Telegram Web Link
شعَمِ

أوصى رجلٌ بنِيْهِ، فقال: "يا بنيَّ! عاشِرُوا الناس معاشرةً إن غِبْتُم عنهم حنُّوا إليكم، وإن متُّمْ بكَوا عليكم".

ويموت أناسٌ فلا يُؤسَى على فراقهم، ولا يُحزَنُ على فَقدِهم؛ فلم يكن لهم آثارٌ صالحةٌ، ولا أعمالٌ نافعةٌ، ولا إحسانٌ إلى الخلق، ولا بذلٌ ولا شفقةٌ ولا عطفٌ ولا رحمةٌ ولا خُلُقٌ حسن، يقول الله - تعالى - في أمثال هؤلاء: ﴿ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالأَرْضُ.. ﴾ [الدخان: 29]. لا يُرَى لهم في الأرضِ شاكِر، ولا لهم بالخير ذاكِرُ.

فالحَقُودُ الحَسُودُ، والجَمُوعُ المَنُوعُ، والفاحشُ البَذِيء، وصاحبُ الظلمِ والكِبْر والهوى، والذي يُعامِلُ الناسَ بالغِلْظةِ والقسوةِ والشدةِ يقطعُ الله الذكرَ الحسنَ عنه، ويبقى له البغضُ في الأرض، والذمُّ من الخلق.
كأنهم قَطُّ ما كانوا ولا وُجِدُوا
وماتَ ذِكْرُهم بين الوَرَى ونُسُوا
كم طامعٍ بالثَّنَا من غير بذلِ يدٍ
ومشتهٍ حمدهُ ولكنْ بمجَّانِي
والناسُ أكيَسُ من أن يمدَحُوا رجُلاً
حتى يرَوا عنده آثارَ إحسانِ

وعن عمرو بن الحَمِق - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بعبدٍ خيرًا عسَلَه)). قيل: يا رسول الله! وما عسَلَه؟ قال: ((فتح له عملاً صالحًا بين يدي موته حتى يُرضِي عنه من حوله))؛ أخرجه أحمد وابن حبان.

قال ابن قتيبة: "قوله: ((عسَلَهُ)) أراهُ مأخوذًا من العسل، شبَّهَ العملَ الصالحَ الذي يفتحُ للعبد حتى يرضى الناس عنه، ويطِيبُ ذِكرُهُ فيهم بالعسل".

ومن الأعمال الصالحة التي تفتح للمُوفَّقين فيرضى الله بها عنهم، ويُرضِي عنهم خلقه، ويلحقهم أجرها بعد الممات: حبسُ النفس على التعلُّم، وإقراء القرآن والتحديث، ونشرُ العقيدة الصحيحة، والتصدُّر للإفادة والتصنيف والتأليف، وطباعةُ الكتب النافعة، وبناء المدارس والمساجد والمشافي، وسقي الماء وحفر الآبار، وكثرة الصدقة وإدامة البر والإحسان، والشفقة على الضِّعَافِ، وتزويجُ المعدوم، وإعطاءُ المحروم، وإنصافُ المظلوم، والأداءُ عن المحبوسِ، وقضاءُ الحوائجِ، ومُواساةُ الفقراء، وإدخالُ السرور على المرضى، والأمرُ بالمعروف، والنهيُ عن المنكر، والنصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، والإصلاح بين المتخاصمين، وجمع كلمة الأمة على الخير والهدى، والتقوى والصلاح، إلى غير ذلك من طرق الخير ووجوه البر.

فعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ((سبعٌ يجري للعبدِ أجرُهُنَّ في قبره بعد موته: من علَّمَ علمًا، أو أجرى نهرًا، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجدًا، أو ورَّثَ مُصحفًا، أو ترك ولدًا يستغفرُ له بعد موته))؛ أخرجه أحمد.

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ((إن مما يلحقُ المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علمًا علَّمَهُ ونَشَرَه، وولدًا صالحًا تَرَكَه، ومُصحَفًا ورَّثَهُ، أو مَسْجِدًا بناهُ، أو بيتًا لابنِ السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقةً أخرَجَها في صِحَّتِهِ وحياته يلحقُهُ من بعد موته))؛ أخرجه ابن ماجه.

أيها المسلمون:
والحب يسرِي، والحمدُ يبقى، والثناءُ والدعاءُ يدومُ لمن عمَّ نفعُهُ، وشمل عطاؤه وإحسانه، وتواصَلَ بِرُّهُ وخيرُهُ، فقدِّمُوا لأنفسكم من الآثار الطيبة، والأعمال الصالحة، والقُرَب والطاعات والإحسان ما لا ينقطع لها عمل، ولا تقِفُ لها أجورٌ، مع تواصُلِ الدعوات الصادقة لكم من المسلمين على مرِّ الأيام والأعوام، اللهم اجعلنا مُبارَكِين أينما كُنَّا.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبــــة.الثانيــــة.cc
الحمدُ لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتنانه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أمـــا بعـــد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله وراقِبُوه، وأطيعوه ولا تعصوه، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119].

أيها المسلمون:
والرجلُ حين يُعامِلُ زوجَهُ وأولاده بالرفق والإحسان، والشفقة والرحمة، والمحبة والعطف، والبذل والكرم يبقى محمودَ الذكر بعد موته، والمرأةُ حين تُحسِنُ إلى زوجِها، وتحُوطُهُ بالإكرامِ والاحترامِ يبقَى حُبُّهَا في قلبِهِ، ويسرِي حمدُها على لسانه.

فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ما غِرْتُ على أحدٍ من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ما غِرْتُ على خديجة - وما رأيتُها، ولكن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُكثِرُ ذكرَها، وربما ذَبَحَ الشاةَ ثم يُقطِّعُها أعضاءً، ثم يبعثُها في صدائقِ خديجة، فربما قلتُ له: كأن لم يكن بالدنيا إلا خديجة، فيقول - صلى الله عليه وسلم: ((إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد))؛ أخرجه البخاري.

وعند الطبراني: "وكان إذا ذكرت خدي
جة لم يسأل من ثناءٍ عليها، واستغفارٍ لها".

فأعمالُها الجليلة، وصفاتُها الحميدة خلَّدَت مكانتها في نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقلبه، فكان يُكثِرُ ذكرَها وحمدَها، والثناء عليها، والدعاء لها.

أيها المسلمون:
والمؤمنُ لا يبذل الخير اجتلابًا للمدحة، ولا طمعًا في الثناء، ولا رغبةً في الذكر، ولكن من بذل الخير بنِيَّةٍ خالصةٍ، وقصدٍ حسنٍ قَبِل اللهُ سعيَهُ، ووضَعَ له القبولَ والحُبَّ بين عباده، ونَشَرَ له الذكرَ الحسنَ، والثناءَ والدعاءَ في حياته وبعد مماته.

فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: ((أهلُ الجنة مَنْ مَلأَ الله أُذنَيْه من ثناءِ الناس خيرًا وهو يسمع، وأهل النار من مَلأَ الله أُذنَيْه ثناء الناس شرًا وهو يسمع))؛ أخرجه ابن ماجه.

جعلنا الله وإياكم من المُوفَّقين الهُداةِ المُهتدين.

ثم اعلموا أن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحةِ بقُدسِهِ، وأيَّهَ بكم - أيها المؤمنون - من جِنِّهِ وإنْسِهِ، فقال قولاً كريمًا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة أصحاب السنة المُتَّبَعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمَنِّكَ وفضلِكَ وجُودِكَ وإحسانِكَ وكرمِكَ يا أرحم الراحمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مُطمئنًّا سخاءًً رخاءً، وسائر بلاد المسلمين.

اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصةً، وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.

اللهم إنا نعوذ بك من الطعن والطاعون، اللهم إنا نعوذ بك من الطعن والطاعون، اللهم إنا نعوذ بك من الطعن والطاعون، والوباء وهجوم البلاء، والوباء وهجوم البلاء، والوباء وهجوم البلاء في النفس والأهل والمال والولد يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين.

اللهم إنا نعوذ بكلماتِ الله التامَّاتِ التي لا يجاوِزُهنَّ برٌّ ولا فاجرٌ من شرِّ ما خلق وبرأ وذرأ، ومن شرِّ ما ينزلُ من السماء، ومن شرِّ ما يعرُجُ فيها، ومن شرِّ ما ذرَأَ في الأرض، ومن شرِّ ما يخرج منها، ومن شرِّ فتنِ الليل والنهار، ومن شرِّ طوارِقِ الليل والنهار إلا طارِقًا يطرُقُ بخيرٍ يا رحمن.

اللهم كن لإخواننا في فلسطين ناصرًا ومُعينًا، ومؤيدًا وظهيرًا، اللهم عليك بيهود، اللهم عليك بيهود، اللهم عليك بيهود، اللهم إن اليهود قد طغوا وبغوا وأسرفوا وأفسدوا واعتدوا؛ اللهم زلزلِ الأرضَ من تحت أقدامهم، اللهم زلزلِ الأرض من تحت أقدامهم، اللهم زلزلِ الأرض من تحت أقدامهم، وألقِ الرعبَ في قلوبهم، واجعلهم غنيمةً للمسلمين يا رب العالمين.

اللهم وفِّقْ إمامَنَا وولِيَّ أمرنا، خادم الحرمين الشريفين؛ الملك: عبدالله بن عبدالعزيز لما تحبُّ وترضى، اللهم واجزِهِ خيرًا على ما قدَّمَهُ للحرَمَيْن الشريفَيْن وللإسلام والمسلمين، اللهم وأظِلَّهُ تحت ظِلِّ عرشِكَ يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّك كما ظلَّلَ ساحات الحرم على المُصلِّين في مسجد رسولك - صلى الله عليه وسلم، اللهم أظِلَّهُ تحت ظِلِّ عرشِكَ يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّك كما ظلَّلَ ساحات الحرم على المُصلِّين في مسجد رسولك - صلى الله عليه وسلم.

اللهم أعِزَّ الآمِرين بالمعروف والناهين عن المنكر، اللهم احفظهم ودافِعْ عنهم، اللهم ومن أرادهم بسوءٍ أو شرٍّ فاكشِفْ سِرَّه، واهتِكْ سِترَه، وأبطِل مكره، واكفِنا شرَّه، واجعله عبرةً يا رب العالمين.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، وفُكَّ أسرانا، وانصرنا على من عادانا يا رب العالمين.

اللهم وفِّق أبناءنا الطلاب، اللهم وفِّق أبناءنا الطلاب وبناتنا الطالبات في دراستهم، اللهم لا سهلَ إلا ما جعلتَه سهلاً وأنت تجعلُ الحَزَنَ إذا شئتَ سهلاً؛ فاجعل الامتحانَ سهلاً مُيسَّرًا عليهم يا رب العالمين، اللهم اجعل الامتحان سهلاً مُيسَّرًا عليهم يا رب العالمين، اللهم ذلِّل لهم الصِّعاب، ووفِّقْهم للصواب، وألهِمهم حسن الجواب.

اللهم حقِّقْ لهم النجاحَ، واكتب لهم التوفيقَ والفلاحَ، اللهم اجعلهم لوالديهم وأهليهم وأوطانهم ودينهم قُرَّةَ عين، وقِهِم شرَّ الحسد والعين، وأبعِد عنهم قولان السوء يا رب العالمين.

عـــباد الله:
﴿ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].

فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نِعَمِهِ يزدكم، ﴿ وَلَذِكْرُ ال
لهِ أَكْبَرُ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].
🎤
خطبة.جمعــة.بعنــوان.cc
البشارة بأن الباطل زائل وإن علا
للشيــخ/ مــحــمـــد صـالـح المنـجـــــد
🕌🕌🕌🕌🕌🕌🕌🕌🕌

عــناصر الخطبــة :
1/ المثل المائي ومعناه 2/ المثل الناري ومعناه 3/ العلاقة بين المثلين 4/ العلاقة بينهما وبين الدين والشرع والإسلام 5/ العلو للباطل أولا والغلبة للإسلام آخرا 6/ من عبر ضرب هذين المثلين 7/ إنفاق أهل الباطل وجهودهم في التنصير 8/ أمثلة على أن الزبد يذهب جفاء 9/ أمثلة على أن ما ينفع الناس يمكث في الأرض .

الخطبــــة.الاولــــى.cc
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

الحمد لله الذي أنزل علينا القرآن، وجعل ما فيه من الأمثال والبيان: حكمة ومجالاً للتدبر؛ ليتحقق الابتلاء والامتحان، وتتبين حقيقة الإنسان، قال الله -سبحانه وتعالى- في محكم تنزيله، في آية لابد للمسلم من النظر فيها بعين البصيرة، والتأمل فيها: (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ) [الرعد: 17].

قال بعض السلف: "إذا سمعتُ المثل في القرآن فلم أفهمه بكيتُ على نفسي؛ لأن الله تعالى يقول: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) [العنكبوت:43]، فلا يفهم الأمثال التي ضربها الله للناس في كتابه إلا العالم، فإذا لم يفهم الشخص المثل فربما لا يكون من أهل العلم.

وقد ضرب الله تعالى في هذه الآية مثلاً نارياً، وقبله مثلاً مائياً، فقال الله -عز وجل- في المثل المائي: (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) [الرعد:17] وهذا المثل فيه تشبيه الوحي والقرآن الذي أنزله الله تعالى لحياة القلوب وهداية الناس بنزول المطر من السماء الذي تحيا به الأرض، إنه وحي عام لا يخص أحداً دون أحد، هو للجميع؛ للعرب والعجم، للأحمر والأصفر والأسود. إنه للذكر والأنثى، والكبير والصغير؛ مثل المطر الذي يعم بنفعه الجميع.
(أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا)، هذه الأودية التي تجتمع فيها الأمطار تختلف سعةً وعمقاً، وتختلف بحسب إمساكها للماء، وتختلف في الشعاب التي تسيل منها، وحجم الأراضي التي تسقيها، وبالتالي في حجم الانتفاع الذي ينتفع منها، الوادي يحتضن الماء.

وكذلك قلب المؤمن يحتضن هذا الوحي ويلُمُّه فيه، وينعقد عليه، فيتفاعل معه، الأرض تتفاعل مع المطر فتنبت، والقلب يتفاعل مع الوحي فيثمر الأعمال الصالحة، وعندما ترى المطر ينزل فإنه يثمر أنواعاً من الثمار والزهور مختلفة اللون والطعم والرائحة، وكذلك هذه الآيات في قلب المؤمن تثمر أنواعاً من الأعمال الصالحة. إنها في تنوعها وشمولها وقيامها على أعضاء البدن المختلفة فيها رصيد له عظيم عند ربه.

قال الله تعالى: (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ) سالت أودية، هنالك حركة، كما تعبر عنها لفظة: (سالت)، إنه ليس ممسكاً فقط، ومختزناً، أو متشرباً؛ كلا؛ بل هو وادٍ كبير يسيل بما فيه، والماء ليس آسناً، وإنما يتحرك؛ لأن الوادي فيه مناسيب في الارتفاع مختلفة تجعل الماء يتحرك، فيسيل الوادي بما يحتضنه من الماء، يسيل الوادي بما اشتمل عليه من المطر، (فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا).

قلوب الناس في قبول الحق والعمل به تختلف؛ فهي كالأودية المتنوعة، والقلوب تتفاوت فيما تأخذه من الوحي والقرآن، وبما تقبله منه، وبما تتفاعل معه وتنصاع لأمره، فهناك قلوب كبيرة وقلوب صغيرة، قلوب واسعة وقلوب ضيقة، قلوب طيبة وأخرى خبيثة، إذا جاءها الوحي لم يجد محلاً قابلاً، فينصرف عنها، فيكون كالمطر الذي يمر على الصخور الملساء، إنما يزيل عنها التراب فقط.

وهذه الأودية ليست صخوراً ملساء إذا نزل عليها الماء انصرف وزال، وإنما هي تحتضن وتكتنز، فإذا نزل القرآن حملت القلوب منه على قدر اليقين والعقل، والقلوب مع الوحي كالغيث مع الأرض، فهنالك أرض نقية تقبل الماء وتنبت الكلأ والعشب الكثير، وهناك أرض أجادب تمسك الماء فينفع الله به الناس إذا أخذوا منه، فيحتفرون ويستخرجون، ويستنبطون، ويشربون ويسقون، ويزرعون، وهناك أراضٍ لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً؛ قال الله تعالى: (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا) احتمل: جرف معه بالطريق هذا الزبد، وهذا الحركة المتدفقة يركب زبد، ويعلو زبد، والزبَد: ما يعلو السيل من خليط غير
متماسك من أشياء؛ من القاذورات، والوساخات، وبقايا أوراق الأشجار، والأتربة، والأخشاب، والأعواد ونحو ذلك.

هذا الزبد ليس فيه تماسك ولا ترابط، مجموعة أشياء غير متجانسة، أيضاً ليس له أساس؛ لأنه محمول على الماء حملاً، ولكنه ظاهر فوقه، وبائن على سطح الماء للرائي، أول ما ينظر الإنسان إلى مجرى السيل يجد هذا الزبد، فهو في رأي العين أول ما يُرى، هو شيء يطفو على السطح، ولكنه سرعان ما يتمزق ويتصدع بكل سهولة إذا مر على شيء ثابت، أو عاقه عائق سرعان ما يضمحل، يزول، يتفرق تفرقاً سهلاً سريعاً.

هو عبارة عن رغوة، فقاقيع هواء، والفقاعة ماذا تحتوي في الحجم أو في الوزن أو الكثافة؟ هي أقل كثافة من الماء بكثير، ولذلك تطفو على سطحه، هذا غثاء، لكنه موصوف في الآية: (رَّابِيًا): يعني عالياً، منتفخاً، منتفشاً؛ فالانتفاش، والانتفاخ، والعلو من طبع الزبد، لكن بلا أساس ولا قاعدة، غير متماسك ولا متجانس، ويتفرق سريعاً، هذا هو المثل المائي.
ثم قال تعالى: (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ) يوقد في النار ابتغاء الحلية والمتاع صخر المعدن، عندما يراد استخلاص المعادن: يؤتى بالخام المخلوط بأشياء كثيرة؛ من ذهب، وحديد، و غير ذلك، يُدخل في أفران، ويعرض للحرارة العالية؛ لاستخراج المعدن.

وإذا استُخرج المعدن يدخل بعد ذلك في أفران، ويعرض للنار للتشكيل؛ ليكون حلية أو متاع، فهذا الخام المخلوط لاستخراج المعدن منه لا بد أن يوقد عليه نار؛ فماذا يحدث عند عملية الصهر، أو عند عملية الإيقاد على هذه الأشياء؟ يعلو زبد أيضاً، وتظهر فقاقيع؛ لأن المعادن مخلوطة بأشياء تافهة أو قاذورات، وأشياء خسيسة، ولابد لاستخراج النفيس من حرارة تفصل الخسيس عنه، فإذا وضع في النار علته فقاعات أخرى تسمى خبث المعدِن.

والعلاقة بين المثلين واحدة: وهي ارتفاع الزبد وعلوه على السطح، ثم يلقى ويطرح؛ لأنه لا خير فيه، ويؤخذ الباقي الصافي، المعدن الأصلي، الذي يستفاد منه في الطرق والتشكيل ونحو ذلك.

في الحالين في المثل المائي والناري قال الله: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً) الزبد يذهب جفاءً؛ ما رمى به الوادي من الزبد، وما رمى به القدر والفرن من الزبد في جنباته؛ يذهب جفاءً ما معنى جفاءً؟ باطلاً، ضائعاً، مطروحاً، مستغنىً عنه، ملقىً، تافهاًً، فيحصل الصفاء للوادي بعد ذهاب الزبد، ويحصل الصفاء للمعدن بعد ذهاب هذا الزبد أيضاً، يصبح المنظر أجمل، يصبح المعدن صافياً، والماء أصفى.

قال الله تعالى عن المرحلة التي تكون بعد ذلك: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ) من الماء الصافي، والمعدن الخالص (فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) يثبت فيها؛ مصنوعات، نباتات؛ ينفع الناس، (فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ)، فهذا شجر وهذه حلية ومتاع، ينتفع الناس بالشجر فيأكلون من الثمار، ويتزينون بالحلية ويستخدمون ذلك المتاع، هذا الشيء المشاهد دنيوياً؛ فما هي العلاقة بينه وبين الدين والشرع والإسلام، وما أنزل الله؟
بعدما ساق لهم هذه المشاهد، أو هذين المشهدين المرئيين المتكررين المعروفين عندهم، قال لهم بعد سياقها: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ)، عندما يقرأ الإنسان الآية من أولها: يذهب ذهنه ويسير مع هذه العملية الطبيعية التي ينزل فيها الماء إلى الوادي، وذلك الإيقاد الذي يفعله الناس في المعادن، لكن بعد ذلك يأتي الربط: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ).

فضرب الله مثلين للحق في ثباته، للحق في بقائه، للحق في منفعته، للحق في رسوخه، للحق في استفادة الناس منه، للحق عندما يبقى ويستمر، وأيضاً ضرب المثل في هذا للباطل في تفرقه، وعدم تجانسه؛ سبلٌ، وذاك صراط مستقيم، هذه سبل غير متجانسة، ولا متوافقة، هذه أهواء مصدرها إبليس وشياطين الإنس، ثم لها علوٌ في مراحل.
نعم؛ الباطل منتفش. نعم؛ الباطل يعلو أحياناً. نعم؛ الباطل يظهر للناس، ولا يظهر الحق لكثير من الناس، والذي لا يعلم الحقيقة ويرى سطح القدر وسطح الوادي يرى زبداً، يراه منتفشاً طاغياً، يراه منتفخاً عالياً؛ لأنه قال: (رَّابِيًا)، (زَبَدًا رَّابِيًا)، لكن ماذا يحدث له بعد ذلك؟
الله -عز وجل- حكيم لم يرد أن يكون الحق هكذا يُحصل عليه بكل سهولة، وبدون أي معركة ولا مواجهة، ولا تغلب، وإنما أراد أن يكون هنالك صراع، وأن يكون هنالك تغلب في النهاية للحق، وعلوٌ للباطل في البداية، أول ما ينزل المطر، (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا)، أول ما يوقدون عليه في النار تخرج الفقاقيع ويعلو الزبد.

إذاً؛ البداية للزبد، لكن ليس الاستمرار له ولا البقاء، فضلاً عن النفع والرسوخ، ولذلك قال: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ)، هذه أشياء محسوسة يضرب الله بها أمثالاً للأشياء غير المحسوسة، ويرينا الحق في رسوخه كالشجرة العظيمة التي لها ثمار، ضاربة في الأرض بجذورها، (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَ
يحة أخلاقية: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا) ستخرج، ستبذل، ستذهب (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً)؛ لكي يقفوا ويقولوا: ماذا صنعنا؟

بالنسبة لحسابات الأرباح والخسائر، ما كسبوه من التنصير لا يعادل أبداً إطلاقاً المبالغ الهائلة، والجهود التي صرفت: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ) [الصف: 8].

تظهر كلمة الحق ولو بعد حين، ينتصر الحق ولو بعد مدة، سيغلِب أهله ولو كانت الجولة لأعدائهم في البداية، لكن لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، يقول المؤرخ الأمريكي استودورد: "يكاد يكون نبأ ظهور الإسلام هو الأعجب في تاريخ البشرية؛ إذ ظهر في أمة عرب متمزقين، وكيان منحط، فلم يمض عليه قرن، -أي: مائة سنة فقط- حتى انتشر في نصف العالم، يغير النفوس والدول والأقوام والناس، ويبني حضارة".

"ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنار" مسند أحمد.، وقال شعيب الأرناؤوط: "إسناده صحيح على شرط مسلم".
والدين ينتشر شرقاً وغرباً، وهكذا الكرة الأرضية اليابسة فيها منتشرة شرقاً وغرباً، قطب في الشمال، وقطب في الجنوب، وبحار بينهما، لكنه قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله زوي لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها" صحيح مسلم.

أقاموا حفلاً تنصيرياً لفتيات مسلمات قد تم إعدادهن مدة من الزمن، ثم بعد ذلك لما خرجن كن بالحجاب الإسلامي، ومجموعة من القرويين يقوم عليهم منصرون يعلمونهم كل يوم، ويعطونهم، ويغذونهم، ثم يأتي واحد يمر أمامهم فيقول: "وحدوه"، فيقولون كلهم: "لا إله إلا الله": (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) [الروم: 30].

وبجهود بسيطة: أنت لا تعرف الإسلام، إن أردت معرفته اتبعني، اسألني، اتصل على الرقم الفلاني، هذا مسلم استنبطها من إعلان إطارات، إعلان إطارات على زجاج سيارات، فأسلم عنده أكثر من ألف ألماني، وأقام مسجداً ومركزاً إسلامياً وداراً للتعليم.

أيها الأخوة: الأشياء التي تذهب من الباطل كثيرة، تذهب ثروات ومليارات جمعت لغير وجه الله وبغير حق، مثال ذلك ما ذكر الله تعالى عن قارون: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) [القصص:79]، عنده خزائن: (مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) [القصص:76].

مفاتح الخزائن لتنوء بالعصبة أولي القوة، والعصبة: جماعة من الرجال ليسوا ضعافا (أُولِي الْقُوَّةِ) ينوءون بحمل المفاتيح؛ فكيف بالخزائن؟ فكيف بما في داخل الخزائن؟ (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ)، لما خرج على قومه في زينته، قال الذين يريدون الحياة الدنيا (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [القصص: 79]؛ ماذا كانت النتيجة؟ (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ) [القصص:81]، (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ).

أين قوم عاد؟ أين قوم ثمود؟ أين إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد؟ وأين ثمود الذين جابوا الصخر بالواد؟ وأين فرعون ذي الأوتاد؟ وأين حضارة الفراعنة؟ وأين ما كانوا عليه من الملك؛ (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي) [الزخرف:51] كلها ذهبت وانتهت، واضمحلت، (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا) [الأعراف:137].

وانتهت حضارة فرعون، انتهت دولة فرعون، الفراعنة انتهوا، وأورث الله بني إسرائيل في ذلك الوقت مشارق الأرض ومغاربها، بقيت الآن أطلال بواقي، أشياء تنبئ أنه كان هنا حضارة وبلاد، لكن انتهت، أهلكهم الله، منهم من خسف به، ومنهم من سلط عليه حاصباًَ، ومنهم من أخذته الصيحة، ومن أخذه الريح والإعصار.

وهكذا؛ خذ اليوم من مذاهب الشيوعية، الوجودية، الإلحاد، البعثية إلى آخره؛ أين ذهبت؟ ماذا بقي منها؟ ذهبت اضمحلت، مذاهب كثيرة جداً، وبدع وطرق: ذهبت انتهت بادت، وبقي القرآن، القرآن لم يتغير، ولم يتبدل، ولم يفنى؛ أين بدعة القول بخلق القرآن؟ انتهت بعدما كان لها كبراء وزراء، من يقومون بها، ويدعون إليها، ويخيفون الناس، ويعذبونهم، لكن انتهت، بادت المدرسة، بقي ما في الكتب عنها، بقي شواذ قلة ممن يقول بها، لكن انتصر منهج أهل السنة، وارتفع ذكر من مثَّله من الإمام أحمد، والبويطي، ومحمد بن نوح، وأهل العلم الذين كانوا على الحق، بقي منهجهم.

حصلت فقاقيع كثيرة عبر التاريخ، هناك كتب كثيرة ألفت، وكتب كثيرة رصدت لها الملايين، وطبعت، ودعايات وإعلانات؛ أين هي الآن؟ ماذا بقي منها؟ كم سطّر الحداثيون ونفخوا فيه من كتب؟ ماذا بقي منها؟ ماذا بقي من الآيات الشيطانية؟ وماذا بقي من الليالي الحمراء المزعومة؟ وماذا بقي من ومن، تضمحل ويبقى كتاب الله -عز وجل-،
لِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء) [إبراهيم:24].

ويرينا الباطل، ويوم القيامة ماذا يكون؟ (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا) [الفرقان:23] كل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل، وما لا يكون لله لا ينفع ولا يدوم، وهكذا يضرب الله الأمثال، ختم الآية بهذا الختام: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ).

هذه الأمثال عظيمة يضربها الله؛ ليعقلها العالمون، هذه الأمثال يبين الله بها، هذه الأمثال مجال للتدبر والتفكر، ومن تأمل استخرج المزيد، هذه أمثال لذهاب أعمال الكفار والمنافقين، ينفقون عليها كثيراً، لكنها لا تدوم، هذه أمثال لجهود أعداء الدين، يصرفون من أجلها الأوقات والأعمار، مخططات، مؤامرات، مؤتمرات، إنفاقات، جهود عظيمة جداً، لكنها في النهاية تضمحل، تدبير أهل الباطل سيزول، وأموالهم سينفقونها، (ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) [الأنفال: 36] ولا يبقى في النهاية إلا ما هو حق أريد به وجه الله -عز وجل-.
اللهم إنا نسألك أن ترينا الحق حقاً وأن ترزقنا اتباعه، وأن ترينا الباطل باطلاً وأن ترزقنا اجتنابه.

أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبــــة.الثانيــــة.cc
الحمدلله العلي الوهاب، وسبحان الله الهادي إلى طريق الصواب، والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، خير من دعا إلى الله وأناب، آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب، صلى الله عليه وعلى الآل والأصحاب، اللهم ارض عنهم إلى يوم الدين، وعمن تبعهم إلى بإحسان يا أرحم الراحمين.

يا أيها المسلمون يا عباد الله:
تأملوا في إنفاق أهل الباطل وجهودهم؛ إذاعة الفاتيكان تأسست عام 1931م، تملك أكبر وأقوى أجهزة بث على مستوى العالم، وتقدم خدماتها بأكثر من سبعة وأربعين لغة ولهجة؛ من بينها العربية، يستمع إليها أكثر من مليار وثلاثمائة مليون مستمع ومشاهد في العالم.

وعدد المؤسسات التنصيرية أكثر من ربع مليون مؤسسة تنصيرية، تملك أكثر من مائة مليون جهاز كمبيوتر، وتصدر ملايين الكتب، وأكثر من خمسة وعشرين ألف جريدة بأكثر من مائة وخمسين لغة، وصل عدد الأناجيل الموزعة في العالم إلى نحو ستين مليون.

وهناك أكثر من خمسمائة قناة فضائية تنصيرية، قام قسٌ أمريكي بحملة صليبية للوصول إلى أربعمائة مليون شخص بخطاب يلقيه في خمسمائة مدينة عن طريق ستة عشر قمراً صناعياً، بكل ما يحتويه كل قمر من القنوات، وأكثر من مائة ألف مركز ومعهد تدريب وتأهيل.

وعلى سبيل المثال: فإن منظمة [S0S] التنصيرية المتخصصة في إنشاء قرى للأطفال والأيتام حول العالم أنشأت أكثر من ثلاثمائة وواحد وسبعين قرية نموذجية بمساكنها، ومدارسها، وترفيهها، وألعابها، وحواضنها، بكافة الخدمات التعليمية، والصحية، والتربوية، والاجتماعية حول العالم، ميزانيات بالمليارات.

كما قام المنصورون ببناء المدارس، والملاجئ، والمخيمات، ودور الأيتام والفقراء، وبناء الجامعات، وتقديم الأموال، والمساعدات، والأدوية، والأغذية، في المقابل: ماذا قدم المسلمون؟ الجواب مخجل لا يذكر، كم قمر صناعي عملوا لخدمة الإسلام؟ محطات الفضائية الإسلامية جهود فردية في كثير من الأحيان، وهذه تفتح وهذه تغلق، وهذه وهذه.

ولا زال عامل التخطيط والإدارة كله بدائيا، وقل مثل ذلك في كثير من المواقع والكتب لازلنا في مجال الدعاية والإعلان والإعلام والوسائل لازلنا في البداية، وأعداؤنا تقدمونا بكثير، وفضلاً عما يكون في بعض الأعمال الإسلامية من الدخل والدخن والخلط، ماذا يوجد لها من ميزانيات؟ ماذا يوجد لها من متفرغين وطاقات بشرية؟ لا يكاد يذكر.

ثم هي مع ذلك الأعمال الإسلامية معرضة على مستوى العالم للحصار؛ فتأمل في المدارس على مستوى العالم في أوروبا في أمريكا، إلى آخره، في المعاهد، في المراكز الإسلامية القليلة الباقية الموجودة؛ ماذا حصل لها؟

إقفال، شلل، حصار، إغلاق، وعقوبات، فهذا يغلق، وهذه مآذن تمنع، وهذه مساجد تحاصر، وهذا نقاب وحجاب يحارب، مع المقارنة غير المنصفة أبداً بين الفريقين فإن الإسلام هو الديانة رقم واحد في الانتشار في العالم الآن،كل هذه الجهود هناك، وكل هذه الأشياء المتواضعة هنا، ثم يكون الإسلام أكثر دين انتشاراً في العالم، ويخشى الفرنسيون أن تتحول فرنسا إلى دولة إسلامية في عام 2050م.
(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ)، (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) [الأنفال: 36].

مشروع تنصيري جُمع له ثلاثمائة وست ثلاثين مليون دولار، وآخر جمع له مائة وخمسين مليون دولار، إنهار كل منها بسبب فض
وما يتعلق به من شرح وتفسير، وهكذا تندثر فتاوى باطلة وضالة، وهكذا تذهب أكاذيب كثيرة؛ (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ).

لما عزم مالك -رحمه الله- على تصنيف الموطأ وصنفه، قلده بعض الناس وعملوا موطآت، وجمعوا أحاديث ووضعوها في كتاب، فقيل لمالك: "شغلت نفسك بعمل الكتاب، ثم شاركك فيه ناس وقلدوك وعملوا مثل نفس الفكرة"، فقال: "ائتوني بما عملوا، فأوتي بذلك، فنظر فيه ثم قال: "لتعلمن أنه لا يرتفع من هذا إلا ما أريد به وجه الله".
بقي انتقاء مالك وشروط مالك وتعب مالك وسهر مالك، ورحلات مالك في جمع الحديث، وتبويب مالك بقي موطأ مالك، وبقي صحيح البخاري، وبقيت الرسالة للشافعي، وبقيت صحاح مسانيد أهل السنة، ولكن الكتب التي ألفها علماء النصارى واليهود في القرون السابقة؛ ماذا حصل فيها؟

بقيت لنا دواوين أهل الإسلام، بقي لنا مسند أحمد، بقي لنا من الشروح الكثير، والعجيب أن هنالك كتب لم تنتشر في وقت مؤلفها؛ مثل مؤلفات ابن تيمية، وابن القيم، وابن رجب، وابن عبد الهادي، وغيرهم، ما كانت منتشرة في وقتهم كانتشارها الآن أبداً، بل كانت محاصرة ولهم أعداء، وهكذا خرج تفسير ابن كثير، ورياض الصالحين، مؤلفات النووي، وابن حجر، وابن قدامة، وغيرهم.

الآن تطبع بأعداد أكبر بكثير مما كان في وقت المؤلف؛ (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء)، كتب لأهل الباطل ذهبت بقي منها مخطوطات اندثرت، وبقيت كتب أهل الحق، هناك ممن ولي في الأرض كثير، لكن بقي ذكر ذي القرنين مخلداً. وبقيت سيرة عمر بن عبد العزيز وقد خلف سنتين زاهية مورقة جذابة جميلة.

أحمد بن حنبل -رحمه الله-
لما خرجت جنازته لهج الناس في الجنازة بذكر الحق، وأن القرآن منزل غير مخلوق. وابن أبي دؤاد الذي تزعم الفتنة ابتلاه الله بشلل قبل الموت، وبقي طريحاً في الفراش لا يحرك جسده، وحرم لذة الطعام والشراب والنكاح، ولم يُصَلِّ عليه عند موته إلا ابنه العباس وعدد قليل من الناس، ودفن في بيته؛ لأن الناس ربما رجموا قبره، وقس على ذلك، البقاء للأصلح؛ أما الزبد فيذهب جفاءً، تذروه الرياح، ولو أنفقت عليه أموال كثيرة.

ما هو الدرس -أيها الأخوة-؟ الدرس: عدم الاغترار بالباطل؛ ولو انتفش ولو علا ولو ظهر في المشهد؛ لأنه في النهاية سيضمحل ولا يبقى، ويبقى الحق.

قالوا: أن هناك ستمائة وستة وتسعين قناة عربية: منها مائة وخمسة عشر قناة للأغاني، وستة وخمسين للرياضة، والقنوات الدينية قلة؛ (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ)، أين أفلام هوليود؟ أنتجت أفلام كثيرة جداً؛ أين هي؟ ما ذهب منها كثير، نُسي. ينفق على الفلم الواحد عشرون مليون دولار، ثلاثون مليون دولار، أربعون مليون دولار، لكن أين هي بعد ذلك؟

وأما القرآن والسنة وشروحهما فأمرها عجيب، والعلماء، والشخصيات، وتلاميذ العلماء، وتلاميذ التلاميذ، طيب ذكرهم باق أثرهم؛ (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ).

اللهم اغفر لنا أجمعين، ودلنا على الحق يا رب العالمين، وخذ بأيدينا للتمسك به إنك على كل شيء قدير، اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا أجمعين، وأن تتوب علينا يا تواب، ارزقنا الأمن والأمان في بلدنا هذا وبلاد المسلمين.

آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
ان من توفيق فمن الله جل وعلا، وما كان من خطأ أو زلل أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويقذف به في جهنم، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
🎤
خطبـة.جمعـة.بعنـوان.cc
وأنـــذرهــــــم يـــوم الحـــســـرة
للشيـــخ/ مـــحـــمــــــد حـــســــــــان
🕌🕌🕌🕌🕌🕌🕌🕌🕌

الخطبـــة.الاولـــى.cc
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أذل بالموت رقاب الجبابرة، وأنهى بالموت آمال القياصرة، فنقلهم بالموت من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والغلمان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم في الطعام والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب. أحمدك يا رب وأستعينك وأستغفرك وأستهديك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، جل ثناؤك، وعظم جاهك، ولا إله غيرك.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ينادي بعد فناء خلقه جل وعلا ويقول: أنا الجبار! أنا الجبار! أنا الجبار! أنا العزيز! أنا الكريم! لمن الملك اليوم؟! لمن الملك اليوم؟! لمن الملك اليوم؟! ثم يجيب جل وعلا عن ذاته ويقول: لله الواحد القهار، سبحانه.. سبحانه.. سبحانه.. سبحان ذي العزة والجبروت!! سبحان ذي الملك والملكوت!! سبحان الحي الذي لا يموت!! سبحان من كتب الفناء على الخلائق ولا يموت.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الرسالة، وبلغ الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.

رفع الله له ذكره، وشرح الله له صدره، ووضع الله عنه وزره، وزكاه الله جل وعلا في كل شيء.

زكاه الله جل وعلا في عقله فقال:
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:2]. وزكاه فى صدقه فقال: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3]. وزكاه في صدره فقال: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1]. وزكاه في فؤاده فقال: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11].
وزكاه في بصره فقال:
مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17].
وزكاه في علمه فقال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:5]. وزكاه في خلقه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].

وبعد كل هذا جعل الله جل وعلا حبيبه صلى الله عليه وسلم إمام الأنبياء، وإمام الأصفياء، وإمام الأتقياء، وخاتم الأنبياء وسيد المرسلين، ووهبه الحوض المورود، وأعطاه اللواء المعقود، وبعد ذلك كله قال له: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30].
اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.

أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام!
فتعالوا بنا لنواصل المسيرة مع القرآن الكريم، فما أجمل أن تكون اللحظات التي نقضيها مع آيات من كتاب الله جل وعلا، مع هذا الذكر الحكيم، ومع هذا النور المبين، ومع هذا الصراط المستقيم، مع مأدبة الله جل وعلا؛ مع القرآن الكريم.

حال المجرمين يوم الحسرة
قال الله جل وعلا: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:39-40].

أحبتي في الله! أعيروني القلوب والأسماع؛ لنعيش مع هذه الآيات والكلمات النيرات الطيبات المباركات.

هذا هو الإنذار العام لجميع الخلائق على ظهر هذه الأرض، من الله جل وعلا لحبيبه المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم. (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ)، والإنذار في اللغة: هو الإعلام المقترن بالتهديد والوعيد.

والحسرة في اللغة: هي أشد الندم والتلهف على الشيء الذي فات ولا يمكن تداركه. يقول الله جل وعلا:

(وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ):
إنه يوم القيامة يا عباد الله..
إنه يوم الحسرة والندامة.. إنه يوم الحاقة.. إنه يوم القارعة.. إنه يوم الزلزلة.. إنه يوم الصيحة.. إنه يوم الصاخة.. إنه يوم الطامة الكبرى.. إنه يوم الآزفة.. يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.. يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48].

يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104].

يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا [المزمل:14]. يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا [النحل:111].
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران:30]. يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا [الأحزاب:66].
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ
ليوم.

أهوال القيامة
مثل لنفـسـك أيــها الـمغرور يـوم القيامـة والسمـاء تمـور إذ كـورت شمـس النهار وأدنيت حتى على رأس العبـاد تـسـير وإذا النجـوم تـساقطت وتناثرت وتبدلت بـعد الـضياء كـدور وإذا الجبــال تقلـعت بأصـولها فرأيتها مثل السـحاب تســير وإذا العِشَارُ تعطـلت وتـخـربت خلت الديار فـما بها مـعمـور وإذا الوحوش لـدى القيامة أحشرت وتقول للأمـلاك أين نـســير وإذا البحار تفجـرت مـن خـوفها فرأيتها مثـل الجـحيم تفــور وإذا الجليل طوى السمـا بـيمـينه طَيَّ السـجل كتـابه المنشـور وإذا الصحائـف نـشرت فتـطايرت وتهتـكت للـعالمين سطــور وإذا الجحيم تسـعرت نـيرانها فلها على أهل الذنوب زفـير وإذا الجنان تزخرفت وتطيـبت لفتـىً على طول البـلاء صبور أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التكوير:1-14].

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ * يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ * كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ * إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار:1-19].

ويقول سبحانه وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:1-8].

مثّل وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حـيرانا والنار تلـهب من غيظ ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا لما قـرأت ولم تـنكر قـراءته إقرار من عرف الأشياء عرفاناً نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والمؤمنون بدار الخلد سـكانا وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ [مريم:39]، واستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار: وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [مريم:39] أي: أن أهل الدنيا في غفلة، والكفار منهم لا يؤمنون بهذا اليوم.

وبعدها يأتي الجواب الفصل، وتأتي الحقيقة الكبرى في هذا الوجود، يأتي قول الحق جل وعلا: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:40]. لنتعرف على معاني هذه الكلمات بعد جلسة الاستراحة، أسأل الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يغفر لنا الذنوب، إنه ولي ذلك ومولاه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبـــة.الثانيـــة.cc
لمن الملك اليوم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام الغر المحجلين.

اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أحبتي في الله! هكذا يقول الحق جلا وعلا: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:4]

هذه هي الحقيقة الكبرى في هذا الوجود. يا من غرك غناك! يا من غرتك قوتك! يا من غرتك أموالك! يا من غرك جاهك! يا من غرتك وزارتك! يا من غرك جندك! اعلم بأنك موروث.. اعلم بأنك راحل إلى لله جل وعلا، فمهما طالت دنياك فهي قصيرة.. ومهما عظمت دنياك فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال لابد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر، إن الله جل وعلا هو الوارث لكل شيء، وهو والوارث لكل حي: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:40].
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [آل عمران:106-107].

وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا [الفرقان:27]. وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:47-49]. قال تعالى: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ [مريم:39]..

إنه يوم القيامة.. إنه يوم الحسرة والندامة: وأنذرهم يا محمد! هذا اليوم الذي تنخلع القلوب من أهواله، أنذر الغافلين، وأنذر المؤمنين، وأنذر الصادقين، وأنذر العصاة، إنذارٌ عام لجميع الخلائق على ظهر هذه الأرض: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

ذبح الموت والإيذان بالخلود
موجبات الحسرة يوم القيامة كثيرة يا عباد الله! فمنها ما رواه الإمام البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ينادى عليهم: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون -أي: يرفعون رءوسهم تجاه هذا النداء- ثم ينادى على أهل النار: يا أهل النار! فيشرئبون وينظرون، ثم يؤتى بالموت على هيئة كبش أملح)، والكبش الأملح: هو الذي كثر بياضه، أو هو الأبيض بياضاً كاملاً.

يؤتى بالموت على هيئة كبش أملح في موضع بين الجنة والنار، وينادى على أهل الجنة، وينادى على أهل النار، ويقال لهم: هل تعرفون هذا؟! فيقولون: نعم نعرفه، هذا هو الموت، (فيؤمر بذبحه، فيذبح الموت -وهو في صورة هذا الكبش الأملح في موضع بين الجنة والنار- ثم ينادى على أهل الجنة: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت).

الله أكبر!! يا أهل الجنة!
خلود في النعيم أبد الآبدين، ويا أهل النار! خلود في الجحيم أبد الآبدين إلا ما شاء الله جل وعلا، وإلا من شاء الله له أن يخرج من النار. يا أولياء الله! يا أصفياء الله! هنيئاً لكم بهذه الكرامة، خلود في هذا النعيم أبد الآبدين، ويا أهل النار! خلود فلا موت إلا من شاء الله جل وعلا له أن يخرج في الوقت الذي يشاء، وبالكيفية التي يشاء جل وعلا. هذا من موجبات الحسرة يوم القيامة يا
عـــباد الله!

استغاثة أهل النار بأهل الجنة
ومن موجبات الحسرة يوم القيامة أنه تنخلع القلوب حينما يرون جهنم على حقيقتها وعلى طبيعتها لأول مرة وهم في أرض المحشر، يأمر الله جل وعلا أن يؤتى بجهنم، فيؤتى بها لها سبعون ألف زمام! مع كل زمام سبعون ألف ملك، كما ورد في الحديث الذي رواه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود ؛ وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:23-24]. يا ليتني حافظت على الصلوات، يا ليتني وحدتُ ربَّ الأرض والسماوات، يا ليتني عبدت الله جل وعلا، يا ليتني صمت النهار، يا ليتني قمت الليل، يا ليتني ما عصيت الله، يا ليتني ما انشغلت بالشهوات، يا ليتني ما انشغلت بالشبهات، يا ليتني.. يا ليتني... يوم لا ينفع الندم، إنه يوم الحسرة والندامة، يوم لا ينفع التحسر، ولا ينفع الندم.

(وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ)
يرون جهنم فيتحسرون ويتألمون وتنخلع القلوب لهول ما رأوا، يرون جهنم يؤتى بها لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، فإذا رأوها لا يبقى ملك ولا يبقى نبي ولا يبقى صِدِّيق إلا خَرَّ على ركبتيه في أرض المحشر؛ لهول ما رأى! وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً [الجاثية:28] .

فإذا رأوا هذا الهول وهذا المنظر الذي يخلع القلوب والأفئدة، اضطربت الجوارح والأفئدة وفزع الجميع، فإذا انتهى الحساب واستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، يبدأ هذا الحوار بين أهل الجنة وأهل النار. وربما سأل سائل، وقال: كيف يسمع أهل الجنة أهل النار، وكيف يسمع أهل النار أهل الجنة؟! نقول: ألم نقل لكم في اللقاء الماضي: إن الله جل وعلا سيبدل كل شيء، وسيحول كل شيء؛ حتى سمع الإنسان يتغير فيسمع أي شيء، ويرى أي شيء: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [مريم:38]، تغير كل شيء فبصرك اليوم حديد.

يبدأ أهل الجنة بهذا الحوار:
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ [الأعراف:44] ينادي أهل الجنة على أهل النار: أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ [الأعراف
:44]، جواب قاطع مختصر. فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف:44].

ويستمر الحوار بين أهل الجنة
وأهل النار، وبعد بضع آيات في سورة الأعراف ينتهي هذا الحوار بتلهف واستغاثة واستجداء من أهل النار لأهل الجنة: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأعراف:50]

هذه هي الاستغاثة.. استجداء.. طلب.. رجاء.. يا أهل الجنة.. يا أهل الجنة! أفيضوا علينا شيئاً من الماء، نريد قليلاً من الماء.. اشتد بنا العطش في هذه النيران المتأججة! (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ)، فيأتي الجواب الذي يزيد تحسرهم..

الذي يزيد تألمهم.. الذي يزيد فيهم الهم والغم، فيقولون لهم: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف:50]
أي: لقد حرم الله على الكافرين هذا في هذا اليوم، ألم ينزل عليكم القرآن؟! ألم يرسل إليكم الرسل؟! ألم يذكروكم بهذا اليوم؟! ولكنكم تعاليتم على الله جل وعلا، واستكبرتم على رسل الله، واستهزأتم بالعلماء، وأبيتم إلا أن تعاندوا الله جل وعلا، وأن تعاندوا شرع الله عز وجل، فقلتم: لا ربا، وقلتم: لا خمر، بل إن الربا هو الفوائد، وإن الخمر هي المشروبات الروحية، وإذا ما أمركم الله جل وعلا استهزأتم بأوامر الله، وإذا ما نهاكم رسول الله سخرتم بنهي رسول الله، وإذا ما ذكركم العلماء قلتم: هؤلاء هم المتنطعون المتطرفون. أبيتم إلا أن تعرضوا عن منهج الله جل وعلا، وهَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60]؟!

كذلك لا جزاء لهذا الكفر ولهذا العناد والإعراض إلا ما ترون: أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا [الأعراف:44]، هل وجدتم ما كنتم تكفرون به، وما كنتم تكذبون به، وما كنتم تعارضونه؟ هل وجدتموه اليوم على حقيقته؟! قالوا: نعم.. فتزداد الحسرة ويزداد التألم.

حرمان الكافرين ..
من النظر إلى وجه الله الكريم
ومن موجبات الحسرة لهؤلاء أيضاً -والعياذ بالله- حينما تتم السعادة لأهل الجنة بالنظر إلى وجه الله كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينادي الحق جل وعلا يوم القيامة على أهل الجنة، ويقول لهم: يا أهل الجنة! فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير كله في يديك. فيقول الله جل وعلا: هل رضيتم يا أهل الجنة؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى؟ ألم تدخلنا الجنة؟ ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تنجنا من النار؟ فيقول الله جل وعلا: أفلا أعطيكم أفضل من هذا؟).

وفي رواية مسلم : (يقولون: وأي شيء أفضل من هذا ؟ فيقول جل وعلا: أن أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبداً). يا للكرامة!! (أن أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)، وفي رواية مسلم : (فيكشف الحجاب)؛ لأن الله جل وعلا حجابه النور كما ورد في صحيح مسلم من حديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).

ولكن يوم القيامة يتبدل كل شيء، ويتغير كل شيء، فيكشف الله الحجاب، فيتمتعون بالنظر إلى وجه الله عز وجل، وتلا النبي صلى الله عليه وسلم قول الله عز وجل: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26])، والحسنى: هي الجنة، والزيادة: هي التمتع بالنظر إلى وجه ربنا جل وعلا.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ليس نعيم الجنة في لبنها ولا في خمرها ولا في حريرها ولا في ذهبها ولا في حورها ولا في نعيمها!
ولكن نعيم الجنة الحقيقي في رؤية وجه الله جل وعلا، هذا هو النعيم الذي ما انشغل به أهل الجنة إلا نسوا كل نعيم: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ [القيامة:22-25].

خطبة إبليس
وتزداد حسرتهم بعد أن تتم السعادة لأهل الجنة بخطبة إبليس اللعين! يوم أن يقف إبليس فيهم خطيباً؛ لتزداد الحسرة ولتتم الحسرة والألم، كما أخبر الله جل وعلا عن ذلك في سورة إبراهيم بقوله: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم:22]. هذه بعض موجبات الحسرة في هذا ا
ويقول تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6]. ويقول سبحانه: إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى [العلق:8]. ويقول سبحانه وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا [مريم:40].

إذا أمر الله إسرافيل بنفخة الصعق، مات كل حي على ظهر هذه الأرض، وكل حي في السموات إلا من شاء الله جل وعلا كما قال ربنا: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68]، فإذا ما أفنى الله خلقه وذهب كل شيء، فلا يبقى إلا الله، فهو الأول والآخر، هو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.

سكون مذهل وخشوع مزلزل، لا حس ولا حركة ولا صوت، ضاع كل شيء، وذهب كل شيء، وأفنى الله كل شيء، وفي وسط هذا السكون وهذا الصمت وهذا الخشوع، ينطلق صوت رهيب جليل مهيب! يسأل صاحب الصوت ويجيب، فما في الوجود يومئذٍ من سائل غيره ولا مجيب، يهتف الحق جل وعلا بصوته ويقول: (أنا الملك، أين ملوك الأرض؟! أين المتجبرون؟! أين المتكبرون؟!).

وفي رواية مسلم : يقول جل وعلا:
(لمن الملك اليوم؟ فيجيب سبحانه عن ذاته بقوله: لله الواحد القهار)، أين الملوك؟! أين الظالمون؟! وأين التابعون لهم في الغي؟! بل أين فرعون وهامان ؟! أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان هل خلد الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه بالسلطان إنسان لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان وقال الآخر: يا نفس قد أزف الـرحيـل وأظلك الخطب الجليل فتأهـبـي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل فلـتـنـزلن بـمنـزل ينسى الخليل به الخليل وليـركبـن عليك فيه مـن الثرى ثقل ثـقيل قرن الفنـاء بنا فما يبقى الـعزيز ولا الـذليل إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:40].

فيا من غرتك أموالك! يا من غرتك الدولارات والريالات! اعلم بأنك راحل إلى رب الأرض والسماوات، اعلم بأنك موقوف بين يدي الله جل وعلا. تقاسم الأهل مالي بعدما انصرفوا وصار وزري على ظهري فأثقلني وبعد كل ذلك فإن الجميع موروث إلى الله جل وعلا: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:40].

اعلم بأنك راحل إلى الله وموقوف بين يدي الله، ستعرض على محكمة قاضيها الله، لتقرأ كتابك الذي سطر عليك كل شيء، في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى!

فيا أيها المسكين!
أيها الغافل! أيها اللاهي الساهي!
إلى متى إلى متى؟ عد إلى الله.. ارجع إلى الله جل وعلا.. إن العمر قليل، وإن الأنفاس محسوبة، وإن الأيام معدودة. دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب لم ينسه الملكان حين نـسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعب والروح منك وديعة أودعتها ستردها بالرغم منك وتسـلب وغرور دنياك التي تسعى لها دار حقيقتها متاع يذهب الليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيها تعد وتحسب إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:40].

أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب. اللهم اقبل منا الصيام والقيام.. اللهم اقبل منا الصيام والقيام.. اللهم لا تجعلنا ممن صام وقام ولم يرضك يا أرحم الراحمين! اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

اللهم لا تدع اللهم لأحد منا في هذا الجمع الطيب ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين!

اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا ولا منا ولا بيننا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى.. اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى.. اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى. اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمتي الحق والدين.

اللهم قيض لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك ومولاه، ووفق اللهم ولاة الأمور للعمل بكتابك، والاقتداء بسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد، فإن الله جل وعلا وملائكته يصلون عليه، وقد أمركم بالصلاة عليه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].

اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. هذا وما ك
🎤
خطبة.جمعة.بعنـوان.cc
صـــــور مــن ثــبـــــات الــنــبــي
صلى اللـه عليه وســلم على الديـن
للشيـخ/ فيـصـــل بن جـمـيــل غـــزاوي
🕌🕌🕌🕌🕌🕌🕌🕌🕌

والتي تحدَّث فيها عن ضرورة القُدوة الحسنة التي يقتَدِي بها المُسلمون، مُبيِّنًا أن ذلك تمثَّل جلِيًّا في شخصِ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- حيث ذكرَ جانبًا من جوانبِ الاقتِداء به - عليه الصلاة والسلام -، ألا وهو: الثباتُ على دين الله، وقد أوردَ العديدَ مِن صُور هذا الثبات؛ ليتأسَّى المُسلمون ويقتَدُوا به


الخطبـــة.الأولـــى.cc
إن الحمدلله نحمدُه ونستعينُه ونستغفِرُه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفُسِنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبِهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

*﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].*

*﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].*

*﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70، 71].*

أمـــا بـــعــــــد :
فإن وُجودَ القُدوة الحسنة في حياةِ المُسلم ضرورةٌ حتميَّة؛ ليُقتَدَى بها، وتُكتسَبَ منها المعالِمُ الإيجابيَّة، وتكون دافعًا حثيثًا لتزكِية النَّفس، واستِنهاضِ هِمَّتها، والارتِقاء بها في مدارِجِ الكمال.

ومِن فضلِ الله على أمةِ الإسلام: أن اختارَ صفِيَّه ومُصطفاه وخيرتَه مِن خلقِه مُحمدًا - صلى الله عليه وسلم - ليكون خيرَ قُدوةٍ لها في امتِثال هذا الدين، والالتِزامِ بقِيَم الإسلام وأخلاقِه وأحكامِه، قال تعالى:  *﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].*

ألا وإن مِن جوانِبِ القُدوةِ في حياة الرسولِ الكريمِ - صلى الله عليه وسلم -: ثباتُه على الدين حتى أتاه اليقين، وقد ثبَّت الله نبيَّه على دينه، وأيَّدَه بنصرِه، وأعزَّه ومكَّنَه، وأعانَه في كل أحوالِه، فكان مِثالًا يُحتَذَى في التِزام الإسلام حتى الممات.

معــاشِــر المُسلمين:
لثباتِه - صلى الله عليه وسلم - صُورٌ مُتعدِّدة، وأمثلةٌ مُتنوِّعة، تتجلَّى في واقعِ حياتِه، وعاطِرِ سيرتِه، وجميلِ شمائِلِه ومناقِبِه؛ فمِن ذلك:

ثباتُه على التمسُّك بالوحيِ كما أمرَه الله *بقولِه:﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[الزخرف: 43].*

وفي قوله:  *﴿إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾* تثبيتٌ للرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، وثناءٌ عليه بأنه ما زاغَ قِيدَ أُنملة عما بعثَه الله به.

وقد التزَمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هديَ ربِّه، وتمسَّك به، على الرغم مِن مُحاولة المُشرِكين صرفَه عن حُكم القرآن وأوامِرِه، قال الله تعالى مُمتنًّا على رسولِه: ~﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 73، 74].

عـــباد اللـــه:
ومِن الصُّور الجلِيَّة في هذا الجانِبِ: ثباتُه على عبادتِه لربِّه، ومُواظبَتُه واستِمرارُه في العمل، وهذا يتمثَّلُ في صبرِه على طاعةِ الله، واجتِهادِه في اغتِنامِ القُرُبات، وكسبِ الحسنات.

فعن عائشة - رضي الله عنها -، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقومُ مِن الليلِ حتى تتفطَّر قدَمَاه، فقالت عائشةُ: لِمَ تصنَعُ هذا يا رسولَ الله، وقد غفرَ الله لك ما تقدَّم مِن ذنبِك وما تأخَّر؟ قال: «أفلا أُحبُّ أن أكون عبدًا شَكُورًا؟»؛ متفق عليه.

فتأمَّلُوا - رعاكم الله - كيف كان - عليه الصلاة والسلام - يُجهِدُ نفسَه، ويتحمَّلُ المشقَّة في العبادة، مع علمِه بما سبَقَ له مِن مغفرةِ الله ذنوبه، بل كان يحرِصُ على استِدراكِ ما فاتَه مِن القُرُبات.

ففي "صحيح مسلم" عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عمِلَ عملًا أثبَتَه، وكان إذا نامَ مِن الليل أو مرِضَ صلَّى مِن النهار ثِنتَي عشرة ركعة.

وعن أم سلَمَة - رضي الله عنها -، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى ركعتَين بعد العصرِ، فسألتْه عنهما فقال: «إنه أتانِي ناسٌ مِن عب
د القَيس، فشغَلُوني عن الرَّكعتَين اللَّتَين بعد الظهر، فهما هاتان»؛ متفق عليه.

ولا يُفهَم مما سبَقَ أن يتجاوَز العبدُ هَديَه - صلى الله عليه وسلم -، ويُخالِفَ سُنَّتَه، فيخرُج عن حدِّ القصدِ والاعتِدال.

فعندما عدَّ النَّفرُ الثلاثةُ عملَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قليلًا، وبنَوا على ذلك مِنهاجًا لهم، فقال أحدُهم: أما أنا فإنِّي أُصلِّي الليلَ أبدًا، وقال آخر: أنا أصومُ الدَّهرَ ولا أُفطِر، وقال آخر: أنا أعتزِلُ النساءَ فلا أتزوَّجُ أبدًا. بادَرَ - صلى الله عليه وسلم - بإرشادِهم، وتصحيحِ أفكارِهم ومفاهِيمِهم بقولِه: «أما واللهِ إنِّي لأخشاكُم لله وأتقاكُم له، لكنِّي أصومُ وأُفطِر، وأُصلِّي وأرقُد، وأتزوَّجُ النساءَ؛ فمَن رغِبَ عن سُنَّتِي فليسَ مِنِّي»؛ الحديثُ مُتفقٌ عليه مِن روايةِ أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه -.

أيها المُسلمون:
ومِن صُور ثباتِه - صلى الله عليه وسلم - ثباتُه على الأخلاق والمبادِئ والقِيَم؛ فقد بلغَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم – ذروةَ الكمال الإنسانيِّ في سائر أخلاقِه وخِصالِه، وفي جميعِ جوانِبِ حياتِه.

والتوازُنُ في صِفاتِه - صلى الله عليه وسلم - مِثالٌ على ثباتِه، فحالُه على مِنوالٍ واحدٍ، ثابتةٌ مع تغيُّر الأحوال والظُّروف، فنجِدُه في كل أحوالِه يتدرَّجُ في مراتبِ العبوديَّة بين صبرٍ على البلاء، وشُكرٍ للنَّعماء، ونجِدُه يستوِي حالُه بعد المُصيبَة بحالِه قبل المُصيبَة، فلا جزَعَ ولا تسخُّط، ولكن تسليمٌ ورِضًا.

وحالُه في رِضاه كحالِه في غضبِه، فلا يظلِمُ ولا يُسيءُ عند الغضبِ، وكان لا يغضَبُ لنفسِه ولا ينتقِمُ لها؛ بل كان غضبُه عندما تُنتهَكُ حُرُمات الله، كما أنه لا يتغيَّرُ في حالِ الحربِ عن حالِ السِّلمِ، فلا يغدر، ولا يُمثِّل، ولا ينقُضُ العهودَ والمواثِيق، ولا يقتُلُ وليدًا ولا امرأةً ولا شيخًا كبيرًا، وهو رحيمٌ مِن دُون ضعفٍ، وحليمٌ لا عجزٍ، ومُتواضِعٌ مِن غير ذِلَّة.

آمَنَ خُصومُه؛ لِما رأَوه مِن صِدقِه وأمانتِه، ووفائِه وكريمِ خِصالِه.

معــاشِـــر المُسلمين :
ومِن صُور ثباتِه - صلى الله عليه وسلم -: ثباتُه في دعوتِه إلى الله؛ إذ ظلَّ في مكة يدعُو الناسَ إلى "لا إله إلا الله"، وإلى عبادةِ الله، ويُحذِّرُه مِن الشركِ بالله، ومِن عبادةِ الأوثان سرًّا وجِهارًا، ليلًا ونهارًا، لا يكَلُّ ولا يمَلُّ.

ولم يَثْنِ عزمَه سعيُ المُشرِكين للحيلُولة دُون وُصولِ دعوتِه إلى الناسِ، ولم يزِدْه ذلك إلا ثباتًا وبَذلًا لمزيدٍ مِن الجُهد في سبيلِ تبليغِ الدعوةِ ونشرِ الإسلام.

ولما كلَّم المُشرِكون عمَّه أبا طالِبٍ أن يكُفَّ عن مُواصَلَة دعوتِه، قال - صلى الله عليه وسلم - في موقفٍ ثابتِ الإرادة، قويِّ العزم: «ما أنا بأقدَرَ على أن أدَعَ لكم على أن تستشعِلُوا لي مِنها شُعلَةً» يعني: الشمسَ.

واحتمَلَ - صلى الله عليه وسلم - إيذاءَ المُشرِكين بكل صَبرٍ، ولم يقبَل ما عرَضَتْه عليه قُريشٌ مِن مُلكٍ ومالٍ وجاهٍ، وواجَهَ في سبيلِ الله أشدَّ الأذَى مِن شتمِهم له، والسُّخريةِ مِنه، واتِّهامِه بالسِّحرِ والجُنُونِ والكذِبِ، وضربِهم له مرَّةً حتى أُغشِيَ عليه، ووضعِهم الرِّداءَ في عُنُقه وخنقِه به خنقًا شديدًا، ووضعِهم سلَا الجَزُورِ على ظهرِه وهو ساجِد، وإدمائِهم قدَمَيه، وشجِّهم وجهَه، وكسرِهم رباعيَّته، وغير ذلك مِن أصنافِ التعذيبِ والنَّكال الذي لقِيَه - بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم -.

لكنه لم يكترِث لذلك، ولم يفُتَّ في عضُدِه؛ بل مضَى في سبيلِه صامِدًا، رابِطَ الجَأشِ، يدعُو إلى الله تعالى، ويأمُرُ بالمعروف وينهَى عن المُنكَر على بصيرةٍ.

فكيف كانت نتيجةُ ثباتِه - صلى الله عليه وسلم - على المبدأ؟!

لقد دخلَ الناسُ في دينِ الله أفواجًا، وهزمَ الله الصادِّين عن سبيلِه ودحرَهم، وتُوفِّي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن بلَّغَ رسالةَ ربِّه البلاغَ المُبين، وقامَ بالواجِبِ خيرَ قِيام، وكان لأمتِه الناصِحَ الأمينَ.

وكان موقِفُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الراسِخُ أمام الإيذاءِ والإغراء والمُساوَمَة درسًا تربويًّا للصحابة - رضوان الله عليهم -؛ فقد ثبَتُوا لثباتِه في حياتِه وبعد مماته، ومِن ذلك يتعلَّمُ المُؤمنُ الثباتَ على العقيدة، والتمسُّك بالمبادِئ والقِيَم، والتِزامَ المنهَج الصحيحِ، وعدمَ الضعفِ أمام المِحَن، أو التفكير في المُغرَيات التي تُعرَض عليه لصَرفِه عن دينِه ودعوتِه.

أيها المُسلمون:
ومِن صُور ثباتِه - صلى الله عليه وسلم -: ثباتُه وقت الشدائِدِ والمِحَن؛ ففي يوم حُنَين تعرَّضَ المُسلِمون إلى مِحنةٍ شديدةٍ، وبلاءٍ عظيمٍ، حينما اغترُّوا بكثرة عددِهم، فلم تُغنِ عنهم شيئًا، وانقضَّ عليهم المُشرِكُون، وكادُوا أن يهزِمُوهم، لولا أن أنزلَ الله السَّكينةَ عليهم، وثبَّتَ رسولَه - صلى الله عليه وسلم - الذي أخذَ يدعُو الفارِّين مِن المعركة ويقول: «هلُمُّوا إليَّ أيها الناس، أنا رسولُ الله، أنا مُحمد
ُ

بن عبد الله»، ولم يبقَ معه في موقفِه إلا عددٌ قليلٌ مِن المُهاجِرين والأنصار.

ثم بدأ يركُضُ بغلتَه قِبَل الكفَّار وهو يقولُ: «أنا النبيُّ لا كذِب، أنا ابنُ عبد المُطلب»، في شجاعةٍ عظيمةٍ، وثباتٍ عجيبٍ.

⇦أيــها الإخـــوة:
إن الثباتَ في أيام الفِتَن ووقتِ البلاء والمِحَن سِمةٌ مِن سِمات عباد الله الراشِدين، ودليلٌ على رُسُوخ الإيمان وقوَّة اليقين.

فاثبُتُوا - عباد الله - على دينِكم، وتمسَّكُوا بشرعِ ربِّكم؛ تُفلِحُوا وتفُوزُوا.

أقولُ هذا القَول، وأستغفِرُ الله الجليلَ لي ولكم، فاستغفِرُوه مِن كل ذنبٍ وخطيئةٍ، وتُوبُوا إليه، إن ربي غفورٌ رحيم.


الخطبـــة.الثانيـــة.cc
الحمدُ لله الذي شرحَ صُدورَ المُسلمين، وثبَّتَهم على الحقِّ المُبين، وأعانَهم فكان لهم خيرَ مُعِين، والصلاةُ والسلامُ على خير الأنام المبعُوث رحمةً للعالمين، دعَا إلى الله حتى أتاه اليقين، وصبَرَ فكان صبرُه معونةً للسالِكين، وثباتًا للمُؤمنين.

أمـــا بـــعــــــد :
فالثباتُ على دينِ الله مطلَبٌ أساسيٌّ لكل مُسلمٍ صادِقٍ، ومما كان يدعُو به - صلى الله عليه وسلم - ويسألُه ربَّه أن يُثبِّتَه على كل الأحوال؛ كقولِه - عليه الصلاة والسلام -:«يا مُقلِّبَ القُلُوب! ثبِّت قلبِي على دينِك».

وقولِه - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أسألُكَ الثباتَ في الأمرِ، والعزيمةَ على الرُّشدِ».

وإذا كان الثباتُ بيدِ الله وحدَه، وهو نعمةٌ إلهيَّةٌ، ومِنحةٌ ربَّانيَّة، والنبيُّ الكريمُ المُؤيَّدُ بالوحي، والموعُودُ بالنصرِ والتمكين يطلُبُ عونَ ربِّه، ويدعُوه أن يُثبِّتَه. فما أحرَى المُؤمن أن يسألأَ اللهَ الثباتَ مِن قلبٍ صادِقٍ، ويلجَأَ إليه مُتضرّشعًا ألا يُزيغَ قلبَه، ولا يفتِنَه بشيءٍ مِن زهرةِ الحياةِ الدنيا.

وفي المُقابِل يحذَرُ أن يكون ممَّن وصفَ الله عاقبتَهم بقولِه: *﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ [النحل: 94]؛* لأن القدمَ إذا زلَّت انقلَبَ الإنسانُ مِن حالِ خيرٍ إلى حالِ شرٍّ، وفي هذا تحذيرٌ أن يكون المرءُ على الاستِقامة فيَحيدَ عنها، ويزِلَّ عن طريقِ الهُدَى والحقِّ.

أيها المُسلمون:
إن الثباتَ معناه: الاستِمرارُ في طريقِ الهِدايةِ، والالتِزامُ بمُقتضيات هذا الطريق، والمُداومَة على الخير، والسعيُ الدائِمُ للاستِزادة مِن الإيمان والتقوَى.

والثباتُ على الدين لا يكونُ بكثرة الاستِماع للمواعِظ، إنما يكون بفعلِ هذه المواعِظ، وامتِثالِها في واقعِ الحياة، قال تعالى:  *﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ [النساء: 66].*
فإن الله يُثبِّتُ الذين آمنُوا بسببِ ما قامُوا به مِن الإيمان، الذي هو القيامُ بما وُعِظُوا به، فيُثبِّتُهم في الحياةِ الدنيا عند وُرودِ الفتن في الأوامر، والنواهِي، والمصائِب، فيحصُل لهم ثباتٌ يُوفَّقُون به لفعلِ الأوامِرِ وتركِ الزواجِر.

وعند حُلول المصائِبِ التي يكرَهُها العبدُ، فيُوفَّقُ للتثبيتِ بالتوفيقِ للصبرِ، أو الرِّضا، أو الشُّكر، فينزِلُ عليه معونةٌ مِن الله للقيامِ بذلك، ويحصُلُ له الثباتُ على الدين عند الموتِ وفي القبر.

ألا صلُّوا - عباد الله - وسلِّموا على خيرِ البريَّة، وأزكَى البشريَّة، سيِّد الثابتين، وقُدوة المُتقين، كما أمرَكم الله بذلك فقال:  *﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].*

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وبارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالَمين، إنك حميدٌ مجيد.

وارضَ اللهم عن أصحابِه أجمعين، وعن التابعين ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بفضلِك وكرمِك ورحمتِك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الكفرَ والكافِرين، وانصُر عبادَك المُوحِّدين، ودمِّر أعداءَك أعداءَ الدين، واجعَل هذا البلدَ آمِنًا مُطمئنًا وسائرَ بلاد المُسلمين.

اللهم انصُر مَن نصرَ الدين، واخذُل مَن خذلَ عبادَك المُؤمنين.

اللهم مَن أرادَنا وأرادَ بلادَ المُسلمين بسُوءٍ فأشغِله بنفسِه، واجعَل كيدَه في نحرِه، وأدِر عليه دائِرةَ السَّوء يا رب العالمين.

اللهم آمِنَّا في الأوطانِ والدُّور، وأصلِح الأئمةَ ووُلاةَ الأمور، واجعَل ولايتَنا فيمَن خافَك واتَّقاك، واتَّبعَ رِضاك يا رب العالمين، اللهم وفِّق وليَّ أمرِنا لِما تُحبُّه وترضاه مِن الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم.

اللهم ألِّف بين قُلوبِ المُؤمنين، وأصلِح ذاتَ بينهم، واهدِهم سُبُل السلام، ووحِّد صُفُوفَهم، واجمَع كلمتَهم على الحقِّ يا رب العالمين، اللهم انصُرهم على عدوِّك وعدوِّهم يا قويُّ يا عزيز.

اللهم كُن لإخوانِنا المُستضعَفين والمُجاهِدين في سبيلِك، والمُرابِطين على الثُّغور، اللهم كُن له
م م

ُعينًا ونصيرًا، ومُؤيِّدًا وظهيرًا، اللهم أنجِ المُستضعَفين مِن المُؤمنين، اللهم اشِف كُربتَهم، اللهم اجعَل لهم مِن كل همٍّ فرَجًا، ومِن كل ضيقٍ مخرَجًا، ومِن كل بلاءٍ عافِية، اللهم استُر عوراتهم، وآمِن روعاتهم، وأنزِل عليهم السَّكينةَ والثبات.

*﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [آل عمران: 8].*

اللهم يا وليَّ الإسلام وأهلِه مسِّكنا به حتى نلقاك، اللهم إنا نسألُك الثباتَ على الحقِّ حتى الممات، اللهم إنا نسألُك الثباتَ في الأمر، والعزيمةَ على الرُّشد، اللهم مُقلِّبَ القُلُوب ثبِّت قُلوبَنا على طاعتِك.

اللهم أحيِنا مُسلمين، وتوفَّنا مُسلمين، وألحِقنا بالصالِحين برحمتِك يا أرحم الراحمين.

وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين.

=========================
توجيــهـات وتوصـيات للخـطــباء
•~•~•~•~•~•~•~•~•~•~•~•

إعلم.أخي.الخطيب.cc
أن خطبة الجمعة شعيرة عظيمة
من شعائر الإسلام لها دورها الفاعل في صياغة سلوك الناس والتأثير عليهم في شتى المجالات، وأثرها البارز في خدمة الدعوة إلى الله.

🔹ودور الخطبة وتأثيرها
يتوقف على الدور الكبير للخطيب في المجتمع, وأثره البالغ في بيئته، وسامعيه، وقومه؛ فالخطيب قرين المربي والمعلم، ورجل الحسبة والموجه، وبقدر إحسانه وإخلاصه يتبوأ من قلوب الناس مكاناً، ويضع الله له قبولاً قد لا يزاحمه فيه أصحاب الوجاهات، ولا يدانيه فيه ذوو المقامات، ومرد ذلك كله إلى حسن الإجادة، وجودة الإفادة، والقدرة على التأثير المكسو بلباس التقوى، والمدثر بدثار الإخلاص والورع.

👌 إن وصول الخطيب إلى درجة
التأثير في المجتمع وتحقيق المقاصد الشرعية من خطبة الجمعة يتطلب العمل بإخلاص وفق المنهج الصحيح والإعداد المتقن والدربة والمران والمراجعة المتواصلة فمهمة الخطيب مهمة شاقة ولا ريب، مشقة تحتم عليه أن يستعد الاستعداد الكافي في صواب الفكر, وحسن التعبير، وطلاقة اللسان، وجودة الإلقاء.

🔸وفي هذه المـقالة إشـارة إلى
أبرز القواعد والأسس في الخطابة وهي توصيات وتوجيهات أحسب أنها مفيدة للخطباء بإذن الله:

1⃣- على الخطيب أن يتسربل بسربال التقوى ويتدثر بدثار الاستقامة ناهجاً نهج الورع والعفة والصلاح مع الاجتهاد في تحري الصدق والإخلاص وتجرد الإيمان والبعد عن الأغراض والأهواء مستشعراً عظم المسؤولية والأمانة التي تحملها.

2⃣- ينبغي على الخطيب أن يظهر جداً وحرصاً على قول الحق والعمل به والدعوة إليه, مبتعداً عن فاحش القول وبذيئه مستغنياً بالكناية عن التصريح فيما لا يحسن فيه الإفصاح، وعليه أن ينحو منحى الرفق والتبشير والتيسير قدر المستطاع.

3⃣- يجب أن يكون الخطيب شديد الثقة بما يقول، صادق اليقين بما تفيض به نفسه وينطق به لسانه، إذ لا يؤثر إلا المتأثر، وما كان من القلب فهو يصل إلى القلب.

🔹إن قوة الاعتقاد وصحة اليقين تُكسب الكلام حرارة، والصوت تأثيراً، والألفاظ قوة، والمعاني روحاً, وكل ذلك يولد جواً عاطفياً حول الخطيب يجعل كلامه متصلاً بوجدانه.

4⃣- على الخطيب الابتعاد عن الخوض فيما لا يعلم فإن هذا مُوقعٌ في الارتباك والحديث غير المفهوم، فتضيع الهيبة والوقار.

🔺ومن الخطأ وقلة الفقه في خطاب الناس الخوض في دقائق العلوم والمعارف، والغوص في الخلافات العلمية والفقهية مما مجاله حلق العلم، وقاعات الدراسة، ناهيك عن الخوض في العلوم التجريبية، والعلوم البحتة؛ كالطب والفلك وخلق الإنسان والحيوان ومكونات الأرض والصخور وغيرها مما لا تدركه فهوم عموم المستمعين وليس من وظائف المنبر.

5⃣- ومن أهم ما يجب على الخطيب أن يتنبه له مراعاة أحوال السامعين؛ فلكل مقام مقال، ولكل جماعة لسان، فالحديث إلى العلماء غير الحديث إلى الأغنياء, والحديث إلى العامة غير الحديث إلى العِلْية, وخطاب الأميين غير خطاب المثقفين، ومخاطبة الثائرين غير مخاطبة الفاترين؛ فالثائر يطامن، والفاتر يوقظ, والكلام في حالات الأمن يختلف عن حالات الخوف، وقل مثل ذلك في اختلاف الظروف وتقلبات الأحوال من غنى وفقر وصحة ومرض ورخاء وجدب.

6⃣- من المعلوم أن الخطبة
وسائر الأعمال العلمية والأدبية
تعـتــمــد عــلــى أســــس ثــلاثــة :
1⃣- قلب مفكر
2⃣- وبيان مصور
3⃣- ولسان معبر
فالأول يكون به إيجاد الموضوع
وبالثاني تنسيقه وترتيبه ورصُه
وبالثالث التعبير به وعرضه

فكلما كان الخطيب صادقاً في قصده, مهتماً بسامعيه، جادََاً في طرحه، محترماً لنفسه؛ فسوف يُحْسن الاختيار، ويقدح زناد فكره بجدية نحو الابتكار، يُضاف إلى ذلك الظروف المحيطة والأحوال المستجدة والأغراض الباعثة التي تستدعي الحديث عن بعض الوقائع والتعليق على الأحداث.

🔹والخطيب المتقن هو من تكون ألفاظه سهلة النطق لا يتعثر اللسان في إبرازها، ولا تتزاحم حروفها؛ فلا تتقارب مخارجها ولا تتباعد, بجرس خاص. وعبارات قصيرة؛ كل جملة كاملة في مقطع.

7⃣- إن عنصر التكرار والتفنن في التعبير عنصر مهم في الخطابة؛ فالخطيب محتاج إلى تكرار فكرته، ومغايرة تصويره؛ فمرة بالتقرير، ومرة بالاستفهام، وأخرى بالاستنكار, ورابعة بالتهكم. 

ومن الحذق في المعرفة ..
أن يُدرك الخطيب أن خطاب الحماس غير خطاب التألم، وحديث الترغيب غير حديث الترهيب، وأسلوب تعداد المفاخر وزرع الثقة غير أسلوب التواضع وذم الكبر والمتكبرين، والخطيب المتمرس هو الذي يضع كل نوع في موضعه، ويختار لكل كلمة قالبها وميدانها.

8⃣- إن النطق السريع المتعجل يفقد المتابعة, كما أنه قد يشوه إخراج الحروف فيختلط بعضها ببعض، وتتداخل المعاني، وتلتبس العبارات، وقد يؤدي به التعجل إلى إهمال الوقوف عند المقاطع ورعاية الفواصل. 

ومن جهة أخرى فإن ..
التمهل والترسل في الأداء من أدل الدلائل على رباطة الجأش؛ فيجتمع للخطيب الهدوء في الكلام، والأناة في النطق, والجزالة

في الصوت.

وهــذا التمهل المقصـ
ـود ..
لا ينبغي أن يقود إلى هدوء بارد وتثاقل مميت، وإنما رفع للصوت وخفضه وعلو نبرات يبعث على الحياة وحسن المتابعة ودفع السآمة.

9⃣- إن للإشارات والحركات أثرها أثناء الحديث والخطابة لذا ينبغي أن تكون الحركات والإشارات منضبطة بقدر معقول، انفعال غير متكلف، ومتساوية مع الشعور الحقيقي.

0⃣1⃣- من المعلوم أن الخطبة
تبـنــى من ثــــلاثــــة عــناصــــــر :
المقدمة والموضوع والخاتمة وهي عناصر
لا يصرح بها أثناء الكتابة أو الإلقاء .

- فينبغي أن يهتم الخطيب
بمقدمته وافتتاحيته، فيأتي بعبارات الاستهلال التي توحي للسامع بمقصود الخطبة، مما يشدُُ الانتباه ويهيئ النفوس.

- والموضوع هو مقصود الخطبة الأعظم، وقد يكون من المناسب التصريح به في مبتدأ الخطبة، وقد يكون التصريح به غير مناسب إما لأنه شائك أو يوجب انقسام الناس، وفي هذه الحالة ينبغي أن يدخل إليه الخطيب دخولاً متدرجاً، ويتناوله تناولاً غير مباشر.

- أما الخاتمة فيحسن فيها
جمع أفكار الخطبة وتلخيص موضوعها بعبارت مغايرة، وطريقة مختصرة؛ لأن الإطالة في هذه الحالة تجلب الملل وتشتت الأفكار, ولا ينبغي أن تحتوي الخاتمة على أفكار جديدة وأدلة جديدة؛ لأنها حينئذٍ لا تكون خاتمة، وإنما جزء من الخطبة وامتداد لها.

🔸هــذه إضــاءات عــامــة ..
وقبسات يسيرة أحسب أنها هامة للخطيب؛ سائلاً العلي القدير أن يوفق الجميع لما فيه الخير والصلاح، وأن يبارك في الجهود ويسدد الخطى؛ إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
2024/09/24 05:15:56
Back to Top
HTML Embed Code: