"كلُّ الدروبِ التي سلكتُها أعادتْني إليَّ، وكأنَّني لم أكُنْ يومًا سوى رسالةٍ إلى نفسي."
سوزان عليوان
سوزان عليوان
Forwarded from الغائِب عن النص
داخل بقعةٍ على سطح الكوكب
[...]
أنا هنا
في مكانٍ حقيقيّ جدَّاً
لولا أنّه احتمالٌ
ليكونَ أيَّ شيءٍ آخرٍ
• مناهل السهوي | ثلاثون دقيقة في حافلة مُفخّخة
[...]
أنا هنا
في مكانٍ حقيقيّ جدَّاً
لولا أنّه احتمالٌ
ليكونَ أيَّ شيءٍ آخرٍ
• مناهل السهوي | ثلاثون دقيقة في حافلة مُفخّخة
مقالتي المنشورة في موقع مختبر النقد السعودي :
كيف تختفي عن نفسك في الزمن المعاصر؟
من شاهد فيلم (رغبة صامتة) الذي يحكي عن حياة الشاعرة الأمريكية (إيميلي ديكنسون) ستربكه طبيعة حياتها المعبأة بالوحدة والحرب والمرض والشيخوخة، وسيدرك مدى العزلة التي قفّصَتْ (ديكنسون) ذاتها بها؛ ظلت ملازمة البيت، حبيسة غرفتها، ولا تلتقي مع أحد، وحين يزورها زائر؛ كانت تكلمه من وراء الباب. نائية عن محيطها وعن الآخرين كليًّا، منكبّة بهوس على كتابة كراسات صغيرة من الشعر ثم خياطتها، ورغم هوسها الكتابي السري؛ إلا أنها شعرها لم يُنشر إلا بعد موتها ورحيلها
ولجت (ديكنسون) في أعلى درجات "العزلة الوجودية" أو ما يسمى بحالة " البياض" كما يذهب الكاتب (دافيد لوبروتون) في كتابه الذي يستعرض حالات عديدة من البياض1؛ فالأمر كما يرى (لوبروتون) "لا يتعلق بفقدان الشخصية وإنما بإذابتها والتخلص من إكراهات الهوية جميعها بهدف الوجود في حد أدنى".
كيف تختفي عن نفسك في الزمن المعاصر؟
من شاهد فيلم (رغبة صامتة) الذي يحكي عن حياة الشاعرة الأمريكية (إيميلي ديكنسون) ستربكه طبيعة حياتها المعبأة بالوحدة والحرب والمرض والشيخوخة، وسيدرك مدى العزلة التي قفّصَتْ (ديكنسون) ذاتها بها؛ ظلت ملازمة البيت، حبيسة غرفتها، ولا تلتقي مع أحد، وحين يزورها زائر؛ كانت تكلمه من وراء الباب. نائية عن محيطها وعن الآخرين كليًّا، منكبّة بهوس على كتابة كراسات صغيرة من الشعر ثم خياطتها، ورغم هوسها الكتابي السري؛ إلا أنها شعرها لم يُنشر إلا بعد موتها ورحيلها
ولجت (ديكنسون) في أعلى درجات "العزلة الوجودية" أو ما يسمى بحالة " البياض" كما يذهب الكاتب (دافيد لوبروتون) في كتابه الذي يستعرض حالات عديدة من البياض1؛ فالأمر كما يرى (لوبروتون) "لا يتعلق بفقدان الشخصية وإنما بإذابتها والتخلص من إكراهات الهوية جميعها بهدف الوجود في حد أدنى".
الأعزاء في معرض الكويت الدولي للكتاب تجدون مجموعتي القصصية فهرس الملوك في دار مرايا للنشر والتوزيع صالة 6 جناح 42 ..
*الصورة برعاية الكاتب والروائي الكبير الصديق طارق إمام 💙💙
*الصورة برعاية الكاتب والروائي الكبير الصديق طارق إمام 💙💙
كيف تختفي عن نفسك في الزمن المعاصر؟
ليلى عبد الله
من شاهد فيلم (رغبة صامتة) الذي يحكي عن حياة الشاعرة الأمريكية (إيميلي ديكنسون) ستربكه طبيعة حياتها المعبأة بالوحدة والحرب والمرض والشيخوخة، وسيدرك مدى العزلة التي قفّصَتْ (ديكنسون) ذاتها بها؛ ظلت ملازمة البيت، حبيسة غرفتها، ولا تلتقي مع أحد، وحين يزورها زائر؛ كانت تكلمه من وراء الباب. نائية عن محيطها وعن الآخرين كليًّا، منكبّة بهوس على كتابة كراسات صغيرة من الشعر ثم خياطتها، ورغم هوسها الكتابي السري؛ إلا أنها شعرها لم يُنشر إلا بعد موتها ورحيلها
ولجت (ديكنسون) في أعلى درجات "العزلة الوجودية" أو ما يسمى بحالة " البياض" كما يذهب الكاتب (دافيد لوبروتون) في كتابه الذي يستعرض حالات عديدة من البياض1؛ فالأمر كما يرى (لوبروتون) "لا يتعلق بفقدان الشخصية وإنما بإذابتها والتخلص من إكراهات الهوية جميعها بهدف الوجود في حد أدنى".
يسهب (لوبروتون) في استعراض نظرياته عن حالات ضياع الفرد عن ذاته وعن محيطه إلى أن يبلغ مرحلة "ألا يعود أحدًا"، حيث أقصى مراحل الاختفاء ومحو الشخصية الوجودية من خلال اختراع وسائل للهروب والاختفاء. وتأثير هذا التخفي أيضًا يظهر على شخصية المراهقين وعلى كبار السن الذين يقعون في فخ داء تلف الذاكرة (الزهايمر)، كل ذلك انطلاقًا من تأثير الهويات في كيان الفرد في المجتمع المعاصر.
لعل أول سؤال يتبادر في ذهن المرء حين يجابه الفصل الأول من الكتاب هو: كيف تبني هويتك الفردية في مجتمع متطور؟ أو ما شكل هويتك في المجتمعات المستحدثة؟
يرى (لوبروتون) أننا حين نمنح قيمة لوجودنا وحين نشعر بالارتباط بالآخرين ونعي ماهيتنا في منظومة الروابط الاجتماعية، يبرز وقتها الطابع الفردي متحررًّا من التقاليد والقيم المشتركة، ويملك المرء زمام نفسه، فالروابط الاجتماعية تلعب دورًا فعالًا في تحديد شخصية الفرد، وتصنع ملامح استقلاله في مجتمعه، فيكون فردا مستقلا أو محطما محاطا بشعور النقص وخيبة الفشل. وفي هذه الحالة تحديدًّا "عليه أن يكون سند نفسه؛ لكونه لم يتلق السند من الجماعة التي ينتمي إليها". فثمة تحديات جمّة تقوّض همّة المرء في ظل النمو الاقتصادي الهائل والزمن المتدفق، لذا عليه دائمًا أن يهيئ نفسه لمواجهة العالم، وعليه أن يتلاءم مع الظروف ويتحمل تبعات استقلاله الذاتي. فليس ثمة قدوة أو سند اجتماعي يتكئ عليه وسط هذا المحيط اللاهث نحو غايات لا توافق استقلاليته الفردية كما يبرر (لوبروتون): "أن يكون المرء تحت سلطة نفسه، تلك غاية سامية نحتاج معها للعديد من الإمكانات الشخصية والاستعداد المسبق والطاقات المتجددة؛ لأن تلك السلطة منبع قلق واضطراب، ولأنها تعبئ باستمرار مجهودات ضخمة". لاسيما في عالم تشكل فيه هوية الفرد أزمة مستعصية، وصار سعي المرء للحفاظ على مكانته ضمن الروابط الاجتماعية يقتضي جهدًا مضاعفًا، فهناك عوامل تساهم في تفكيك صِلاته بمحيطه، ومن أهم هذه العوامل سرعة تدفق الأحداث الكونية وهشاشة الأعمال، ناهيك عن الانتقالات المتعددة، كلها أمور تحول دون نشأة صِلات اجتماعية وثيقة مع جيرانه؛ فالجميع يخوضون في لجّة الحياة اليومية وضغوط الأشغال، ليغدو الفرد الحديث مشدودًا إلى شيء بعينه. ففي الوقت الحاضر يكفي أن يقفل المرء هاتفه المحمول ووسائله الإلكترونية الأخرى كي يكون منفصلًا عن العالم. هذه الوسائل بحد ذاتها خلقت فجوة في عمق العلاقات الاجتماعية وصار الفرد مجرد صورة رمزية لا تعبر كليًا عن حياته وراء الشاشة، وتجعل الفرد ميالًا إلى الاختفاء من هذه العوالم السطحية المفتقدة للعمق؛ فالحياة الثرية بتلك اللحظات التي تجعل الفرد منساقًا خارج متطلبات وسائل التواصل الاجتماعية كأحلام اليقظة والتأملات. القراءات والاستماع إلى الموسيقى، والنوم والسير لمسافات طويلة وغيرها من الأنشطة؛ يرى (لوبروتون) أن هذه الملهيات هي مرحلة يسعى فيها المرء إلى الغياب عن ذاته، وقد اختار لهذه المرحلة مصطلح "البياض"؛ وهي المرحلة التي تصل فيها الذات إلى أقصى حالات الغياب والعزلة عن الآخرين، لتصل أحيانًا إلى درجة افتعال الموت في لحظات ما. هذا النكوص النفسي نتاج أسباب عديدة، من أهمها فقدان المرء لمكانته، وشعوره بالضياع في ظل انهيار روابطه الاجتماعية، ليغدو بائسًا ومنغمسًا في انهيارات نفسية عديدة بشكل مؤلم.
حالة "البياض" هنا تمثل المكان المجهول والفراغ، تنتج عنها لا مبالاته بشؤونه وبشؤون غيره، ليصل إلى مرحلة يجهل فيها ماهيته في الوجود كما يفسر (لوبروتون): "لا يعود يأبه بالعالم، إنه يتيه في مكان مجهول، ولكي يستعيد أنفاسه، يكون عليه أن يخفف من توتره. إنه يقيم في النسيان. لا في الحياة ولا في الروابط الاجتماعية، لا داخلًا تمامًا ولا خارجًا. حيث تعمل الأنا هنا على إخفاء الذات".
ليلى عبد الله
من شاهد فيلم (رغبة صامتة) الذي يحكي عن حياة الشاعرة الأمريكية (إيميلي ديكنسون) ستربكه طبيعة حياتها المعبأة بالوحدة والحرب والمرض والشيخوخة، وسيدرك مدى العزلة التي قفّصَتْ (ديكنسون) ذاتها بها؛ ظلت ملازمة البيت، حبيسة غرفتها، ولا تلتقي مع أحد، وحين يزورها زائر؛ كانت تكلمه من وراء الباب. نائية عن محيطها وعن الآخرين كليًّا، منكبّة بهوس على كتابة كراسات صغيرة من الشعر ثم خياطتها، ورغم هوسها الكتابي السري؛ إلا أنها شعرها لم يُنشر إلا بعد موتها ورحيلها
ولجت (ديكنسون) في أعلى درجات "العزلة الوجودية" أو ما يسمى بحالة " البياض" كما يذهب الكاتب (دافيد لوبروتون) في كتابه الذي يستعرض حالات عديدة من البياض1؛ فالأمر كما يرى (لوبروتون) "لا يتعلق بفقدان الشخصية وإنما بإذابتها والتخلص من إكراهات الهوية جميعها بهدف الوجود في حد أدنى".
يسهب (لوبروتون) في استعراض نظرياته عن حالات ضياع الفرد عن ذاته وعن محيطه إلى أن يبلغ مرحلة "ألا يعود أحدًا"، حيث أقصى مراحل الاختفاء ومحو الشخصية الوجودية من خلال اختراع وسائل للهروب والاختفاء. وتأثير هذا التخفي أيضًا يظهر على شخصية المراهقين وعلى كبار السن الذين يقعون في فخ داء تلف الذاكرة (الزهايمر)، كل ذلك انطلاقًا من تأثير الهويات في كيان الفرد في المجتمع المعاصر.
لعل أول سؤال يتبادر في ذهن المرء حين يجابه الفصل الأول من الكتاب هو: كيف تبني هويتك الفردية في مجتمع متطور؟ أو ما شكل هويتك في المجتمعات المستحدثة؟
يرى (لوبروتون) أننا حين نمنح قيمة لوجودنا وحين نشعر بالارتباط بالآخرين ونعي ماهيتنا في منظومة الروابط الاجتماعية، يبرز وقتها الطابع الفردي متحررًّا من التقاليد والقيم المشتركة، ويملك المرء زمام نفسه، فالروابط الاجتماعية تلعب دورًا فعالًا في تحديد شخصية الفرد، وتصنع ملامح استقلاله في مجتمعه، فيكون فردا مستقلا أو محطما محاطا بشعور النقص وخيبة الفشل. وفي هذه الحالة تحديدًّا "عليه أن يكون سند نفسه؛ لكونه لم يتلق السند من الجماعة التي ينتمي إليها". فثمة تحديات جمّة تقوّض همّة المرء في ظل النمو الاقتصادي الهائل والزمن المتدفق، لذا عليه دائمًا أن يهيئ نفسه لمواجهة العالم، وعليه أن يتلاءم مع الظروف ويتحمل تبعات استقلاله الذاتي. فليس ثمة قدوة أو سند اجتماعي يتكئ عليه وسط هذا المحيط اللاهث نحو غايات لا توافق استقلاليته الفردية كما يبرر (لوبروتون): "أن يكون المرء تحت سلطة نفسه، تلك غاية سامية نحتاج معها للعديد من الإمكانات الشخصية والاستعداد المسبق والطاقات المتجددة؛ لأن تلك السلطة منبع قلق واضطراب، ولأنها تعبئ باستمرار مجهودات ضخمة". لاسيما في عالم تشكل فيه هوية الفرد أزمة مستعصية، وصار سعي المرء للحفاظ على مكانته ضمن الروابط الاجتماعية يقتضي جهدًا مضاعفًا، فهناك عوامل تساهم في تفكيك صِلاته بمحيطه، ومن أهم هذه العوامل سرعة تدفق الأحداث الكونية وهشاشة الأعمال، ناهيك عن الانتقالات المتعددة، كلها أمور تحول دون نشأة صِلات اجتماعية وثيقة مع جيرانه؛ فالجميع يخوضون في لجّة الحياة اليومية وضغوط الأشغال، ليغدو الفرد الحديث مشدودًا إلى شيء بعينه. ففي الوقت الحاضر يكفي أن يقفل المرء هاتفه المحمول ووسائله الإلكترونية الأخرى كي يكون منفصلًا عن العالم. هذه الوسائل بحد ذاتها خلقت فجوة في عمق العلاقات الاجتماعية وصار الفرد مجرد صورة رمزية لا تعبر كليًا عن حياته وراء الشاشة، وتجعل الفرد ميالًا إلى الاختفاء من هذه العوالم السطحية المفتقدة للعمق؛ فالحياة الثرية بتلك اللحظات التي تجعل الفرد منساقًا خارج متطلبات وسائل التواصل الاجتماعية كأحلام اليقظة والتأملات. القراءات والاستماع إلى الموسيقى، والنوم والسير لمسافات طويلة وغيرها من الأنشطة؛ يرى (لوبروتون) أن هذه الملهيات هي مرحلة يسعى فيها المرء إلى الغياب عن ذاته، وقد اختار لهذه المرحلة مصطلح "البياض"؛ وهي المرحلة التي تصل فيها الذات إلى أقصى حالات الغياب والعزلة عن الآخرين، لتصل أحيانًا إلى درجة افتعال الموت في لحظات ما. هذا النكوص النفسي نتاج أسباب عديدة، من أهمها فقدان المرء لمكانته، وشعوره بالضياع في ظل انهيار روابطه الاجتماعية، ليغدو بائسًا ومنغمسًا في انهيارات نفسية عديدة بشكل مؤلم.
حالة "البياض" هنا تمثل المكان المجهول والفراغ، تنتج عنها لا مبالاته بشؤونه وبشؤون غيره، ليصل إلى مرحلة يجهل فيها ماهيته في الوجود كما يفسر (لوبروتون): "لا يعود يأبه بالعالم، إنه يتيه في مكان مجهول، ولكي يستعيد أنفاسه، يكون عليه أن يخفف من توتره. إنه يقيم في النسيان. لا في الحياة ولا في الروابط الاجتماعية، لا داخلًا تمامًا ولا خارجًا. حيث تعمل الأنا هنا على إخفاء الذات".
المرء في حالة "البياض" هذه يخامره شعور بالخمول والفتور تجاه كل شيء، ويتخلى ويتخفف من كل أشكال وصلات الروابط التراحمية والتعاقدية، مع نزوع نحو الانحدار؛ وأكثر أفراد المجتمع الذين يقعون ضحايا لحالات "البياض" هم المراهقون الذين يسعون إلى الاستغراق في الغياب، والتخفي من خلال تعاطي الكحول أو الممنوعات؛ فحين يكون غارقًا في البياض متحرّرًا من أعباء الهوية لدرجة لا يتعرف فيها على ماهيته، فإنه بذلك يفلت من التواصل حتى وإن ظل جسده قائمًا هناك، مقدمًا نفسه كلغز.
في المقابل يتعرض كبار السن لهذا "البياض" عبر استدعاء لحالات خمور الذاكرة والنسيان، حين يبدو واقعهم مثقلًا بما يعكّر صفو حياتهم؛ ففي الشيخوخة وعند ظهور اضطرابات الزهايمر مثلا تتعطل المنابع الباطنية للمعنى بشكل دائم، وتَعْلق الدلالات وتُرمى في الفراغ، ولا يبقى "هناك تواصل ولا أي حضور لا أمام الذات ولا أمام الآخر بل لن تعود هناك أي نرجسية؛ لأن الأنا قد اختفت، وصار الوعي أصمّ وأعمى".
بعد هذه التهيئة يسحب (دافيد لوبروتون) قارئه إلى عوالم "البياض"، فحين نصل لمرحلة "ألا تعود أحدًا"؛ ينهار العالم الداخلي والإحساس بالمحيط، وينشطر المرء، فمن لا سند له ينأى بنفسه مُخلّفًا تيهًا في كيانه. بينما من لديه القوة الكافية والثقة بذاته؛ فإنه ينساب إلى التكتم والعزلة لاجئًا إلى الطبيعة بحثًا عن خلاصه.
فالفرد لا ينسحب من تلقاء ذاته، بل هناك أسباب تدفعه دفعًا لذلك، مجابهًا اللامبالاة الاجتماعية التي ترصدت له نتيجة لوضعه ومكانته كأن يكون عاطلًا، أو حين يهمل نفسه إهمالًا شديدًا وفق الظروف؛ فـ "البياض" هنا هو سعي وراء فقدان الشخصية وميل نحو الظهور بشكل محايد، أن يكون وجوده هو أقل ما يمكن. وقد استعرض هنا (لوبروتون) أوضاع عديد من الأدباء والشعراء، كالشاعرة الأمريكية (إيميلي ديكنسون) على سبيل المثال، فهي شخصية حرصت على "البياض" طيلة حياتها، موازيةً المعنى بالغياب والتخفي عن محيطها، بارتداء ملابس بيضاء، وحتى غرفتها تعج بالزنابق البيضاء. " فأولى حالات البياض هو الانسحاب من الحياة وحرص المرء على أن ألا يكون موجودًا سوى في حيّز ضيق للغاية" محاطًا بعزلة وجودية كما في حالة الشاعرة (ديكنسون). ومثل الكاتب (روبرت فالزر) أيضا، مؤلف رواية (الأبناء تانر)؛ فشخصياته في رواياته تُشبهه في سيرها نحو اللا معنى، والانحياز إلى التهميش وإسقاط الغايات.
ومن الانسحاب إلى مرحلة اللامبالاة، أو كما يقول المؤلف "عدم الانتباه المهذّب"، وهو شكل من أشكال التكتم يسعى الفرد خلاله إلى تجنب إزعاج الآخرين والهروب منهم، وهو شكل من أشكال فقدان العاطفة تجاه الأحداث. " شكل آخر من أشكال تخفي الذات عن نفسها هو عدم القيام بأي عمل. وإظهار واجهة ملساء أمام الأعمال والأعباء الاجتماعية". يدعّم (لوبروتون) هذه الحالة من "البياض" على شخصية (بارتلبي النساخ) لـ (ميلفيل)، الذي يستحيل من موظف كفؤ وذي همة عالية إلى شخص متحفظ ومتخاذل، مهمل لأداء واجباته الوظيفية.
ومن الطرق الأخرى التي أسهب المؤلف في بيانها كشكل من أشكال "البياض"؛ الغرق في النوم. فالنوم هنا نقيض اليقظة، ومنفذ فعّال للتهرب من مسؤولية التواصل مع الآخرين، مستعينًا بنظرية الفيلسوف (فرويد) الذي ربط النوم برحم الأم: "فحين لا نتحمّل الوضع نعود إلى الحالة التي كنا عليها في رحم الأم (النوم)". النوم هنا موت صغير، أو شكل ناعم من الموت.
بينما اخترع اليابانيون لأنفسهم اختفاء من نوع آخر، ما يسمى بــ (الباشانكو) أو حيل الانمحاء. وهي ممارسة تفشت في اليابان بعد استسلام البلاد، كانت في البدء لإلهاء الصغار وسرعان ما استحالت إلى نشاط شعبوي يمارسه الكبار أيضًا، وخصصت له قاعات في جميع أنحاء البلاد. وهي لعبة لا تتطلب من المرء سوى الجلوس على كرسي أمام آلة، يقتني كريات بمبلغ زهيد ويرفع بإحدى يديه الرافعة التي ترمي الكريات على لوحة عمودية، فتنزل وفق مسار فوضوي تحدّده ممرات منعرجة. لتكون بذلك مشروعًا اجتماعيًّا لتبديد مؤقت للهوية من غير الخروج عن الروابط الاجتماعية.
ومن المدهش أيضًا أن تكون ممارسة التعب نوعا آخر من أنواع "البياض"؛ فالمرء حين ينخرط في نشاط بدني شاق -كالبستنة أو تقطيع الأشجار ونحو ذلك- يمارس نوعا من الإلهاء أيضًا، كما يقول (لوبروتون): "في الأنشطة البدنية أو الرياضة يكون التعب تعلقًا بالوجود وشكلًا أقصى لبناء الذات. يمحي الفرد في النشوة الطويلة للإرهاق إلا أنه يجد فيها منفعة التخلص من عناء أن يكون ذاته".
ومن التعب المنشود إلى بلوغ مرحلة الانهيار، الذي هو نتاج مرور المرء بضغوط هائلة تربك حياته الشخصية والجنسية حتى يبلغ مرحلة الانهيار، ساقطًا في فخّ انهزام الذاتية؛ تتفتّت روحه لدرجة تدفعه إلى مواصلة أعماله كالآلة. يضرب مثالًا للشعب الياباني حيث تفشى لديهم في وقت ما (وباء كاروشي) وهو موت مفاجئ يصيب الأشخاص في الثلاثينات عن طريق النوبة القلبية، نتيجة لإدمان العمل.
في المقابل يتعرض كبار السن لهذا "البياض" عبر استدعاء لحالات خمور الذاكرة والنسيان، حين يبدو واقعهم مثقلًا بما يعكّر صفو حياتهم؛ ففي الشيخوخة وعند ظهور اضطرابات الزهايمر مثلا تتعطل المنابع الباطنية للمعنى بشكل دائم، وتَعْلق الدلالات وتُرمى في الفراغ، ولا يبقى "هناك تواصل ولا أي حضور لا أمام الذات ولا أمام الآخر بل لن تعود هناك أي نرجسية؛ لأن الأنا قد اختفت، وصار الوعي أصمّ وأعمى".
بعد هذه التهيئة يسحب (دافيد لوبروتون) قارئه إلى عوالم "البياض"، فحين نصل لمرحلة "ألا تعود أحدًا"؛ ينهار العالم الداخلي والإحساس بالمحيط، وينشطر المرء، فمن لا سند له ينأى بنفسه مُخلّفًا تيهًا في كيانه. بينما من لديه القوة الكافية والثقة بذاته؛ فإنه ينساب إلى التكتم والعزلة لاجئًا إلى الطبيعة بحثًا عن خلاصه.
فالفرد لا ينسحب من تلقاء ذاته، بل هناك أسباب تدفعه دفعًا لذلك، مجابهًا اللامبالاة الاجتماعية التي ترصدت له نتيجة لوضعه ومكانته كأن يكون عاطلًا، أو حين يهمل نفسه إهمالًا شديدًا وفق الظروف؛ فـ "البياض" هنا هو سعي وراء فقدان الشخصية وميل نحو الظهور بشكل محايد، أن يكون وجوده هو أقل ما يمكن. وقد استعرض هنا (لوبروتون) أوضاع عديد من الأدباء والشعراء، كالشاعرة الأمريكية (إيميلي ديكنسون) على سبيل المثال، فهي شخصية حرصت على "البياض" طيلة حياتها، موازيةً المعنى بالغياب والتخفي عن محيطها، بارتداء ملابس بيضاء، وحتى غرفتها تعج بالزنابق البيضاء. " فأولى حالات البياض هو الانسحاب من الحياة وحرص المرء على أن ألا يكون موجودًا سوى في حيّز ضيق للغاية" محاطًا بعزلة وجودية كما في حالة الشاعرة (ديكنسون). ومثل الكاتب (روبرت فالزر) أيضا، مؤلف رواية (الأبناء تانر)؛ فشخصياته في رواياته تُشبهه في سيرها نحو اللا معنى، والانحياز إلى التهميش وإسقاط الغايات.
ومن الانسحاب إلى مرحلة اللامبالاة، أو كما يقول المؤلف "عدم الانتباه المهذّب"، وهو شكل من أشكال التكتم يسعى الفرد خلاله إلى تجنب إزعاج الآخرين والهروب منهم، وهو شكل من أشكال فقدان العاطفة تجاه الأحداث. " شكل آخر من أشكال تخفي الذات عن نفسها هو عدم القيام بأي عمل. وإظهار واجهة ملساء أمام الأعمال والأعباء الاجتماعية". يدعّم (لوبروتون) هذه الحالة من "البياض" على شخصية (بارتلبي النساخ) لـ (ميلفيل)، الذي يستحيل من موظف كفؤ وذي همة عالية إلى شخص متحفظ ومتخاذل، مهمل لأداء واجباته الوظيفية.
ومن الطرق الأخرى التي أسهب المؤلف في بيانها كشكل من أشكال "البياض"؛ الغرق في النوم. فالنوم هنا نقيض اليقظة، ومنفذ فعّال للتهرب من مسؤولية التواصل مع الآخرين، مستعينًا بنظرية الفيلسوف (فرويد) الذي ربط النوم برحم الأم: "فحين لا نتحمّل الوضع نعود إلى الحالة التي كنا عليها في رحم الأم (النوم)". النوم هنا موت صغير، أو شكل ناعم من الموت.
بينما اخترع اليابانيون لأنفسهم اختفاء من نوع آخر، ما يسمى بــ (الباشانكو) أو حيل الانمحاء. وهي ممارسة تفشت في اليابان بعد استسلام البلاد، كانت في البدء لإلهاء الصغار وسرعان ما استحالت إلى نشاط شعبوي يمارسه الكبار أيضًا، وخصصت له قاعات في جميع أنحاء البلاد. وهي لعبة لا تتطلب من المرء سوى الجلوس على كرسي أمام آلة، يقتني كريات بمبلغ زهيد ويرفع بإحدى يديه الرافعة التي ترمي الكريات على لوحة عمودية، فتنزل وفق مسار فوضوي تحدّده ممرات منعرجة. لتكون بذلك مشروعًا اجتماعيًّا لتبديد مؤقت للهوية من غير الخروج عن الروابط الاجتماعية.
ومن المدهش أيضًا أن تكون ممارسة التعب نوعا آخر من أنواع "البياض"؛ فالمرء حين ينخرط في نشاط بدني شاق -كالبستنة أو تقطيع الأشجار ونحو ذلك- يمارس نوعا من الإلهاء أيضًا، كما يقول (لوبروتون): "في الأنشطة البدنية أو الرياضة يكون التعب تعلقًا بالوجود وشكلًا أقصى لبناء الذات. يمحي الفرد في النشوة الطويلة للإرهاق إلا أنه يجد فيها منفعة التخلص من عناء أن يكون ذاته".
ومن التعب المنشود إلى بلوغ مرحلة الانهيار، الذي هو نتاج مرور المرء بضغوط هائلة تربك حياته الشخصية والجنسية حتى يبلغ مرحلة الانهيار، ساقطًا في فخّ انهزام الذاتية؛ تتفتّت روحه لدرجة تدفعه إلى مواصلة أعماله كالآلة. يضرب مثالًا للشعب الياباني حيث تفشى لديهم في وقت ما (وباء كاروشي) وهو موت مفاجئ يصيب الأشخاص في الثلاثينات عن طريق النوبة القلبية، نتيجة لإدمان العمل.
ومن حالات "البياض" الأخرى التي تكون نتاج الاكتئاب والانهيار؛ أن يحيا المرء في شخصيات متعددة، فالانقسام هنا -وفق (لوبروتون)- هو أسلوب للدفاع أيضًا عن الكوارث النفسية التي تعطب روح الإنسان، فتنشطر الذات إلى كيانات متعددة، أو قد ينغمس الفرد في نشاطات من الأنشطة. وهنا يستعرض المؤلف حياة بطل رواية (الدفاع لو جين) لـ (نابوكوف) الذي يحكي عن شخصية كانت طفلًا ثم مراهقًا شقيًّا غير محبوب، يتعرض للتنمر من رفاقه في المدرسة لبدانته. فتنتكس نفسيته ويفكر في هجر المدرسة والتخلص من حياته، إلى أن قادته صدفة ما إلى لعبة الشطرنج. هذه اللعبة سرعان ما تكون شغفه وستغير حياته في عالم فوضوي، على رقعة الشطرنج يدرك التركيبات الممكنة لعالم مصغّر؛ فيصبح سيّد اللعبة مؤثثًّا عالمه الساحق لعدم تمكنه من عالمه المحيط. يصنع سمعة دولية، ويستمر في اللعب مرددًّا لنفسه: "أي شيء يوجد في العالم خارج لعبة الشطرنج؟ الضباب، المجهول، العدم".
قدم الباحث (دافيد لوبروتون) في هذا الكتاب تجارب غاية في الأهمية عن طمس الذات وسعيها الحثيث للانمحاء في زمن يفيض بالضغوط الهائلة، التي من شأنها أن تقوّض إنسانية المرء وتحيله إلى كائن منهك.
دون أن يدين هذا "البياض"، بل دعا إلى ممارسته بطريقة فعالة، مقتبسًا عبارة (مونتيني): "علينا حجز غرفة خلفية لنا وحدنا، فيها نبني حريتنا الحقيقية، واستراحتنا الأساس وعزلتنا".
على أن تؤثث هذه العزلة المنشودة بطريقة لا تستنزف الذات من خلال ممارسة حالات بياضٍ صحيّة كالسفر والتأمل، والقراءة والكتابة ونحو ذلك؛ كي تكون بمثابة إجازة للذات وتعود في أشدّ حالاتها قوة.
*جميع الحقوق محفوظة للمختبر السعودي للنقد 2023
https://engage.moc.gov.sa/saudi-criticism-lab/articles-and-studies/article/?item_id=269&s=08
قدم الباحث (دافيد لوبروتون) في هذا الكتاب تجارب غاية في الأهمية عن طمس الذات وسعيها الحثيث للانمحاء في زمن يفيض بالضغوط الهائلة، التي من شأنها أن تقوّض إنسانية المرء وتحيله إلى كائن منهك.
دون أن يدين هذا "البياض"، بل دعا إلى ممارسته بطريقة فعالة، مقتبسًا عبارة (مونتيني): "علينا حجز غرفة خلفية لنا وحدنا، فيها نبني حريتنا الحقيقية، واستراحتنا الأساس وعزلتنا".
على أن تؤثث هذه العزلة المنشودة بطريقة لا تستنزف الذات من خلال ممارسة حالات بياضٍ صحيّة كالسفر والتأمل، والقراءة والكتابة ونحو ذلك؛ كي تكون بمثابة إجازة للذات وتعود في أشدّ حالاتها قوة.
*جميع الحقوق محفوظة للمختبر السعودي للنقد 2023
https://engage.moc.gov.sa/saudi-criticism-lab/articles-and-studies/article/?item_id=269&s=08
" أردت أن أشهد بما أعرف، أن أدون على الورق الخرطومَ التي عرفتُ- مكان سهل وعميق، قاسي ورحب".
مقطع من قصة طويلة وعذبة بعنوان: رحلة كاتبة من الخرطوم إلى أبردين. للكاتبة والروائية السودانية المقيمة في بريطانبا ليلى أبو العلا والتي تصف فيها أبرز تأثيرات الغربة والمنفى على كينونتها الشخصية ككاتبة.. من مجموعتها القصصية" متاهة كل صيف" ت. عادل بابكر
مقطع من قصة طويلة وعذبة بعنوان: رحلة كاتبة من الخرطوم إلى أبردين. للكاتبة والروائية السودانية المقيمة في بريطانبا ليلى أبو العلا والتي تصف فيها أبرز تأثيرات الغربة والمنفى على كينونتها الشخصية ككاتبة.. من مجموعتها القصصية" متاهة كل صيف" ت. عادل بابكر
" ذوو الحِرف الحزينة
يتردّد أبناؤهم في الإجابة
عن السؤال المزعج الذي يطرح عليهم دومًا
- ماذا يعمل والدك؟
يعملون جيّدًا
أنهم سيقبلون بأي عملٍ آخر
مقابل الأجر ذاته
يتحلوّلون إلى حكماء
حين يتوقّفون عن لوم الآخرين
الذين لا يحبّون أعمالهم".
الحِرف الحزينة| ميغيل مالذوناذو
يتردّد أبناؤهم في الإجابة
عن السؤال المزعج الذي يطرح عليهم دومًا
- ماذا يعمل والدك؟
يعملون جيّدًا
أنهم سيقبلون بأي عملٍ آخر
مقابل الأجر ذاته
يتحلوّلون إلى حكماء
حين يتوقّفون عن لوم الآخرين
الذين لا يحبّون أعمالهم".
الحِرف الحزينة| ميغيل مالذوناذو