Telegram Web Link
بيت الأقصر الكبير| فوزية أسعد
ت. منى قطان
" فرّ الجنرال يعقوب، الذي لم يستحق لقب قديس، أو أن يخلد بنحت تمثال له، الذي اعتبر خائنًا، مع جيوش بونابرت لتفادي انتقام الأتراك وأتباعهم. توفى في الباخرة الحربية التي كانت تقلّه. وتقول الأسطورة أيضا إن الفرنسيين من شدة ارتباطهم به لم يلقوا بجثمانه في البحر، احتفظوا به في حمام مملوء بالنبيذ، وعند وصولهم فرنسا أقاموا له جنازة مهيبة".

بيت الأقصر الكبير| فوزية أسعد
ت. منى قطان
دفاعًا عن الأدب الكلاسيكي العربي

ليلى عبدالله

المقالة مهداة للأستاذة عائشة سلطان Ayesha Sultan

لعل أول وصيّة يسمعها الكتّاب الشباب من قبل كتاب الجيل السابق هي أن يطالعوا الكتب الكلاسيكية، وكأن لا يمكن لهذه البذرة أن تصير شجرة وارفة ضاربة بجذورها في التربة إلا من خلال الولوج بها.

كثير من كتّاب الغرب عنوا بالأدب الكلاسيكي وحرّضوا على أهمية لا قراءتها فحسب بل بإعادة قراءتها، لاسيما حين يكون الكاتب في طور التكوين، يسبر ما كتبه الأوائل، الذين سبقوه وما طرحوه من أفكار ورؤى ورموز سيجد بعد اغترافه لعوالمهم الكتابية أسلوبه الخاص، تلك البصمة الشخصية التي ستميّزه عن غيره من الكتاب، فــ " لغة الكاتب شيء يَرِثه عن غيره، وأسلوبه أمر شخصيّ" كما ذهب المؤرخ الأدبي والناقد " رولان بارت "، بعد أن يكون قد تجاوز مراحل البدايات والتقليد، بل إنه سيسعى إلى إضفاء روح التجديد في أفكار من سبقوه؛ فحكاية " ليلى والذئب" التقليدية استنسخها الكتاب مئات المرات، لكن لكل منهم طابعه الخاص في رواية الحكاية من وجهة نظره، وفي كل مرة يطالعها القراء بروح جديدة، فالكتابة هي أيضا إعادة خلق الأفكار التقليدية وبثّ روح المعاصرة فيها.

تبحر الروائي الايطالي " إيتالو كالفينو " بكثافة في الآداب الكلاسيكية، ودعا إلى أهمية قراءتها وإعادة قراءتها في كتابه" لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟ " بترجمة " مي التلمساني" ويقول فيه: " فكل قراءة جديدة لعمل كلاسيكي هي اكتشاف مثلها مثل القراءة الأولى، وكل قراءة جديدة لعمل كلاسيكي هي في الحقيقة قراءة جديدة. إذن فالعمل الكلاسيكي كتاب لا يكف أبداً عن البوح بما يريد فالكتب الكلاسيكية هي كتب تحمل في داخلها عندما تصل إلينا، أثر القراءات التي سبقت قراءتنا وتستدعي الأثر الذي تركته في الثقافة أو الثقافات التي عبرتها".

لكن لماذا الآداب الكلاسيكية الغربية ظلت صامدة عبر الزمن بل كلما مضى بها الزمن أصبحت أكثر أهمية؟ ومن أين اكتسبت قوتها عبر الأجيال؟!

الكاتب والناقد " أرنولد بينيت" في كتابه" الذوق الأدبي كيف يتكوّن؟" ترجمة " دلال الرمضان" منشورات تكوين . الكتاب أشبه ما يكون بدليل إرشادي وتوجيهي عن كيفية قراءة الآداب الإنجليزية الكلاسيكية. يرى أن شهرة هذا النوع من الأدب صنعها وساهم فيها أقليّة مولعة بأعمال مجموعة من المؤلفين، فيقومون بدعمه بمثابرة واخلاص، حتى بعد وفاة هذا الكاتب؛ فإنهم لا يتركونه وحيدًا بل يقومون بإحيائه عن طريق أعماله الأدبية، حتى يصل لمكانة عالية ويكون اسمه متفشيًّا في معظم أورقة الأدب الرفيعة وأكثرها صدى" بفضل الأقلية يتم الحفاظ على استمرار شهرة هذا الكاتب ونقلها من جيل إلى آخر فهم يعملون بشكل دؤوب لاكتشاف المبدعين بحماسة وفضول أدبي لا يكل ولا يملّ للحد من فرص نسيان هذا المؤلف أو ذاك".

فبفضل هؤلاء يظل الكاتب حيًّا وتتداول مؤلفاته عبر الأجيال، ولعل الكاتب الانجليزي " شكسبير" هو أبرز مثال على امتداد شهرة كاتب ما عبر التاريخ، حيث يرى أرنولد أن القراء مع تكرار اسم شكسبير قد أصبحوا موقنين على عظمته كمبدع خالد، حتى أنهم لا يمكن أن يتساءلوا فيما تكمن أهميته أو حتى يتشكّكوا بابداعاته؛ طالما أنه ذا صيت واسع، ليعود بعدها هذا القارئ :" وهو مؤمن أن شكسبير كان مبدعًا والفضل يعود في ذلك إلى أولئك المولعين بأعماله والذين لم يخفوا إعجابهم بشكسبير بل أظهروه للجميع ليؤثر فيمن حولهم تأثيرًا بالغًا وهذا واقع"، بل أحيانا التشكك بإبداعه قد يشرع عليهم أبواب الجحيم، فمن ذا الذي يجسر أن يقدح النار على اسم سامق في عوالم الأدب القديم والرفيع في آن؟

لكن ماذا عن كلاسيكيات الأدب العربي؟

عادة الذين ينكبون على مراجعة الآداب العربية الكلاسيكية هم المتخصصون، الأكاديميون، النقاد المهتمون، وطلاب الجامعات أصحاب الدراسات والبحوث، وعدد ضئيل من القراء، القارئ الذي يريد أن يصبح كاتبًا ويريد أن يلّم بماضي من سبقوه. فهل يكفي أن نكون ملمّين فحسب؟
بل لماذا تبدو صلتنا بالأدب العربي الكلاسيكي مترهلة بينما الآثار الغربية الكلاسيكية تبدو حيّة وخالدة حتى من قبل القارئ العربي الذي أصبح ملمًّا بشكل فعّال بمعظم كلاسيكيات الأدب الروسي والإنجليزي والأمريكي واللاتيني والياباني وغيرها..

بلا شك في كون ( حركة الترجمة ) المبكرة ضاعفت بشكل فعّال من نسبة هذه القراءات وإحيائها، بفضل المترجمين العرب الذين سعوا بدأب وهمّة عالية عبر سنوات طويلة لنقل ما فات قراء العرب من أعمال خلاقة في اللغات الأخرى، وجيل الستينيات كان أوفرهم حظًا، فقد كانوا سباقين بفضل سيل الترجمات في التعرف على رواد الأدب الروسي والفرنسي خاصة في ذلك الوقت ككافكا ومانسفيلد وتشيخوف وجوجول وهمنجواي وفلوبير وغيرهم، ومذ يومها صارت الجهود العربية في عوالم الترجمات مكثفة.
في الوقت نفسه ساهمت (الجوائز العالمية ) في ترويج أسماء معينة، وجعلت من الجنس الروائي تحديدًا بارزًا بل يكاد يكون متفوقًّا على الأجناس الأدبية الأخرى، فجعل القراء يتهافتون على مطالعة كل ما يمت صلة بالرواية سواء الكلاسيكية منها والمعاصرة على حساب الآداب الأخرى، وقد غزت الكتابة الروائية العوالم العربية متأخرة.

ونعيد لنقول بأن عامل الجوائز كان محرضًا أساسيًّا أمام القراء من مختلف الجغرافيا لخوض في عوالم الكاتب -صيّاد الجوائز- وما يترتب عليه هذا الفوز أيضا؛ فالجائزة رغم أنها خاصة وفردية باسم الكاتب الفائز غير أنها في الوقت نفسه تشرع العقول والأفئدة على أسماء أخرى من بلد الكاتب الفائز أيضا؛ ففوز الروائي التركي " أورهان باموق" على _سبيل المثال_ بجائزة نوبل العالمية في الآداب، دفع القراء من جميع أنحاء العالم إلى قراءة أعمال باموق إضافة إلى قراءة كل ما هو متاح من أعمال تركية أخرى من بلد هذا الفائز بجائزة رفيعة.

رغم ريبة بعض النقاد الغرب حول عالمية بعض الأسماء، حتى برز معها مصطلح أصبح مشاعًا وظاهرة عالمية بحد ذاتها ( ظاهرة الروائي العالمي) وهو مفهوم تداوله عديد من كتاب الغرب، محاولين الدفاع عن الكتاب العالميين الذين برزت أسماؤهم على الساحة الثقافية العالمية، بعد أن شكّك كثير من النقاد والمختصين بالثقافة بهذه الأعمال وفي عالميتها؛ حيث يرون أن انتشار هذه الأعمال الثقافية بعينها عن أعمال أخرى من البلد نفسه واللغة نفسها، هو مجرد ضربة حظ ومحسوبية، فبحسب رأيهم، بأن الاحتفاء بأي منتج أدبي لابد أن يتم تحييده ومن ثم تدجينه من جانب النسق النيوليبرالي المتغول الحاكم في العالم يقف وراءه ناشرين يدعمون هذا الشبكة التجارية!

يا ترى ما أسباب هذا التهافت العربي كمترجمين وكناشرين أيضا على ترجمة كلاسيكيات الآداب العالمية، هل لأنها حققت صيتًا عالميًّا؟
فمعظم ما وصلنا من اصدارات عالمية سواء الكلاسيكية منها أو المعاصرة حازت على جوائز معترفة بها عالميّا مقارنة بالأعمال الأدبية العربية التي لا يذكر منها عالمية سوى "نجيب محفوظ "والذي بفضل ترجمات " دينيس جونسون ديفيز" وصلت أشهر رواياته لمنصة نوبل، وقد ظل نجيب محفوظ معترفًا بفضله بذلك واصفًا بأنه كان القنطرة التي عبر منها الأدب العربي للعالمية، ناهيك عن جهوده في ترجمات قصص قصيرة لكتاب مصريين آخرين وعرب، وهو نفسه الذي عانى بمرارة من أجل أن يجد ناشرًا يقوم بنشر ترجماته إلى أن تبنت نشرها الجامعة الأمريكية، كما روى القاص المصري " سعيد الكفراوي" في آخر حوار معه قبل وفاته منشور في مجلة الدوحة.

وكون " نجيب محفوظ" نال جائزة نوبل هو ما جعل أعماله متداولة عالميًّا وعربيًّا في آن، ويمكن القول بأن الكتاب العرب الذين نالوا شهرة ومقروئية عالمية هم الذين عكفوا على كتابة رواياتهم ودراساتهم النقدية بلغة أهل الغرب الانجليزية منها والفرنسية، ولعل من أشهرهم حاليًّا هو الروائي الفرنسي من أصل لبناني " أمين معلوف".

يبدو أن الأدب الكلاسيكي العربي لم يجد ثُلّة تعني به وبكتابه كما فعل الملهمون الغربيون مع "شكسبير"، ويبدو أنه في أشدّ الحاجة إلى محاولة إحيائه وضخ الحياة فيه، لكن كيف سيتحقق ذلك؟
أبدى الكاتب التونسي " حسونة المصباحي" رأيه في هذه المسألة في مقالة منشورة له بعنوان ( كيف نقرأ الأدباء الكلاسيكيين العرب؟) بقوله: " يجدر بنا أن نتعامل معهم ومع آثارهم انطلاقًا من أوضاعنا الراهنة السياسية والثقافية والاجتماعية وغيرها.".
في الوقت نفسه رأى أن الباعث لهجران قراءة الأعمال الكلاسيكية العربية راجع إلى ارتفاع أسعارها؛ فمعظم الطبعات العربية تأتي كمجلدات ضخمة، ما يجعل تداولها شاقًّا أيضا. أما في البلدان الغربية المتقدمة كما يقول :" أسعار الآثار الكلاسيكية متيسرة للجميع بمن في ذلك فقراء الطلبة، بحيث يصبح بإمكانهم أن يقرأوا أعمال هوميروس وأفلاطون ودانتي وشكسبير وفلوبير وغيرهم بأثمان بخسة، وفي طبعات كتب الجيب، أما عندنا فالآثار الكلاسيكية العظيمة تصدر في مجلدات ضخمة وثقيلة وباهظة الثمن؛ لذا يصبح من الصعب ترويجها".

لكن مهما بلغت أسعار المجلدات الكلاسيكية العربية، يظل هناك عامل مهم بل أكثر العوامل أهمية لرفع من منسوب قراءة هذه الأعمال، وهم " النقاد" فهل يقومون بدورهم الحيويّ لإنعاش الأدب العربي حقًّا؟!

يبدو واضحًا للعيان انحسار (حركة النقدية ) في العالم العربي؛ فحتى نقاد العرب، أصبحوا يعوّلون على كتاب الجوائز فحسب، بل كثير منهم ينتظرون سنويًّا ما تضعه الرافعة الإعلامية من قوائم الأكثر مبيعًا وتلك التي تنال جوائز؛ لتكون موضوع دراسة ومراجعة نقدية سريعة في وقت حجبت معظم الصحف العربية ملاحقها الثقافية؛ لتضاعف بذلك من سوء وضع حال الكتابة العربية وأزمة النقد!
فالأدب الغربي عمومًا يشهد حركة نقدية هائلة تواكب الشعر والنثر في آن، وتضخ في كل مرة أسماء جديدة في ساحتها الأدبية، وهو مبعث أساسي لتأثيث بيئة ثرية وخصبة من قراءات وتأويلات متعددة ناهيك عن مجلات مهمة متخصصة للدارسات النقدية؛ بينما تفتقد الساحة العربية نقادًا على طريقة الناقد المصري " رجاء النقاش" فهو لم يفتح آفاق القراء على ما أنتجه الغرب من روائع كلاسيكية فحسب بل ساهم بشكل فعّال في كشف أسماء كتاب كانوا مبدعين شباب في أول طريقهم كالشاعر أحمد مطر ومحمود درويش وغيرهم؛ لذا كان ملقبًّا بـــ" مكتشف النجوم". بل يشير الكاتب التونسي " حسونة المصباحي" في مقالة له " انحسار النقد في الثقافة العربية " متحدثًا عن نهضة عمت الساحة الأدبية العربية في النصف الأول من قرن العشرين، وبفضلها ظهرت أشكال تعبير جديدة مثل المسرح والسينما والرواية والشعر الحرّ، وذلك بفضل بروز نقاد واكبوا هذه النهضة ولاحقوا كل منتجات الثقافة العربية في ذلك الوقت كطه حسين والعقاد والمازني ولويس عوض ومارون عبود وميخائيل نعيمة وغيرهم.

ولا يوجد ثمة حجة أمام نقاد الوقت الحاضر، فالتطور السائد الذي عززته شبكة الانترنت يستطيع أي ناقد أن يتعامل مع أي كاتب مهما غدت بُعد المسافة فاصلاً بينهما، بل صار كل شيء متاحًا وبأريحية، ولن يكلّفوا أنفسهم مشقة كالناقد " إحسان عباس " الذي كان يسافر إلى بغداد، والى غيرها من الدول لاهثًا فعالاً وراء كل أدب أصيل؛ لاقتناصه من منبت أرضه، أما النقاد الذين يطرحون دراسات عن أعمال عربية، فتكاد تكون قراءاتهم مغرقة في المصطلحات الأكاديمية، وتبدو بعضها استعراضًا لمفاهيم غربية وغامضة بحد ذاتها فعوضًا عن فتح مدلولات النص تجعلها استعراضاتهم النقدية أكثر استغلاقًا، ما يجعل القارئ جافلاً عنها!
ويبدو أننا في " عصر القارئ " كما ذهب الناقد " رولان بارت "، وعلى هذا القارئ الشغوف، الباحث عن الجماليات نعوّل مستقبل الأدب العربي الكلاسيكي، المعاصر، والحديث أيضا.

ولكننا كنقاد وقراء عرب، هل يحق لنا أن نتفاءل قليلاً بفوز رواية " سيدات القمر" للكاتبة والروائية العمانية " جوخة الحارثي " التي نالت جائزة المان البوكر العالمية بنسختها الإنجليزية عام 2019 في أن تشرع الباب مرة أخرى أمام الآداب العربية في عوالم الغربية؟
فقد اكتسحت رواياتها منافذ عالمية وتبحرت في آفاق لغات مختلفة ومتنوعة بتنوع جغرافيا وتضاريس الحاملة لغات تلك البلدان.
هل يمكن أن يكون فوزها دافعًا أمام قراء العرب –تحديدًا- لنبش المكتبة العربية الكلاسيكية منها والمعاصرة، بعد عزوف كثير منهم عن مطالعتها على حساب آداب اللغات الأخرى التي وفرتها الترجمات، وسط تدافع مكثّف من المترجمين والناشرين العرب جنّبا إلى جنب لتسويق هذه النوعية من الآداب؛ لأسباب عديدة لعل من أكثرها أهمية كونها السلعة الأكثر إقبالاً للشراء في منافذ بيع الكتب؟!

هل يمكن أن تشرع في الوقت نفسه عقولاً متحجرة في مجتمعات بطريريكية ظلت لأعوام طويلة تضع من شأن ثقافة المرأة العربية وتجاربها الكتابية، لاسيما المحجبة منها، فما بال حين تكون محجبة وخليجية في آن ومن بلد بترولي؟! بل هل ستجعل القارئ العربي يعيد اعتباره بإبداعات الكتابات العربية لاسيما النسائية منها؟

تساؤلات تستدعي الكثير والكثير من التأويلات والتوقعات والتأثيرات على المدى البعيد نسبيًّا..
‏" الرواية أكثر جنس مطاطي في العالم، يمكن أن تستوعب كل شيء".

سنان أنطون
"لا أعرف رؤية واحدة للشعر مرضية بشكل كامل غير رؤية إميلي ديكنسون حين تقول أنها أمام القصيدة الحقيقية، يصيبها البرد، حد أنها تتصور أن لا نار تستطيع تدفئتها بعد ذلك".

إميل سيوران
الرواة الجادون

في مكانٍ ما من هذا العالم؛ الكرة الأرضية وغلافها الجوّي، يوجدُ شخصٌ جادٌ يحملُ مخطوطةً حديثة. أفترضُ أنه، ببشريّته التامّة، المتوارثة منذ أجيال، لا يرغبُ في الخسارة؛ بل لا يحبها إذا أردتُ أن أكون دقيقاً.

يقفُ أمام ثلاثة أشياء؛ جميعها منعطفات: إشارة المرور، ومتجرُ العلكة الوطني، وصورةٌ عائلية بالأبيضِ والأسود. في لحظة انشغاله، لحظةٌ واحدةٌ اختطفتُها له من يد سيدةٍ في حديقة الألعاب، تسرّب من المخطوطة جنديٌ وراح ينظّم حركة السير.
الملاحظُ جداً أن الجنديَّ كان أعمى، فقد سمح لسيارتين أو ثلاث بعبور الصورة العائلية ودهس الجدة. مرتان أو ثلاث تتكرر مشاهد دهس الجدة. بينما تنزف دماء خجولة على حافة اللوحة تسرّب قاضٍ من ذات الصفحة، أوه؛ الصفحة العاشرة في المخطوطة، واستعاد الجندي.
يصلُ الطبيب الجنائي ومساعدتُه الحسناء لفحص الجثة، وصلا توّاً من الصفحة السابعةِ حيث انشغلا قليلا تحت ظل شجرة رمّان، كان الروائي يذهب إلى المطبخ ويعود عشرات المرات، يعود إلى مكتبه وينظر في مخطوطته، متسائلاً حول الطريقة الصحيحة لكتابة المشهد. لا بد أنه يخشى غضب الأطباء الجنائيين حين يقرؤون افتراءتِه التخييلية، وربما أقاموا دعوى قضائية ضده. على أية حال، كانت المساعدة الحسناء تعيد ترتيب شعرها بينما انشغل الطبيب في فحص جثّة الطفل الصغير. يظهر طفلٌ صغيرٌ وناعس في زاوية اللوحة اليسرى، يتثاءبُ بوتيرة واحدة، حتى وهو يتنقّل بين المعارض الفنّية ويرقد في كونتيرات الشّحن بين القارات. في لحظة وصول الطبيب ومساعدته الحسناء كان قد وصل إلى مرحلة النوم العميق، فبدأ الطبيب ومساعدته الحسناء في تشريح جثته، وكتب تقريره الذي سيُنشر مبكراً، في الصفحة السابعة عشر من المخطوطة، جاء فيه: سبب الوفاة عمليات دهس متواترة وممنهجة. لا يبدو على الأم أنها تبكي أو تفكر في فعل ذلك في الصفحتين التاليتين على الأقل.
حركة السير منتظمة جدّاً. هذه مدينة الرواة، يركضون كل صباح باتجاه ينبوع الحبكة، إذا لم تحضر، أو إن تأخرتَ، كأن تكون مستلقياً في الصفحة الثالثة والثلاثين تفكر في شجرة رمّان مرّت بك في الفصل الأول، فستفقد سرد ذلك اليوم، وستكون مضطراً للنوم في صفحة نقدية بائسة؛ حيث لا تدفئة، ولا وجبة غذاء صحية، وحيث الجرذان تتسابق لعضّ شخصياتك الروائية التي اكتسبتَها باستحقاق خلال ساعات العمل الإضافية في منجم التبئير.
الأمر سيكون بسيطاً بعد نشر التقرير الشرعي، فمنذُ الصفحة السابعة عشرة وحتى مشهد مغادرة الأب الصورة العائلية في الصفحة الواحدة والخمسين، لا يوجد مشاهد درامية، كل شيء يسير بوتيرة واحدة. نحن نتذكرُ، جميعاً وبلا استثناء، أن الطبيعة الإنسانية لا تحبُ الخسائر، وسبق أن وصفها روائي روسي بأنها طبيعةٌ بشرية لا تتوافق مع السرد.
في الصفحة الثانية والخمسين يردُ خطابٌ إلى الأب، وهو بالمناسبة ابن السيدة العجوز المدهوسة التي لم تتعرض للتشريح إمعاناً في تبئير السرد الروائي. نعود إلى الخطاب، وفيه تفاصيل كثيرة تشغل الصفحات العشر التالية، لكن القراء، وهم من مدن أخرى بعيدة تقع بعد مدن الشعراء بساعة او اثنتين على مقياس الدراجات النارية، كما تقع بجوار منفى التشكيليين بألوانهم الغرائبية وأظافرهم الحاملة للطلاء والكينونة الفنيّة وأشياء أخرى.

مرّة لاحظ كاتبٌ، من فيتنام، عدم جلوس الفنانين التشكيليين في ظل أشجار الرّمان، وقال إن الدراسات تثبتُ ذلك.
القراء، وقد جهلوا تماما ما ورد في الصفحات العشر قالوا إنّ لغةً تشبه صوتُ صفير عامل المقهى حين يغفو هو ما كُتب به هذا الخطاب، وأنهم سيحتاجون إلى ترجمة دقيقة وحيوية لما جاء فيه، لأن الأب غاب في الصفحات السبع التي تلي الصفحة الثانية والستين، ثم عادَ وقتل الأم!.
ستة نجارين من المتطوعين ذهبوا للبحث عن الطبيب الشرعي تحت شجرة الرمان. ستة رجال إطفاء ساهموا في نزع فتيل أزمة افتعلها الروائي في ثلاث صفحات تالية لإلهاء القراء، ستة عمال نظافة وستُ حسناواتٍ وستة أساتذة جامعيين دخلوا رهاناً على ما ستفضي إليه هذه الحبكة من نتائج.
أووه، سيبدأُ متجر العلكة الوطني الظهور في الصفحة الثالثة بعد المئة، سيكون على الروائي ربطه بحادثة تشريح جثة طفل ناعس بدلاً من الجدة، وتبرير عملياتِ الإلهاء الفني طيلة صفحات كثيرة من المخطوطة. المتجر ذاتُه سيقوم بنسج رواية يبرر فيها سقوط جندي أعمى وتوجيهه لرواة مسرعين نحو ينبوع الحبكة إلى الجهة الخاطئة. ليس هذا فحسب، بل لا بد من وجود نعي أدبي مناسب يليق بجنازة الجدّة. في الصفحة الثالثة عشرة بعد المئة يُطلِق جنديٌ، آخر، ثلاث رصاصاتٍ تكريماً لروح الجدة "المدهوسة"، ربما بعد صفحتين أو ثلاث ستصيب واحدةٌ من الرصاصاتِ الثلاث أستاذاً جامعياً؛ يسقط شهيداً، ويستمرُ الخمسة، هم كل (ما) بقي من الأكاديميين، في متابعة ما يحدث لمحاولة كسب الرّهان.
سيكون على الراوي، وهو جادٌ بالضرورة، أن يستيقظ صباح كلّ يومٍ لعشرة أيام متتالية، والركض مع بقية الجادين، للتنقيب عن حبكةٍ مناسبة يبررُ فيها تناقص عدد الأساتذة الجامعيين تحديداً، إذ لم تصب الرصاصة أياً من عمال النظافة الستة؟!.
في اليوم التالي، كانتْ أول حبكة يجدها الروائي الجاد تقول: "ينحني عمال النظافة لهذا لا تصيبهم رصاصاتُ تأبين الجدة"، لم تعجبه، لكنه حملها معه على أية حال، فقد كانتْ ضمن عرض مجاني يسري على مواد بيع التجزئة في زاوية الحبكات التبريرية في الروايات المحلية للصفحة مائة وخمسين وما يليها. حملها معه، فربما كتب يوماً كتاباً ممتازاً عن علاقة الطبخ بأشجار الرّمان، من يدري.

حامد بن عقيل
‏" رُسِمَ هذا البيت لأجلهم
يبدو كأنه حقيقي
ومن المحتمل أن ينتقلوا له اليوم
في رحاب شفق متلاش
ويغادرونه في ليلة
من الليالي المنتقاة بأشجار،
من أكثر الأشجار وحشة".

باربارا غيست
"لم أعد أكتب ما يؤلمني
صرت أحضر له الشاي
أعطيه مكاني على الكنبة
أنظر اليه بحب
وأترك الغرفة".

لولا رينولدز
2024/10/01 09:17:01
Back to Top
HTML Embed Code: