يسعدني فوز الكاتبة الكورية هان كانغ بجائزة نوبل في الآداب.
وأضع هنا مراجعة سابقة نشرتها عن روايتها البديعة " النباتية" في مجلة الفيصل عام 2018م.
وأضع هنا مراجعة سابقة نشرتها عن روايتها البديعة " النباتية" في مجلة الفيصل عام 2018م.
في رواية «النباتية» تستحيل البطلة إلى شجرة
ليلي عبدالله - كاتبة عمانية | سبتمبر 1, 2018 | كتب
لعل من المصادفات المبهجة والغريبة أيضًا أن أقرأ رواية «النباتية»، للروائية الكورية الجنوبية هان كانغ، ترجمة: محمود عبدالغفار (دار التنوير 2018م)، بالتزامن مع لقائي بصديق أسترالي من أصل مكسيكي.
الغريب في الأمر أن هذا الصديق هو نباتي أيضًا، لا يتناول سوى الوجبات النباتية، طعام خالٍ تمامًا من أنواع اللحوم كافة حتى الأسماك، بل إنه يتجنب أكل البيض والحليب ومشتقاته أيضًا، إمعانًا في غايته لقطع صلته بكل ما هو لحميّ، لأكثر من عشر سنوات تخلى هذا الصديق المدعو كارل عن ذلك؛ يقينًا منه أن هذه اللحوم تتعرض لأذى إنساني فظيع أثناء قتل بني آدم لها والتهامها، تلك هي فلسفته في الحياة، الفلسفة التي تبدو غريبة لنا نحن آكلي اللحوم المتوحشين ربما!
في رواية «النباتية» للصحافية والكاتبة هان كانغ، تحمل بطلتها فلسفتها أيضًا حول أكل اللحوم، فلسفة غير مخطط لها، بل نابعة من صميم حلم يأتيها في ليلة ما، فتجد نفسها واقفة بذهول أمام الثلاجة الفائضة بأنواع متعددة من اللحوم، الحلم نفسه يتكرر؛ ما يجعلها تُخرِج كل تلك اللحوم من الثلاجة وتضعها في أكياس القمامة لترميها بعيدًا من بيتها، مما يشكِّل مشكلة للزوج الذي يُفاجَأ بسلوك زوجته الغريب، المرأة الهادئة، العادية، الزوجة المنصتة، تستحيل بين يوم وليلة إلى كائن يتصرف بغرابة، فلا تطيق اللحوم بل لا تطيق لمساته كزوج؛ لأن مسامَّه تفوح برائحة اللحوم المقرفة!
نَحَت الروائية كانغ في روايتها الثالثة التي صدرت عام 2007م إلى التجريب، الذي أهلها للفوز بجائزة مان بوكر الدولية 2016م عن استحقاق، وقد نوهت لجنة التحكيم بأن مبعث فوزها المستحق هو في أنها نجحت في إظهار التلاحم الطريف بين الجمال والرعب عبر قصة مركزة ودقيقة ومروعة، عن امرأة تستحيل إلى نباتية بين يوم وليلة دون أي مسوغات، سوى الكابوس الذي نبش حلمًا من أحلامها في إحدى الليالي؛ لتحيل حياتها وحياة كل من حولها إلى جحيم، فمن هو هذا العاقل الذي يتخلى عن التهام مئات الأطباق المكونة من أشهى اللحوم المتنوعة؟! لذا فإن هذا يعرِّضها لتعنيف شديد القسوة من قبل عائلتها، ولا سيما الأب الذي يرى في تصرف ابنته نوعًا كبيرًا من العار في حق زوجها!
هان كانغ
تطرقت الروائية لفكرة جديدة، وقامت بسردها بأسلوب أقل ما يقال عنه: إنه معتم، فجوّ الرواية سوداوي، ويجد القارئ نفسه أمام امرأة تتضاءل يومًا بعد يوم، ويشكل تخليها عن اللحوم أزمة وجودية، ولا سيما وأن كونها نباتية لم يكن نابعًا من فلسفة إنسانية تجاه الحيوانات، بل هو نابع من حلم غريب انتابها وجعلها تبدو شخصًا متوحِّشًا، وتلك الكائنات الحيوانية تكاد تنتقم منها بالتهامها، ثم سرعان ما يتمكن منها هذا الحلم، ويظهر تأثيره لا على حياتها فحسب، بل على حياة من حولها أيضًا ابتداء من زوجها الذي يطلقها، وهو الراوي الأول في الرواية، يسرد تفاصيل حياته العادية مع زوجته العادية، زوجة تبدو مضجرة في ممارسة حياتها الزوجية، حتى بداية الحلم وتخليها عن اللحوم بطريقة مقززة!
ثم تتطرق الرواية لحياتها مع أسرتها: أبيها وأمها وأخيها وأختها وزوجها؛ ليكون زوج أختها هو السارد الثاني لتحريك دفة السرد، الفصل الأكثر ثراءً وحيوية في الرواية من حيث تناولها للتفاصيل، زوج الشقيقة الكبرى الذي يرى أن شقيقة زوجته الصغرى امرأة مثيرة، سرعان ما يستغل حالتها الغريبة ليطرح عليها فكرته المجنونة، وهي أن يرسم على كامل جسدها حديقة زهور ملونة، ثم يستغلها لمآربه الجنسية في تماهٍ مع فكرته الفنية ورغباته أيضًا، لكن الشقيقة الكبرى تقف له بالمرصاد وتنهي حياتها معه، بل تدخله مصحة نفسيّة متهمة إياه بالجنون، وبذلك تنتهي حياته المهنية كفنان، وحياته كزوج وأب أيضًا!
أما الفصل الأخير من الرواية فاتكأ السرد فيه على صوت الشقيقة الكبرى، المضحية بالمعنى الدقيق، التي يشعر القارئ باندفاعاتها، ويتجاوب مع معاناتها كامرأة عاملة وأم وزوجة وشقيقة كبرى، وتغدو في الرواية أكثر شخصية يتعاطف معها القارئ، في حين تكاد نظرة القارئ للبطلة النباتية يشوبها نوع من القلق، بل تكاد تكون نظرة محايدة مشْبَعة بنوع من الهلع حول مصيرها الغامض خلف لهاثها تجاه حلم غامض! أما الشقيقة الكبرى فهي برّ الأمان في الرواية، المرأة الحنون، هي الأخت الكبرى فعلًا، التي بدورها تتماهى مع ما تعايشه شقيقتها الصغرى التي تتخيل نفسها شجرة، فتتخلى كليًّا عن الطعام حتى النباتي منه، وتكتفي بالماء؛ فالأشجار تكتفي بالماء وضوء الشمس لتكون وارفة، فائضة بالحياة!
الرواية أيضًا تحمل فكرتها الكبرى، الفكرة الخفية، عن سوء معاملة النساء في مكان مشهود له بالحضارة العريقة والتطور الفذّ ككوريا الجنوبية، في ظل هذا الانطلاق التكنولوجي يظل فيه وضع المرأة مزريًا، بل يكاد وضعها يثير الشفقة، فالبطلة حين تتحول إلى نباتية تلام بشدة، ويَصِمونها بالجنون، وكأن ليس من حقها أن
ليلي عبدالله - كاتبة عمانية | سبتمبر 1, 2018 | كتب
لعل من المصادفات المبهجة والغريبة أيضًا أن أقرأ رواية «النباتية»، للروائية الكورية الجنوبية هان كانغ، ترجمة: محمود عبدالغفار (دار التنوير 2018م)، بالتزامن مع لقائي بصديق أسترالي من أصل مكسيكي.
الغريب في الأمر أن هذا الصديق هو نباتي أيضًا، لا يتناول سوى الوجبات النباتية، طعام خالٍ تمامًا من أنواع اللحوم كافة حتى الأسماك، بل إنه يتجنب أكل البيض والحليب ومشتقاته أيضًا، إمعانًا في غايته لقطع صلته بكل ما هو لحميّ، لأكثر من عشر سنوات تخلى هذا الصديق المدعو كارل عن ذلك؛ يقينًا منه أن هذه اللحوم تتعرض لأذى إنساني فظيع أثناء قتل بني آدم لها والتهامها، تلك هي فلسفته في الحياة، الفلسفة التي تبدو غريبة لنا نحن آكلي اللحوم المتوحشين ربما!
في رواية «النباتية» للصحافية والكاتبة هان كانغ، تحمل بطلتها فلسفتها أيضًا حول أكل اللحوم، فلسفة غير مخطط لها، بل نابعة من صميم حلم يأتيها في ليلة ما، فتجد نفسها واقفة بذهول أمام الثلاجة الفائضة بأنواع متعددة من اللحوم، الحلم نفسه يتكرر؛ ما يجعلها تُخرِج كل تلك اللحوم من الثلاجة وتضعها في أكياس القمامة لترميها بعيدًا من بيتها، مما يشكِّل مشكلة للزوج الذي يُفاجَأ بسلوك زوجته الغريب، المرأة الهادئة، العادية، الزوجة المنصتة، تستحيل بين يوم وليلة إلى كائن يتصرف بغرابة، فلا تطيق اللحوم بل لا تطيق لمساته كزوج؛ لأن مسامَّه تفوح برائحة اللحوم المقرفة!
نَحَت الروائية كانغ في روايتها الثالثة التي صدرت عام 2007م إلى التجريب، الذي أهلها للفوز بجائزة مان بوكر الدولية 2016م عن استحقاق، وقد نوهت لجنة التحكيم بأن مبعث فوزها المستحق هو في أنها نجحت في إظهار التلاحم الطريف بين الجمال والرعب عبر قصة مركزة ودقيقة ومروعة، عن امرأة تستحيل إلى نباتية بين يوم وليلة دون أي مسوغات، سوى الكابوس الذي نبش حلمًا من أحلامها في إحدى الليالي؛ لتحيل حياتها وحياة كل من حولها إلى جحيم، فمن هو هذا العاقل الذي يتخلى عن التهام مئات الأطباق المكونة من أشهى اللحوم المتنوعة؟! لذا فإن هذا يعرِّضها لتعنيف شديد القسوة من قبل عائلتها، ولا سيما الأب الذي يرى في تصرف ابنته نوعًا كبيرًا من العار في حق زوجها!
هان كانغ
تطرقت الروائية لفكرة جديدة، وقامت بسردها بأسلوب أقل ما يقال عنه: إنه معتم، فجوّ الرواية سوداوي، ويجد القارئ نفسه أمام امرأة تتضاءل يومًا بعد يوم، ويشكل تخليها عن اللحوم أزمة وجودية، ولا سيما وأن كونها نباتية لم يكن نابعًا من فلسفة إنسانية تجاه الحيوانات، بل هو نابع من حلم غريب انتابها وجعلها تبدو شخصًا متوحِّشًا، وتلك الكائنات الحيوانية تكاد تنتقم منها بالتهامها، ثم سرعان ما يتمكن منها هذا الحلم، ويظهر تأثيره لا على حياتها فحسب، بل على حياة من حولها أيضًا ابتداء من زوجها الذي يطلقها، وهو الراوي الأول في الرواية، يسرد تفاصيل حياته العادية مع زوجته العادية، زوجة تبدو مضجرة في ممارسة حياتها الزوجية، حتى بداية الحلم وتخليها عن اللحوم بطريقة مقززة!
ثم تتطرق الرواية لحياتها مع أسرتها: أبيها وأمها وأخيها وأختها وزوجها؛ ليكون زوج أختها هو السارد الثاني لتحريك دفة السرد، الفصل الأكثر ثراءً وحيوية في الرواية من حيث تناولها للتفاصيل، زوج الشقيقة الكبرى الذي يرى أن شقيقة زوجته الصغرى امرأة مثيرة، سرعان ما يستغل حالتها الغريبة ليطرح عليها فكرته المجنونة، وهي أن يرسم على كامل جسدها حديقة زهور ملونة، ثم يستغلها لمآربه الجنسية في تماهٍ مع فكرته الفنية ورغباته أيضًا، لكن الشقيقة الكبرى تقف له بالمرصاد وتنهي حياتها معه، بل تدخله مصحة نفسيّة متهمة إياه بالجنون، وبذلك تنتهي حياته المهنية كفنان، وحياته كزوج وأب أيضًا!
أما الفصل الأخير من الرواية فاتكأ السرد فيه على صوت الشقيقة الكبرى، المضحية بالمعنى الدقيق، التي يشعر القارئ باندفاعاتها، ويتجاوب مع معاناتها كامرأة عاملة وأم وزوجة وشقيقة كبرى، وتغدو في الرواية أكثر شخصية يتعاطف معها القارئ، في حين تكاد نظرة القارئ للبطلة النباتية يشوبها نوع من القلق، بل تكاد تكون نظرة محايدة مشْبَعة بنوع من الهلع حول مصيرها الغامض خلف لهاثها تجاه حلم غامض! أما الشقيقة الكبرى فهي برّ الأمان في الرواية، المرأة الحنون، هي الأخت الكبرى فعلًا، التي بدورها تتماهى مع ما تعايشه شقيقتها الصغرى التي تتخيل نفسها شجرة، فتتخلى كليًّا عن الطعام حتى النباتي منه، وتكتفي بالماء؛ فالأشجار تكتفي بالماء وضوء الشمس لتكون وارفة، فائضة بالحياة!
الرواية أيضًا تحمل فكرتها الكبرى، الفكرة الخفية، عن سوء معاملة النساء في مكان مشهود له بالحضارة العريقة والتطور الفذّ ككوريا الجنوبية، في ظل هذا الانطلاق التكنولوجي يظل فيه وضع المرأة مزريًا، بل يكاد وضعها يثير الشفقة، فالبطلة حين تتحول إلى نباتية تلام بشدة، ويَصِمونها بالجنون، وكأن ليس من حقها أن
تختار، بل هذا الخيار الحرّ نحو ما يلائم شخصيتها لا وجود له في عالم المرأة المتزوجة، هذا الانتهاك الذي يتعرض لحريتها الشخصية ربما هو المبعث الأساسي لفشل حياتها الزوجية، ليس هذا فحسب، بل إن الرواية أيضًا تظهر طبيعة المجتمع الكوري الجنوني الذي تنقصه قيم التقبّل: تقبل اختلاف الآخر، واختلاف توجهاته وأنماطه في ممارسة حياته كما يحلو له؛ كمعظم المجتمعات الأوربية التي قطعت أشواطًا هائلة لتمديد مساحات الحريات الشخصية كحق إنساني، ومنطلق حقيقي نحو مستقبل أكثر انفتاحًا.
الرواية هي فضح ورفع للغشاوة عن مجتمع محدود الأفق، وقاسٍ، وينقصه الكثير لتتعادل فيه حداثة الآلات مع حداثة العقول البشرية!
الرواية هي فضح ورفع للغشاوة عن مجتمع محدود الأفق، وقاسٍ، وينقصه الكثير لتتعادل فيه حداثة الآلات مع حداثة العقول البشرية!
«بطولة الإنسان في هذه المرحلة، أن يبقى حيّاً، وشريفاً، وألّا يفقد عقله».
عبدالرحمن منيف
عبدالرحمن منيف
"منكباً في ورشتِهِ
يصنعُ هذا النجّارُ الكهلُ
توابيتاً للناسْ
ينسى التفكيرَ بموته..
الألفةُ تفقدهُ الإحساسْ".
عدنان الصائغ
يصنعُ هذا النجّارُ الكهلُ
توابيتاً للناسْ
ينسى التفكيرَ بموته..
الألفةُ تفقدهُ الإحساسْ".
عدنان الصائغ
وقع اختياري في الحياة على أكثر المهن والمواهب مشقّة:
التدريس والكتابة!
تركت التدريس دون تأنيب في الضمير مع قليل من الحنين، لكن لا مجال على ما يبدو الاستغناء عن الكتابة حيث لا تربطها قانون تقاعد ولا تلغيها ورقة استقالة.
والكتابة من أعتى المهمّات في الحياة بلا منازع ولا تلائم سوى حالم صبور أو من به مسّ الخبَلْ. فأيّ مخلوق هذا الذي يلاحق كلمة تلو كلمة تلو كلمة ليرمّم عوالمه السردية بلا كلل؟!
أصدقكم القول: أحيانا أغبط من نجا من لوثة الكتابة. ريّح وارتاح... محظوظ ابن اللذينا!
التدريس والكتابة!
تركت التدريس دون تأنيب في الضمير مع قليل من الحنين، لكن لا مجال على ما يبدو الاستغناء عن الكتابة حيث لا تربطها قانون تقاعد ولا تلغيها ورقة استقالة.
والكتابة من أعتى المهمّات في الحياة بلا منازع ولا تلائم سوى حالم صبور أو من به مسّ الخبَلْ. فأيّ مخلوق هذا الذي يلاحق كلمة تلو كلمة تلو كلمة ليرمّم عوالمه السردية بلا كلل؟!
أصدقكم القول: أحيانا أغبط من نجا من لوثة الكتابة. ريّح وارتاح... محظوظ ابن اللذينا!
تحوّلت بلدتي تاجوراءَ، الضاحية الشرقية للعاصمة طرابلس، أمام عينيْ تحوّلاتٍ جذرية في سنواتٍ قليلة. كنّا ونحنُ أطفال نتسلل إلى "السواني"، أي بساتين البلدة، نسرقُ البرتقال في الشتاء ونلملمُ التوت في الصيف، وكانت البلدة واسعة، ربما لأننا أطفال يعيشون على فطرةِ الرّيف، أي أنّها لم تكن مزدحمةً البتّة وكانت أغلب شوارعها وطرقاتها ترابية، مع أنّ حكومات الجماهيرية العظمى رسمت مخططات لطرقٍ معبّدة لها منذ السبعينيات.
لا أذكر وجودَ مقاهي في البلدة في طفولتي إلا مقهىً واحداً أو اثنيْن، أحدهما كان على الشاطئ ويبدو من بنائه أنّه إيطالي الطّابع. وبعد الثورة الليبية سنة 2011 تغيّر كل شيء في البلدة، فعُبِّدَت طرق جديدة وصارت البساتين، مرابع الطفولة ومنتهى أحلامها، تختفي الواحدة تلو الأخرى لتُبنى بدلاً منها القصور والمنازل الواسعة الكبيرة، وندَرَ رؤية "سانية" أو بستان برتقال وسطَ البلدة، وتغلغلَ العُمران فيها وانتشرت الغابات الإسمنتية وأمكنَ للمرء أن يرى في شارعٍ رئيسٍ واحدٍ أكثر من خمسة مقاهي، فما بالك بالبلدة كُلِّها. تحوّلت البلدة أمام عيني، وكأي ابن بلد يتوق إلى زمن بلدته الجميل، وصرتُ أتحسّر على طفولةِ تاجوراء، وأتحسّر أكثر على فقدانها بساتينها البهيّة وأشجارها العظيمة التي كانت تظللنا وتحمينا من حرارة الشمس. ازدحمت تاجوراء واكتظّت بالسكّان. ومع ذلك الاكتظاظ تغيّرت، في عشر سنوات عادات السكّان وطباعهم وربما تفككت روابط اجتماعية قديمة بعد أن انتهت التجربة الاشتراكية في البَلد وتسارعت حمّى الثروة بعد ثورة فبراير، وما زالت البلدة الآن تواجه مخاضاً عسيراً لتشكّل روابط اجتماعية جديدة لم يعتَد عليها سكّانها الأصليون.
الكاتب الليبي محمد النعاس
لا أذكر وجودَ مقاهي في البلدة في طفولتي إلا مقهىً واحداً أو اثنيْن، أحدهما كان على الشاطئ ويبدو من بنائه أنّه إيطالي الطّابع. وبعد الثورة الليبية سنة 2011 تغيّر كل شيء في البلدة، فعُبِّدَت طرق جديدة وصارت البساتين، مرابع الطفولة ومنتهى أحلامها، تختفي الواحدة تلو الأخرى لتُبنى بدلاً منها القصور والمنازل الواسعة الكبيرة، وندَرَ رؤية "سانية" أو بستان برتقال وسطَ البلدة، وتغلغلَ العُمران فيها وانتشرت الغابات الإسمنتية وأمكنَ للمرء أن يرى في شارعٍ رئيسٍ واحدٍ أكثر من خمسة مقاهي، فما بالك بالبلدة كُلِّها. تحوّلت البلدة أمام عيني، وكأي ابن بلد يتوق إلى زمن بلدته الجميل، وصرتُ أتحسّر على طفولةِ تاجوراء، وأتحسّر أكثر على فقدانها بساتينها البهيّة وأشجارها العظيمة التي كانت تظللنا وتحمينا من حرارة الشمس. ازدحمت تاجوراء واكتظّت بالسكّان. ومع ذلك الاكتظاظ تغيّرت، في عشر سنوات عادات السكّان وطباعهم وربما تفككت روابط اجتماعية قديمة بعد أن انتهت التجربة الاشتراكية في البَلد وتسارعت حمّى الثروة بعد ثورة فبراير، وما زالت البلدة الآن تواجه مخاضاً عسيراً لتشكّل روابط اجتماعية جديدة لم يعتَد عليها سكّانها الأصليون.
الكاتب الليبي محمد النعاس
"الكتابة التي نريد ليست فرضا، ولا إجراء، ولا تحديا، ولا تباهيا، الكتابة التي نريد، هي أمر يحدث أثناء عيشنا مع الخفة، والبطء، والسذاجة، والغفلة، والصدق، والحب، والبذل، والتأمل، والعيش الدائم في دنيا الأدب، والفن، والجمال، في أثناء ذلك هل سنقبض على سرها؟
لا أدري! ".
طاهر الزهراني
لا أدري! ".
طاهر الزهراني
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
الحمد لله تم عقد قراني اليوم على من اختاره الله سندًا ورفيقًا لي في رحلة الحياة💍❤️
«إيماني لا يتزعزع بأنّ العلاقات العامّة لا تستطيع إنقاذ الكتابة السيّئة، وأن الكتابة الجيدة لا تحتاج إليها. »
- خالد خليفة
- خالد خليفة
مراجعة نقدية بديعة عن فهرس الملوك منشورة في جريدة الدّيار اللبنانية كتبها الناقد والكاتب اللبناني منير الحايك.. Mounir El Hayek ❤️
عندما تريد أن تكون قاصًّا في زمن الرواية، عليك أن تكون مؤمنًا بما تقدّمه، وأن تحرص على أن تبحث عن الجديد لتقدّمه إلى المتلقّي، ولكن أن يكون الجديد مرتبط بالتراث و"القديم"، فهي مفارقة لا تحصل مصادفة، بل تحصل عندما يكون القاصّ صاحب مشروع، وصاحب رؤىً وثقافة وهمّ كبير، ومع القاصّة العمانية ليلى عبد الله، تجد ذلك الجديد في مجموعتها "فهرس الملوك" (دار مرايا 2023).
قدّمت الكاتبة 15 قصّة، مشغولة ومحبوكة حول الملوك وحيواتهم المختلفة، تلك الحيوات التي تجمعها صفة "الملك" وكل ما ارتبط بهذه الصفة من قصص حيكت عن صاحبها على مرّ العصور والأزمان، ولم تخرج بحكاياتها، من حيث الشكل، عن القصص تلك، وما حملته من عِبَر وحِكَم وغرائبية، أما من حيث المضمون والغايات والنقد الاجتماعي والسياسي، فالأمور كانت آخذة مناحي مختلفة.
بدأت حكاياتها بحوار بين الملك والشاعر، وكيف لم يفهم من سمع الحوار بين "وا" و"إنّ" مقاصد الرجلين، ولماذا طَرَد الملكُ الشاعر، تلك التوطئة، أو القصّة القصيرة "جدًّا"، كان لحضورها دور رئيس، وهو أن الكاتبة أرادت أن تقول لنا، افهم ما استطعت مما أريده، وإن وصلتك بعض الأفكار فقط، فلا بأس، لأنّ المعنى قد يكون "في قلب الشاعر/القاصّ". ومن ناحية أخرى كانت الغاية للتأكيد على أنّ الصِّدام القائم بين الحاكم والمثقّف، مستمرّ، وسيبقى طالما أنّهما يفهمان مقاصد بعضهما البعض، فعندما يسأل المثقفُ الحاكمَ عن مقصده يصبح من حاشيته، ولو سأل الحاكمُ المثقفَ عن مقصده، سيقوّم سلوكه ويثبت المثقف وجهة نظره وحضوره، وقد تنفَّذ أفكاره، أما استمرار هذا الفَهم، فهو استمرار للصراع.
حكايات الملوك، بين ذوّاق الملك الذي مات الملك بسببه، وتمثاله الذي عاد وتم تكسيره في النهاية وتم السؤال معه عن معنى الطاغية، ولوحة الفحم التي سالت ألوانها مع المطر، مرورًا بلباس الملك من نفايات الشعب، والملك المزيّف الذي أكمل حياته مع السكارى، وصولًا إلى القصة الأخيرة مع ملكة القلوب المأخوذة من قصص أليس في بلاد العجائب، كلها قصص لها جذور يمكن أن نكون قد سمعنا بمثلها، أو نتوقّع شيئًا من أحداثها، لذا يكمن السؤال، ما الجديد الذي قدّمته هذه المجموعة؟
أبدأ مع نهايات معظم القصص، وهي أنها تنتهي بما يشبه القصص الومضة، بمشهد بسيط فيه الكثير من التكثيف، وهو ما ميّز أسلوب الكاتبة، فبعد القصة الأولى وبعد الثانية، يصبح المتلقيّ منتظرًا للنهاية، ليس لأنّ تشويقًا ما حول سرّ أو مصير شخصية أو نهاية حدث سيحصل، بل لأنّه ينتظر التكثيف الذي ستحمله نهاية القصة، وهنا نجد جدّةً وبراعة.
أمّا العنصر الأبرز في هذه المجموعة، وهو برأيي العنصر الأصعب، فلجوء الكاتبة إلى القصص الشعبية والتراثية والخرافية، وتصميمها على أن تكون قصصها مشابهة لتلك القصص، لهو أمر في غاية الدقة والصعوبة على الرغم من أنه يظهر كأنه سهل وبسيط، فكيف تميّز نصّك وأنت الذي تكتب على غرار قصص الأطفال وقصص الجدّات؟ لقد أعادت ليلى عبد الله إعادة صياغة بعض الموروثات، وهنا الجديد المولود من رحم القديم إن صحّ التعبير، ولعلّ النقد الاجتماعي والسياسي للحاكم وللفاسد وللمجتمع، وكل ما مرّ من نقد وبثٍّ لأفكار الكاتبة وقناعاتها، لم يكن هو الأساس فيما قدّمته نصوصها من جديد، فكان يمكن لها أن تصوغ قصصًا واقعية أقرب إلى المتلقي وأقرب إلى حياتنا وقضايانا اليوم، ولكنها أرادت أن تقوم بعدة خطوات في آن، فقضية الهدم وإعادة البناء، كانت حاضرة بقوة في هذه المجموعة، على الرغم من عدم وضوح الهدم فيها. إلا أنّ إعادة البناء بحسب ذائقتها وقضيتها في كل قصة، وهمّها في كل فكرة، كانت خير دليل على الهدم الذي أجرته في بالها وعلى الورق على الأقل، قبل بداية بناءاتها الخاصة.
أسلوب النصوص متماسك وسلس، لم تتكلّف صاحبته ولم تبذل جهودًا للتنميق، فالقصص وشخصياتها وما نطقت به، كانت لغتها ومفرداتها مدروسة ومحسوبة، وهذا يُحسَب للمجموعة وكاتبتها.
هي مجموعة قصصية لقاصّة تعرف أصول الحكي والقصّ والسرد، وتعرف أصول البحث واتخاذ القرارات حين تريد أن تكتب، لأنّ المعاني، والقصص، والموروث، والنقد، والسرد، ...، مطروحة على الطرقات، أما الأسلوب والفنية والجدّة فهو الغاية.
عندما تريد أن تكون قاصًّا في زمن الرواية، عليك أن تكون مؤمنًا بما تقدّمه، وأن تحرص على أن تبحث عن الجديد لتقدّمه إلى المتلقّي، ولكن أن يكون الجديد مرتبط بالتراث و"القديم"، فهي مفارقة لا تحصل مصادفة، بل تحصل عندما يكون القاصّ صاحب مشروع، وصاحب رؤىً وثقافة وهمّ كبير، ومع القاصّة العمانية ليلى عبد الله، تجد ذلك الجديد في مجموعتها "فهرس الملوك" (دار مرايا 2023).
قدّمت الكاتبة 15 قصّة، مشغولة ومحبوكة حول الملوك وحيواتهم المختلفة، تلك الحيوات التي تجمعها صفة "الملك" وكل ما ارتبط بهذه الصفة من قصص حيكت عن صاحبها على مرّ العصور والأزمان، ولم تخرج بحكاياتها، من حيث الشكل، عن القصص تلك، وما حملته من عِبَر وحِكَم وغرائبية، أما من حيث المضمون والغايات والنقد الاجتماعي والسياسي، فالأمور كانت آخذة مناحي مختلفة.
بدأت حكاياتها بحوار بين الملك والشاعر، وكيف لم يفهم من سمع الحوار بين "وا" و"إنّ" مقاصد الرجلين، ولماذا طَرَد الملكُ الشاعر، تلك التوطئة، أو القصّة القصيرة "جدًّا"، كان لحضورها دور رئيس، وهو أن الكاتبة أرادت أن تقول لنا، افهم ما استطعت مما أريده، وإن وصلتك بعض الأفكار فقط، فلا بأس، لأنّ المعنى قد يكون "في قلب الشاعر/القاصّ". ومن ناحية أخرى كانت الغاية للتأكيد على أنّ الصِّدام القائم بين الحاكم والمثقّف، مستمرّ، وسيبقى طالما أنّهما يفهمان مقاصد بعضهما البعض، فعندما يسأل المثقفُ الحاكمَ عن مقصده يصبح من حاشيته، ولو سأل الحاكمُ المثقفَ عن مقصده، سيقوّم سلوكه ويثبت المثقف وجهة نظره وحضوره، وقد تنفَّذ أفكاره، أما استمرار هذا الفَهم، فهو استمرار للصراع.
حكايات الملوك، بين ذوّاق الملك الذي مات الملك بسببه، وتمثاله الذي عاد وتم تكسيره في النهاية وتم السؤال معه عن معنى الطاغية، ولوحة الفحم التي سالت ألوانها مع المطر، مرورًا بلباس الملك من نفايات الشعب، والملك المزيّف الذي أكمل حياته مع السكارى، وصولًا إلى القصة الأخيرة مع ملكة القلوب المأخوذة من قصص أليس في بلاد العجائب، كلها قصص لها جذور يمكن أن نكون قد سمعنا بمثلها، أو نتوقّع شيئًا من أحداثها، لذا يكمن السؤال، ما الجديد الذي قدّمته هذه المجموعة؟
أبدأ مع نهايات معظم القصص، وهي أنها تنتهي بما يشبه القصص الومضة، بمشهد بسيط فيه الكثير من التكثيف، وهو ما ميّز أسلوب الكاتبة، فبعد القصة الأولى وبعد الثانية، يصبح المتلقيّ منتظرًا للنهاية، ليس لأنّ تشويقًا ما حول سرّ أو مصير شخصية أو نهاية حدث سيحصل، بل لأنّه ينتظر التكثيف الذي ستحمله نهاية القصة، وهنا نجد جدّةً وبراعة.
أمّا العنصر الأبرز في هذه المجموعة، وهو برأيي العنصر الأصعب، فلجوء الكاتبة إلى القصص الشعبية والتراثية والخرافية، وتصميمها على أن تكون قصصها مشابهة لتلك القصص، لهو أمر في غاية الدقة والصعوبة على الرغم من أنه يظهر كأنه سهل وبسيط، فكيف تميّز نصّك وأنت الذي تكتب على غرار قصص الأطفال وقصص الجدّات؟ لقد أعادت ليلى عبد الله إعادة صياغة بعض الموروثات، وهنا الجديد المولود من رحم القديم إن صحّ التعبير، ولعلّ النقد الاجتماعي والسياسي للحاكم وللفاسد وللمجتمع، وكل ما مرّ من نقد وبثٍّ لأفكار الكاتبة وقناعاتها، لم يكن هو الأساس فيما قدّمته نصوصها من جديد، فكان يمكن لها أن تصوغ قصصًا واقعية أقرب إلى المتلقي وأقرب إلى حياتنا وقضايانا اليوم، ولكنها أرادت أن تقوم بعدة خطوات في آن، فقضية الهدم وإعادة البناء، كانت حاضرة بقوة في هذه المجموعة، على الرغم من عدم وضوح الهدم فيها. إلا أنّ إعادة البناء بحسب ذائقتها وقضيتها في كل قصة، وهمّها في كل فكرة، كانت خير دليل على الهدم الذي أجرته في بالها وعلى الورق على الأقل، قبل بداية بناءاتها الخاصة.
أسلوب النصوص متماسك وسلس، لم تتكلّف صاحبته ولم تبذل جهودًا للتنميق، فالقصص وشخصياتها وما نطقت به، كانت لغتها ومفرداتها مدروسة ومحسوبة، وهذا يُحسَب للمجموعة وكاتبتها.
هي مجموعة قصصية لقاصّة تعرف أصول الحكي والقصّ والسرد، وتعرف أصول البحث واتخاذ القرارات حين تريد أن تكتب، لأنّ المعاني، والقصص، والموروث، والنقد، والسرد، ...، مطروحة على الطرقات، أما الأسلوب والفنية والجدّة فهو الغاية.