Telegram Web Link
الأحبة:

أضع لكم رابط الحصول على الكتاب القصصي ( فهرس الملوك) لمن يودّ طلبه من موقع دار مرايا للنشر والتوزيع

https://marayakw.com/8krm8QZLPD?product=index-of-kings-laila-abdullah
‏"نحن ضحايا التَّفاصيل الصَّغيرة من ينقذنا من هذه الورطة، ورطة الانتباه المُفرط."
Channel name was changed to «هواجس غرفة العالم ( ليلى عبدالله )»
آكلو الولائم

ليلى عبدالله

لم يكن البرد وحده يحفر في عظامهما، بل إن معْول الجوع مذ يومين متتاليين لم يهدأ عن ثقب معدتهما الفارغتين اللتين طفقتا مذ الصبيحة تعزفان أنينا تصاعديا يعلو ويخبو في تسابق غريب من نوعه. عزمت جدته العجوز أن تنهي هذا الإعياء مستسلمة رغما عنها للنوم ..
بينما تقلّب هو على جنبيه، فما تزال سياط جلد الشرطي على ظهره تحرقه، كثيرًا ما كانت أمه تبكي حين تتحسس خطوطه الحمراء كأسياخ مجمرة تنحت جلده الهزيل بعشوائية، فتضمد تجاويفها بسائل لزج كريه الرائحة تعجنه من أعشاب عديدة تلم بقاياها من هنا وهناك في البرية، بينما لسانها يقذفهم باللعنات: سحقا لهم أولئك الملاعين، أي بغايا أنجبتهم!
يظل لسانها يلوك شتائمه حتى تندمل جراحه تدريجيا بفعل سحر أعشابها كريهة الرائحة .. وحينئذ يعود إلى سابق عهده ولكن بحذر أكبر؛ كي لا يقع في أيدي أولئك الملاعين مرة أخرى كما كانت أمه تنعتهم. ولكن حين كثفت الشرطة حراستها في الشوارع، ارتأى أن يتحصّل على لقمته بطريقة أخرى، فكان في بعض الليالي يتسلل بخفة قط إلى بيوت يعرف أن أصحابها ذو كروش كبيرة ليستولي على ما غلا ثمنه، وعلى الرغم من محاولاته الناجحة إلا أنها لم تفرز سوى تشددًا للحراسة من قبل أصحاب البيوت حين تناهى إلى لفيف منهم خبر تلك السرقات التي تقع في آخر الليل، بل بالغ بعضهم في حرصه باستقدام كلاب ضارية تلتقط رائحة اللص من على أبعاد ..
رغم أن ذلك أسعد والده، فجرّه إلى عمله، حين لم تجد أمه عذرها المعتاد كي تمنعه. كانت تخشى عليه لاسيما في الليل، فعادة السكارى أولئك الذين كان والده يسطو على أموالهم في أثناء فقدهم للوعي، لم يكونوا أقل خطورة من الشرطة التي تلهث وراءهم، فلا يكاد ينسى تلك الحادثة التي أفزعته وهو ابن السابعة، حين دنا من سكير بعد أن استلم والده آخر، هذا السكير توجه مترنحًا إلى سيارته، وحين فتح الباب لم يجد بدا ليأخذ ما بحوزته سوى أن يصعد إلى رديفه، وحين اقترب منه حاول أن يمد يده إلى جيبه، سرعان ما قبض ذاك السكير على يده، وقادها في وسط الظلمة إلى مكان لزج كابسا بقبضته القوية على يده الصغيرة . أردف مع هذا الضغط يئن بصوت عال يتبعها بعبارات وقحة ثم أطلق لهاثا حادًا مثيرًا جمدت الدم في عروقه ولم تهرب يده الصغيرة من قبضة يده القوية إلا بعد أن تراخت قوته من اثر القيء الذي اجتاحه دفعة واحدة!
مذ يومها بغض السكارى ولم تقبل أمه بالعودة إلا حين أقنعها والده بأغلظ الأيمان بأنه سيلصقه به كظله .. وحين لقى والده مصرعه في حادثة دهس، لم تقبل والدته بعودته مطلقا ..
وحين غادرته هي الأخرى بعد أن نهش الجذام لحمها، ظل يواظب على عادة التسول أحيانا لما تقتضي الظروف والسرقة في أحايين أخرى ..
“ آه ، آه ، آآآآه " لم تكف جدته العجوز عن الأنين، فمذ يومين لم يسقط في جوفها سوى الماء. تحامل على نفسه رغم الإعياء الذي استطاله، تسلل إلى الخارج ببط، ؛ كي لا يوقظها .. ولم يكن أوفر حظا مع السماء المظلمة، فها هن الغيمات المتشحات بالسواد تنذرن عن عاصفة، قطعا حينئذ سوف يتداعى الصندوق الخشبي المرقع كثوب بال الذي يحتميان فيه هو وجدته عن العالم الخارجي!
اندفع بنزق يفتش ككلب ضال عن شيء ما يملأ معدته الخاوية. توجه صوب القمامات. زفر بحنق على الجوعى الملاعين الذين يلملمون من القمامات والشوارع كل شيء حتى ما لا يمكن أكله، سرعان ما تناهى إليه أصوات نباح. حاول أن يدنو من مصدر الصوت دون أن يغادره قلق من نوع ما غرسته جدته فيه مذ كان صغيرا، لكن جوعه الكافر قاده إلى مصدر النباح، سرعان ما رأى ثلة من الكلاب بدو كحشود في زاوية نائية من المقبرة، وحين اقترب لم يشعروا به، كانوا يتصارعون على قطعة لحم مثخنة بالدم يتسابقون في التهامها بشراهة .. ولما تراءت له رأس مشعثة بتقاطيع حادة كاد أن يفرغ ما في جوفه، لكنه كان على جلد بطنه فلم يجد ما يلفظه!
استيقظ على جلبة جدته، وهي تواصل أنينها الذي اعتاد على فراشها اليابس، بينما يدها تضغط حجرًا على معدتها بقوة . حاول النهوض إلا أن الأشياء طفقت تدور من حوله وكأنه على أرجوحة تعبث بها الريح، سرعان ما خيل إليه في تخبّطه أنه أمام دجاجة كبيرة يسيح منها الزيت، وحين أحكم قبضته عليها كانت أطرافه الهزيلة تقبض على عنق جدته التي كادت أن تختنق لولا أنه عاجلها بقطرات من الماء في فمها . جاهد الوقوف رغم أوصاله اللاهثة من التعب وهو يشق خطا متثاقلة إلى الخارج ..
قادته خطواته المترنحة إلى أرض المقبرة، حين تراءت له بقايا العظام التي أهملتها الكلاب بعد وليمة البارحة. تأكد أن ما شاهده لم يكن حلما، فقفل راجعا لكن قدمه علقت بشيء بارد، نكّس رأسه كانت قطعة مشرئبة بالطين بفعل الأمطار، تملاّها مليًّا بين يديه، ثم أطبق عينيه وهمّ يمضغها بأسنانه الشرهة دون أن يبالي بذرات التراب التي استقرت في معدته..
عزم أن يرابط قرب المقبرة، حتى لا يخدشه مخلب الجوع في الأيام القادمة، فتلك الكلاب الضارية أضحت مع القحط المتفشي تلتهم عادة الوليمة كلها، ولا تبقي سوى على بقايا عظام ..

بعد مرور يومين لمح موكبا منتصبا على رأس المقبرة، بينما معاول تردم فجوة عميقة في جزء منها . حفظ في سرّه المكان جيدا . تريّث حتى انتصاف الليل، فتسلل بهدوء إلى حيث الفجوة. تحسس البقعة بيده. كان التراب رطبًا على نقيض المساحات الأخرى ..
استغنى عن المرابطة خلال الأيام التالية، فمن التجربة الماضية أدرك أن التربة الرطبة تخبئ في جوفها وليمة طازجة، وحينئذ ينكب على تقطيعها بسكينه الحاد، يضعها في كيس أسود كبير ثم يواري تراب القبر ..
كان هذا اللحم يكفيهم لسبع ليالٍ، وفي الليلة الثامنة يوّسع خطواته الحذرة كما يفعل في كل مرة، يحرر وليمته من التراب، ولكن حين غدت يده تتحسس أكثر من موضع رطب، كان لا يتوانى عن إخراج تلك الولائم وتقطيعها وترك جزء منها لسد جوعهم، والجزء الآخر طفق يعرضه على الباعة في السوق ..

مع الأيام أضحى أهم بائع لحم في الأرجاء. غدت جيوبه ثقيلة. استبدل تلك الصندقة الخربة التي ضمته وجدته إلى بيت واسع. سهل عمله أكثر حين استعان ببرادات لتخزين اللحوم التي كان يضطر أحيانا إلى حفظها لأيام عديدة حتى يبيع ما بين يديه ..
ووحدها جدته غاض إحساسها بكل ما كان محيطا بهما، فكانت صحتها تتردى رغم غفير من الأطباء الداخلين والخارجين، وفي أصبوحة إحدى الأيام رأى نفسه أمام جسد بارد كقطعة جليد ..
مذ رحيلها شعر بيتمه الحقيقي. ووحدها تجارة اللحوم سدت ثغرات ليالي الوحدة، لكنها لم تخل من مرارة الثقل.
وفي ليلة شعر بيد تجس كتفه الأيمن، وحين شرع عينيه شاهد بالقرب منه جدته تطلق صرخات رهيبة ما لبثت أن دنت منه وهمت كفيها تلطمانه بعنف سرعان ما أحكمت قبضتها على عنقه، لكنه استطاع أن يقفز من فراشه مفزوعا، وحين عاد إليه وعيه. أدرك أنه تقلّب في كابوس بشع، بينما جسده متفصدا بالعرق يرتعش ..
لم تكف تلك الكوابيس عن ثقب صمام لياليه التي أضحت تسيل فجاعة يوما بعد يوم، فعزم في إحدى الليالي أن يذرع الطريق باستقامة، إلى المقبرة التي دفنت فيها، تناول معوله وهمّ بحفر البقعة التي ضمت بقاياها. كانت ليلة معتمة. استغرق الحفر عدة دقائق. ضاعفها ..
وحين لم تسعفه الظلمة في أن تسفر عن شيء، ظل يحفر أعمق، لكن المعول كان يلتهم ترابا . اشتد حنقه . قفز إلى الفجوة الفارغة أخذ يحفر التراب بيديه بجنون، ولا شيء سوى عواء يدمي حنجرته!
طفق حزنه يغذي نفسه . كان يلتهم كل الولائم التي يتصيدها من تلك المقابر، يلتهم حتى آخر نتفة منها . يقضم بشراهة كبيرة حتى نما جسده، فغدا شبيها بديناصور ضخم، وحين ثقلت حركته .
غذّ سيره إلى حيث دفنت جدته. هناك في تلك الفجوة العميقة استطال ..
في الليلة الأولى اقتطعت كلاب ضارية أوصاله بشراسة ، ورغم أعدادها الغفيرة لم تستطع أن تلتهم سوى ساقيه . وفي الليلة التالية لمح يدا هزيلة تحاول جاهدة أن تسحبه من الحفرة التي بعثر الكلاب رملها، وحين أعياه الثقل غاب هنيهة، قبل أن يعود مع أيد كثيرة تزاحمت تجرّه بكامل قوتها، رُفع بعد عناء كبير تدارك أنفاسهم . تناول صاحب اليد الأولى ساطورًا حادًا ، بينما الأيدي الأخرى قبضت بإحكام على الأجزاء التي أبقتها الكلاب.
أخذ جسده المتكتل باللحم يتراخى قطعة قطعة، الفخذ الأيمن ،الفخذ الأيسر، اليد اليمنى، اليد اليسرى، الكبد، الطحال .... ق. ل ..

* قصة كتبت بتاريخ 11/3/2011..
من مجموعتي القصصية" كائناتي السردية " التي صدرت عام 2016م .
‏تقول الكاتبة الهندية جيتا نجالي شري: " يجب على الكاتب أن يكتب ببساطة وإصرار في الأوقات السيئة والأوقات السعيدة".

نصيحة يعي كل كاتب/ ة بمدى رهافتها!
" أنت مُقل في كلامكَ. ماذا لو قلتُ لها، حياة واحد منّا تضطره لأن يكون مُقلاً في كل شيء إلاّ المعاناة".
1
‏" تستطيع التأكّد ما إذا كان الشخص وحيد أهله من حساسيته وعزلته حتى لو كان وسط الآخرين".

رواية في حضرة العنقاء و الخلّ الوفيّ| إسماعيل فهد إسماعيل
الأحبّة في عُمان:

تتوفر نسخ من مجموعتي القصصية الجديدة #فهرس_الملوك في مكتبة قراء المعرفة.
‏" ارتباط الإنسان بالمكان يتعزّز من خلال ارتباطه بناس المكان".

رواية في حضرة العنقاء والخلّ الوفيّ| إسماعيل فهد إسماعيل
"هناك من يجرب ضعفه أو عجزه في الكتابة، و أنا إنما أجرب استقلالي، قوتي، و عدم حاجتي للآخرين ".

سوزان سونتاغ
" العالم ليس مكانًا، بل علاقة. عوالمٌ متعددة بتعدد أنفاس الخلائق، كل منا له عالمه الخاص، يعيش فيه ويقيم داخله. علاقات تتناسل مع الأحياء والأشياء، لأعود إلى الوراء جامعًا عوالمي التي غادرتها واحدا تلو الآخَرِ، محتضنًا إياها كأم حنون. جمعتها في صرةٍ وحملتها معي حيث ما رحلت".
2025/07/13 20:03:17
Back to Top
HTML Embed Code: