Telegram Web Link
‏المأساة تكمن في أن بعض المسلمين - بسبب انهزاميّته وذُلّه الفكري - يسخر من النظام الإسلامي لبناء الأسرة وأحاديث الحثّ على التكاثر والتناسل، في حين أنّ الملسوع بنار «منظومته الفكرية» يعرف الحقيقة بوضوح، ويدرك أن بدن مجتمعه في طريقه إلى الشيخوخة العامّة، وليس الخبر كالعيان.
"قُرّاء القرآن ثلاثة: رجلٌ قرأ القرآن فاتّخذه بضاعةً واستدرّ به الملوك واستطال به على النّاس، ورجلٌ قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيّع حدوده، ورجلٌ قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه فأسهر به ليله وأظمأ به نهاره وقام به في مساجده وتجافىٰ به عن فراشه، فبأولئك يدفعُ الله العزيز الجبّارُ البلاءَ، وبأولئك يُديل الله من الأعداء، وبأولئك يُنزّلُ اللهُ الغيثَ من السّماء، فوالله هؤلاء قرّاء القرآن أعزُّ من الكبريت الأحمر".

الإمام محمّد بن عليّ الباقر (عليه السلام)
📚 الخصال، ج١، ص١٤٢، باب الثلاثة، ح١٦٤.
كنت قد خصّصت قناةً في التلغرام - لغرض إفادة الباحثين والمحقّقين - للوصول إلى النسخ الخطيّة الشيعيّة المحفوظة في المكتبة الوطنيّة الفرنسيّة بباريس، وكنتُ قد عثرت على نسخٍ أخرى من مكتبات متفرقة في دولٍ شتى، مثل: تركيا، ألمانيا، وغيرها، ورأيت من المناسب إنشاء قناة جامعةٍ لهذه النسخ المحفوظة في شتى الأقطار، وخصصتها بحقل "كتب الحديث" لعلماء الإماميّة وما يرتبط بها من كتب الرجال والدراية والشّروح، بالإضافة إلى جعلها مكاناً خاصّاً للدراسات والأبحاث التخصصية في هذا الحقل، بعيداً عن بقيّة مواقع التواصل الاجتماعيّ حيث لا يأنس الأكثر بالطرح التخصصيّ، ولا تلائم الأجواء في بعضها للبحث والنقاش.

* خلاصة أهداف القناة:
1. جمع النسخ الخطيّة للتراث الحديثيّ الإمامي في المكتبات العالميّة.
2. تسليط الضوء على بعض الأبحاث الحديثيّة والفوائد العلميّة التي يُظفر بها بين الحين والآخر.

رابط القناة:
https://www.tg-me.com/hadithshia

..
مسؤوليات أهل المنبر والوعظ

يمثّل «الإحساس بالمسؤوليّة تجاه النّاس» أحد أهمّ الهواجس التي يجب أن يهتمّ بها الخطيب الذي يعتلي المنبر لأجل التعليم والإفادة، فهؤلاء الناس قد منحوا ثقتهم وصرفوا وقتهم لأجل الجلوس تحت منبرٍ يحمل اسم أهل البيت عليهم السّلام، فمن اللازم على الخطيب أن يهتمّ بما يغذّي به أيتام آل محمّد الذين ائتمنوه على ثقافتهم ووقتهم.
قبل أيّام، نشر خطيبٌ عراقيٌّ -لديه اهتمامات عرفانيّة- روايةً نقلها عن الفيض الكاشانيّ رحمه الله في كتابه (الحقائق في محاسن الأخلاق)، وهذا هو لفظها: (وعن أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ لله تعالى شراباً لأوليائه، إذا شربوا سَكِروا، وإذا سكروا طربوا، وإذا طربوا طابوا، وإذا طابوا ذابوا، وإذا ذابوا أخلصوا، وإذا أخلصوا طلبوا، وإذا طلبوا وجدوا، وإذا وجدوا وصلوا، وإذا وصلوا اتّصلوا، وإذا اتّصلوا لا فرق بينهم وبين حبيبهم) (المصدر نفسه، ص178).
وقد لقي نقداً شديداً من بعض الإخوة، فهذه الرّواية لا مصدر لها سوى كتب الصوفيّة، وهي بعيدةٌ كلّ البعد عن لسان خطب وروايات أمير المؤمنين عليه السّلام، بل طافحةٌ باصطلاحات الصوفيّة من قبيل: السُّكْر، الطرب، الوَجْد، الوصل، وغيرها. وبذلك يُعلم أنّ الرواية تالفةٌ سنداً ومتناً، بل لا أصل لها.
وهنا ينبغي إضافة بعض النقاط المهمّة فيما يتصل بهذا الموضوع:

أولاً: لزوم تحصيل الدّراية.
بالنسبة لي، لا ألوم هذا الخطيب - وإن كان يتحمّل مقداراً من المسؤوليّة- بقدر ما ألوم الجهات المعنيّة التي لم تعطِ طلبة العلوم الدينيّة فرصةً كافيةً للتعمّق في دراسة الحديث روايةً ودرايةً، فترى خطيباً يمارس الخطابة منذ سنوات طويلة في حين أنّه يفتقر إلى أدنى أبجديّات التمييز بين الكتب المعتبرة والكتب المُشكلة والمشكوكة، وبين الروايات اللائقة بمنهج أهل البيت عليهم السلام لفظاً ومعنى، وبين الروايات التي لا تتلاءم مع أسلوب أهل البيت عليهم السلام في البيان فضلاً عن المعانيّ.
ولذلك؛ فإنّ تحمّل المسؤوليّة تجاه مرتادي المجالس يقضي بالسعي الجادّ لتحصيل مقدار من الدّراية، وأن لا تكون اللامبالاة حاكمةً على أسلوب التبليغ، بحيث تكون أيّ روايةٍ في أيّ كتابٍ كفيلة بالنشر أو القراءة على المنبر. فالهدف الأساسيّ للمنبر هو تبليغ مذهب أهل البيت وكلماتهم، لا ما يُنسب إليهم من ترهات مكذوبة اخترعها المتصوّفة وأمثالهم.

ثانياً: ضرورة تغيير المنهج.
وأعني بذلك بالخصوص المتصدّين لجلسات تعليم السير والسلوك والأخلاق، فإنّه يُلحَظ منهم -وهذا لمسته عن قرب- التساهل في الرواية، بحيث ينقلون كل ما اتّفق وجوده في كتب العرفاء والمتصوّفة، بل الأمر أكبر من ذلك، فمن المؤسف أنّ المبلّغ إذا استحسن طريقة القوم وأراد أن يحذو حذوهم في تعليم الأخلاق والسلوك فإنّه يطبّق طريقتهم ويستنسخها من دون أي محاولة للتغيير، فهذا الشيخ الذي انتقدوه - وكذلك غيره - لما رأى أُنس الجماعة ببعض الأحاديث الضعيفة واعتنائهم بها شرحاً وتدريساً، قام باستنساخ تجربتهم من دون أيّ دراية، فهل من القدر المقدور أنِّي إذا أعجبت بالمنهج العرفاني وأردت عقد جلسة أخلاقيّة أن أقوم بشرح حديث الحقيقة، أو أقوم بتدريس حديث عنوان البصريّ، وهما من أشدّ الأحاديث ضعفاً، وأقربها إلى الوضع؟ في حين أنّ صحيفة الزّهد لسيّد الساجدين عليه السلام مرويّة بأصحّ الأسانيد وأقواها في كتاب الكافي ولا تكاد تجد لها ذكراً ولا شرحاً عند أكثرهم إن لم يكن كلّهم، وكثيرٌ من الخطب والأدعية الواردة بالأسانيد القويّة أو مما احتفّ بالقرائن المورثة للاطمئنان بالصدور تجده مهمَلاً متروكاً مغيَّباً لصالح أنّ المبلّغ والخطيب لا يبادر إلى إضافة لمسات درائيّة على المنهج والأسلوب، بل يكتفي بتقليد فلان وفلان من المنتسبين لفئة أهل العرفان، فذاك اعتنى وشرح حديث عنوان البصري، وأنا لا بد أن أحذو حذوه!
بكل صدق؛ نحن بحاجة إلى من يسقي النّاس من الرحيق الخالص ولا يخوض بهم في المشكوكات التي يُستراب في انتسابها إلى أهل البيت عليهم السلام، ونحن بحاجة إلى إحياء النصوص القديمة الموروثة عن أصحاب الأئمة الذين صنّفوا الكتب المعتبرة التي تمثّل هوية التشيع الأولى قبل أن تلحقه شوائب التصوّف في القرن السابع فصاعداً.
ثالثاً: فيما يتعلّق بأحاديث الفيض الكاشاني.
لا شكّ ولا ريب في أنّ الفيض الكاشانيّ (رحمه الله) من العلماء الثقات الأجلّاء، وله خدمات جليلة لحديث أهل البيت (عليهم السّلام) كما هو ظاهرٌ من عمله العظيم في كتاب (الوافي)؛ إلّا أنّ من مؤاخذات العلماء عليه أنّه ابتلي بمباشرة كتب الصوفيّة والاستئناس بمطالبهم، ولذلك ابتلي بنقل بعض الأخبار عنهم،
والصوفيّة من أكذب البريّة، فإنّهم يجعلون الأحاديث التي توافق مطالبهم بألفاظٍ تتناسق مع لغتهم وأسلوبهم في البيان، ليكونوا أكثر أنساً بها، ولتكون دليلاً على صحّة مطالبهم، والعجيب الغريب في ذلك أنّك لا تظفر بمثل هذه الأحاديث إلا عندهم، فلا تجد مثل هذه الأحاديث الغريبة المليئة بمصطلحاتهم عند أهل الحديث من العامّة أو الزيديّة أو عند قدماء الإماميّة الذين نقلوا أصول أصحاب الأئمة وغيرهم ممن اعتنى بالرواية حقاً، مضافاً إلى ظهور الفرق الشاسع بين اللحنين، أعني لحن رواياتهم الغريبة وروايات ثقات المحدّثين من أصحابنا، ولذلك ينبغي التمهّل والتحذّر عند النقل من كتب العلماء الذين اختلطوا بالصوفية ونقلوا عنهم، وكتاب الفيض الكاشاني المشار إليه آنفاً من النماذج السيّئة التي نقلت لنا ما لا أصل له من الأكاذيب الواضحة، فبالإضافة إلى الحديث المتقدّم ذكره، أذكر ثلاثة أحاديث أخرى تشهد ألفاظها بوضعها وكذبها وسخافتها وعدم ملاءمتها لخطب أمير المؤمنين عليه السلام ورواياته المدوّنة في كتب المحدّثين الثقات:
[1] جاء في كتاب (الحقائق في محاسن الأخلاق، ص363): (وعن كميل بن زياد، قال: سألت مولانا علياً أمير المؤمنين عليه السلام فقلت: أريد أن تعرّفني نفسي، فقال: يا كميل، وأيّ الأنفس تريد أن أعرّفك؟ قلت: يا مولاي، هل هي إلا نفس واحدة؟ قال: يا كميل، إنّما هي أربعة: النامية النباتية، والحسيّة الحيوانية ، والناطقة القدسيّة، والكليّة الإلهية، ولكل واحدة من هذه خمس قوى وخاصيتان، فالنامية النباتية لها خمس قوى: ماسكة، وجاذبة، وهاضمة، ودافعة، ومربية، ولها خاصيتان: الزيادة والنقصان، وانبعاثها من الكبد. والحسية الحيوانية لها خمس قوى: سمع وبصر وشم وذوق ولمس، ولها خاصيتان: الشّهوة والغضب، وانبعاثها من القلب. والناطقة القدسية لها خمس قوى: فكر وذكر وعلم وحلم ونباهة، وليس لها انبعاث، وهي أشبه الأشياء بالنفوس الملكيّة، ولها خاصيتان: النزاهة والحكمة. والكلية الإلهية لها خمس قوى: بهاء في فناء، ونعيم في شقاء، وعز في ذل، وفقر في غناء، وصبر في بلاء، ولها خاصيتان: الرضا والتسليم، وهذه التي مبدؤها من الله وإليه تعود، وقال الله تعالى "ونفخت فيه من روحي" وقال تعالى: "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية"، والعقل في وسط الكل).
وقد علّق العلامة المجلسيّ عليها بقوله: (أقول: هذه الاصطلاحات لم تكد توجد في الأخبار المعتبرة المتداولة، وهي شبيهة بأضغاث أحلام الصوفية)، انظر: بحار الأنوار، ج58، ص85.
[2] جاء في كتاب (الحقائق في محاسن الأخلاق، ص364): (روي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام سُئل عن العالَم العُلويّ، فقال: صورٌ عاريةٌ عن المواد، عاليةٌ من القوّة والاستعداد، تجلّى لها فأشرقت، وطالعها فتلألأت، وألقى في هويّتها مثاله، فأظهر عنها أفعاله، وخلق الإنسان ذا نفسٍ ناطقةٍ، إن زكّاها بالعلم والعمل فقد شابهت جواهر أوائل عِللها، وإذا اعتدل مزاجها وفارقت الأضداد فقد شارك بها السّبع الشداد).
[3] جاء في كتاب (الحقائق في محاسن الأخلاق، ص 364-365): (ورُوي أنّ بعض اليهود اجتاز به -عليه السلام- وهو يتكلّم مع جماعةٍ فقال له: يا ابن أبي طالب، لو أنّك تعلّمت الفلسفة لكان يكون منك شأناً من الشأن، فقال عليه السلام: وما تعني بالفلسفة؟ أليس من اعتدل طِباعه صفا مزاجه، ومن صفا مزاجه قوي أثرُ النفس فيه، ومن قوي أثرُ النفس فيه سما إلى ما يرتقيه، ومن سما إلى ما يرتقيه فقد تخلّق بالأخلاق النفسانية، ومن تخلّق بالأخلاق النفسانيّة فقد صار موجوداً بما هو إنسان دون أن يكون موجوداً بما هو حيوان، فقد دخل في الباب الملكيّ الصوريّ، وليس له من هذه الغاية مغير. فقال اليهوديّ: الله أكبر! يا ابن أبي طالب، لقد نطقتَ بالفلسفة جميعاً في هذه الكلمات، رضي الله عنكَ).
وهذه الأحاديث واضحة الفساد والبطلان، ولا ينبغي لعارفٍ بأخبار الإماميّة أن يرتاب في بطلانها وكذبها، ومن يجادل في إمكان احتمال صدورها أجدر بأن يتّقى ويُكلّم كما يُكلّم العامة.
والحاصل مما تقدّم: أنّ النقل والحديث بلسان أهل البيت عليهم السلام مسؤوليّة عظمى تقع على عاتق المبلّغ، فليحسن الدراية وليأخذ علم آل محمّد من منابعه الصّافية دون أن يضطر إلى أن يكون كحاطب الليل لا يدري عمّن يأخذ، فلينظر الإنسان إلى طعامه، والحمد لله ربّ العالمين.
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
الشيخ لطف الله الصافي الگلپايگاني (رحمه الله) متحدّثاً عن الفريضة الغائبة: الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.
نقد تدريس حديث «عنوان البصريّ»

في منشورٍ سابقٍ حول أداء بعض خطباء المنبر انتقدت اهتمام بعض الوعّاظ المتأثرين بالمشرب العِرفانيّ بجملةٍ من الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة وإهمال ما هو واردٌ في الكتب المعتبرة الموثوقة وبعضها واردٌ من طرق صحيحة كما هو الحال بالنسبة لصحيفة الزهد لسيّد الساجدين (عليه السّلام)، وغيرها من النصوص الموثوقة الواردة في الكتب المعتبرة التي تمثّل هويّة التراث الشيعيّ. وكان لبّ السؤال: ألا يعدّ التركيز على النصوص الواردة في كتب متأخرة ناقلة عن المتصوّفة والعامّة وإهمال النصوص القديمة الموثوقة المروية في الكتب المعتبرة اختلالاً في ترتيب الأولويات ومنهج التبليغ الدينيّ لمذهب أهل البيت (عليهم السّلام)؟!

وأما بالنسبة لحديث عنوان البصري الذي ذكرته مثالاً فهو -على أحسن تقدير- في غاية الضّعف والوَهْن إنْ لم نقل بأنّه من موضوعات الصوفيّة.
وهذا الحديث من الأحاديث التي نالت اهتماماً كبيراً بالشّرح والتداول في الوقت الحاضر ولا سيّما في الأوساط المعتنية بالمشرب العرفانيّ، وأقدم مصدرٍ لهذا الحديث هو كتاب «مشكاة الأنوار في غرر الأخبار» للشيخ عليّ بن الحسن الطبرسيّ، وهذا لفظ روايته: (عن عنوان البصريّ - وكان شيخاً كبيراً قد أتى عليه أربع وتسعون سنة- قال: كنتُ أختلف إلى مالك بن أنس سنين، فلمّا حضر جعفر الصادق عليه السلام المدينة اختلفتُ إليه وأحببتُ أنْ آخذَ عنه كما أخذت من مالك، فقال لي يوماً: إنِّي رجلٌ مطلوبٌ، ومع ذلك لي أوراد في كل ساعةٍ من آناء الليل والنهار فلا تشغلني عن وِرْدي، فخُذْ عن مالك واختلف إليه كما كنت تختلف إليه. فاغتممتُ من ذلك وخرجتُ من عنده، وقلت في نفسي: لو تفرَّس فِيَّ خيراً لما زجرني عن الاختلاف إليه والأخذ عنه. فدخلتُ مسجد الرسول -صلى الله عليه وآله- وسلَّمْتُ عليه، ثم رجعت من القبر إلى الرّوضة وصلَّيْتُ فيها ركعتين وقلتُ: أسألك يا الله يا الله أن تعطف عليّ قلب جعفر، وترزقني من علمه ما أهتدي به إلى صراطك المستقيم. ورجعتُ إلى داري مُغتمّاً حزيناً، ولم أختلف إلى مالك بن أنس لما أُشرب قلبي من حبِّ جعفر، فما خرجت من داري إلا إلى الصلاة المكتوبة حتى عيل صبري، فلمَّا ضاق صدري تنعَّلْتُ وترديتُ وقصدتُ جعفراً - وكان بعد ما صلَّيْتُ العصر- فلمَّا حضرت باب داره استأذنتُ عليه، فخرج خادم له فقال: ما حاجتك؟ فقلت: السَّلام على الشَّريف. فقال: هو قائمٌ في مصلّاه. فجلستُ بحِذاء بابه، فما لبثتُ إلّا يسيراً إذ خرج خادم له قال: ادخل على بركة الله. فدخلتُ وسلَّمْتُ عليه فردَّ عليَّ السَّلام وقال: اجلس غفر الله لك. فجلستُ فأطرق مليّاً ثمّ رفع رأسه، وقال: أبو من؟ قلت: أبو عبد الله. قال: ثبَّتَ اللهُ كنيتك ووفَّقكَ لمرضاته يا أبا عبد الله، ما مسألتك؟ قلت في نفسي: لو لم يكن لي من زيارته والتسليم عليه غير هذا الدعاء لكان كثيراً. ثم أطرق مليّاً ثم رفع رأسه فقال: يا أبا عبد الله، ما حاجتك؟ قلت: سألتُ الله أن يعطف قلبك عليَّ ويرزقني من علمك، وأرجو أن الله تعالى أجابني في الشَّريف ما سألته. فقال: يا أبا عبد الله، ليس العلم بالتعلّم، إنّما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه، فإن أردتَ العلم فاطلب أوّلاً من نفسك حقيقة العبودية، واطلب العلم باستعماله واستفهم الله يفهمك. قلت: يا شريف. فقال: قل يا أبا عبد الله. قلت: يا أبا عبد الله، ما حقيقة العبودية؟ قال: ثلاثة أشياء: أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله إليه مُلكاً؛ لأن العبيد لا يكون لهم ملك، يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم اللهُ تعالى به، ولا يدبِّر العبد لنفسه تدبيراً، وجملة اشتغاله فيما أمره الله تعالى به ونهاه عنه، فإذا لم يرَ العبدُ لنفسه فيما خوَّله اللهُ تعالى مُلكاً هان عليه الإنفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق فيه، وإذا فوَّض العبدُ تدبير نفسه على مُدَبِّره هَانَ عليه مصائب الدنيا، وإذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالى ونهاه لا يتفرّغ منها إلى المراء والمباهاة مع الناس، فإذا أكرم الله العبد بهذه الثلاث هان عليه الدنيا وإبليس والخلق، ولا يطلب الدنيا تكاثراً وتفاخراً، ولا يطلب عند الناس عِزّاً وعُلوّاً، ولا يدع أيامه باطلاً، فهذا أوّل درجة المُتّقين، قال الله تعالى: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين).
قلت: يا أبا عبد الله أوصني. فقال: أوصيك بتسعة أشياء، فإنّها وصيتي لمريدي الطريق إلى الله عزَّ وجلَّ، واللهَ أسألُ أن يوفِّقك لاستعماله: ثلاثة منها في رياضة النفس، وثلاثة منها في الحِلْم، وثلاثة منها في العلم، فاحفظها وإيّاك والتّهاون بها. قال عنوان: ففرَّغتُ قلبي له.
فقال: أما اللّواتي في الرياضة: فإيّاك أن تأكل ما لا تشتهيه؛ فإنّه يورث الحماقة والبُله، ولا تأكل إلا عند الجوع، وإذا أكلت فكُلْ حلالاً وسَمِّ الله، واذكر حديث الرسول (صلى الله عليه وآله): "ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرّاً من بطنه، فإن كان لا بد فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه"، أمَّا اللواتي في الحِلْم: فمن قال لك: إن قلت واحدة سمعت عشراً، فقل: إن قلتَ عشراً لم تسمع واحدة. ومن شتمك فقل: إنْ كنتَ صادقاً فيما تقول فاللهَ أسألُ أن يغفرها لي، وإن كنتَ كاذباً فيما تقول فاللهَ أسألُ أن يغفرها لك، ومن وعدك بالجفاء فعده بالنّصيحة والّدعاء. وأما اللّواتي في العلم: فاسأل العلماء ما جهلت، وإيّاك أن تسألهم تعنُّتاً وتجربةً، وإيَّاك أن تعمل برأيك شيئاً، وخُذْ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلاً، واهرب من الفتيا هربك من الأسد ولا تجعل رقبتك للناس جسراً، قم عني يا أبا عبد الله فقد نصحتُ لك، ولا تفسد عليَّ وِرْدي؛ فإنِّي امرؤ ضنينٌ بنفسي، والسلام)(1).
ونقله العلّامة المجلسيّ في بحاره عن خطِّ الشيخ البهائيّ، عن خطّ الشهيد الأوّل، عن خطّ الشيخ أحمد الفراهانيّ مرسلاً عن عنوان البصريّ(2).

هذا فيما يتعلّق برواية الحديث، وأمّا بالنسبة إلى اعتباره، فالظّاهر أنّه يصعب تحصيل الوثوق بصدوره عن الإمام الصّادق (عليه السّلام)، بل بعض القرائن تورث بمجموعها الاطمئنان بعدم صدوره، وذلك لعدة جهات:
الجهة الأولى: أنّ الحديث مرسل، ولا نعرف له أصلاً معتبراً؛ حتّى أنّ الشيخ الطبرسيّ لم يحدّد الكتاب الذي نقل منه هذه القصّة.
الجهة الثانية: جهالة الشيخ أحمد الفراهانيّ الذي نقل الشهيد الأوّل عن خطّه، وقد بحثتُ عن ترجمته عند الخاصّة والعامّة فلم أعرفه، وجهالة الوسائط بين الفراهاني وعنوان البصريّ.
الجهة الثالثة: إهمال شخصيّة عنوان البصريّ، ولم نقف على ذكره في كتب الرّجال والتراجم والتاريخ، وقد ادُّعي في صدر الحديث أنّ عمره 94 عاماً، وأنّه كان يختلف إلى الفقيه العاميّ مالك بن أنس لسنين، ومع ذلك فهو غير مذكورٍ في أيّ من كتب الحديث والرجال والفقه.
الجهة الرّابعة: وجود عباراتٍ غير منسجمة مع لغة القرن الثاني الهجريّ، ومنها:
[1] وصف الإمام الصّادق (عليه السّلام) بـ«الشّريف» في أكثر من موضع، منها قوله: (فخرج خادم له فقال: ما حاجتك؟ فقلت: السّلام على الشريف)، وقوله في موضع آخر مخاطباً الصّادق (عليه السّلام): (ثم قال: ما مسألتك؟ فقلت: سألتُ الله أن يعطف قلبك عليَّ ويرزقني من علمك، وأرجو أن الله تعالى أجابني في الشّريف ما سألته)، وقوله في موضع آخر: (قلت: يا شريف. فقال: قل يا أبا عبد الله. قلت: يا أبا عبد الله، ما حقيقة العبودية؟).
والإشكال في ذلك: أنّ إطلاق لقب «الشريف» على الهاشميّ لم يُعرَف إلّا في أواسط القرن الثالث الهجريّ تقريباً، ولم يُعهد استعماله في القرنين الأوّلين. نعم؛ كان مستعملاً على نحو الوصف لا اللقب، حيث كان يُنعت به أجلّاء القبائل العربية فيقال في الوصف: (كان شريفاً في قومه)، ولم يكن لقباً خاصّاً بفئة معيّنة في صدر الإسلام إلى أواسط القرن الثالث الهجريّ.
[2] ما نُسب إلى الإمام الصّادق (عليه السلام) مخاطباً «عنوان البصريّ»: (أوصيك بتسعة أشياء فإنها وصيّتي لمريدي الطريق إلى الله تعالى)، وهذا التعبير أعني «مريدي الطريق» تعبير صوفيٌّ درج عليه متأخِّرو المتصوّفة بكثرة، ولا يُعرَفُ له أثرٌ في أخبار الشيّعة وكتبهم المعتبرة.
وقد نقل السيّد محسن الأمين عن السيّد محمد بن محمّد بن الحسن الحسينيّ العامليّ العيناثيّ أنّه قال في كتابه (الاثنا عشريّة في المواعظ العدديّة) أنّ هذا الحديث من روايات أهل السنّة(3)، وهو كذلك على الظّاهر، حتى أنّ الحديث المنسوب إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) في طيّات حديث عنوان البصريّ: (ما ملأ آدميّ وعاءً شرّاً من بطنه) من الأحاديث المرويّة في العديد من المصادر المتقدّمة عند أهل الحديث، وليس له ذِكرٌ في كتب الإمامية المعتبرة.
والحاصل مما تقدّم: أنّ الحديث يعاني من علل تؤيّد استبعاد صدوره، والمظنون بقوّة أنّه من أحاديث المتصوّفة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، ص562-565، رقم الحديث 1913.
(2) بحار الأنوار، ج1، ص224-226.
(3) أعيان الشيعة، ج1، ص675.
📝رأي السيّد الخوئيّ في دعاء «اللهم إنّي أسألك بمعاني جميع ما يدعوك به ولاة أمرك»

قال في ترجمة أحد رواته: (روى توقيعاً عن أبي جعفر محمد بن عثمان بن سعيد، وروى عنه ابن عيّاش، ذكره الشيخ في مصباح المتهجد في أعمال شهر رجب، أقول: هو مجهول الحال، وابنُ عياش ضعيف، وتقدّم بعنوان أحمد بن محمد بن عبيد الله، ومضمون التوقيع الذي أوله: «اللهمّ إنّي أسألك بمعاني جميع ما يدعوك به ولاة أمرك»، غريب عن أذهان المُتشرّعة وغير قابل للإذعان بصدوره عن المعصوم -عليه السّلام-).

📚معجم رجال الحديث، ج8، ص87.
تاريخ الأديان والمذاهب حافلٌ بالتّجارب المليئة بالعِظات والعِبَر، ولذلك هو جدير بالمطالعة والتأمّل. من الأمور الملفتة للنظر في هذا المجال: مساهمة الأساليب المبتكرة في قراءة النصّ الدينيّ في تفريخ المذاهب والتيّارات الدينيّة باستمرار.
إذا لاحظنا النصوص الدينيّة في بدايتها فإنّها تكون محافظةً على طبيعتها وبساطتها بدون تكلّف. وفي مراحل لاحقة؛ يحلو لبعض الأشخاص إضافة لمسات بشريّة على حقيقة النصّ الدينيّ فتبدأ مرحلة الإضافات وتبقى مستمرةً حتى تصل إلى حدّ التورّم، وفي المرحلة التي لا يعود الجزء المضاف فيها قادراً على الانسجام مع سائر الأجزاء الأخرى يستقلّ بنفسه ويصبح مذهباً -موازياً للأصل في تركيبته-.
بالنسبة للمذهب الشيعيّ، كان هناك تجربتان، قديمة ومتأخرة، التجربة الأولى كانت للغلاة، الذين كانوا يعملون على تفسير أحاديث الأئمّة - ولو كانت في باب الطّهارة - بحملها على معانٍ أخرى، إلى أن تشكّلَ منهج يُفقد النصوص الدينيّة طبيعتها الأصليّة وتغيّر هويّة الدين بأكمله، ولذلك حارب أهل البيت عليهم السلام هذا المنهج بشدّة، فانفصل أولئك عن مسار التشيّع، وأصبحوا حالةً شاذّة تمتهن تحريف روايات أهل البيت عليهم السلام وتفسيرها بشكل آخر مغاير للعُرف وطبيعة اللغة ويتجاهل ظروف صدور النصّ.
وأمّا التجربة المتأخّرة، فهي تجربة مدرسة الشيخ أحمد زين الدين الأحسائيّ، فمن يلاحظ طبيعة النصوص الدينيّة وفق أفقها اللّغويّ والعرفيّ وبين المعاني التي حملوها على هذه الرّوايات يجد بوناً شاسعاً، فالمنهج الذي يُدمِنُ طريقةً مخالفة للنهج العرفيّ في تفسير النصوص لديه قابليّة لأمرين:
1. اختراع معانٍ جديدة يتم إسقاطها على الأحاديث، وبذلك تُحرف عن مسارها.
2. إخراج كافّة النصوص الدينيّة من سياقاتها العرفيّة لتنصبّ في أفقٍ واحدٍ يدمن عليه أتباع هذه المدرسة.
ومن لطائف الأمثلة للأمر الثّاني، أنّي قرأتُ فيما سبق رسالةً لـ"محمد كريم خان بن إبراهيم الكرمانيّ" حول حديث "نزل القرآن على سبعة أحرفٍ"، والحديث -كما هو واضح- في حقل علوم القرآن، ورسالة ذلك الرّجل من أوّلها إلى آخرها لا علاقة لها بعلوم القرآن، وإنّما بقي مُحلّقاً في فضائه الذي يُحبّ: ملكوت، جبروت، العالم العلوي، ملائكة، أسرار، فيض، قوس صعود، تجلّي، ..إلخ!
وهذه الحالة لا زالت موجودةً في أوساطنا العلميّة، وقد بدأت بمحاكاة أسلوب تلك الجماعات، فنجدُ من يأخذ (10%) من الروايات، ثم يؤلّف بقيّة السيناريو (90%) من كيسه، كذا صار للكعبة، وكذا فعل النبيّ، وكذا فعل الإمام المهديّ، ..إلخ! فمن قال لك ذلك؟ وهل كنت مع الإمام المهديّ مثلاً؟!
وعلى أيّ حال، هذه ثمرة ذلك المنهج: يدّعي أموراً لا تنطق بها ألفاظ الروايات، ولا يستطيع استخراجها أمهر العارفين باللغة العربيّة، ثم يدّعي أنّ ذلك مدلول أحاديث أهل البيت عليهم السّلام!

نسأل الله أن لا يجعلنا من المخترعين في دينه.
صحيفة الزّهد المرويّة بإسنادٍ صحيحٍ عن سيّد السّاجدين وزين العابدين عليّ بن الحسين -صلوات الله عليه- هي درسُ أخلاقٍ من عينٍ صافيةٍ، فرحم الله من اعتبر واتّعظ بمواعظهم وكلامهم، وذبّ عن نفسه فضول الكلام، وأخذ بصفوة القول من الهداة المهديّين -صلوات الله عليهم أجمعين-.
عن أبي الحسن موسى بن جعفرٍ عليهما السلام أنَّهُ قال لبعض ولدِه: "يا بُنَيَّ، إيَّاك أنْ يراكَ اللهُ عزَّ وجلَّ في معصيةٍ نَهَاكَ عنها، وإيَّاكَ أنْ يَفْقِدَكَ اللهُ تعالى عندَ طاعةٍ أَمَرَكَ بِها، وعليكَ بالجِدِّ، ولا تُخْرِجَنَّ نَفْسَكَ من التَّقْصِيرِ في عبادةِ اللهِ؛ فَإِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لا يُعبَدُ حَقَّ عبادتِه، وإيَّاكَ والمِزَاحَ فَإِنَّه يَذْهَبُ بِنُورِ إيمانِكَ وَيَسْتَخِفُّ بِمُرُوءَتِكَ، وإيَّاكَ والكَسَلَ والضَّجَرَ فإنَّهُما يَمْنَعانِ حَظَّكَ من الدُّنيا والآخرة".

📚 من لا يحضره الفقيه للصدوق ج٤ ص٤٠٨-٤٠٩، باب النوادر، رقم الحديث ١٢٤.
2024/11/20 00:47:37
Back to Top
HTML Embed Code: