Telegram Web Link
رواية " فتيان الزنك " لسفيتلانا أليكسيفيتش

ليلى عبدالله

اعترافات فاضحة عن الحكومات التي تبعث أبناءها للحرب. لحروب مجهولة، فتية في الثامنة عشر والتاسعة عشر يُحملون كجثث في صناديق مغمورة بالتراب، ليكونوا أثقل وزنا أثناء تشييعهم، فالجسد صار شظايا وكل عضو حيّ فيه صار فتاتًا!
لذا الجسد الذي يسقط في تابوت يبقى سرًّا من أسرار السلطة، حتى الأمهات لا حق لهن في فض هذا السرّ . ومن يعود يردم كل مشاهدات الحرب تلك التي تخصه أو تخص غيره في بئر قلبه، كأنه عاد من نزهة لا من مكان شديد الوحشية والبشاعة!

وآخرون يعودون كمعاقين ليست أذرعهم، سيقانهم، أعضاء الذكورة مبتورة فحسب بل حتى أحلامهم، موت ناقص يكملون طقوسه في أرض الوطن بالانتحار، أما أولئك الأصحاء الذين سلَموا من الخدوش فهم أكثر المنهزمين، هؤلاء تكون الحرب قد سلبت أرواحهم تماما، يبلغ الجندي مرحلة لا يتحمل فيها ثقل وجوده، يغدو فيها غريبًا عن نفسه، تائهًا عن كل شيء. ضميره صفر بعد أن اعتاد مشاهد القتل اليومي، بعد أن رأى كيف استحال الدم ماء على يديه دون أن تفتت تلك المشاهد الحادة قلبه.

هذه الرواية هي حرب الأمهات أيضا، في إحدى الأمثال القديمة كان يقال : " الأم التي تبعث أبناءها للحرب هي حربها أيضا ". وسفيتلانا كأنها ارتكزت على هذا المثل في توثيق شهادات الأمومة المنكوبة.

رواية ثقيلة.
ثقيلة بقدر الحقائق التي تزنها💔
كان يقضي حاجته في ركن خشبي وراء السور. كلّما عادت به الذاكرة إلى الطفولة وجد نفسه عائداً من ذلك السور إلى باب المطبخ الخلفي، حيث توصيه أمه أن يغسل يديه استعداداً لتناول الغداء. هناك لحظة مثالية تسطع فيها الألوان على يومه، تلك التي يهب فيها النسيم ناعماً على وجهه المبتل، ويسابق بخار الكبسة رغوة الصابون آخذاً بيده إلى داخل البيت. تحنو الشمس بشكل استثنائي في هذا الوقت من اليوم. الديوك في القرية تغفو، تهبط ريوش الحمام على أضلع النخيل، وتدير القطط آذانها ناحية الأرض. يتربع هو وعائلته في وسط الدار بأطباق تزهو بصدور الدجاج، وكؤوس تفيض باللبن.

دائما بين البيت وقضاء الحاجة سور…

يكاد لا يتذكر شيئاً عن ماضيه إلا عبورًا بذلك السور. صباحات المدرسة الموحشة. أحلام منتصف الليل. أيام الامتحانات. طلعات الشباب. الخوف من أبيه. الاختباء عن أخيه. الاختلاء بكتاب لا يجد مكاناً آخر لقراءته وكلما توسعت العائلة، والبيوت من حولها، زادت أركان قضاء الحاجة وراء السور.

حتى كان عام ظهرت فيه نبتة في مكان قضاء حاجته. كانت خضراء، بأوراق ناصعة. سأل أمه عنها، فنهرته. "ما يحدث وراء السور، نتركه وراء السور." لكن النبتة التي كانت صغيرة توسعت إلى شجيرات، والمكان الذي يقضي فيه الحاجة صار يضيق به. عندما بدأت الشجيرات في حمل وإسقاط الثمر، اشتكى إلى والده. بدوره فاتح والده الجيران فتبين أنهم يشتكون من نفس الضائقة ولا يعرفون لها حلا. شجر أثمر حيث ينبغي أن يقضي المرء حاجته، ماذا يفعلون به؟ فلا هم يقدرون على اجتثاث جذوره ولا هم يستطيبون ثمره.

نصب رجال الحارة سوراً بديلاً على الناحية الأخرى من الحارة، وبنوا أركاناً جديدة لهم ولأبنائهم يقضون حاجاتهم خلفها. تغيير الوجهة أربكه بعض الشيء. صار حين يترك بيته يذهب إلى الشرق بدلاً من الغرب، ويمشي ضعف المسافة التي كان يمشيها من قبل. لكنه اعتاد ذلك سريعاً. اعتاد كذلك أن يذهب إلى السور ويعود منه ثابت الخطى، رافعا رأسه. يسلم على جاره إذا صادفه متجهاً إلى السور في الوقت نفسه، ويتمنى له السلامة قبل أن يفترقا. يصب الماء على رأسه إذا اشتدت الشمس، ويتلفع بعباءة الصوف إذا حل الشتاء. وعندما تستجد مشكلة الشجر فيثمر حيث يقضون الحاجة، ينصب مع جيرانه سوراً بديلاً.

أما الآن فهو يقضي حاجته في بيته. جيرانه، هم أيضاً يقضون حاجتهم في بيوتهم. مدينة كاملة من بيوت تقضي حاجتها داخل الأسوار. "ما يحدث داخل السور، يبقى داخل السور." يقول لأبنائه. لكن المواسير التي تجري تحت الأرض تفيض عن طاقتها أحياناً فتلفظ حاجاتهم إلى الشوارع والطرقات. وأحياناً، تهاجر إلى أماكن بعيدة جداً، وتنبت بهدوء شديد على السطح.


*قضاء الحاجة | عائشة كاي

مجلة أوكسجين
في معنى إعادة القراءة

ليلى عبدالله

في وقت تكاثر قراءات " الكم" وتباهي معظم القراء بمائة كتاب في الشهر والتلاهث العجيب للانتهاء من كتاب لبدء بآخر كأننا في ماراثون!
هذه المقالة تمجّد أولئك الساعين إلى " الكيف" بالأخص إلى " إعادة قراءة" الكتب نفسها مرارًا وتكرارًا وبمتعة أشدّ وأنضج في كل مرة.

يقول الناقد الفرنسي " رولان بارت " متحدثًا عن إعادة القراءة : " كلما وجد تكرار، وجد اختلاف". وهو الذي رأى أن عادة إعادة قراءة الكتب نفسها لم تعدّ ترفًا ولا نوعًا من الاستهلاك ولكنها الأمر الوحيد الذي ينقذ النص من التكرار، كما أنه ينأى المرء عن إعادة قراءة القصة نفسها في كل مكان.

وفي خضم هذا الموضوع، كثير من الكتاب حكوا تجاربهم عن إعادة قراءة الكتب نفسها مرتين أو أكثر، فهناك من يعود ليفتح صفحات كتاب بعد مرور عشرين عاما، لابد أن إعادة قراءة قصة نفسها بعد هذه المدة الطويلة ستضيف له كثيرا، وسيعايش من خلال هذه العودة انفعالات متباينة، وهذا الشعور وصفته أستاذة الأدب الفرنسي " لورا مورا" وهي التي حكت تجربتها حول إعادة القراءة في كتابها " إعادة القراءة" حيث تصف شعورها حينما أعادت مشاهدة مسرحية بعد خمسة وعشرون عاما من مشاهدتها لها، وكانت المفاجأة أنها ذهلت لكمّ الأشياء الجديدة التي كونتها عند المشاهدة الأولى.

كما كانت الناقدة والروائية الأمريكية " سوزان سونتاغ" من أشد المؤيدين والممارسين لعادة إعادة القراءة الأعمال نفسها مرات ومرات، إذ كانت تقضي ساعات طويلة في القراءة ما يقرب إلى عشر ساعات في اليوم وهي تخوض بمتعة خالصة في دهاليز القراءة. ومما كتبته في مذكراتها وهي تصف قراءتها لمذكرات " أندريه جيد" :" أنهيت قراءة هذا الكتاب في الثانية والنصف من ليلة ذات اليوم الذي ابتعته فيه، كان علي قراءته بسرعة أقل مما فعلت، كما يجب أن أعيد قراءته غير مرة. لقد بلغت و(جيد) حدًّا مثاليا من التواصل الفكري، حتى أنني شعرت بآلام المخاض الذي خبره أثناء ولادة كل بُنية من بنات أفكاره.". صارت إعادة القراءة دأبها في الحياة منذ أن وجدت نفسها يرقة في عالم القراءة الواسع، حتى أنها أعدتها مهمة من مهمات الحياة لها ككاتبة وناقدة وامرأة شغوفة بالقراءة.

وتحدث الكاتب والروائي الإيطالي " إيتالو كالفينو " عن متعة إعادة قراءة الأعمال الكلاسيكية، وأسهب في الحديث عنها في مقالة كان قد كتبها وقام بترجمتها المترجم المصري " أحمد الشافعي " حيث يبدأ مقالته بطرح أسئلة عن جدوى إعادة قراءة أعمال كلاسيكية، فهو يرى أن معظم القراء يعلنون أنهم يعيدون قراءة الأعمال الكلاسيكية ولا يبتعدون عن الاعتراف بأنهم يقرأونها؛ وذلك ليبددوا عن أنفسهم خجل قراءة عمل شهير ولم يطلعوا عليه سابقا أو في وقت مبكر من حياتهم.
كما يرى فاعلية إعادة قراءة الأعمال الكلاسيكية تحديدًا؛ كون المرء في شبابه نافذ الصبر وفاقد للتركيز ولا يملك النضج والخبرات لتناول الأعمال المهمة في مراحل ما قبل النضج، بينما في العودة يمكن الاستغراق فيها بعد مرور أعوام، ستشرع لقارئها آفاقا لم تخطر بباله من القراءة الأولى المتعثرة في زمن الفتوة، وفي هذا يقول :" الكلاسيكيات هي الكتب التي تصل إلينا حاملة آثار قراءات سابقة على قراءاتنا وجالبة في أعقابها آثار التي تركتها هي نفسها على الثقافة أو الثقافات التي عبرت بها".

لاشك أن إعادة القراءة هي إعادة انتاج النص، هناك كتب لا يمكن الاكتفاء بها من قراءة وحيدة، بل يعوزها عدة قراءات حتى يشعر القارئ أنه تشبع بأفكارها ووقف على أهم معانيها، ككتاب ألف ليلة وليلة على سبيل المثال، فهي من الكتب التاريخية، المنغمسة في حكايات مدهشة، المكثفة بالشخصيات والمزدحمة بالأحداث، وقليلون الذين تمكنوا حقا من استكمال قراءة كامل صفحاتها؛ لذا فإن إعادة قراءتها تعدّ ميزة عظيمة وعلى فرادة شخصية فاعلها!

لقد ظل الكاتب الفرنسي "غوستاف فلوبير" مأخوذًا برواية دونكيخوتة، وظل يغترف منها مرارًا وتكرارًا حتى نهاية حياته.
‏"جميعُ أيَّامي الماضية
تسعُ يدًا واحدةْ
وجميعُ انتصاراتي
أحملُهَا في حقيبةٍ مليئةٍ بالثُّقوب
وحينَ أمشي أربحُ
مكانًا وأخسرُ آخَر
الحضورُ والغيابُ
شيءٌ واحدٌ
جميعُ أيَّامي الماضية
تسعُ يدًا واحدةً
فارغةْ".

• أُوميرو آرِيْدْخِيْس/ ت. تحسين الخطيب
نبحثُ عن طيفِ أبٍ في إعلاناتِ المفقودين، عن أمٍّ تخلَّتْ عن منزلٍ جميلٍ بحديقةٍ خلفيَّة، حيثُ كان لنا أخوةٌ حفاةٌ يلعبونَ كرةَ القدم، ويتسلَّقونَ أسواراً عاليةً ليطلُّوا على البحر.

الأغاني بطيئةٌ بما يكفي لتطفُوَ في عيونِنا. هكذا، نحوِّلُ الأدغالَ المشتعِلةَ إلى غابة، نعيدُ للشاطئِ حدودَهُ المتآكلة، وللمدينةِ طعمَ ثوراتِ أسلافنا.

* خالد بن صالح / مرثية الأبطال الخارقين
في إحدى حلقات المسلسل الكوري القصير one day off. تتماهى البطلة مع مخيالها الشخصي في استدعاء مواصفات الصديق الذي توّده وفق الذكاء الاصطناعي مستقبلاً، لعل من أهمها أن يكون عاديًّا، تلك العادية المحببة، ومفعملاً بالبساطة والخفّة، داعمًا لها في أكثر الأوقات ضبابية في حياتها.

بينما مفهوم الصديق للكاتبة الشابة نجوى العتيبي في روايتها "رف اليوم" تبدو بعيدة كبعد النجوم في اللأفق المترامي عن تلك المواصفات التي تطلّعت لها بطلة المسلسل الكوري.
فالصديق النجمي كما نعتته الكاتبة ذي مواصفات عالية لا يرافق أي عميل، ولا يأتي دون تقديم طلب قد يمتد لشهور حتى يدمج في خط الإنتاج وفق قانون سلطوي محتكر . سرعان ما تتضح نيّات هذه السلطة مع انسابية السرد المشوّق.
ويبدو الصديق النجمي مبغضًا ومتلصصًا على أدق خصوصيات الشخصية المحكومة بالملاحقة طوال الرواية من " الناس الصغار" على طريقة الروائي هاروكي موراكامي في روايته 1Q84. تجسّ من خلالها مدى بؤس الإنسان الحديث.

صحيح إنها قريبة جدًا من أجواء 1934 لجورج أورويل ومحاكمات كافكا. غير أن ميزة هذه الرواية المذهلة تكمن في عوالمها المتقاطعة المتّصلة وفصولها شديدة الإيجاز، لدرجة تستشعر وكأنك تخوض بخفّة رغم ضغطها النفسي الهائل في قصة قصيرة طويلة، شخصيتها متوحدة على طريقة الروائي " ايتالو كالفينو" في مجموعته "ماركوفالدو" البطل المعدم الذي يجابه تحديات مهلكة عايشها قطاع كبير من الإيطاليين أعقاب الحرب العالمية الثانية.

وبالعاميّة المحضة: حبيت حيييييل راس نجوى العتيبي💜

تجربة روائية محمّلة برؤى مستقبلية مخيفة عن توهان الذات الإنسانية في زمن الذكاء الاصطناعي.

ليلى عبدالله
‏"لا أحد يبقى مُتاحًا إلى الأبد. الأشخاص أيضًا فُرَص".
‎فوبيا
——-

‎أشعر بقلق دائم
‎إزاء الأشياء
‎لذلك أوزع أعضائي
‎في المنزل
‎..مثلاً
‎أضع يديّ على
‎مقبض الباب
‎ألصق عينيّ على النافذة
‎أترك قدميّ
‎على العتبة خارجا
‎أمرر خيطا بأحد الثقوب
‎في قلبي
‎وأعلقه قرطا في أذني
‎ألفّ رأسي
‎ بقطعة قماش
‎وأضعه في كيس
‎أحمله بيدي أينما ذهبت
‎الآن نحن جميعا
‎ نترقب مجيئك
‎لنفرّ بعيدا عنك
‎أيها الحب

الشاعرة تهاني فجر
2024/10/01 07:22:03
Back to Top
HTML Embed Code: