Telegram Web Link
"تجربة الغافري هي تجربة شاعر ابتعد بذكاء وموهبة عن فكرة كونه شاعرا عُمانيا أو خليجيا، وانضم الى قلب المشهد الشعري، من دون أن يتخلى طبعا عن مكونات مهمة من الهوية والبيئة القديمة لا يزال في استطاعتها أن تخدم خيال الشاعر وقصيدته، وتمدّه – في الوقت نفسه – بما يجعلها منتمية بقوة إلى جوار أوسع، وبما يمنحها أن تكون مختلفة عن هذا الجوار الواسع أيضا، وأن تحتفظ بمسافة ضرورية

الشاعر السوري حسين بن حمزة
"بواقي حر الصيف وهي بتودع.. لسعة الهوا اللي بقت في الجو بليل ريحة الياسمين في الجو حواليك.. ريحة الجوافة اللي ابتدت تملي الشوارع شكل البلح الاحمر المرصوص علي العربيات اللي يفتح النفس.. ريحة عربيات البطاطا الحلوة المشوية.. شكل الدرة المشوي وريحتها وانت معدي.. تغييمة السما بتاعة اخر اليوم صوت العيال الصبح بدري وهما رايحين المدارس صوت القرآن في الراديو الصبح والاغاني.. صوت اتوبيس المدارس.. شكل البيوت الصبح بدري وهي فاضية ورايقة ..هي دخلة الأيام الحلوة بالنسبالي من زمان" ..
عطر أمي

إلى: شمسة بنت صالح

وأنت توقظين الصباح من منامته
نستيقظ نحن أطفالك الجوعى إلى الحلم
نسرح بين الحقول وفي المراعي أو نذهب إلى الدرس
نطارد شيئا منك مازال من ليلة البارحة

وأنت تخضًين لنا اللبن
وتتركينه مع الخبز
يشرق حنانك من مدامعنا
وحين تحمرّ الوجنات الصغيرة من أثر الشمس والتعب
كنت تأخذيننا إلى حضنك العميق

وأنت تنادين على المطر المنسكب على قمم الجبال البعيدة
( كريم، كريم، الله يقربك من بعيد)
نجلس على ضفة الوادي مأخوذين بالهدير وبخبز مدهون بسمن البقر الذي تبقينه مخبأ في مكان آمن

وأنت تلبسين العيد ملابسه يشرب المكان رائحة بخورك وتطلقين عليها رائحة العيد

وأنت التي ضمخت أقدامنا بالحناء
كحّلت عيوننا بالأثمد
وغسلتنا بورق السدر
ثم أخرجت قارورة ذهبية من سحارتك المعدنية لترشين على ثيابنا
نفحات من الأبد

ذلك الهابط الصاعد في المكان
الساكن في أرجاء البيت وفي طرقات الحارة
المستلقي على سواقي الأفلاج
الناهم البارد النارنجي الياسمينيّ الشورانيّ الريحانيّ الصندليّ الجبليّ
المعجون بالآس وزيت الشوع
المائي في لهفتنا لشربه رشفة رشفة
الصباحي كلما أشرقت شتاءا
والمسائي حين نؤوب من ركضنا كل صيف
ذلك الحنون مثل لحافك الذي نحظى به كلما هاجمنا النوم بغتة فتغطينا به
الشفاف مثل صفحة الماء في برك الوادي
العذب كموسيقى
الهاطل من أسقف البيت المتشقق
الساكن تحت أظفارنا
الواهب العبق المتضوع
الناهب أحزاننا
الحبيب الذي لا ينفك عن زيارتنا على غفلة
الأمين على قلوبنا الوجلة من غيابك
الناصع البياض مثل الرأفة المقطّرة من عينيك
الراقص الحذق كزوابع القيظ
المتوغل في مساماتنا وأحلامنا
المائي في لهفتنا لشربه رشفة رشفة
السماويّ في زرقته المشوبة بالغيم
والغيبيّ الذي نعرفه ولا ندركه

يجيء فجأة ويمضي
أفتح سحارتك ويتسرب منها
أسحب أنفاسي محاولا القبض عليه
فيهرب ساخرا مني
ثم أفتش عنه بين أغراضك ولا أجده

أخاف منه
أخاف من عطرك يا أمي
أخاف من العطر الذي يندس في حقيبتك الجلدية
هناك حيث خاتمك الفضيّ يضيء كل أيامي القديمة
هناك
من عمق غيابك يجيء ذلك العطر
ذكرتني رائحته بطفل ملطخة أقدامه بالتراب
وهو يركض حافي القدمين
آه من تلك الرائحة التي لا تزال تعبق في زوايا المكان
الرائحة الرابضة بين مكحلة الفضة وعلبة الصندل

أبحث عن أصابعي
الحناء يحملني إلى إصابعك الناحلة المعروقة
يزهر في كفك بساتين وغابات

أبحث عن صوتي
هسهسة الأقمشة المرتبة بعناية
وسوسة مسبحتك الحجرية
طغيان البخور

أبحث عنك
يأخذني العطر إلى الطفل الجائع حين يقترب من موقد الخبز منتظرا أن تمدي إليه برغيف مدهون بالسمن وبقبلة على خده

أبحث عنك في عطرك
في رائحته التي تضمخت بها جدران البيت
وأبحث عن ذاكرتي التي تقودني كل مرة
إلى البكاء.

الشاعر العماني زاهر القاسمي
الكاتبة الكبيرة ‎#جومبا_لاهيري ترفض قبول جائزة من متحف نوجوتشي في مدينة نيويورك، بعد أن طرد ثلاثة موظفين بسبب ارتدائهم الكوفية الفلسطينية.
https://riyadhrb.com/book-author/laila-abdullah/

Al Balushi’s literary works stand as a testament to her skill, creativity, and profound understanding of human experiences. Making her a prominent figure in the Arab literary world.

كل الشكر لموقع مجلة رياض ريفيو على توثيق سيرتي الذاتية..
" والكُتّاب( أو من يستحق منهم هذه الوصية المجيدة) أناس عاطلون، ومعطّلون، وزائدون عن الحاجة من الأساس( وفي بعض الحالات هم انفسهم- فصيلٌ أصيلٌ منهم، عنيتُ على وجه الدّقة والتحديد- يشعرون بذلك بصورة عميقة من تلقاء أنفسهم فيتخلّصون من أنفسهم بأنفسهم قبل أن يتخلص منهم الآخرون)."

عبدالله حبيب
‏"من وجد شمسهُ التي بداخله، لن يبحث عن أي نورٍ في الخارج."
‏"الكلمة لها أيادٍ، تربّت أو تخنق."
‏موراكامي : الروايات في المستقبل القريب ستكون مملة
علي حسين

كان هاروكي موراكامي يطمح لكتابة رواية شمولية ، شيء أقرب إلى رواية دوستويفسكي "الاخوة كارامازوف" التي قال أنه قرأها أربع مرات ،إلا ان العنوان 1Q84 جاء قريبا من عنوان رواية أورويل الشهيرة 1984 ، وعندما سُئل هل أعاد قراءة رواية 1984 حينما كان يكتب روايته 1Q84 ، قال : نعم ، كانت رواية مملة ، لكنها ليست سيئة ، ثم أضاف أن معظم الروايات في المستقبل القريب ستكون مملة ، ستكون دائما معتمة وسيكون الناس تعساء .
يقول موراكامي ان قصصه ليست متشائمة: "على الرغم من العديد من الأشياء الغريبة والجانب المظلم ، فإن قصصي إيجابية بشكل أساسي". مضيفا : أنا الآن في منتصف السبعينيات من عمري ، ولا أعرف عدد الروايات الأخرى التي يمكنني كتابتها. لذلك شعرت بقوة أنه يجب أن أكتب هذه القصة بمودة ، وأن أقضي وقتًا طويلاً للقيام بذلك" ، لا يزال يؤمن بدرس معلمه كافكا من ان كتابة الرواية تتطلب الغوص في العمق .
من خلال رواياته التي بلغت " 15 " رواية وعدد من المجاميع القصصية يريد هوراكاي موراكامي ان يقدم لنا ابطالاً يعيشون على هامش الحياة ، نراه دائما يضجر من العمل ومثل مثله الاعلى فرانز كافكا ، حاول في معظم رواياته ان يخلط الوهم بالواقع ، حتى يصعب الفصل بينهما ، تزوج وهو شاب صغير ، وعمل في احدى المقاهي ، بطله اشبه بابطال المرحلة الوجودية ، هجر بلادة عشر سنوات ، ثم عاد اليها وعندما كان في الثامنة والعشرين من عمره كتب بالصدفة رواية " اسمع صوت أغنية الريح " استطاع ان يجد لها ناشراً بعد عام ، وكانت المفاجأة انها نالت استحسان القراء واهتمام النقاد : "كدت أكون روائيا من حيث لا أدري. بل ولم أكن أتصور أن رواياتي ستصبح رائجة عبر العالم. واليوم ما زلت أقول بكل الصدق أن هذا النجاج يصيبني بالذهول حقا. فالشيء الوحيد الذي أستطيع قوله أنني أحب كتابة الرواية أكثر من أي شيء آخر أحبه في حياتي. لكن النجاح ليس عندي هو الغايةّ "
يعشق موسيقى " البيتلز " واستعار من احدى اغنيات الفريق عنوان روايته الشهيرة "غابة نروجية" ، والتي يروي فيها حكايات الحب الحزين ، وقد ساهمت هذه الرواية التي باعت فور صدورها ستة ملايين نسخة ان تحوله الى نجم من نجوم المجتمع الياباني ، كتب " كافكا على الشاطيء " التي وضعته في مصاف الكتاب الكبار ، يقول انه يرى العالم اليوم أقل بساطة وأماناً وشباباً ويشكو الخواء واليأس. يسعى ابطاله الى سلام النفس، يكتب عنه النقاد انه استطاع ان يخترع مقاييس جديدة للرواية الحديثة .
يخبرنا موراكامي أن قدراً كبيراً من الموضوعات المتكررة في كتبه هي من حياته هو ــ قططه، مطبخه، موسيقاه، و هواجسه. و استمراراً مع عملية الكتابة لديه :" إن حلم عمري أن أجلس في قعر بئر. و هو حلم يتحقق. كنت أفكر: إن من المسلّي أن تكتب رواية، و يمكنك أن تكون أي شيء! و أنا أستطيع أن أجلس في قعر بئر، في حالة عزلة ... شيء مدهش!" – من حوار ترجمه الراحل احمد فاضل ونشر في المدى -
في كل مرة تظهر فيها رواية جديدة من روايات هاروكي موراكامي تبدأ الصحافة في البحث عن خفايا الكاتب الذي يقول ان لا اسرار في حياته ، وان الكتابة بالنسبة اليه هي معنى الحياة :" لقد جعلت الكتابة من حياتي شيئا مميزا.عندما اكتب :أتحول لحظتها إلى سوبرمان. يمكنني القيام بكل ما أريده،أتخلص من الخوف، بحيث يسمح لي الخيال كي أخلق كل شيء.عندما أكتب،أصير قادرا على إنقاذ العالم.لكن ما إن أغادر مكتبي،أستعيد شخصيتي الأصلية.يمكنكم تصديقي :فأنا حقا الشخص الأكثر بساطة في العالم. انأ زوج طيب لا أصرخ وأحافظ باستمرار على هدوء أعصابي. فيما يتعلق بحياتي العادية،لاتأتيني أبدا أي فكرة يمكنها إثراء أدبي.حينما أمشي أو أطهو أو أذهب إلى البحر،أفرغ رأسي تماما ".
يبدأ الكتابة كل يوم من الساعة الرابعة صباحا ويستمر لمدة ست ساعات، مما ينتج 10 صفحات فى اليوم، قبل أن يقوم بممارسة رياضة المشي، والسباحة :" "أعتقد أنى يجب أن أكون قويًا جسديًا من أجل كتابة أشياء قوية" ، يقول ردا على سؤال حول طريقته في الكتابة :" ابدأ دائما بمشهد واحد أو فكرة واحدة. عندما أكتب ، اترك هذا المشهد أو الفكرة تتقدم من تلقاء نفسها. واضاف لا احب الروايات التحليلية :" إذا حاول الروائي بناء قصة تحليلية ، فسوف تضيع حيوية القصة لان التعاطف بين الكاتب والقراء لن ينشأ " ويضيف انه في كل ما يكتبه يسعى الى تسليط الضوء على الزيف الذي تعيش فيه "نحن نعيش في عالم مزيف ، ونحن نراقب الأخبار المسائية المزورة. نحن نخوض حربًا زائفة. حكومتنا مزيفة. لكننا العثور على الواقع في هذا العالم المزيف امر مهم ، لذا فإن قصصنا هي التي تعيد لنا رسم الواقع ."
*لمرور عام على سابع من أكتوبر.. أعيد نشر مقالتي عن:

صناعة الهولوكوست في الشرق الأوسط
غزة أنموذجًا..

ليلى عبدالله

تجلب الحروب مفرداتها كما تجلب مآسيها، لكن الأمر يبدو ملتبسًا حين تتعلق بأطراف بينهم تاريخ مديد من صراعات وقتلى ومهجرين ومجازر وإبادات كالذي يحدث في الأرض المحتلة في غزة تحديدًا على يد الكيان الصهيوني، فهي لم تكتف باحتلال الأراضي الفلسطينية فحسب وتهجير أهلها، بل سعت إلى ضخ مفردات واستبدال أصولها الدالة على معانيها الحقيقية إلى أخرى منزوعة المعنى، شطبت " فلسطين" من الخارطة العربية لتكون إسرائيل، وليستحيل "احتلالها" للأرض إلى مجرد " صراع" بسيط بين طرفين، ولتكون " الإبادة" التي تشنها على شعبها مجرد " حرب" بين أخيار وأشرار لا محتل وأصحاب الحق، بينما صار سعي أبنائها في الدفاع عن نفسها وأرضها وعرضها " إرهابًا " لا " مقاومة" وجهاد.
غريبٌ هو هذا الكيان، مريبٌ سعيه المستفزّ إلى كنس البلاد من معانيها ومفرداتها الأصيلة، وقد هي عرفت بتقديس مصطلحاتها لدرجة تحنيطها في مستودع التاريخ؛ لتبقى مخلدة، كأشهر مصطلحاتها " الهولوكوست"؛ لقد ظلوا لسنوات يغالون ويحذرون من اللصوص الذين يتآمرون لسرقة الهولوكوست منهم وتذويب طبيعتها اليهودية الفريدة كما يؤمنون بوضعها في سياق معاناة " إنسانية" مبهمة!
لماذا هذا السعي من قبل الكيان الصهيوني إلى تقفيص الهولوكوست واستدعائها من ماضيها لتكون عنوان مرحلتها في حربها في الأرض المحتلة، في حاضرها ومستقبلها؟!
يذهب البريطاني إف. إتش. كار في تناوله لمصطلح التاريخ بأنه: "حوار دائم بين الماضي والحاضر والمستقبل " لهذا منذ عملية " طوفان الأقصى" هناك استدعاء ملّح لتاريخ الحروب في الشرق الأوسط، تحديدًا لتاريخ وجود الكيان الصهيوني في الأرض المحتلة لما يربو عن 75 عاما، تم استدعاء هذا التاريخ من خلال نبش أرشيفات مضى عليها دهور، من خلال تسجيلات مرئية وصوتية، من خلال الكتب ومئات الدراسات والمقالات والمراجع، فالتاريخ هو كل ذلك وأكثر، وجلها تشهد لا على الظلم المرير الذي عاشه الفلسطيني في أرضه المحتلة فصار لاجئًّا ومبعدًا عنها وغريبًا فحسب بل لتذكير العالم مرة بعد مرة عن فرار الإسرائيليين من العقاب؛ هذه الانتهاكات المنفلتة من عقوبات القانون الدولي رغم سجلها التاريخي الممض، فهي وراء تمادي الكيان الصهيوني في ارتكاب مجازره التي استهدفت مستشفيات وكنائس ومبان عامرة بسكان مدنيين في غلاف غزة أدت إلى مشاهد غاية في الدموية عبأت بقيحها حسابات وسائل التواصل الاجتماعية تفاعل معها القاصي والداني في الشرق والغرب في آن. وما يجعلها الأبشع على مرّ التاريخ هي كونها تحدث في اللحظة الراهنة، في حاضر مكشوف ومرئي وعلى الهواء مباشرة وما يضاعف من هول المشهد أنها تحظى بدعم صريح من الدول الإمبريالية وعلى رأسها أمريكا.
هذا الموت الهائل الذي وضع العالم أمام الواجهة الأخلاقية لما يحدث في غزة من مجازر همجية، وضعنا أمام تساؤلات تحتاج إلى إجابات شافية: كيف يمكن أن يبرروا أخلاقيًّا هذا التقتيل اليومي على مرأى من العالم المتحضر؟
يَفضح هذا الموت السردية الصهيونية في الأرض المحتلة، الموت الذي جعل شعوب العالم الغربي يتدفّقون في مظاهرات حاشدة لمناصرة القضية الفلسطينية مذ نكبة 48. بريطانيا التي زرعت الكيان الصهيوني في الأرض الفلسطينية اندفع شعبها في حشود هائلة، الشعب الذي عُرف على مدى العقدين الأخيرين بأن أقل الأشياء جذبًّا لاهتمامهم وفق استطلاع سابق - للصحافة في الشأن العام- هي الأمور السياسية، فالذهاب إلى اجتماع سياسي عند أغلبية الشعب البريطاني تساوي في المرتبة مع الذهاب إلى السيرك: لكن قضية غزة اكتسحت شوارعهم في امتداد مكثّف عبر أصوات تزاحمت بغضب مطالبة بوقف نزيف الدموي في غزة ولحرية فلسطين وتجريم إسرائيل. وفي هذا نسف للحداثة الصلبة البيروقراطية!
فكيف يمكن قراءة هذا التمزق الإنساني لكيان صهيوني تعرض لـأشهر هولوكوست في العالم ليعيد صناعتها بأسلوب أبشع في زمن الذكاء الاصطناعي وسط تواطؤ الحضارة الغربية بحجة حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها؟!
ولرصد الوضع الراهن، وللوقوف على بعض التفسيرات لاستفهامات التي تم طرحها آنفا، كان لابد من اللجوء إلى من كانوا شهودًا وعاصروا كما عاصر أجدادهم تمدد الكيان الصهيوني في الأرض المحتلة وسكبوا معينا من تجاربهم في مصادر توثيقية متعددة، هي أشبه بشهادات من كتّاب ومفكرين وقراء لمصير كيان استعماري، لعل من أشهرهم " إيلان بابه" صاحب الكتاب " التطهير العرقي في فلسطين" الذي فضح خطط الصهيونية في الأرض المحتلة. إيلان هو ابن حيفا، والذي خدم بكل تفان عسكر بلاده، لكن جل قناعات هذا الشاب الطموح في ذلك الوقت سقطت حين عثر على وثائق مهمة وسرية تدين وجود الصهيوني، وثائق عن مجازر ارتكبت في حق الفلسطينيين وأخرى لتهجيرهم من أراضيهم وبيتوهم ومزارعهم، وحين عزم على نشر هذه التدوينات طرد من منصبه وتلقى مئات التهديدات بالتصفية، لم يجد
سبيلاً أمامه سوى الفرار إلى بريطانيا وشرع بنشره كتبه هناك.
ولا تكاد تختلف تفاصيل حياة المفكر اليهودي البولندي " ريجمونت باومان" عن مواطنه بابيه، فباومان وقع ضحية نزعة قومية عنصرية، فهو يهودي بولندي، تشكّل وعيه السياسي والفكري بعد الحرب العالمية الثانية، غير أنه لمواقفه حرم من الجنسية البولندية ومن حقه في التدريس بجامعة وارسو، وانتهى الأمر بطرده من بولندا عام 1968م؛ فاضطر للرحيل إلى إسرائيل، والتدريس في عدد من جامعاتها، لكنه لم يستطع المكوث لأكثر من ثلاثة أعوام؛ لأنه بعد أن كان ضحية دولة قومية عنصرية " بولندا" لم يرد أن يقترف جرم القوميين في دولة قومية عنصرية أخرى" إسرائيل"، فرحل منها ليستقر في بريطانيا 1971م، مُنكبًّا على تأليف كتب متنوعة في السيولة الثقافية والأخلاقية في زمن الحداثة. وكان أكثر مواقفه وضوحًا عندما وقعّ مع جماعة من رفاقه على عريضة للضغط على الوزير البريطاني "ديفيد ميلباند" بعنوان "يهود من أجل العدالة للفلسطينيين" يطالبونه بوقف العقوبات الإسرائيلية على غزة، وتطبيق سياسة العقاب الجماعيّ للفلسطينيين. ولطالما انتقد باومان إسرائيل والمجتمع الدولي بسبب معاناة ملايين اللاجئين الفلسطينيين، كما فضح الساسة الإسرائيليين باستغلال الهولوكوست لتبرير القوة الوحشية لاسيما في كتابيه " الحداثة والهولوكوست" و" الأخلاق في عصر الحداثة السائلة".
ففي كتابه " الأخلاق في عصر الحداثة السائلة" تحديدًا يقف باومان وقفة أخلاقية تجاه الهولوكوست بطرحه تساؤلاً في غاية الأهمية: أيّ فرصة للأخلاق في عالم استهلاكي معولم؟
هذا السؤال محرض أساسي دفع المفكر إلى استبدال " الحداثة الصلبة" التي دشنها عصر التنوير في القرن الثامن عشر تأسيسا على تحولات وإرهاصات تنامت منذ انتهاء العصور الوسطى و" تصلبت" في عصر العقلانية الذي مضى يتجاذب لمفاهيم كبرى من تبعات الحداثة كالدولة الحديثة والمجتمع والثقافة، لكن هذه المفاهيم جلها تبلورت لاسيما بعد الحرب العالمية الثانية، فصلابة تلك المرحلة السابقة تمخضت عن سيولة في الرؤى والمفاهيم لتداخل الحدود والسمات وذوبانها في التعاطي بين الشعوب الأصلية واللاجئين مما خلف سيولة في هويات الفرد وبدت أبرز مظاهر الخصائص الثقافية في سيولة البشر بتدفقهم من مكان إلى آخر، وسيولة المال بإلغائه للحدود التقليدية التي أقامتها الحداثة الصلبة، وسيولة الهويات وسيولة القيم الأخلاقية من خلال النزعة الاستهلاكية.
يرى باومان أن ما قبل عهد الحداثة السائلة كان أكبر تهديد جابه البشرية قديمًا هي الطبيعة التي تعاظمت مخاطرها على الجنس البشري بهيئة فيضانات وموجات جفاف ومجاعات وأمراض معدية وغيرها، ولدت عن كوارث خلفت الكثير من المخاطر التي راح ضحيتها الإنسان الذي ظلت أوضاعه متقلّبة بفعل هذا النذير، لم يكن يبددها مؤقتا سوى الآثار السلبية بتأثير بعض الأحقاد والنوايا السيئة والسلوكيات العدائية بينهم كبشر كالجيران أو جماعة ما في الشارع المجاور وما وراء النهر، غير أن عداوتها لم تكن بتأثير الكوارث الطبيعية، لكونها أبعد ما تكون عن صناعة بشرية.
لكن البشرية لم تكن تعي تمام الوعي وهي تشق طريقها بتحفّز نحو الحداثة الغربية التي همّشت دور الطبيعة وتبعاتها أن بالحداثة نفسها يمكن أن تصنع دمارًا بشريًّا نوعيًّا وأن تبيد أعدادًا مهولة من البشر دون أي نوازع أخلاقية تحت ما يسمى بالإبادات الجماعية " وهي شكل من أشكال القتل الجماعي من جانب واحد تنوي فيه دولة أو سلطة أخرى أن تدمر جماعة، حسب تعريف مرتكبي القتل لتلك الجماعة والعضوية فيها"(الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، سعد البازعي وبثينة الإبراهيم، ص 117 ولعل من أبرز الإبادات وأشهرها على مدى التاريخ الحديث حيث ساهمت الحركة الصهيونية لتبقى كذلك، والتي ورطّت الشرق الأوسط لاسيما فلسطين رغم براءة ذمتها ودمها هي "الهولوكوست" فهي وليدة حضارة غربية حدثت في أربعينيات القرن العشرين واستهدفت اليهود في الأراضي الأوروبية التي يحتلها النازيون وذلك من خلال حرقهم في أفران الغاز ورميهم بالرصاص. هذا الحدث لم يكن له سابقة في ذلك الوقت لدرجة كما يقول باومان عجزت المعاجم العبرية عن إيجاد لفظة تصف " القتل الباتر" الذي مورس ضد فئة من البشر بحلول خمسينات القرن الماضي وبعد ورود كلمات شبيهة معبرة كالدمار أو فناء حتى اهتدوا للفظة " هولوكوست" التي وجدت قبولاً واسعا، لكن مع مرور الزمن حملت اللفظة نفسها دلالات أشمل تعبر عن أنواع عديدة من القتل الجماعي الموجه ضد جماعات إثنية وعرقية ودينية وتعذيب وطرد وغيرها من الانتهاكات ضد البشرية لتكون حالة أخرى من حالات " الهولوكوست" .
فلفظة " الهولوكوست" يمكن استبدالها بسهولة في عصرنا الحالي بمفردة " جينو سايد" أي الإبادة الجماعية، هذا المصطلح الذي جاء معبرًا تماما عن المذابح الجماعية التي تعرض لها أفراد وشعوب ما بين عامي 1960م و1979م . شملت الأكراد في العراق والجنوبيين في السودان والتوستي في رواندا والهوتو في بوروندي، الصينيين وغيرهم.
لكن ما يجعل لفظة " هولوكوست" هي الأقوى والأشمل ليس لأنها تحتمل دلالات تدميرية هائلة فحسب بل وفق تعبير باومان بكونها لا تعبر عن مفهوم " التضحية" الدارج بمعنى جماعة تقدم تضحيات لغاية ما كأي حرب من الحروب العادلة، ولكن هذه اللفظة بعيدة عن ذلك، فضحايا الهولوكوست أكثر عمومية من كل ضحايا الإبادات الجماعية، فهم يعدمون؛ لأنهم مجردين من أي قيمة بتعبير جورجيو أغامبن هم مجرد " هومو ساكر" :" حيث يوضع الإنسان خارج القانون الإنساني من دون أن يسمح له بدخول مملكة القانون الإلهي" ( الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، ص 119)بمعنى أدق مصطلح " الهومو ساكر" هم أفراد حياتهم مفرغة، فيتم قتلهم بلا أي مغزى أخلاقي دون أن يقتضي عقابا مثل حياة اليهود في زمن النازية وحياة الغجر والمثليين والمرضى العقليين في الزمن الماضي، وهو ما تفعله الصهاينة في الأرض المحتلة مذ نكبة 48 وفي غلاف غزة منذ طوفان الأقصى.
ولتبرر الحداثة الغربية هذه النكسة تجاه موقفها البارد من " هولوكوست" روجوا أسطورة عنها، كما يسرد باومان في كتابه " الحداثة والهولوكوست" فالغربيين ذهبوا بأن الهولوكوست التي وقعت داخل البناء الحضاري كانت مجرد حادثة استثنائية أو نكوص عارض أو انحراف تاريخي مؤقت عن مسار الحداثة الغربية العقلانية والتقدم الحضاري الغربي، لكن باومان يدحض هذه الكذبة بل يرى أن ما يجعل الهولوكوست أكثر الإبادات الجماعية تطرفا؛ لأنه لم يكن من الممكن تصورها خارج إطار المجتمع الغربي العقلاني الحديث، ولم يكن حدثًا عابرًا وخليق الصدفة، بل تطلب حدوثه القتل المنظم بدون تحييد القناعات الشخصية لاسيما الأخلاقية. لقد جعلت الحداثة الهولوكوست ممكنًا، وهذا ما يجعلها بوصفها مجزرة شنيعة وفق باومان :"هي أنها ارتكبت في قلب أوروبا التي نظرت إلى نفسها في ذلك الوقت بأنها في قمة التقدم التاريخي والضوء الذي يهتدي به بقية البشر الأقل تحضرا والأقل استعدادا للتحضر؛ ولأنه نفذ بتصميم غير عادي وبمنهجية وثبات على مدى زمني طويل ولأنه حشد الدعم والتوجيه طوال العملية من أفضل ما في العلم والتقنية الذي تفخر الحضارة الحديثة".( الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، ص 125)
بينما كان الحكم الشمولي أي السيادة الكاملة والمطلقة هو الذي نقل تلك الإمكانية إلى حيز التنفيذ لبناء النظام الجديد وفقا لحلم " هتلر" المطلق بتطهير الجنس الآري لبلوغ الكمال. وذلك ما كان ليحدث دون غربلة المجتمع من الغرباء والهمجيين البربريين الذين هم أشبه بالحشائش السامة والحشرات والفيروسات من خلال التطهير العرقي الذي راح ضحيته ستة ملايين يهودي، بمعدل 100 يهودي كل يوم. فقد أرادوا افناء الشعب اليهودي بأكثر السبل سرعة وفعالية مع تحقيق نتائج مرضية على أرض الواقع؛ لذا إلى جانب إعدامهم كبار السن، حرصوا أيضا على قتل آلاف الأطفال الذين يمثلون أجيالاً كاملة، وعلى حد تعبير باومان :" لتمحو جنسًا بشريًّا من الوجود من الضروري قتل الأطفال". ( الأخلاق في عهد الحداثة السائلة، ص 121)
يرى باومان أن الذين اضطهدوا أو وقفوا في طريق كمالية الجنس الآري هم ضحايا "القتل الباتر" حيث جرى افناء رجال ونساء وأطفال؛ لأنهم صنفوا على أنهم كائنات ينبغي افناؤها، فوفق منطق القتل الباتر لم يكن مهمًّا إذا ما كان الضحايا كبارًا أم صغارًا، أقوياء أم ضعفاء، سيئين حقيقة أم لم يكونوا. حيث يتم تجريد القائمين على الإبادة من مشاعرهم الإنسانية ليكونوا وحوشا على وفق المصطلح الذي طرحه الكاتب ممدوح عدوان في كتابه" حيونة الإنسان" حيث استعار مقولة للبروفيسور " رالف روزنتال " في " المجلة الأمريكية لعلم الإجتماع " ذهب فيه بأن الإبادة كي تنجح لابد من توفر أربعة عناصر على رأسها أن يكون منفذوا الإبادة على اقتناع تام بصحة عملهم وبأنهم يتصفون بالامتياز العنصري والإنساني من غيرهم، وثانيها أن يكون أمام المنفذين مجموعة تستحق الإبادة – من وجهة نظرهم – وثالثها أن توفر الأسلحة القادرة على التنفيذ بالسرعة المطلوبة أما رابعها أن تتم العملية وسط جو سياسي ومعنوي خاص لا يكترث لعملية الإبادة وإنما يقابل هذه العملية بالتفرج عليها.
هنا يمكن أن نطرح سؤال الذي جعلنا طوال سنوات نفكر: لماذا هيمنت الإبادة اليهودية " الهولوكوست" وصارت بمثابة أيقونة وحظيت بدعم عالمي؟
وفق باومان السبب يعود إلى أنه انتج رقمًا كبيرًا من الجثث وكمًّا ضخمًا من الشواهد المكتوبة والمسجلة في ظل حضارة غربية في أعلى مستوياتها من الحداثة رغم ذلك بقوا شهود صامتين فشكّل صدمة أخلاقية غير مسبوقة، فاليهود كانوا أقلية منعزلة لها طقوسها في ممارسة حياتها، وكان المرء يستدل عليهم بسهولة من أرديتهم التي عبرت عن خلفياتهم كيهود، ونتيجة لذلك عوملوا معاملة الغرباء والدخلاء في المجتمعات الأوروبية لاسيما في ألمانيا التي كانت تخطط لتصفية وطنها من الأعراق الأقلية المهمشة التي لا وطن لها كاليهود، فقد رأى هتلر كما يذهب باومان في كتابه " الحداثة والهولوكوست" بأن اليهود شعب بلا أرض لذا ليس بإمكانهم أن يلعبوا دورًا في الصراع العالمي للقوة في إطار الحرب التقليدية القائمة على غزو الأراضي، بل إنهم يلجؤون إلى المكر والخديعة ودسائس الظلام التي جعلتهم عدوًّا لدودًا مخيفًا لا يمكن إشباع رغبته أو ترويضه، بل لا بد من تدميره حتى يختفي ضرره. النازيون وبتواطؤ من الأوروبيين كانوا يسعون إلى التخلص من اليهود كليًّا، فقد كان بإمكانهم لو رغبوا بهم جزءا في منظومة العالم الجديد أن يخضعوهم لاعتناق الدين المسيحي ويتم دمجهم كأي أقلية عبر التاريخ، كهنود الحمر السكان الأصليين لأمريكا الذين تم دمجهم في المجتمع الأمريكي بعد إبادة الكثيرين. لكن النازيين فضلوا تصفيتهم بينما سخر الأوروبيون لاسيما فرنسا وانجلترا وروسيا جهودهم منذ القرن التاسع عشر من أجل الحد من ازدياد أعداد اليهود المهاجرين الذين أصابهم الفقر والجهل والتخلف والذين لم يكن لهم سوى خيارين إما الاشتراكية أو الصهيونية بالتخلص منهم ومن أعبائهم من خلال دفعهم دفعا إلى الشرق الأوسط، إلى فلسطين تحديدًا.
لكن من أكثر الأسباب التي جعلت الهولوكوست اليهودي في الوعي العالمي موقعا أيقونيًّا خاصا به هم "اليهود" الذين نجوا، فالحركة الصهيونية وظفت كافة مواردها لضخ الدعم لمظلوميتها، كان توظيف مفردة " هولوكوست" بحد ذاتها أثره الديني في شرعنة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. وكجواز مرور وحصانة رسمية لسياستها في الماضي والمستقبل، بشهادة المفكر " إيلان بابيه" في كتابه " التطهير العرقي في فلسطين:" بعد أن اتُخذ القرار استغرق تنفيذ العملية الستة أشهر، ومع اكتمال التنفيذ كان أكثر من نصف سكان فلسطين الأصليين أي ما يقارب 800.000 نسمة قد اقتلوا من أماكن عيشهم و531 قرية دُمرت و11 حيًّا مدنيًّا أخلي من سكانه، وهي تعتبر اليوم في نظر القانون الدولي جريمة ضد الإنسانية". (التطهير العرقي في فلسطين، إيلان بابه، ص 3)
ولكن يبدو أن خيبة الأمل الكبيرة التي خلفها الهولوكوست عبر التاريخ ليس الموقف الأوروبي المحايد والموافق للنازية فحسب بل اليهود أنفسهم، الذين كما يدعون كانوا ضحايا الهولوكوست وكان يمكن أن لهؤلاء الناجين أن يمنعوا تلك المجازر التي اقترفتها سلطاتهم في الأرض المحتلة، كان يمكن أن يكونوا مثالاً براقًا من أجل بسط السلام لحماية الأقليات والشعوب المضطهدة من الطغاة، وأن يكونوا سببا في بدء عصر أكثر تحضّرًا وإنسانية في تاريخ البشرية رغم كل الأهوال والرعب والاشمئزاز الذي مروا به، لكن ما حدث نقيض ذلك تماما.
لعل السؤال الذي يظهر نفسه بلا مواربة وبخيبة أمل كبيرة: ماذا فعلت الهولوكوست باليهود؟
يبدو جليًّا أنها جردتهم من إنسانيتهم، فاليهود الضحايا ترقبوا أول فرصة للانتقام من مضطهديهم كما يفسر مؤلف " الحداثة والهولوكوست:" إذا وجدوا صعوبة أو استحالة في الانتقام من مضطهديهم في الماضي؛ فإنهم يهرعون إلى غسل عار الماضي الشاهد على ضعفهم، ويُظهرون أنهم يعرفون كيف يبرزون قوتهم ومهاراتهم بحزم وشدة: فماذا يكون الجدار العازل حول الأراضي الفلسطينية المحتلة إن لم يكن محاولة للتفوق على من بنوا الجدار المحيط بجيتو وارسو؟".( الحداثة والهولوكوست، ص 34)
كان ثمة أمل قبل خمسين أو ستين عاما أن تسبب المعرفة البشعة بالهولوكوست صدمة توقظ البشرية من نعاسها الأخلاقي وتجعل المزيد من الإبادات الجماعية مستحيلا؛ كم يبدو هذا الأمل مدعاة للسخرية والخيبة في آن!
ليس في حجم المجازر التي تجاوزت بها القانون الدولي في فلسطين فحسب بل لسعيهم الحثيث إلى طمس الحقائق وتشويهها، كما يوضح " إيلان بابه" في كتابه" التطهير العرقي في فلسطين" منذ ثلاثين عاما تقريبا، بدأ ضحايا التطهير العرقي إعادة تجميع مكونات الصورة التاريخية التي بذلت الرواية الإسرائيلية الرسمية لأحداث سنة 1948م كل ما في وسعها لإخفائها وتشويهها. لقد تحدثت القصة الإسرائيلية التاريخية التي جرى تلقيفها عن " انتقال طوعي" جماعي أقدم عليه مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين قرروا أن يهجروا بيوتهم وقراهم مؤقتا من أجل أن يفسحوا الطريق أمام الجيوش العربية الآتية لتدمير الدولة اليهودية الوليدة". (التطهير العرقي في فلسطين، إيلان بابه، ص 4)
لكن السردية الصهيونية التي عكفت لأعوام طويلة على ضخها من خلال أساليب ووسائل متعددة أشهرها في الأفلام والمسلسلات حتى استوطنت في الذهنية الغربية وبدت وحدها الحقيقة الكاملة، الحقيقة التي لا يناقضها شيء وكل ما دونها من روايات فلسطينية هي مجرد أوهام حتى جاء السابع من أكتوبر لتسقط تلك الحقيقة المدّعية، ولتشرع العقول الغربية على احتمالية صدق الرواية الفلسطينية، على النظر في الجانب الآخر من القضية، فإن كان ثمة قصة إسرائيلية فمن الطبيعي أن تكون هناك قصة فلسطينية أيضا. والمبعث الآخر الذي جعل "غزة " أيقونة تجابه به أيقونة الصهاينة المسمى بــ" الهولوكوست" هي وضعها المكاني بحد ذاته؛ فهي تحت الحصار منذ 2007م وهو أطول حصار في التاريخ، وظفت إسرائيل كل وحشيتها لتدمير قطاعاتها الحيوية كالمطار والمرفأ، رفعت الأسوار ومنعت فتح مرفأ رفح أو أي مدخل آخر يمكن أن يهّرب قليلاً من الحياة إلى العزيين، تمنع المواد التي تحتمل صفة " الاستخدام المزدوج" بشهادة أهلها من دخول غزة، القوائم نفسها تخضع لرقابة صارمة وتعدّل كل مرة، وتشحن مواد معينة فحسب. فوق هذا لا يتواصل سكان غزة مع العالم الخارجي، ويبدو السفر لخارجها من أجل السياحة تطّلعًا مستحيلاً، فأهلها لا يختلطون أحدًا فلا يمكنهم حتى زيارة الضفة الغربية أو قراهم الأصلية المحتلة منذ 48 أو بقية أهلهم في مخيمات سوريا ولبنان، أو الفلسطينيين المقيمين في الأردن أو بقية دول الخليج والعرب والعالم، وهي مسورة بأسلاك وجدران جعلتها إسرائيل أخطر بقعة على وجه الكرة الأرضية، دون أن يشهد أهلها المحصورون منذ 2007أي تحرك عالمي أو عربي أو فلسطيني لرفع الحصار عنها، لا منظمات ولا هيئات ولا مجالس الأمن أو الكنائس أو الطوائف الدينية، جميعهم قبلوا بالحصار كأنه أمر لا يخالف الشرائع البشرية وعلى أهل غزة أن تحياه!
ليأتي " طوفان الأقصى" معلنًا العصيان لفك هذا الحصار ولتحرير العقول لاسيما الغربية عن مظلومية ضحايا الهولوكوست؛ ولتجد إسرائيل نفسها ولأول مرة مذ 75 عاما مكشوفة وضعيفة ومهددة من قبل المقاومة الفلسطينية الذين كانوا قبل أعوام أطفال الانتفاضة الأولى والثانية وصارت الحجارة المشدودة في أيديهم أمام دبابات الصهاينة رغم أنها لم تكن تحدث ضررًا محسوبا لكنها خلّفت هلعًا لعساكرهم حاملي البنادق والرشاشات لدرجة اندفاعهم في مواجهة لا عدو بالغ مدجج بالأسلحة الثقيلة بل لاغتيال براءة طفل كــ " فارس عودة" الذي تصدى لدبابة إسرائيلية بحجارته الصغيرة منذ سنوات، فأرداه جندي إسرائيلي برصاصة في عنقه ليكون أيقونة عالمية عن معارضة الاحتلال الإسرائيلي الذي يغتال الأطفال في عام 2000. ناهيك عن تعرض آخرين للقمع والسجن، لكن هؤلاء الصغار الكبار كبروا واستطالت معهم مقاومتهم واستحالت حجارتهم إلى أسلحة هي صنيع مقاومة وطنية متطلعة إلى ردح المحتل من أرضها، مقاومة عاتية يحسب لهم عالم اليوم ألف حساب، لدرجة أن أمريكا جندت قواتها ودشنت أسلحتها المتطورة وحملتها في طائرات إلى قطاع غزة، فالصراع فيها أصبح يدار من قبل المقاومة وبتوقيتها بعد أن تمكنوا من مفاجأة العدو الصهيوني في داخل سياجه المحكم، عبر هجوم صاروخي لعدد من مستوطناتها، تزامنا مع اقتحام بري من المقاومين عبر السيارات رباعية الدفع والدراجات النارية والطائرات الشراعية للبلدات المتاخمة لغلاف غزة، ليسطروا على عدد من المواقع العسكرية في سديروت، واقتحموا نتيفوف، وخاضوا اشتباكات عنيفة كما أسروا عددا من الجنود واقتادوهم لغزة .
ليكون هؤلاء الأسرى ورقة الرابحة لفك الحصار . لكن ما جعل السردية الصهيونية تنهار وجعلت شعوب العالم تتعاطف مع الغزيين هي هول المجازر التي ارتكبتها إسرائيل في غزة منذ السابع من أكتوبر حتى اللحظة الراهنة؛ ففي 48 ارتكبت إسرائيل في فلسطين 37 مجزرة، ولكن في غزة وحدها، منذ ستة أسابيع ارتكبت 1330 مجزرة أي 36 ضعفا. وأكثرهم من الأطفال والنساء بل أبيدت عائلات بأكملها، أجيال كاملة. هذه المجازر لم تفلح إسرائيل في اخفائها ولا اخضاعها لأكاذيبهم؛ فقد سجلت صوتا وصورة وبمشاهد كاملة لتعرض أمام أنظار العالم، ليدرك الشعوب الغربية مدى الوحشية الإسرائيلية، وحين جوبهوا بحقيقة ارتكابها تمادوا ووصفوا الغزيين بأنهم مجرد حيوانات، هذه الفوقية التي أظهرها الصهاينة هي نفسها التي سبق وأظهرها النازيون حين وصفوا اليهود في ذلك الوقت بالحشرات والفيروسات التي يجب التخلص منهم نهائيا بقتلهم، وهي نفسها كانت نهاية الحكم النازي في أوروبا. هي السياسة عينها يتبعها كل المستبدين لتبرير مجازرهم الجماعية في حق المدنيين العُزّل، هذه الحقيقة أعلنها الكاتب والروائي السوري " ممدوح عدوان" في كتابه " تهويد المعرفة" حين وضح بأن :" السعي الصهيوني إلى محو الشخصية الفلسطينية من التاريخ والحاضر يتلاقى مع تفكير غربي استعماري تعامل مع العالم كله على هذا الأساس.
وهذا ينطبق على النظرة الأوروبية إلى شعوب العالم من خلال موقف عرقي"( تهويد المعرفة، ص 31) ويرى أن هذه المسألة في تماه في أسس التكوين العقلي والوجداني. وهذا التماهي يبنى على أسس دينية وعرقية. وهي تفضح نظرة الأوروبي " الأبيض" إلى الشعوب الأخرى هي نظرة الإنسان إلى الحشرات، فمن يبالي بقتل الذباب أو البعوض. بل تبرر فعلها بأن هذه الشعوب التي يقومون بتصفيتها هي شعوب ولادة، كثيرة العدد لا أهمية لفقدان أعداد كبيرة منها أو قتلهم، فيجب قتلهم إذا كان الإنسان يعيش مكانها. هذه النظرية نفسها تبناها كل من باومان وعدوان. باومان حين أسهب الحديث عن ظاهرة البستاني الذي يمثل عمل الدولة في اجتثاث النباتات السامة كي لا تشوه تطلعات هذا البستاني إلى حديقته المتناسقة، هذا ما فعل الآري باليهودي، وهو نفسه مارسه بكل برود وعنجهية اليهودي الذي كان مضطهدًا في التاريخ على الفلسطينيين حيث قام باقتلاعهم من أرضهم، وإلى قتل كثير منهم، وإلى دفع البقية إلى التهجير لتمتد مستوطناتهم في مساحات الإخلاء التعسّفي.
نحن اليوم أمام سؤال مفصلي: ماذا يعني أن يعيش المرء في عالم مشحون دائما بذلك النوع من الرعب الذي جاء الهولوكوست ليكون نموذجا له؟
استعار باومان لتفسير هذه الظاهرة بعبارة " مارتن هايدغر" :" الوجود على أنه معادل لعملية من الاستعادة المستمرة للماضي".( الأخلاق في عهد الحداثة السائلة، ص 127)
على هذا الحبل تماما لعب الصهاينة، على تذكير العالم الأوروبي بأنهم ضحايا الهولوكوست، لقد سعوا لإحياء جذوة هذه الذاكرة لتغطي على كل المجازر والابادات في حق الشعب الفلسطيني، وكلما اعترض العالم على سعيها لتوسيع المستوطنات في الأراضي الفلسطينية شهرت مظلوميتها لتوجه الضمير الأوروبي نحو مناصرتها، كما يؤكد باومان :" تمثل فكرة الماضي شيئا عنيدا، نهائيا وغير قابل للتغيير وغير قابل لعكس المسار، الأنموذج الحقيقي لـ" الواقع" الذي لا يمكن إلغاؤه أو إزالته بالتمني، يخفي الرواة ضعفهم الإنساني خلف ضخامة الماضي المهيبة التي على عكس هشاشة الحاضر وبقاء المستقبل رهن التحقق، يمكن على عكس الحقائق أن تقدس لأنها لا تتيح مجالا للاختلاف"( الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، ص 129). فالتقديس هذه الذاكرة الجمعية والماضي المحتدم بالوقائع حميت مصالح الصهاينة في العالم، هو نفسه القربان المقدس الذي حظي به " الهولوكوست" مذ تاريخ اطلاق هذه اللفظة المخترعة حتى نسفتها طوفان الأقصى لتأتي معبرة عن صناعة هولوكوست إسرائيلي آخر ومشابه إلى حد كبير وعلى مرأى أنظار العالم بكافة الوسائل وبتقنيات الذكاء الاصطناعي في غزة. وسط صمت القيادات الغربية بل وسط دعمهم الكامل ومنحهم الضوء الأخضر للكيان الصهيوني في إبادة الغزيين. رغم أن الصهاينة الذين ظلوا يذكرون الأوروبيين بموقفهم اللامبالي أثناء إبادتهم على يد النازية؛ وهي ظاهرة سبق ووضحها أيضا " ممدوح عدوان" في كتابه " تهويد المعرفة" بأن الأمريكي والأوروبي لا يتعب نفسه في الحديث عن حقوق أو أصول" فليس هناك إلا حقه هو في الوصول إلى أي مكان بفضل القوة، وخدمة للأهداف التي يعلنها هو. وبهذه القوة يهدم التاريخ والحضارة ويبيد البشر ويفرض مشروعيته. وهو يعطي الآن هذه القوة لإسرائيل التي تريد، ويريدها، أن تفعل مثل ما فعل. وهذه لا تكتفي بالقتل والتدمير ومحو الشعب ذاته كما فعلت الولايات المتحدة، بل تريد، زيادة على ذلك، أن تمحو تاريخه، لكي تمد جذورها في قبوره"( تهويد المعرفة، ص 33). هي مقاربة تماثل تماما لقراءة المفكر الفلسطيني " إدوارد سعيد" لتاريخ الشراكة الصهيونية والعقلية الغربية؛ فالدعم الأوروبي ليس ناجما عن مدى محبتها للإسرائيليين ولا عن بغضها للعرب الفلسطينيين، بل لكون إسرائيل نجحت في طرح نفسها كحركة تحرير لليهود المضطهدين وكحل عملي لمشكلة العداء للسامية الذي ساد في الغرب، كما أنها قدمت للعقلية الغربية مشروعًا استعماريًّا دقيقًا على أسس علمية وحضارية غربية وفي الوقت عينه بها حلاً ناجعًا لمشكلة الأقليات اليهودية في العالم والأهم راحة الضمير للأوروبيين في جزء من الشرق العربي الإسلامي المتخلف والقابل للاستعمار!
لكن التقديس الذي ناله الهولوكوست يبدو مبتذلا؛ فالجريمة التي كانت مستهجنة أخلاقيًّا، كادت أن تكون فرصة لاستنباط مبادئ أخلاقية صالحة عالميًّا لو أن " موشي لاندو" الذي ترأس عام 1961م محاكمة " أدولف إيخمان" وهو أحد المسؤولين الكبار عن إعداد المدنيين اليهود في معسكرات الاعتقال لإعدامهم فيما يعرف بالحل الأخير، حوكم بالقدس وأعدم، تمكن بعد ستة وعشرين عاما أن يترأس البعثة التي شرعنت استعمال التعذيب ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. ربما السؤال الشافي هنا هو ليس سعي هؤلاء اليهود الصهاينة إلى تعذيب المدنيين الفلسطينيين، ولنجاري الحضارة الغربية وهي تطرح: لماذا هذه العدوانية أو الوحشية من قبل الفلسطينيين لليهود؟
والإجابة هي واضحة كالشمس، هؤلاء اليهود هم مستعمرون قاموا بطرد السكان الأصليين، أزالوا منازلهم بل أحياء سكنية بأكملها، قاموا باقتلاع حقول الزيتون التي يعود تاريخها لستة ملايين عام، اجتثوا المحاصيل، أحرقوا أماكن العمل، فصلوا المزارع عن البيوت ببناء حوائط لتدمير مصادر عيش الفلاح الفلسطيني، قبل كل هذا نهبوا تاريخهم وتراثهم المتأصل ونسبوا إليهم بكل فجاجة الأكلات الفلسطينية الشهيرة كالفلافل والحمص وغيرها؛ لدرجة أن الأوروبيين يعتقدون أنها أكلات إسرائيلية. لقد سرق هؤلاء اليهود من الفلسطينيين آثارهم وطبائع البلاد والناس.
سياسة " القتل الباتر" وكما عبرت عنه المعاجم العبرية بــاللفظة الأشهر والأعم والأشمل" الهولوكوست" منذ أربعينيات القرن الماضي هو نفسه مورس ضد الفلسطينيين في الأرض المحتلة، سياسة البستاني في إزالة الحشائش، إلى تطهير وهو تدمير إبداعي يقوم بإزالة كل شيء غير ملائم وغير منسجم مثل الغرباء رغم أنهم (أصحاب الأرض الأصليون) بتعبير باومان" يُخلق النظام ويعاد إنتاجه"( الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، ص 144) نظام العهد النازي من أجل بناء نظام جديد ومتطور ومتكامل كما يرون.
بل يؤكد باومان في كتابه" الحداثة والهولوكوست" بأن طريقة احتفال بذكرى الهولوكوست في السياسة الإسرائيلية هي أكبر العوائق في طريق إدراك إمكانية إدراك الهولوكوست بوصفها تطهيرا أخلاقيا، إنها انتصار لهتلر بعد مماته، فهو من كان يحلم بخلق صراع بين اليهود والعالم بأكمله، وبين العالم بأكمله واليهود، إنه انتصار في منع اليهود من أية فرصة للتعايش السلمي مع الآخرين.
وغدت إسرائيل اليوم كما وصفها الحاخام الأمريكي " يهودا ماجنيس" حينما أكدّ بأن:" الصوت اليهودي الجديد يخرج من فوهات البنادق، هي التوراة الجديدة لأرض إسرائيل".
أي أنها أصبحت كيانا عنيفا وداعيًّا إلى العنف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*المصادر والمراجع:
1- الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، زيجمونت باومان، ترجمة سعد البازعي وبثينة الإبراهيم، كلمة للترجمة، أبوظبي، ط1، 2016م.
2- الحداثة والهولوكوست، زيجمونت باومان، ترجمة حجّاج أبو الخير و دينا رمضان، مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة، ط1، 2014م.
3- التطهير العرقي في فلسطين، إيلان بابه، ترجمة أحمد خليفة، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، ط1، 2007م.
4- تهويد المعرفة، ممدوح عدوان، دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2007م.
5- حيونة الإنسان، ممدوح عدوان، دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، سوريا، ط1، 2007م.
2024/11/19 19:38:52
Back to Top
HTML Embed Code: