرون إلينا. فجاء الأميران فخافوا لعدم معرفتهم بما ينتهي الحال إليه.
فقال والدي - رحمه الله -: إن جئتُ وحدي كفى؟
فقالا: نعم .
فأصعد معهما، فلما حضر بين يديه وكان ذلك قبل فتح بغداد وقبل قتل الخليفة قال له: كيف أقدمتم مكاتبتي والحضور عندي قبل أن تعلموا ما ينتهي إليه أمري وأمر صاحبكم وكيف تأمنون إنْ صالحني ورحلت عنه؟!
فقال له والدي: إنما أقدمنا على ذلك لأنا روينا عن إمامنا علي بن أبي طالب (عليه السّلام) أنه قال في بعض خطبه: الزوراء وما أدراك ما الزوراء، أرض ذات أثل يشتد فيها البنيان، ويكثر فيها السُّكّان، ويكون فيها قهارم وخُزَّان، يتخذها ولد العباس موطناً، ولزخرفهم مسكناً، تكون لهم دار لهو ولعب، يكون بها الجور الجائر والخوف المخيف والأئمة الفجرة والقراء الفسقة والوزراء الخونة، يخدمهم أبناء فارس والروم، لا يأتمرون بمعروفٍ إذا عرفوه، ولا يتناهون عن منكر إذا أنكروه، يكتفي الرجال منهم بالرجال، والنساء بالنساء، فعند ذلك الغمُّ الغميم والبكاء الطويل والويل والعويل لأهل الزوراء من سطوات التُّرك، وما هم التُّرك، قومٌ صغار الحدق، وجوههم كالمجان المطرقة لباسهم الحديد، جردٌ مردٌ، يقدمهم ملك يأتي من حيثُ بدأ ملكهم، جهوريُّ الصوت، قويُّ الصَّولة، عالي الهمَّة، لا يمرُّ بمدينة إلا فتحها، ولا تُرفع له راية إلا نكسها، الويل الويل لمن ناواه، فلا يزال كذلك حتى يظفر».
فلما وصف لنا ذلك ووجدنا الصفات فيكم رجوناك فقصدناك، فطيَّب قلوبهم وكتب لهم فرماناً باسم والدي - رحمه الله – يُطيِّبُ فيه قلوب أهل الحِلَّة وأعمالها، والأخبار الواردة في ذلك كثيرة)(³).
ومن الروايات التي تبين الجهة التي تسقط على يدها الدولة العباسية أيضاً، ما رواه الشريف الرضيّ في (نهج البلاغة) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفة الأتراك: (كأني أراهم قوما كأن وجوههم المجانُّ المُطرَقَة، يلبسون السَّرَق والديباج، ويعتقبون الخيل العتاق، ويكون هناك استحرارُ قَتْلٍ حتى يمشي المجروح على المقتول، ويكون المُفْلِتُ أقل من المأسور.
فقال له بعض أصحابه: لقد أُعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب. فضحك عليه السلام وقال للرجل -وكان كلبياً-: يا أخا كلب، ليس هو بعلمِ غيب، وإنّما هو تعلُّمٌ من ذي علم)(⁴).
والشّريفُ الرضيُّ أيضاً تُوفيَ قبل سقوط الدولة العباسيّة بمئات السنين تقريباً.
وقال ابنُ أبي الحديد المعتزلي في شرحه على النهج: (واعلم أن هذا الغيب الذي أخبر عليه السلام عنه قد رأيناه نحن عياناً، ووقع في زماننا، وكان الناس ينتظرونه من أول الإسلام، حتى ساقه القضاء والقدر إلى عصرنا، وهم التتار الذين خرجوا من أقاصي المشرق حتى وردت خيلهم العراق والشام، وفعلوا بملوك الخطا وقفجاق، وببلاد ما وراء النهر، وبخراسان وما والاها من بلاد العجم، ما لم تحتوِ التواريخ منذ خلق الله تعالى آدم إلى عصرنا هذا على مثله، فإن بابك الخرمي لم تكن نكايته وإن طالت مدته نحو عشرين سنة إلا في إقليم واحد وهو أذربيجان، وهؤلاء دوَّخوا المشرق كله، وتعدَّتْ نكايتهم إلى بلاد إرمينية وإلى الشام، ووردت خيلهم إلى العراق. وبخت نصر الذي قتل اليهود إنما أخرب بيت المقدس، وقتل من كان بالشام من بني إسرائيل، وأي نسبةٍ بين من كان بالبيت المقدس من بني إسرائيل إلى البلاد والأمصار التي أخربها هؤلاء وإلى الناس الذين قتلوهم من المسلمين وغيرهم)(⁵).
----------------------------
(¹) الغيبة (النعماني)، ص249، الباب14، ح4.
(²) الكافي، ج15، ص487، رقم الحديث 15073، كتاب الروضة، ح258.
(³) كشف اليقين، ص80-83.
(⁴) نهج البلاغة، ص301، رقم الخطبة 128.
(⁵) شرح نهج البلاغة، ج8، ص218.
"واعلموا أنّ هذا القرآن هو النّاصح الذي لا يغشّ، والهادي الذي لا يُضِلُّ، والمحدِّثُ الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحدٌ إلّا قام عنه بزيادةٍ أو نقصانٍ: زيادة في هدى، ونقصان من عمى.
واعلموا أنّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقةٍ، ولا لأحدٍ قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على لأوائكم، فإنّ فيه شفاءً من أكبر الدّاء وهو الكفر والنّفاق والغيّ والضلال، فاسألوا الله به، وتوجّهوا إليه بحبّه، ولا تسألوا به خلقه، إنّه ما توجّه العباد إلى الله بمثله.
واعلموا أنه شافعٌ مشَفّعٌ، وقائلٌ مصَدَّقٌ، وأنّه من شفع له القرآن يوم القيامة شُفِّع فيه، ومن مَحَلَ به القرآنُ يوم القيامة صُدّقَ عليه، فإنّه ينادي منادٍ يوم القيامة: ألا إنّ كل حارثٍ مبتلى في حرثه وعاقبة عمله غير حَرَثة القرآن، فكونوا من حَرَثته وأتباعه، واستدلّوه على ربّكم، واستنصحوه على أنفسكم، واتّهموا عليه آراءكم، واغتشّوا فيه أهواءكم".

أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
📚 نهج البلاغة، ص٣٨٨-٣٨٩، رقم الخطبة ١٧٦.
حفلٌ غديريّ صار عِبرةً!

ونحن على مقربة من أيّام عزاء سيّد الشهداء (عليه السلام) أجدُ من المناسب أن أذكرَ هذه القصّة لعلّها تكون ذات فائدة لي ولسائر الأحبّة ممن يسعون لخدمة أهل البيت (عليهم السلام) وإحياء أمرهم في الفرح والحزن.

في إحدى السّنوات الأولى من قدومي إلى قمّ المقدّسة، دعاني أحدُ الإخوة الأصدقاء لإلقاء كلمةٍ في حفل بمناسبة عيد الغدير المبارك في مجلسٍ يقيمه أحد أساتذته، وأستاذه هذا من أساتذة بحث الخارج المعروفين في الأوساط الإيرانيّة، وله منصبٌ كبيرٌ في الجمهوريّة الإسلاميّة فيما يخصُّ إدارة الحوزة العلميّة. لم أجد بأساً بقبول الدّعوة، فأبديتُ الموافقةَ، وذهبتُ في الليلة المحدَّدة إلى بيت ذلك الأستاذ، ودخلتُ المجلس ولم أعلم بتفاصيل البرنامج لتلك الليلة، فقلتُ: سأجلس بجوار صديقيّ إلى أن تنتهي مراسم تلاوة القرآن وبعض الكلمات للضيوف وإذا جاء دوري سأقوم لإلقاء الكلمة. مرّت مراحل مراسم الاحتفال واحدةً تلو الأخرى، وكثرت كلمات الضيوف وطالت، وبدأت السّاعة تشير إلى اقتراب رفع المجلس فقد تأخّر الوقت كثيراً نظرتُ إلى صديقي أكثر من مرّة، وفي المرّة الأخيرة أخرج ورقة وصار يكتب عليها، ثم مدّ يده نحوي ليعطيني إيّاها، فتحتُها وإذا به قد كتب فيها ما ترجمته: (الليلة، حسدُ بعض طلّاب الشيخ لم يسمح لك بإلقاء كلمتك، لقد ذهبتَ ضحيّةَ حسدِ بعض هؤلاء لـ"الحقير" -يقصد نفسه تواضعاً-. لقد فهمتَ الأمر، يجب أن يتعلّق القلب بإمام الزّمان. الأخلاق -هنا- منسيّة)، ولا زلتُ أحتفظُ بهذه الورقة إلى هذا اليوم.
على أيّ حالٍ، فهمتُ مباشرةً أنّ الأستاذَ الذي عرفتُه شيء، وما وراء كواليس طُلّابه شيء آخر، فالأستاذ -والذي زرته من قبلُ مرّتين- كان آيةً في الأخلاق والتّواضع، بينما كان بعض طلّابه يتنافسون على مظاهر دنيويّة زائفة كالقُرب من الأستاذ، وتولّي إدارة شؤون مكتبه أو مجلسه أو درسه وما شاكل ذلك. عرفت أنّ "الحرب الباردة" خلف ستار الحفل كانت هي التي ترسم صورتَه. خرجتُ من المجلس بعد انتهائه، وانتظرتُ صديقي في الخارج، وما أن خرج بادرته قائلاً: لست ممتعضاً من عدم إلقائي للكلمة، فهذا ليس بالشيء المهمّ. الأمر بالنسبة إلي سيان. فقال: أنا غير راضٍ عن ذلك، وسوف أنقل ما جرى للأستاذ. فقلت له: لا داعي لذلك. وودّعتُه وانصرفتُ إلى البيت.
سرتُ في تلك الليلة إلى البيت وأنا مُتعجّبٌ، فبحكم تجربتي القصيرة آنذاك كانت تلك أوّل مرّة أصادفُ فيها موقفاً كهذا في وسط دينيّ يجب أن يكون مُخلَصاً لأهل البيت (عليهم السّلام) وخالياً من الأنا والتّنافس على الوهميّات، -طبعاً الآن لم أعد أتعجّب-، وهو مما يبعثُ على التأسُّف، فإنّه من المؤسف أن تكون خدمة أهل البيت (عليهم السّلام) محلاً للتسابق الدنيويّ، فضلاً عن "تصغير العقل" والنزول إلى درجة التنازع على أيّ مِنّا سيفرض رأيه في إدارة مكتب أو مجلس أو "برنامج حفل"؛ ليظهر إمساكه بأزمّة الأمور في مكتب "آية الله فلان" مثلاً! ولهذا الأمر نظائر ينبغي أن يعفّ اللسان عن ذكرها، فلا نشير إليها لئلا نكون ممن يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، والمهم هو التذكرة والموعظة.

في كثيرٍ من الأحيان؛ يخدعُنا زخرفُ الدّنيا، ويعظّم لنا الصغائر، ويضخّم من شأن الأمور التّافهة كالألقاب والتقييمات وقول فلانٍ وقيلِه ومدحه و.. إلخ، والتقرّب من فلان وغيره، والحال أنّ كل عظيمٍ في هذه الدنيا مهما بلغ قدره فهو لا يساوي ذرّةً أمام حلاوة معرفة الله وتوحيده والإخلاص له في العبوديّة. ولذلك ينبغي أن يلتفتَ كلّ ذي حظٍّ من التوفيق لخدمة أهل البيت (عليهم السّلام) في مجالس العلم أو مجالس إحياء الأمر أو غيرها من مواطن الخدمة إلى أهميّة التوجّه التامّ إلى الله -تبارك وتعالى- وإخلاص النيّة في طلب مرضاته، وأمّا ما سوى ذلك فقد ينجرُّ إلى الاستئكال بآل محمّد -صلوات الله عليهم-.
أحياناً، قد يخدعنا الشيطان أو النفس الأمّارة بالسوء فنتوهّم أنّنا نخدم دين الإسلام ونُعلي راية القرآن، ولكن ربما يكون الواقع أنّنا نسعى بهما للوصول إلى مكسب دنيويّ ولو كان حقيراً وصغيراً. فعلينا أن نحذّر أنفسنا من هذه الزلّات. لو كانت دمعة واحدة في مجلس الحسين (عليه السلام) لغير الله فإنّها مردودة، ولو كان سطرٌ في مقالٍ لغير الله فقد يكون وبالاً على صاحبه يوم القيامة. ولو كانت جملة في خطبةٍ لغير وجه الله فقد تكون ناراً جحيماً على الناطق بها يوم الحساب. نسأل الله أن يأخذ بقلوبنا إليه، وأن يبعد عنّا الزلّة والغفلة والرياء ويقينا عذاب السعير؛ إنه سميعٌ مجيبٌ.

"قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ".
سورة الزمر: 11.
أعلن سارق البحوث والمقالات (محمد حسين ترحيني) خبر طباعته لكتاب (كسر الصنم - نقض أصول الكافي) للكاتب الإيرانيّ أبي الفضل البرقعيّ (ت: ١٤١٣هـ)، فرأيت من المناسب التذكير بالسّرقات القديمة في كتابه "عقائد الإمامية بين الأصيل والدخيل"، بالإضافة إلى تسليط الضوء على حقيقة كتاب "كسر الصنم" ومستواه الرديء، والذي لشدّة رداته لم يعتنِ به أحدٌ سوى الوهابية، ثم جاء ترحيني لينسج على منوالهم، فدوّنت بعض الملاحظات في مقالة مختصرة، وهذا رابط المقال (هنا).

..
أرشيف المنشورات حول كتابه "عقائد الإمامية بين الأصيل والدخيل": (هنا).
• صلاة أوّل الشهر

🔹 كيفية الصلاة
رواها الشيخ الطوسيّ في كتابه (مصباح المتهجّد)، والسيد ابن طاوس في كتابه (الدروع الواقية) عن الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السلام)، وتفصيلُها:
تصلي ركعتين، تقرأ في الأولى الحمد مرة وسورة التوحيد ثلاثين مرة، وفي الركعة الثانية الحمد مرة وسورة القدر ثلاثين مرة.

🔹 دعاء بعد الفراغ من الصلاة
وفي رواية السيد ابن طاوس دعاء يُقرأ بعد الفراغ من هذه الصلاة، وهو:
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إلّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ويَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا ومُسْتَوْدَعَهَا ۚ كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، وإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلّا هُوَ ۖ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ، سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً، مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ، حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، لَا إِلَهَ إلّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ، رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وأنْتَ خَيْرُ الوَارِثِيْنَ».

🔹 الصدقة
يتصدّق بما يتيسر له يشتري بذلك سلامة الشهر كله، وهذا وارد في روايتي الشيخ والسيّد.

📚 المصادر:
• مصباح المتهجد، ص٥٢٣.
• الدروع الواقية، ص٤٣-٤٤.
يعدّ حديث الريّان بن شبيب عن الرّضا (عليه السلام) من الأحاديث المهمّة والقيّمة في معرفة مقام سيّد الشهداء عليه السلام) ومظلوميّته، وآثار إحياء أمره، وقد رأيتُ من المناسب التعرّض لفقراته بالشّرح والبيان، سائلاً الله تعالى أن يوفقني لخدمة سيد الشهداء صلوات الله عليه.

شرح حديث ابن شبيب عن الرّضا عليه السلام - الحلقة الأولى

لمطالعة المقال: رابط أوّل - رابط ثانٍ
أصول ومنطلقات قيام سيّد الشهداء (عليه السّلام)

أحياناً، وفي إطار المجاملة الزّائدة عن حدّها، وبداعي استمالة ذوي التوجُّهات العلمانيّة أو اليساريّة أو أصحاب الدِّيانات الأخرى يتم تقديم سيّد الشهداء (عليه السّلام) على أنّه خيمةٌ للجميع، وأنّ ثورتَه يمكنها أن تكون جامعاً لكلّ الأحرار في العالم، وفي الواقع لا أتعقّل مثل هذه العبارات على إطلاقها، فإنْ أُريد من ذلك أنّ الحسين بما هو «باب هدايةٍ» يمكنه أن يستقبل الآخرين ليأخذ بأيديهم إلى معرفة الله وعبادته فهذا صحيحٌ لا غبار عليه، وأمّا أن يكون الآخرون - من أيِّ مِلّةٍ ومذهبٍ - لهم قابليّة الانضواء تحت راية الحسين (عليه السّلام) لمجرّد أنّهم يأبون الظُّلم ويرفضون الاستكبار، فهذا غير صحيح ولا يمتُّ لنهضة سيّد الشهداء (عليه السّلام) بصِلةٍ. أصلُ نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن منحصراً في محاربة الظُّلم مجرّداً عن أي إضافة، بل كان قيامُه -صلوات الله عليه - رفضاً للظلم من منطلق التوحيد الإلهيّ وأصول الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في "الإسلام"، هذه هي منطلقات الثورة الحسينيّة، فهي ثورةٌ إلهيّةٌ إسلاميّةٌ، وليست ثورةً متمحِّضةً في "رفض الظُّلم" كيفما كان، بل هي "رفضٌ للظلم" وفق منهج التوحيد ورسالة الإسلام، وهذا ما يُعطي واقعة كربلاء معنىً وقيمةً.

من اللّطائف التي ينبغي أن تُذكر في هذا السّياق، ما أفاده السيّد محمّد مهدي ميرباقريّ (دامت بركاته) -في شهر المحرّم قبل سنوات- أنّ كثيراً من النّاس خلال مطالعة وصيّة الإمام الحسين (عليه السّلام) إلى محمّد بن الحنفيّة يدقّقون في القسم الثاني منها المتعلّق بـ«عدم خروجه أشراً ولا بطراً، وأنّه خرج لطلب الإصلاح في أمَّة جدِّه»، ويغفلون عن مطلع الرّسالة وفيه: «إنَّ الحسين بن عليّ يشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، جاء بالحقِّ من عنده، وأن الجنَّة حقٌّ والنّار حقٌّ، وأنَّ الساعةَ آتيةٌ لا ريب فيها، وأنَّ الله يبعث من في القبور»، هذه هي منطلقات سيّد الشهداء (عليه السلام) ابتداءً من الإقرار لله بالوحدانيّة ونبذ الشّرك، والإذعان لمحمّد (صلّى الله عليه وآله) بالرّسالة، والاعتقاد بالثّواب والعقاب والمعاد، وبناءً على ذلك كانت حركةُ أهل البيت (عليهم السّلام) ذات مغزىً ومعنىً، فالنبيُّ (صلّى الله عليه وآله) قاتل على التّنزيل، وأمير المؤمنين (عليه السلام) قاتل على التأويل، وسيّد الشهداء امتدادٌ لهما، فالمنطلق في مسيرة القتال كلّها هو القرآن وتوحيد الله، وبهذا يتضح أنّ كل معركة خاضها أئمتنا (عليهم السّلام) كانت دفاعاً عن معرفة الله وتوحيده، وليست مجرّد مواجهة سياسيّة لا حضورَ للبُعد العقائديّ والمعرفيّ فيها، ويظهرُ ذلك أيضاً مما رواه الصّدوق (رحمه الله) مُسنَداً: أنّ أعرابيّاً قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين، أتقولُ أنَّ اللهَ واحدٌ؟ قال الرّاوي: فحمل عليه النّاسُ قالوا: يا أعرابيّ، أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسُّم القلب، فقال أمير المؤمنين (عليه السّلام): «دعوه، فإنَّ الذي يُريده الأعرابيُّ هو الذي نريدُه من القوم»، فهذه المعركة رغم ظاهرها السياسيّ لم تكن مقتصرةً على معالجة انحراف عمليّ في عالم السياسة، فإنّ الفريق الآخر لم تكن مشكلته مع أهل البيت (عليهم السلام) سياسيّةً محضةً، بل كانت معركتهم على التوحيد الإلهيّ أيضاً.
وقد كتب سيد الشهداء عليه السلام في رسالته بعد أن بيّن ما يريد القيام به: «وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحقّ فاللهُ أولى بالحقّ»، وبذلك حدد مسار نهضته، وأنها قيامٌ في وجه الظلم على أسس السنّة النبويّة والمنهاج العلويّ لا سواهما، وأنّ قبوله مقيّد بأن يكون من قبول الحقّ، وهذه هي سيرة الأنبياء (عليهم السلام)، فهم لم يبعثوا لمواجهة الظلم كيفما كان، بل بُعثوا لمواجهة الظالمين تحت راية توحيد الله والعبودية له، ولذلك كان الحسين وارث آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد.
إنّ المغزى الأكبر لمجاهدة النبيّ وآله (عليهم السّلام) هو انتهاء الخليقة إلى الإقرار بالتوحيد والعبوديّة لله تبارك وتعالى، وفي ضمن ذلك يتمُّ رفع الظلم والعدوان وبسط العدل، وخيرُ دليل على هذا ما تواتر في وصف الإمام الحجّة -صلوات الله عليه- أنّه: «يملأ الأرض عدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً»، ولكن نشر العدل ومحاربة الظلم لا تكون إلّا من المنطلقات القرآنيّة والمعرفة الإلهيّة والإقرار بالوحدانيّة، وإنّ منتهى ذلك المسير يجب أن يكون إلى معرفة الله وعبادته، وقد ورد في دعاء أهل الثغور للإمام زين العابدين (عليه السلام): «اللهم وقَوِّ بذلك محالَّ أهل الإسلام، وحصِّنْ به ديارهم، وثمِّر به أموالهم، وفرِّغهم عن محاربتهم لعبادتك، وعن مُنابذتهم للخلوة بك، حتَّى لا يُعبَدَ في بقاع الأرض غيرك، ولا تُعفَّر لأحدٍ منهم جبهةً دونك، اللهم اغزُ بكلِّ ناحيةٍ من المسلمين على مَنْ بإزائهم من المشركين..إلخ»، إذن: فهيمنة التوحيد تمثّل مقصداً أساسيّاً من مقاصد الجهاد في سبيل الله، وليس الأمر مجرّد مواجهة للظّالمين فقط، بل يتضمّنُ الجهادُ تطبيقاً للمشروع الإلهي بترسيخ الإقرار بالوحدانيّة والإذعان بالعبودية، وفي هذا الإطار يتمّ العمل على رفع الظلم والجور وبسط العدل والأمن، ولا أظنُّ أنّ اعتبار هذا المقصد وأخذه قيداً في النهضة الحسينية وكلّ نهضة إسلاميّة تتأسّى بها يتلاءم مع ذوق بعض المدعوّين إلى سفينة الحسين (عليه السلام)، لا سيما مع ضبابية الرؤية عند أولئك بسبب شعارات المجاملة. ومن دون وضوح هذه الصورة سوف نبقى دائرين في المجاملات الشكليّة التي لا تُثمر، وكثيرٌ من أولئك المُجامِلين يحملُ على الدّين انتصاراً لعلمانيّته أو مسلكه الذي يجافي أصول الإسلام، وفي الوقت نفسه لا تكون مجاملته إلّا مصانعةً لا أثر لها.

"هَا أنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ ولَا يُحِبُّونَكُمْ وتُؤْمِنُونَ بالكِتَابِ كُلِّهِ وإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وإذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ".
سورة آل عمران، الآية 119.
"وإنَّ الله سبحانه لم يَعِظْ أحداً بمثل هذا القُرآن، فإنَّه حبلُ الله المتين، وسببُه الأمين، وفيه ربيعُ القلب، وينابيع العلم، وما للقلب جلاءٌ غيره..".

أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
📚 نهج البلاغة، ص٣٩٣، رقم الخطبة ١٧٦.
بسندٍ صحيحٍ: مطرت السّماء دماً يوم قتل الحسين عليه السلام

رابط الوثائق: (اضغط هنا).
سيّد الشهداء مغيث الملهوفين وملاذ المظلومين

قال السيّد محمّد بن أبي طالب الحائريّ الكركيّ (من علماء القرن العاشر الهجريّ):
«وأمّا كرامته -صلوات الله عليه- وما يظهرُ على تعاقب الزّمان من العجائب والغرائب لدى ضريحه الشريف إلى يوم النّاس هذا ما هو مشهور بتجدّد الأعوام والأيّام، ويظهرُ للخاصّ والعام، من إجابة الدّعاء، وشفاء المرضى والزَّمْنَى قد بلغ حدَّ التواتر وطار في الآفاق ذكره، وشاع على الإطلاق أمرُه، وسأذكر من ذلك نازلةً نزلت بي وعظم لواقعتها خطبي، وتزلزل لقارعتها خَطْبي، وذلك أنّ الله سبحانه كان قد منَّ عليَّ سنة تسعمائة من الهجرة بكتاب (تذكرة الفقهاء) في فقه الخاصّة من مصنّفات الشيخ الكامل العالم العامل أبي منصور الحسن جمال الدين بن يوسف بن المطهَّر الحليّ -أفاض الله على ضريحه شآبيب رحمته وحشره في زُمرة نبيِّه وعترته- وُكنتُ كَلِفاً به، ملازماً له، مثابراً على حصر فوائده، أستأنسُ به في خلوتي، وأستكشف بمطالعته غمّتي، إلى أن تقلَّبت الأمور وتغيَّرت الدّهور، واستبدل اللهُ بقومٍ قوماً، وبرجالٍ رجالاً، وقضى الله لي -وأحسنَ القضاء- بجوار سيّد الشهداء، إمام الثقلين، وسبط سيّد الكونين، أبي عبد الله الحسين وملازمة حضرته الشريفة ليلاً ونهاراً إلى أن دخلت سنة ثماني عشرة وتسعمائة حضر في المشهد الشريف رجلٌ من بلدة شيراز يُدعى بـ(السيّد شريف) وكان له قربٌ من السّلطان، ثم نقم عليه وعزله.
وكان المذكور يُظهر التشيّع، ويدّعي الإحاطة بأكثر العلوم، وفي الباطن زنديقاً يتديّن بمذهب الحكيم، وإنّما أظهر التشيُّع تقرُّباً إلى السُّلطان رياءً وسُمعةً، فلمّا حضر في المشهد الشريف وكان قد أُنهِيَ إليه أمر الكتاب فطلب من الفقيرِ شراءَه وبذل له عنه ثمناً، فأبى الفقيرُ عليه، فأغلظَ للفقير في الكلام؛ لأنّه كان من السّفاهة والوقاحة والكبر والغلظة على جانبٍ عظيمٍ، فأجابه الفقير بأعظم من جوابه وأعان الله عليه.
فمضى المذكور ثانياً إلى باب السُّلطان، فوثب صدر الدّولة وفوَّض إليه أمر الحضرات والأوقاف والأمور الشرعيّة في سائر البلاد، فأظهر من الظُّلم والعسف والعدوان ما لا مزيد عليه، وولَّى على الحضرات الشريفة في بلاد العراق نائباً من قِبَله، مُشابهاً له في الكِبْر والغِلظة والظُّلم، وفوَّض إليه أمر بلدة الحلّة وغيرها من البلاد المتعلّقة بالحضرات الشريفة -حضرات الأئمة عليهم السلام-، وأمره أن لا يجعل له بعد وصوله دأباً ولا هِمَّةً إلّا أخذ الكتاب قَهْراً، وكتب على يده رسالةً تتضمَّنُ التهديد والإغلاظَ في الكلام.
فحين وصل إلى المشهد الشريف أوصل الرسالة إلى العَبْدِ، وأمره بإحضار الكتاب بسرعةٍ من غير تعلُّلٍ، فرأى الفقيرُ أنَّ الامتناع لا يُجدي نفعاً، فسلَّم الكتاب جميعه وعدّته سبع مجلّدات إلى النّائب المذكور، وفوَّض الأمر إلى الله سبحانه، ورأى أن ليس لكربته وغمّته وظلامته كاشفاً إلّا الله والتوسّل إليه بوليِّه أبي عبد الله الحسين عليه السلام وآبائه الطّاهرين وذريّته الأكرمين.
وألقى اللهُ على لسان الفقير كلماتٍ -نثراً وشعراً- سمّاها بـ(استغاثة المظلوم اللَّهيف على الظَّلوم المُسمَّى بـ«شريف») فكتبها الفقيرُ وحفظها، ثم صلَّى صلاة الحاجة عند رأس الضريح المقدَّس، ثُمَّ دعا بالاستغاثة المذكورة على الضّريح وتوسَّل إلى الله بأبي عبد الله الحسين - بعد تلاوتها - وبأبيه وجدّه وأخيه وبالأئمّة التسعة من بنيه.
فرأى في تلك الليلة إبراهيمُ بنُ سليمانَ الخطيّ القطيفيّ المُجاور بمشهد سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين -صلوات الله وسلامه عليه- كأنَّ الفقيرَ قد حضر تحت القبّة الشريفة ووضع أوراقه على الضريح المقدّس، وألحَّ في المسألة والتضرّع إلى الله وإلى أبي عبد الله عليه السلام، فبينا هو يتوسّل إذا بيدٍ قد خرجت من الضريح الشّريف مشيرةً إلى الفقير بثلاث أصابع وإذا بقائلٍ يقولُ: لا تجزع، قد بقي من عُمر ظالمِكَ ثلاثة.
فأخبرَ الشيخُ المذكورُ حَفَدتَهُ صبيحةَ ذلك اليوم بذلك.
فبعد مدّة اجتمعتُ بالمذكور، فسألتُه عن ذلك فأخبرني بصحّته، فقلتُ: يمكن أن الثلاثة ثلاثة أعوام، أو ثلاثة أشهر. وفوَّضت الأمر إلى الله، واستشعرتُ لباس الصّبر، وتأسّيتُ بالنبيّ والوصيّ وأهل بيتهما.
فما مضت مدّة يسيرة إلا أقبلت عساكر الرّوم كالجراد المُنتشر، فكان المذكور زعيم الرّاية العُظمى، فحين التقى الجمعان وولَّى المذكور دبره لا متحرّفاً لقتالٍ ولا متحيّزاً إلى فئة، بل فراراً وجُبناً، واقتدى بالتيميّ وابن صهاك في الهزيمة يوم خيبر، فلم يُغْنِ عنه الفرارُ من الله شيئاً، وأتاه الموت من كل مكان، فصار قتيلاً بدار غُربةٍ، طريحاً في منزل وحشةٍ، مخضَّباً بدمِ الوريد، قُوتاً لكل خامِعَةٍ وسِيْدٍ، وكان بين الدّعاء وقتله ثلاثة أشهر لا ينقص ولا يزيد.
وكان النائبُ المذكور قد تأخّر في إرسال الكتاب إليه رجاء أن يمضي هو بنفسه مستصحباً للكتاب لينال الزُّلْفى عنده بذلك، وكان مقيماً ببلدة بغداد منتظراً للأخبار، فأتاهُ خبر سيِّده فصار بعد العِزِّ ذليلاً، وبعد الإمارة مأموراً، فمضى ولدي طاهر إلى الغاصب المذكور وأخذ الكتاب منه قهراً وأتى به، فالحمد لله الذي جبر كسري، واستجاب دعائي، ولم يُشْمِت بي أعدائي، وإنَّما أوردتُ هذه الاستغاثة في كتابي هذا تيمُّناً وتبرُّكاً بها وإظهار الفضيلة للإمام الشهيد أبي عبد الله الحسين مضافةً إلى مناقبه السّالفة في حياته وبعد موته -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه المعصومين صلاةً زاكيةً ناميةً إلى يوم الدّين».

📚 تسلية المُجالِس وزينة المَجالِس، ج٢، ص٥٣٦-٥٤٠.
غفلة الإنسان عن بعض الحقائق المتعلّقة بالرزق الحلال من أهمّ أسباب حالة الهلع والخوف المسبّبة لارتكاب المآثم كالاحتكار والسّرقة والرّبا وغيرها، ولو أنّنا تدبّرنا في دلائل الحقّ الصّادرة عن مشكاة الوحي وعملنا بها لزال الخوف واطمأنّت النفس واقتنعت بعدم جدوى السّعي نحو الحرام، وهنا ينبغي الإشارة إلى عدّة أمور:

الأمر الأوّل: أنّ الرزقَ مقسومٌ للعبد عند الله تعالى، ووصوله إليه محتومٌ حتى لو فرّ منه، فإنّه يأتيه كما يأتيه الموت، ولو احتال للوصول إلى الرّزق بسُبل الحرام، فلن يزيد في رزقه شيئاً، فمثلاً: لو قدّر الله أنّ لفلان 100 درهم من الرّزق هذا الشّهر، ولكنّه ذهب وسرق 60 درهماً، فإنّ هذا المقدار سوف يُنقص من الرزق المقدّر، وما سيصله من الحلال الذي قسمه الله له هو 40 درهماً فقط، غاية ما في الأمر أنّه لوّث لقمته بالحرام.
رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وآله أنّه قال في حجّة الوداع: «ولا يَحْمِلَنَّـكُمُ استِبطَاءُ شَيْ‏ءٍ مِنَ الرِّزْقِ أن تَطْلُبُوهُ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ مَعْصِيَةِ الله، فإنَّ اللهَ لا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إلّا بِطَاعَتِه، قَدْ قَسَمَ الأرزَاقَ بينَ خَلْقِه حَلَالاً ولم يَقْسِمْهَا حَرَاماً، فَمَنِ اتَّقى اللهَ عَزَّ وجَلَّ وصَبرَ أتاهُ اللهُ برِزْقِه مِنْ‏ حِلِّهِ، ومَنْ هَتكَ حِجَابَ السِّتْرِ وعَجَّلَ فأخَذَهُ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ قُصَّ بهِ مِنْ رِزْقِه الحَلالِ وحُوسِبَ عَليْهِ يَوْمَ القيَامَةِ».

الأمر الثّاني:
أنّ الرزق بيد الله تعالى، لا يُنال بحيلةٍ ولا عقلٍ، بل أمره بيده الله وحده، وقد ورد عن الصّادق عليه السّلام: «إنَّ اللهَ وَسَّعَ في أرزَاقِ الحمْقَى؛ ليعتَبِرَ العُقَلاءُ ويَعلَمُوا أنَّ الدُّنيا ليسَ يُنَالُ مَا فِيهَا بِعَمَلٍ ولا حِيلَةٍ»، ولذلك قد تجدُ عالماً بصيراً ذا حيلةٍ في غاية الفقر، وقد تجد جاهلاً مبتلىً بالحُمق قد بُسِط له في رزقه.

الأمر الثالث: قد أكّد أئمّة أهل البيت (عليهم السّلام) على الاقتصاد في طلب الرّزق؛ وهو المُعبّر عنه في لسان الروايات بـ(الإجمال في الطّلب)، ومعناه أن يبذل الإنسان في طلب الرزق جهداً بالنحو العادي والمتعارف بحيث يعرّض نفسه للرزق في مظانّه، مع عدم إنهاك نفسه وإشغالها ليلاً ونهاراً بذلك، ففيه مفاسد عدّة، منها:
1. أنّه ينصرف بذلك عن الاهتمام بسائر شؤونه كالاعتناء بدينه وعبادته، ويضعف عنايته بأسرته وأولاده وسائر علاقاته الاجتماعيّة.
2. أنّ ذلك قد يزيد في حرصه على المال، وهذا الحرص قد يقوده إلى استعمال سبل الحرام.
3. أنّ وصول الرزق المقسوم عند الله منوطٌ بالطّلب المتعارف، فالاجتهاد المفرط والمبالغة في السّعي قد لا يكون لها أثر كبير في زيادة الرّزق سوى إضاعة الوقت وإجهاد النّفس.
2025/07/07 12:25:49
Back to Top
HTML Embed Code: