Telegram Web Link
جريمة الزنا
الفساد الناتج عن الزنا
لقد دعا الإسلام الحنيف إلى الزواج ورغب فيه؛ لأنه هو أسلم طريقة لتصريف الغريزة الجنسية وهو الوسيلة المثلى لإخراج سلالة يقوم على تربيتها الزوجان ويتعهدانها بالرعاية، وغرس عواطف الحب والود والطيبة، والرحمة والنزاهة، والشرف والإباء، وعزة النفس، ولكي تستطيع هذه السلالة أن تنهض بتبعاتها وتسهم بجهودها في ترقية الحياة وإعلائها، وكما وضع الإسلام الطريقة المثلى لتصريف الغريزة منع في المقابل تصريفها في غير الطريق المشروع، فلذلك حرم الله تعالى مجرد الاقتراب من الزنا لأنه فاحشة وسبيل سيئ فقال تعالى: { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) } (1) [ الإسراء: 32 ].
قال العلماء: " ذلك أبلغ من أن يقول: ولا تزنوا فإن معناه لا تدنوا من الزنى " (2).
* الفساد الناتج عن الزنا:
وإن ممارسة هذه الجريمة وشيوعها لَيَتْرُكُ آثارا وأضرارا تشيب منها الرؤوس وتقشعر منها الأبدان، وأول هذه الأضرار:
1 - تدنيس العرض والشرف ونزع شعار الطهر والعفاف والفضيلة وتلطيخ فاعله بالعار والشنار.
2 - يكسو صاحبه ثوب المقت بين الناس.
3 - يشتت القلب ويمرضه إن لم يمته.
4 - يفسد نظام البيت ويهز كيان الأسرة ويقطع العلاقة الزوجية، ويعرض الأولاد لسوء التربية مما يتسبب عنه التشرد والانحراف والجريمة.
5 - وفي الزنا ضياع الأنساب واختلاطها وتمليك الأموال لغير أصحابها عند التوارث، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن يخلط النسب حينما أراد رجل أن يطأ جارية وكانت حاملا فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: { لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له، كيف يستخدمه وهو لا يحل له }رواه مسلم
قال ابن القيم - رحمه الله -: " يعني إن استلحقه وشركه في ميراثه لا يحل له لأنه ليس بولده، وإن أخذه مملوكا يستخدمه لم يحل له لأنه قد شرك فيه لكون الماء يزيد في الولد " (3) قال: " وفي هذا دلالة ظاهرة على تحريم نكاح الحامل " (4).. انتهى.
فإذا كان نكاح الحامل محرما سواء كانت حرة فتزوجها، أو من السبايا فوطأها؛ فما بالك إذا زاد الطين بلا فزنى، والزاني لا يُفَتِّشُ فيمن يزني بها، وهي إما أن تحمل منه فتدخل على قومها من ليس منهم، وإما أن تكون حاملا فماء الزاني يزيد في ولدها، وإما لا يُعْلَم أَمِنْ زوجها الحمل أم من غيره، ومن هنا تختلط الأنساب والنُّطَف.
وفي الحديث: { أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنته، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين } رواه البخاري
6 - الزنا علاقة مؤقتة لا مسؤولية بعدها، لذا فهي عملية حيوانية بحتة ينأى عنها الإنسان الشريف.
7 - والزنا أحد أسباب جريمة القتل فقد لا يجد الغيور على عرضه وسيلة يغسل بها العار الذي لحقه ولحق أهله إلا سفك الدم.
8 - يحطم المجتمعات ويفكك روابطها ويكثر فيها اللقطاء والضائعون حيثما يولد الولد وهو لا يدري أباه ولا أمه.
9 - الزنا يجلب الهم والحزن والخوف ويجعل الزانية والزاني بين خطرين، فإن المرأة إذا زنت أدخلت العار على أهلها وزوجها وأقاربها ونكست رؤوسهم، فإن حملت من الزنا وقتلت ولدها جمعت بين جريمتي الزنا والقتل، وإن أمسكته أضافت إلى زوجها غير ولده.
10 - ظهور الزنا من أمارات خراب العالم، فقد ورد في الصحيحين من خطبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف أنه قال: { يا أمة محمد، والله إنه لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، ثم رفع يديه وقال: اللهم هل بلغت؟ }رواه البخاري
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: " وفي ذكر هذه الكبيرة بخصوصها عقب صلاة الكسوف سر بديع لمن تأمله، وظهور الزنا من أمارات خراب العالم " (2). إذًا تغير حال الشمس وذهاب ضوئها بالكسوف علامة من علامات تغير الحال من الأحسن إلى الأسوأ وقد يكون بسبب المعاصي والذنوب، لذلك أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا المعنى في صلاة الكسوف.
11 - الزنا سبب مباشر في الأمراض الخطيرة التي تفتك بالبدن وتنتقل بالوراثة من الآباء إلى الأبناء وأبناء الأبناء، وسيأتي تقرير مفصل في نهاية الكتاب عن هذه الأمراض.
12 - الزنا يستجلب غضب الله ويستمطر عذابه، فقد جرت سنة الله تعالى أنه عند ظهور الفواحش يغضب الله سبحانه وتعالى ويشتد غضبه، وفي عصرنا فتح كل باب إلى الفاحشة، وسهل الشيطان الطريق بمكره ومكر أوليائه، واتبعه العصاة والفجرة ففشا التبرج والسفور وعم انفلات البصر والنظر المحرم إلا من شاء الله، وانتشر الاختلاط وراجت مجلات الخنا وأفلام الدعارة والفحش، وهذا كله من دواعي غضب الله تعالى ومقته وعذابه، فإذا غضب سبحانه فإن غضبه لا بد أن يؤثر في الأرض عقوبة، قال عبد الله بن مسعود: " ما ظهر الزنا في قرية إلا أذن الله بهلاكها ".رواه البخاري
13 - كذلك فإن ال
زنا من الفتنة والبلاء الذي هو من أشراط الساعة، وذلك كما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: لأحدثنكم حديثا لا يحدثكموه أحد بعدي سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم - { أن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم ويظهر الجهل ويُشرب الخمر ويظهر الزنا ويقل الرجال وتكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد }.
الحيوانات تأبى الزنا وترفضه:
قال تعالى: { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) } (2) [ الإسراء: 32 ].
فأخبر تعالى عن فحش الزنا في نفسه وهو القبيح الذي قد تناهى قبحه حتى استقر في العقول فحشه، حتى عند كثير من الحيوان.
فلو نظر المرء منا إلى حيوان ضعيف أليف وديع مثل الحمام فإنه يجد أن أنثى الحمام لا تسمح لغير ذكرها أن يعلوها وكذلك لا يسمح ذكرها لغيره أن يمتطيها، بل لا يفكر أصلا أي ذكر أن ينزو على غير أليفته؛ بما فطره الله عليه فحافظ على هذه الفطرة بلا اختلال، فأين الشهامة يا رجال..؟ لِلَّهِ
ذكر البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون الأودي قال: " رأيت في الجاهلية قردا زنى بقردة، فاجتمع القرود عليهما فرجموهما حتى ماتا ".
فليتعلم أهل الإباحة من القرود وسائر الحيوانات إن لم يتعلموا من شرع الله، ليتعظ الذين تأثروا بالغرب وانسلخوا من هويتهم الإسلامية ورأوا في حدود الله وعقوباته - بزعمهم - شيئا من الشدة والقسوة لا تتفق مع روح العصر، وتعارض الحرية الشخصية وخاصة حرية المرأة التي أطلقها الغرب باسم التحرر والمساواة وتحت شعار الديموقراطية التي قررها لها القانون.
إلى هؤلاء الذين جعلوا الزنا حين يكون بالتراضي فلا جناح عليه ولا غبار إلا إذا كان إكراها أو اغتصابا، فالزنا في نظر الغربيين ليس جريمة وإن كان عيبا، فإذا زنى الرجل البكر بامرأة بكر فإن فعلهما ليس بفاحشة مستلزمة للعقوبة إلا إذا كان ذلك بالإكراه فإنه يعاقب للإكراه بعقوبة خفيفة، وأما إذا زنى بامرأة متزوجة فللزوج أن يطالبه بتعويض مالي لأنه أفسد عليه زوجته.
بئست النظرة وبئست العقيدة وبئس من ساروا وراء الغرب يلهثون خلفهم ويتبعون سننهم حذو القذة بالقذة، شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه خلفهم، وهل بقيت مسحة خير أو حياء أو دين فيمن يلهث وراء المفسدين العابثين ويعرض عن شرع العزيز الحكيم؟
فعل الفواحش سلف ودين
أرأيت الذي يأتي الفواحش ويطلق العنان لشهواته في بنات الناس وأولادهم ونسائهم يكون في معزل ومأمن من عقوبة الله تعالى له من جنس عمله؛ فيرتد فعله على أهله وولده؟ وهو بالطبع آخِرُ من يعلم ثم يصير حديث الناس والمجالس وهو لا يعلم وقد خرب بيته وتنجست أركانه وهو لا يعلم.
فليحافظ المتهور الذي لا يبالي بالعواقب على عرضه وبيته أن يكون نهبة لكل لاهث وهو لا يدري، وصدق الإمام الشافعي - رحمه الله - حين قال:
عِفُّوا تَعفُّ نِسَاؤُكْمْ في المحْرَمِ وَتَجَنَّبُوا مَا لا يَلِيقُ بمُسْلمِ
إِنَّ الزِّنَا دَيْنٌ فَإِنْ أَقْرَضْتَهُ كَانَ الْوَفَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ فَاعْلَمِ
مَنْ يَزْنِ يُزْنَ به وَلَوْ بِجِدَارِهِ إِنْ كُنْتَ يَا هَذَا لَبِيبًا فَافْهَمِ
وهذه قصة حدثت حول هذا المعنى وهي قصة الرجل الساقي مع امرأة الصائغ:
" حكي أن رَجُلا سَقَّاء بمدينة بخارَى كان يحمل الماء إلى دار صائغ مدة ثلاثين سنة، وكان لذلك الصائغ زوجة صالحة في نهاية الحسن والبهاء، فجاء السقاء يوما على عادته وأخذ بيدها وعرّها - أي مسها بشهوة - فلما جاء زوجها من السوق قال: ما فعلت اليوم خلاف رضا الله تعالى؟ فقال: ما صنعت شيئا، فأَلَحَّت عليه، فقال: جاءت امرأة إلى دكاني وكان عندي سوار فوضعته في ساعدها فأعجبني بياضها فعصرتها، فقالت: الله أكبر هذه حكمة خيانة السقَّاء اليوم، فقال الصائغ: أيتها المرأة إني تبت فاجعليني في حل فلما كان الغد جاء السقاء وقال: يا صاحبة المنزل اجعليني في حل فإن الشيطان قد أضلَّني، فقالت: امْضِ فإن الخطأ لم يكن إلا من الشيخ الذي في الدكان، فإنه لما غيَّر حاله مع الله بمس الأجنبية غيَّر الله حاله معه بمس الأجنبي زوجته "
ويزداد الأمر قبحًا وفحشًا إذا استمر الزاني في زناه مع كبر سنه وشيب شعره واقترابه من القبر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم، شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر } (2) (3) فمن يزكيهم وينظر إليهم بعين الرحمة إذا لم يفعل الله ذلك؟!
اللهم اغفر لنا ذنوبنا
﴿قُل مَن يَرزُقُكُم مِنَ السَّماواتِ وَالأَرضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنّا أَو إِيّاكُم لَعَلى هُدًى أَو في ضَلالٍ مُبينٍ﴾
⛅️ #إشــツـراقة_الصبـاح
◤ الاثنين ◥
٠٧/ جمـ➅ـادى الثاني/١٤٣٨هـ
06/ مـــــــ③ـــــارس/ 2017مـ
❂:::ــــــــــــــــ✺ـــــــــــــــــ:::❂
‌‌‏
‌‌‏لا تتهاون في ذرة خير تستطيع فعلها
فالحسنة وإن صغرت ترد لك أضعافاً مضاعفة
"وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً"

صبــــاح فعل الخير..
🕋🕋🕋🕋🕋🕋🕋🕋

🎤خطبةجمعة🎤

نموذج رقم (1)

📝التفاؤل في المحن 📝


👳🏻عمر القزابري

🎯عناصر الخطبة :-

1/ حاجتنا إلى الأمل في دنيا البغي .
2/ وجوب بث الأمل وتثبيت أفئدة المؤمنين .
3/ قصص وعِبَر من تاريخ الإسلام .
4/ من المبشرات على أن المستقبل للإسلام .
5/ شروط الاستخلاف والتمكين للدين .
6/ نداء للطغاة!!

📜الخطبة الأولى:-


الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى والمختص بالملك الأعز الأحمى الذي ليس من دونه منتهى، ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعمًا، وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم أنفثهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا، وذكاه روحًا وجسمًا، وأتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..

معاشر الصالحين:
بعد أن اتضحت المعالم، وتواطأ الكل مع الظالم، وتغلبت لغة المصالح،
وغض الطرف عن المذابح، بعد أن أصبح القتل مباحًا والعرض مستباحًا، بعد أن مدت الروافض لنصرة الكفرة والروافض،
بعد أن أسلمت الشام للقتلة واللئام،
بعد أن أصبح ملأ السمع والبصر سب أبي بكر وعمر،
بعد أن أصبح الحوار يترجم بلغة المَدافع، وينصر الظالم ويلام المُدافع..

بعد أن أصبح الدين إرهابًا،
والانحراف صوابًا،
والصمت جوابًا،
بعد هذا كله نرفع رؤوسنا
ونمد أبصارنا إلى خيط الأمل المنسل من بين ثنايا الظلام، ونلقي بأسماعنا إلى نداء شفّاف فيه ما فيه من الانعطاف والألطاف..
نداء يمد حبال الأمل منتشلاً قاصديه من براثين اليأس (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [يوسف:110].

إنها كلمات قد اعتراها الجفاف، فما أحوجنا إلى الأمل في دنيا البغي، لذلكم نكتب اليوم هذه الكلمات التي هي عصارة قلب تسيل من قلمه الدمعات؛ لتبتسم على الورق الكلمات، وما أجمل أن تكون الكلمات عصارة قلب، فكل إنتاج لم تذب فيه حشاشة النفس إنما هو ضرب من العبس.
نكتب هذه الكلمات ليعقل ساذج، ويتململ راقد، ويتنافس قاعد، ويتأنى متهور، ويفرح هامد يائس بائس؛ لتغمر القلب برودة السكينة بوعد الله بعد حرارة القلق ولذعة الحيرة ومرارة اليأس والقنوط، نثبّت أفئدة المؤمنين بتجلية حقيقة هذا الدين العظيم، وشرف الانتساب إليه.
أيها الأحباب: لا شيء في هذه الحياة يعدل ذلك الفرح الروحي الشفاف عندما نستطيع أن ندخل الثقة، ونبث الأمل في نفوس المسلمين، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أحق الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم أو تكشف عنه كربة".
من يقيننا بوعد الله ينبثق الفجر وينداح، نعيش لنرقب هذا الفجر الوضيء والأفق العالي والمثال السامي، عندما نعيش مع هذا الفجر ولهذا الفجر عندما نعيش من أجل مجد الإسلام فإننا نعيش حياة مضاعفة بقدر ما يتضاعف إحساسنا بالمسلمين.
عندما نعيش للإسلام فإن حياتنا تبدو طويلة عميقة تبدأ من حيث بدأت البشرية، وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض، أما الذي يعيش لنفسه ولشهواته ولرغباته، فإن هذا يعيش في الظلام ويموت في الظلام، وإذا ما فتشت صحف أمجاد التاريخ لا تجد له ذكرًا ولا تسمع له رجزًا.
إذًا فالتفاؤل يقوي العزائم، ويبعث على الجد، ويعين على الظفر، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتفاءل ولا يتطير، وكان يعجبه الاسم الحسن" رواه الإمام أحمد.
وهذه القرائن لغة قائمة بذاتها، ولا يفهمها إلا أهلها الذين يرزقهم الله إياها، وقاموسها ضخم ونحوها فيه رفع ونصب، ولا مكان فيه للخفض والكسر، والمبتلى بالموازين المادية هو عن هذا الذوق معزل.
إذًا فإن التفاؤل في ظل الأزمة وفي قلب الغمة هو من الإيمان، وهو من التوكل على الله والثقة بوعده.
فواجب على كل مؤمن أن يستصحب الأمل والتفاؤل وإن أوغل الظالمون في القتل وإن تحالف الكفر وساد المكر ..
وعلى أهل العلم أن يمسّكوا الناس بهذا الباب،

باب الثقة في الله والأمل في فتحه ونصره، فهذا من أبواب فتح الخير.
يقول -صلى الله عليه وسلم- في حديث بديع جميل رائع ماتع يقول -عليه الصلاة والسلام-: "عند الله خزائن الخير والشر، مفاتيحها الرجال، فطوبى لمن جعله الله مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر، وويل لمن جعله الله مفتاحًا للشر مغلاقًا للخير" رواه الطبراني وغيره وحسنه الألباني.
عن أُبَي بن كعب -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "بشِّر هذه الأمة بالثناء والرفعة والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب" رواه الإمام أحمد وصححه الألباني.
وعن أبي عتبة الخولاني قال: قال
-صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة" رواه الإمام أحمد وحسنه الألباني.
هذا غرس الله، ويأبى الغرس إلا طبيعته، وأكرم بغرس غرسه الله، والحمقى هم الذين يريدون أن يغرس هذا الغرس نكدًا..
نعم لأمل بسام نعيش به، نعم لأمل وضيء في وسط الظلام في وسط واقعنا الحالي يطمئن في وقت الزلازل، ما أحوجنا إلى ثقة لا تزعزع في الله، نستشرف النصر من بعيد، ونراه رأي العين، ونوقن أن البشرية في طريقها إلى ربيعها المونق، المظهر الذي يملأ حياتنا بالعطر والدفء والنور ربيع الإسلام.
ونكتفي في هذا الموضع بعرض عبرة من الواقع التاريخي للإسلام، لعلها أنسب العِبَر في هذا المقام.
بينما كان سراقة بن مالك يطارد رسول الله وصاحبه أبا بكر -رضي الله عنه- وهما مهاجران خفيةً عن أعين قريش، وبينما كان سراقة يعثر به فرسه كلما همَّ أن يتابع الرسول وصاحبه طمعًا في جائزة قريش المغرية التي رصدتها لمن يأتيها بمحمد، أو بصاحبه أو بخبرٍ عنهما..
وبينما هو يهمّ بالرجوع وقد عاهد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكفيهم من ورائه في هذه اللحظة قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا سراقة! كيف بك وسواري كسرى بيدك"، أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-.
والله وحده يعلم ما هي الخواطر التي دارت في رأس سراقة من هذا العرض العجيب من ذلك المطارد الوحيد إلا من صاحبه أبي بكر -رضي الله عنه-، ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان عارفًا بالحق الذي معه، وكان واثقًا من أن هذا الحق لا بد أن ينتصر على الباطل.
وتمر الأيام وتتحقق نبوءته -صلى الله عليه وسلم- ويلبس سراقة سوار كسرى فاتحًا منتصرًا متذكرًا وعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وفي يوم الأحزاب ويا له من يوم يقول الله تعالى: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا) [الأحزاب:10-11].
في هذه الساعات الرهيبة والرسول -صلى الله عليه وسلم- مع الصحابة يسهم في حفر الخندق، وفيهم من الخوف والجوع ما الله به عليم، كان -صلى الله عليه وسلم- يستشرف النصر من بعيد، ويراه رأي العين في ومضات الصخور على ضرب المعاول..
يحدث النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه عن الغد المأمول والمستقبل المرجو بفتح بلاد كسرى وبلاد قيصر وبلاد اليمن حديث الواثق المطمئن، حتى إن أهل النفاق أثارهم هذا اليقين، فقال أحدهم: كان محمدًا يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط!!

نعم نحن اليوم -أيها الأحباب- في مثل هذا الموقف في كل ملابساته وكل سماته مع الجاهلية كلها من حولنا، فلا يجوز من ثم أن ينقصنا اليقين في العاقبة المحتومة، العاقبة التي يشير إليها كل شيء من حولنا على الرغم من جميع المظاهر الخادعة التي تحيط بنا.
إن حاجة البشرية اليوم إلى هذا المنهج ليست بأقل من حاجتها يوم ذاك، وإن وزن هذا المنهج اليوم بالقياس إلى كل ما لدى البشرية من مناهج لا يقل عنه يوم ذاك، ومن ثم ينبغي ألا يخالجنا الشك في أن ما وقع مرة في مثل هذه الظروف لا بد أن يقع..
الإرهاصات -أيها الأحباب- في أن المستقبل للإسلام كثيرة والمبشرات لفجر الإسلام ونصره نوقن بها أكثر من يقيننا بوجودنا.
إننا نرى اليوم المكر والخداع، والرقص على الجراح، والتواطؤ على البغي والتحالفات والقيم التي تباع في أسواق النفط، وتزوير الحقائق، وتغيير الثوابت والعدالة الملفقة التي لا تخدم إلا مصلحة الأقوى، ولكن وما ذلك المكر كله، فإن المؤمن يزول خوفه ويتفتت كربه عندما يقرأ قول الله (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال:30] وقوله: (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) [الزخرف:79]، وقوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) [الأنفال:36].
إننا -أيها الأحباب- نعرض مذاقًا يعرفه من ذاق مثله، والقلب الذي ذاق هذا المذاق لا تبلغ الشدائد منه مهما بلغت؛ لأنه قلب موصول بالله، يحيى في ظل الاسترواح من الكرب الخانق بما ينسم على الأرواح من روح الله.
جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص عمله لله جهرًا وسرًّا أمين.. أمين والحمد لله رب العالمين..

🌲🌲🌲🌲🌲🌲🌲🌲

📜الخطبة الثانية:


الحمد لله الذي خلق خلقه أطوارًا، وصرفهم في أقداره فشاء عزة واقتدارًا، وأرسل الرسل إلى المكلفين إعذارًا منه وإنذارًا، وجعل محمدًا خاتمه وهو البشير النذير فنصب الدليل وأنار السبيل، وأزاح العلل وقطع المعاذير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الرجولة والصدق وأسياد الحكمة والرفق، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الد
ين.

معاشر الصالحين: جرت عادة الله -سبحانه وتعالى- أنه إذا اشتدت المحن وضاقت السبل وانقطعت الوسائل جاء المدد الإلهي وجاء الفرج (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [يوسف:110].
إذا اشتملت على اليأس القلوب *** وضاق لما بها الصدر الرحيب
وأوطأت المكاره واطمأنت *** وأرسلت في أماكنها الخطوب
ولم ترى لانكشاف الضر وجها *** ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث *** يمن به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت *** فموصول بها الفرج القريب
إن الحرب اليوم حرب على أهل السنة، حرب على أتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومحبيه، ومحبي أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم.
والمؤسف أن هذه الحقيقة مع كونها جلية واضحة ناصعة يأبى أرباب المكر إلا أن يزيفوا الحقائق، ويأبى أتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أهل السنة إلا الصمت المريب، ومع ذلك فإنه لا يخالجنا الشك في نصر الإسلام هذا اليقين نبعه من القرآن والسنة والتاريخ والواقع والسنن الكونية الربانية وتحتمه طبائع الأشياء وحقائق الوجود والحياة.
إن الإسلام أضخم حقيقة وأصلب عودًا وأعمق جذورًا من أن يجتثه أعداء الحياة من على الأرض، بل هم الذين يتردون في هاوية الدمار السحيقة وفي مزابل التاريخ.
ونمر على بعض المبشرات من القرآن الكريم، قال تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة:32-33].

قال ابن كثير -رحمه الله-: "يحاولون أن يردوا الحق بالباطل ومثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفأ شعاع الشمس بفيه، وكما أن هذا مستحيل فذلك مستحيل".
كم أبرقوا وأرعدوا حتى سال بهم وبصاحبهم السيل، وأثاروا من الباطل في بيضاء ليلها كنهارها ليجعلوا نهارها كالليل، فما كان لهم إلا ما قال الله: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) [الأنبياء:18].
كم تمادى الكافرون في طغيانهم يعمهون، وظلت آياته تلقف ما يأفكون فوقع الحق، وبطل ما كانوا يأفكون.. واليوم وإن حفّت المصائب وحلت النوائب وتقوى الأعداء واستعلى السفهاء، فإن هذا ليس نهاية المطاف، إن وعد الله قائم ينتظر العصبة المسلمة التي تحمل الراية وتمضي..
إن هذا المصباح الذي أناره سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- قد حاربه مليون أبي جهل، مليون عبدالله بن سبأ، مليون طاغوت ولكن هيهات هيهات..
ولا يزال أعداء الإسلام إلى اليوم يسلكون في الدعوة إلى الكفر والإلحاد شعابًا جددًا، وللتشكيك في الدين طرائق قددًا، وهيهات هيهات أن ينالوا من نور الله شيئًا، والله متم نوره ولو كره الكافرون.
من البشائر كذلك في كتاب الله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) [التوبة:33] لقد ظهر دين الحق لا في الجزيرة وحدها، بل ظهر من المعمور في الأرض كلها، وما يزال دين الحق ظاهرًا على الدين كله حتى بعد انحساره السياسي عن جزء كبير من الأرض التي فتحها المسلمون، وبخاصة في أوروبا وجزر البحر الأحمر.
أجل ما يزال دين الحق ظاهرًا على الدين كله من حيث هو دين فهو الدين القوي بذاته القوي بطبيعته، الزاحف بلا سيف ولا مدفع من أهله؛ وذلك لما في طبيعته من استقامة مع الفطرة، ولما فيه من تلبية بسيطة عميقة لحاجات العقل والروح وحاجات العمران والتقدم.
وإن المنصفين من غير أهل الإسلام ليشهدون لهذا الدين بالتكامل وأهليته لقيادة العالم، ولعل المسلمين وحدهم -ومع الأسف- لا يدركون هذه الحقيقة اليوم، فغير أهله يدركونها ويعيشونها ويخشونها ويحسبون لها في سياساتهم كل حساب.
إن الإسلام -أيها الأحباب- كالشمس لا يغرب أبدًا، فالشمس إذا غربت في جهة طلعت في جهة أخرى فلا تزال طالعة.
من البشائر كذلك قوله -تعالى-: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور:55].
قال ابن كثير -رحمه الله-: "هذا وعد من الله تعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم- بأنه سيجعل أمته الولاة على الناس وتصلح بهم البلاد وتخضع لهم العباد وليبدلونهم من بعد خوفهم أمنًا وحكمًا".
إن عقد الاستخلاف وتمكين الدين في القلوب، وتمكينه في تصريف الحياة وتدبيرها، وهيمنته على ال
أرض قائم على تلقي الهدى من الله، قائم على اجتثاث كل مظاهر الشرك من حياتنا ومعتقداتنا، قائما على الاقتداء بنبينا -صلى الله عليه وسلم-، قائم على تحكيمنا لكتاب ربنا، ألا إن وعد الله قائم، ألا وإن شرط الله معروف، فمن شاء الوعد فليقم بالشرط ومن أوفى بعهده من الله.
وقد يهزم جنود الله في معركة من المعارك وتدور عليهم الدائرة ويقسو عليهم الابتلاء، لكن الله يعدهم ويُعدهم للنصر في معركة أكبر، ولأن الله يهيئ الظروف من حولهم ليجني النصر ثماره في مجال أوسع وفي خط أطول وفي أثر أدوم.
من البشائر كذلك قوله -تعالى-: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران:139].
إن الحالة الدائمة التي ينبغي أن يكون عليها شعور المؤمن وتصوره وتقديره للأشياء والأحداث والقيم والأشخاص هي الاستعلاء بالإيمان على قوى الأرض الحائدة عن منهج الإيمان، وعلى قيم الأرض التي لم تنبثق من الإسلام، وعلى تقاليد الأرض التي لم يصوغها الإسلام، وعلى قوانين الأرض التي لم يشرعها الإيمان.
إن المؤمن هو الأعلى؛ الأعلى سندًا والأعلى مصدرًا، فما تكون الأرض كلها وما يكون الناس وهو يتلقى من الله وإليه يرجع، وعلى منهجه يسير.
نعم المؤمن هو الأعلى؛ لأنه يقف قابضًا على دينه كالقابض على الجمر، ويقف الشاردون عن دين الله وعن الفضيلة والقيم العليا هازئين من وقفته، ساخرين من تصوراته، ضاحكين من قيمه، فما يهن المؤمن وهو ينظر إلى الساخرين والهازئين والضاحكين..
بل ويقول كما قال نبي من أولى العزم: (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) [هود:38].

معاشر الكرام: هناك أمر يحسن مراعاته، إن وعد الله قائم لرسله وللذين آمنوا، ولا بد أن توجد حقيقة الإيمان في القلوب التي ينطبق هذا الوعد عليها، فتتجه لله وحده ويتوكل عليه وحده وتطمئن إلى قضائه وقدره حين تصل القلوب إلى هذه الدرجة، فلن تقدم بين يدي الله ورسوله ولن تقترح على الله صورًا معينة من صور النصر، إن الانتصار على الغير لا يكون إلا بعد الانتصار على النفس، على اللذات والشهوات، وهو النصر الذي لا يتم نصر خارجي بدونه بحال من الأحوال.
أما الطغاة الجبابرة فنقول لهم من هذا المكان:
اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير،
اقتلوا واذبحوا واقصفوا، وإياكم أن تتعظوا إياكم أن تكفوا عن الدماء التي عشقتم والتي لا يمكنكم العيش بدونها..!!
اقتلوا واعملوا على مكانتكم وإنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون، لا ترحموا شيخًا ولا كبيرًا ولا صغيرًا، تمادوا في غيكم فإن لكم يومين، يوم ذل في الدنيا ويوم فضيحة على رؤوس الأشهاد يوم يقوم الناس لرب العالمين.
لكم اللعنات المتتابعة لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، واعلموا يا من تواطأتم مع الظالم وتغاضيتم عن جرائمه مغلبين مصالحكم وتحالفاتكم، اعلموا أنكم شركاء في الدماء.
يقول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو أن أهل السماوات والأرض اجتمعوا في قتل مسلم لأكبهم الله جميعا على وجوهم في النار".
واعلموا -يا طغاة الأرض يا من أوغلتم في المسلمين قتلاً وترويعًا-
أنكم قدمتم للأمة خدمة عظيمة من حيث لا تشعرون، فلقد استصغرت الأمة الحياة وعشقت الشهادة وسقط في قلوب المسلمين جدار الخوف ورجع الآلاف إلى ربهم، وكذلك عرفوا العدو من الصديق وعرفوا قيمة دينهم الذي يحاربون من أجله وعرفوا من هم أعداء الأمة الحقيقيين الذين يتربصون بهم الدوائر..
فلو لم يكن في هذه المحن إلا رجوع الناس إلى ربهم لكانت منحنًا جليلة.. ونقول لكل ظالم وبالأخص لطاغية الشام:
أتهزأ بالدعاء وتزدريه *** وما تدري بما صنع الدعاءُ!!
سهام الليل لا تخطئ ولكن *** لها أمد وللأمد انقضاء
اللهم إنا نسألك بحق لا إله إلا الله أن تفرّج كرب إخواننا في الشام..

🕌🕌🕌🕌🕌🕌🕌🕌
🕋🕋🕋🕋🕋🕋🕋🕋

🎤خطبةجمعة🎤

نموذج رقم(2)


📝التفاؤل في زمن الشدائد 📝(2)

👳🏻سليمان بن حمد العودة

🎯عناصر الخطبة :-
1/ الانتصار على النفوس مفتاح النصر على الأعداء .
2/ نماذج من الشدة والبأساء وقعت لخير القرون .
3/ محن توالت على المسلمين في تاريخهم وتجاوزوها.
4/ دور العلماء عند الشدائد في تثبيت المؤمنين.
5/ دور المنافقين عند الشدائد في تخذيل المسلمين .
6/ دروسٌ مِن الأزمات ووجوب الاعتبار بها وبالتاريخ .


📜الخطبةالاولى:-

الحمد لله ربِّ العالمين، أمر بالصبر عند البلاء، والشكر حين السراء،

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يثبّت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

وأشهد أن محمداً عبدُه ورسوله، توعَّد قريشاً بالذّبح وهو محاصرٌ في مكة حين قال: "أتسمعون يا معشر قريش، أمَا والذي نفسي بيدهِ لقد جئتكم بالذّبح" رواه البيهقي؛ فصدق الوعدُ، وقطع دابرُ المشركين، وإن فصل الزمانُ بين الوعد والإنجاز.

اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة:119].

عباد الله: هذا حديثٌ متممٌ للحديث قبله عن (التفاؤل في زمن الشدائد).

وقد سبق بيان هدي المرسلين -عليهم السلام- لقومهم، ووعدهم لهم بالنصر وهم في الضيق والكُربات، وكيف تحقق وعدُ الله وانتصر المُستضعفون، كما سبق بيانُ شيءٍ من الأخطاءِ التي قد تلازم بعض الناس في حال ضعف الإيمان واليقين، وغلبة الكافرين، وشيوع الفساد وكثرة المفسدين، وشيء من مظاهر الإحباط والضعف عند فئامٍ من المسلمين.

أيها المسلمون: إن من العيوب والأخطاء أن يخطئَ المرءُ ولا يدرك خطأه، بل يظل يُزكّي نفسه ويستغرب: لماذا يبطئُ النصر؟ وإليكم نموذجاً من أخطائنا يقررها ابن القيم -رحمه الله- في (إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان).

يقول ابن القيم: إن العبد كثيراً ما يترك واجباتٍ لا يعلمُ بها ولا بوجوبها، فيكون مقصِّراً في العلم، وكثيراً ما يتركها بعد العلم بوجوبها إما كسلاً أو تهاوناً، وإما لنوع تأويلٍ باطل، أو تقليد، أو لظنه أنه مشتغلٌ بما هو أوجب منها، أو لغير ذلك، فواجبات القلوب أشدُّ وجوباً من واجبات الأبدان، وآكدُ منها، وكأنها ليست من واجبات الدين عند كثيرٍ من الناس. اهـ.
إخوة الإيمان: والمطلوب مِنّا -في كل حال، ولاسيما في زمن الشدائد والكروب- أن نفتش عن عيوبنا، ونعالج أخطاءنا، ونصدق الله في التماس أسباب النصر، وأن نملأ قلوبنا من الثقة بنصره، وعلوِّ دينهِ، وأن نُخلصَ في ولائنا لله، ونجرد الاستعانة بالله وحده بعد تجريد العبودية له، تحقيقاً لقوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة:5].

كيف نتخذ من دون الله ورسوله والمؤمنين وليجة، أي: بطانةً ودخيلة، والله يقول: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [التوبة:16]؟ وكيف نطلب النصر من غير الله، والله يقول: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [آل عمران:126]، وكيف نزكي أنفسنا، والله يقول: (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) [النجم:32].

عباد الله: لا بدَّ قبل أن ننتصر على الأعداء أن ننتصر على أنفسنا، والانتصار على النفس بحملها على طاعة الله، والبعد بها عمّا حرم الله، وهذه مرتبة من الجهاد تُبتلى بها النفوس، وتمتحن بها الهِمَم، وقد يضعف فيها كثيرٌ من الناس، وتراهم ينشغلون بالعدوِّ الخارجي أكثر من انشغالهم بالعدو الداخليِّ؛ وذلك لتسلية أنفسهم، وتبرير أخطائهم، وكان من وصية أسلافنا لقادة الجهاد أن ذنوب الجيش أشدُّ عليهم من أعدائهم.

إن تربية النفوس على الانتصار لشرع الله ودينه، ومجاهدة النفس على التعلق بمعالي الأمور، وترك السفاسف والفواحش هو طريقٌ وسببٌ لنصر الله، والله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7].

يا أخا الإيمان: إن هذه المعاني التي نحتاجها في كل حين، لا سيما في وقت الشدائد، من الإيمان واليقين والتسليم وصدق الولاء والصبر والتضرع لله وحسن المجاهدة، وتهذيب النفوس وتصفيتها من الشوائب، وتجريد الاستعانة والعبودية لله، والنظر في الأخطاء وإصلاحِ العيوب، والعمل بجدٍّ لتجاوز النفق المظلم بروية وتخطيط وإن
جاز وإنتاج دون ملل أو كلل، حتى يأتي نصرُ الله أو نهلك في سبيله، كل ذلك مارسه المؤمنون السابقون وتركوا لنا نماذج تُسلِّي وتُؤنس، وتقوي الهمم، وتشحذُ العزائم.

وإليك نماذج من الشدّة والبأساء وقعت لخير القرون: لقد زُلزل المؤمنون في غزوة الأحزاب زلزالاً شديداً وبلغت القلوب الحناجر، وزاغت الأبصار، كما قال ربُّنا: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً) [الأحزاب:10-11].

وكيف لا يقع ذلك والمدينة لأول مرة في تاريخ الإسلام يطوقها ما يقرب من عشرة آلاف من قريش وأحلافها والمتحزبين معها، واليهود ينقضون عهدهم في المدينة، والمنافقون من داخل الصّف يرجفون بالمسلمين ويظنون بالله الظنونا؟! ومع ذلك كلِّه صدق المسلمون مع ربِّهم وجلى اللهُ موقفهم بقوله: (وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) [الأحزاب:22].

ومن قبل وقع في أُحد من الشدة والبلاء على الرسول والمؤمنين ما الله به عليم. وفي قوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) [الأحزاب:23].

أخرج البخاري في (صحيحه) عن أنس -رضي الله عنه- قال: غاب عمي أنسُ بن النَّضْرِ عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله، غبتُ عن أولِ قتالٍ قاتلت المشركين، لئن اللهُ أشهدني قتال المشركين ليَرَينَّ اللهُ ما أصنع، فلما كان يومُ أحدٍ وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني أصحابه- وأبرأُ إليك مما صنع هؤلاء -يعني المشركين-.

ثم تقدم فاستقبله سعدُ بنُ معاذ فقال: يا سعد بنَ معاذ! الجنةَ! وربِّ النَّضْر! إني أجدُ ريحها من دون أُحد، قال سعدٌ: فما استطعتُ يا رسول الله ما صنع! قال أنسٌ: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربةً بسيف، أو طعنةً برمح، أو رميةً بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثَّل به المشركون، فما عرفه أحدٌ إلا أختُه ببنانه، قال أنس: كُنَّا نرى -أو نظن- أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ...) [الأحزاب:23].

إخوة الإسلام: وفي ظل ظروف المِحَنِ واللأْواء والشدائد يظهر دور العلماء، وتحتاج الأمة إلى أصوات المستيقنين المثبتين لقلوب الناس، والواعدين بنصر الله وفق سنن الله وعوامل النصر المشروعة.

أجل، لقد مرت الأمةُ المسلمةُ بعواصفِ الردةِ، فكان أبو بكر لها، وطوفانِ المحنة فكان ابنُ حنبلٍ جبلها، ثم طارت في الأمة تيارات المذهبية والآراء والنحل الفاسدة، فتصدى العلماء لها وكشفوا عن زيفها وفساد معتقد أصحابها، وربما حملوا السلاح لمجاهدة أصحابها.

ثم انساح الصليبيون في بلاد المسلمين واستولوا على مقدساتهم، وبرغم الهزائم التي لحقت بهم، فلم تلحق الهزيمة قلوبهم، ولم تتخلخل قناعاتهم، هزموا في ميدان المعركة، لكنهم لم ينهزموا في القيم، كانت هزيمتهم حسّية ولم تكن معنوية، حتى إذا جاء صلاح الدين الأيوبي وَمَنْ قبله من القادة الصالحين، وجمع شملهم ووحد صفوفهم، وجد عندهم من القوة والعزيمة على الجهاد ما شجّع القادة على دحر الصليبيين وإخراجهم من بلاد المسلمين خاسئين.

ثم ابتليت الأمة بغزو التتر، وبلغ الكربُ بالمسلمين مبلغه، حتى قال أحدُ المؤرخين المعاصرين لها: فلو قال قائل: إن العالم منذ خلق الله -سبحانه وتعالى- آدم، وإلى الآن لم يبتلوا بمثلها، لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها. اهـ.

وكما وصف ابن الأثير طرفاً من أحداثها، فقد وصف شيخ الإسلام طرفاً آخر يشير إلى أن أحداث التتر في بلاد الشام وما حولها: طبق الخافقين خبرُها، واستطار في جميع ديار الإسلام شررها، وأطلع فيها النفاقُ ناصية رأسه، وكشَّر فيها الكفرُ عن أنيابه وأضراسه، وكاد فيها عمودُ الكتاب أن يجتَثَّ ويخترم، وحبلُ الإيمان أن ينقطع ويصطلم... وفيها فرّ الرجل من أخيه وأمه وأبيه، إذ كان لكل امرئٍ منهم شأن يغنيه... اهـ.

ومع ذلك؛ برز العلماء يُهدّئون ويسكنون الناس ويثبتونهم ويعدونهم ويبشرونهم بالنصر، وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك قدحٌ معلّى، حتى كشف الله الغمة عن المسلمين، بعد أن تحزَّبَ الناسُ وانقسموا إلى ثلاثة أحزاب: حزبٍ مجتهدٍ في نصر الدين، وحزبٍ خاذلٍ له، وآخر خارجٍ عن شريعة الإسلام.

عباد الله: ولم تكن فتنة التتر آخر البلايا والمحن على المسلمين، بل وافتهم بعدها محنٌ وخطوب، واستعمارٌ وحروب، ولا تزال المؤامرات وأساليب الغزو والتدمير ماضية، وحربُ الأعداء للمسلمين اليوم استمرارٌ لحروبهم بالأمس، وعلى مسلمي اليوم أن يقرؤوا تاريخ أسلافهم، ويستفيدوا من تجاربهم
، ويتعرفوا على طبيعة أعدائهم، ويتمعنوا في قول ربهم: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة:120].

نفعني الله وإياكم.

🌳🌳🌳🌳🌳🌳🌳🌳

📜الخطبة الثانية:

الحمد لله القوي العزيز، ذي القوة المكين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له جنودُ السماوات والأرض، (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر:31]، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت:46].

وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولهُ، نصَره ربُّه بعد أن آذاه المشركون والمنافقون، ووعد أمته بالنصر، وخصَّ الطائفة المنصورة بالظهور على الحقِّ إلى يوم القيامة: "لا تزالُ طائفةٌ من أمتي قائمةً بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمرُ الله وهم ظاهرون على الناس" رواه أحمد واتفق عليه الشيخان.

أيها المسلمون:
وإذا كان أثرُ العلماء الربانيين ظاهراً في تسكين الناس وتثبيتهم على الحق حين الشدائد، وفتح الآفاق لهم للعمل والدعوة والإنتاج، فثمة مرجفون يشككون الناس في عقائدهم، ويروجون للباطل بأقوالهم وكتاباتهم وأعمالهم، يساهمون في هدم القيم، ولا يأنفون من إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، يسخرون بالدِّين، ويلمزون المطوعين من المؤمنين، وهم حريصون على تغريب المسلمين وتحطيم حواجز الولاء والبراء مع الكافرين، إلى غير ذلك من مناحي الفساد والمساهمة في إحباط الأمة وتخاذلها على مستوى الرجل والمرأة والشاب والكهل والغني والفقير.

وهؤلاء المرجفون المفسدون يجدون في فرص ضعف الأمة وتكالب الأعداء عليها وغياب الصوت القوي الفاضح لخُبثهم فرصةً لترويج باطلهم، وفي ظل هذه الظروف الحرجة كذلك يجدون من يسمع لهم ويتأثر بهم، إذ في فترات ضعف المسلمين يروجُ الفساد ويتنمّر المبطلون، وتضعفُ مناعةُ رفض الفساد، إلا من رحم الله وعصم وثبت وقاوم، وميّز بين دعاة الحق ودعاة الباطل.

إخوة الإيمان: وحين نعي المطلوب منا في أوقات الشدائد، وعَلِمْنا نماذج من الكروب التي مرت بأسلافنا، وكيف تجاوزوها، ووقفنا على نماذج من مواقف أهل العلم واليقين في تسلية المسلمين وشدِّ أزرهم، ويقابلهم أهلُ الإرجافِ والريب ومن في قلوبهم مرض.

بقي أن نقف على شيء من دروس أزمنة الشدائد، ولن نستفيد من الشدائد والنوازل الواقعة حتى نأخذ العبرة لحاضرنا ومستقبلنا.

إن من أبرز الدروس أن فترات الضعف والكروب هذه يتميز فيها الصادقون من الكاذبين، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت:3]، وفي الشدائد يتميز الخبيث من الطيب (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران:179].

أجل، إن الانتساب للإسلام سهلٌ في أوقاتِ الرخاء؛ لكنه ليس كذلك في أوقات الضراء، وكثيرون هم الذين يعدُّون أنفسهم مع المسلمين الملتزمين في حال المغانم، ولكنهم قلةٌ حين تكون المغارم.

ومن دروس المحنة والشدائد استخراج عبودية الضراء، والتضرع لله بكشف النوازل، فهل رفعنا أكفَّ الضراعة لله صادقين خاشعين؟ وهل بكت منَّا العيون لما حلَّ ويحل بالمسلمين؟ لقد جاء في كتاب ربِّنا (فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:43]، وفيه أيضاً: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) [المؤمنون:76].

إنَّ التضرع لله افتقارٌ إليه ومسكنة وإيمانٌ بأنه وحده الكاشفُ للضراء، ويقين بقدرته على رفع البلاء، أما الذين تقسو قلوبهُم ويزيد انحرافهم حين الشدائد فما استفادوا من دروس المحن، وما عقلوا حكمة الله في فتنةِ البلاء!.

ومن دروس الشدائد أنها كاشفاتٌ لأصحابِ النفوس الكبيرة، الذين لا تزيدهم الشدائد إلا صبراً ويقيناً، أولئك يواجهون الشدة بالحزم والعزم والتفكير الإيجابي للخروج من المأزق؛ كما أنها كاشفاتٌ لضعافِ النفوس، الذين تهزهم حادثاتُ الزمن وإن صَغُرت، وتؤثر فيهم الصيحاتُ المريبةُ، وإن عُلمَ الخبثُ فيها وفيمن وراءها!.

ومن دروس الشدائد استخراج ما في النفوس من بطرٍ وأشر وكبرياء لو استمر لها النصرُ، وعاشت دائماً في السراء، وتكتمل عبودية المسلم لله في حال السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، وفي صحيح السنة: "
عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن".

فهل يحقق المسلمُ عبوديته لله في كل حال؟ أم تراه يجزعُ إن مسه الشرُّ ويهلعُ إن مسه الخير؟ وما تلك سماتُ المؤمنين المصدقين.

إخوة الإيمان: يا من أفاء اللهُ عليهم بنعمة الأمن والإيمان ارعوا ما أنتم فيه من نعمة، قيدوها بالشكر، وخذوا على أيدي السفهاء، وأطروهم على الحق أطراً، ولا ينسِكم ما أنتم فيه من
نعمة ما يعيشه بعضُ إخوانكم المسلمين من بلاءٍ ومحنة، فالمؤمنون إخوة، والمسلم للمسلم كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً، وتذكروا أنه ما يمسُّ أحداً من المسلمين من بلاءٍ وشدة إنما هو بلاءٌ وشدةٌ على المسلمين كلهم، وما يحقّقه الله من نصرٍ لأحدٍ من المسلمين فإنما هو نصرٌ للمسلمين كلِّهم، فالأعداء جميعاً إنما يقاتلون المسلمين من أجل هذا الدين، وصدق الله: (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) [الممتحنة:2].



اللهم وفقنا لهداك وثبتنا على شرعك، واجعلنا هداة مهتدين، وهيّئ لأمّتنا أمراً رشداً يُعَزُّ فيه أهل الطاعة.

🕌🕌🕌🕌🕌🕌🕌🕌
🕋🕋🕋🕋🕋🕋🕋🕋

🎤خطبةجمعة🎤

نموذج رقم (3)

📝التفاؤل والتشاؤم📝

👳🏻 سعود بن ابراهيم الشريم.


🎯عناصر الخطبة

1/ تزايد المحن والمصائب يدفع الإنسان لليأس والتشاؤم
2/ الوقاية خير من العلاج
3/ أحسن الأدوية الظن الحسن بالله والفأل
4/ حب رسول الله للفأل الحسن
5/ تربيته للأمة على الفأل الحسن
6/ الله بيده ملكوت كل شيء فلم الجزع؟!
7/ الفأل علاج للتشاؤم


📜الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينُه، ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].

أمابعد:

فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهُدى هُدى محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكل بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المُسلمين؛ فإن يدَ الله على الجماعة، ومن شذَّ عنهم شذَّ في النار: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النساء: 115].
أيها المسلمون: في مُعترَك هذه الحياة وهمومها وغمومها، وعُجَر الإنسان وبُجَره التي تغلِي بفؤادِه غلَيَانًا، لا يحتملُ معه هواءً ولا وقودًا يزيدُه اشتِعالاً، ولا ماءً يزيدُ طينَه بِلَّة، حتى يكون حرَضًا أو يكون من الهالِكين.
إنها صُروفُ حياةٍ مُوجِعةٍ ترى الناسَ فيها يغدُون، فبائِعٌ نفسَه منهم فمُعتِقُها أو مُوبِقُها، هكذا هم الناسُ مع الغِيَر والمِحَن التي تُصيبُهم أو تحُلُّ قريبًا من دارِهم، إلا من رحِم الله، وقليلٌ ما هم.
إننا لنُشاهِد بأعيُننا ونسمعُ بآذاننا المصائِبَ إثرَ المصائِب، والأحزانَ إثرَ الأحزان لإخوانٍ لنا في الدين، أو جيرانٍ أو قرابةٍ، أو لنا نحن قبلَهم أو بعدهم -عافانا الله وإياكم منها-، فنقِفُ أمامَها مُحدِقِي الأبصار، نخبِطُ في التعامُل معها خبطَ عشواء، يغلِبُ علينا بسببها اليأسُ والقنوطُ والتشاؤُم الذي لا يزيدُ الكربَ إلا ضيقًا، ولا الضيقَ إلا حرَجًا، كأنَّما يصَّعَّدُ أحدُنا في السماء، فلا يزيدُ الجُرحَ إلا إيلامًا.
كل ذلكم يعتَرينا على فترةٍ من الفَأْل والأمل بالله؛ إذ كلُّنا أحوجُ ما نكونُ في المضائِقِ والمُدلهِمَّات إلى استِحضارِ طيفِ السَّعَة، وفي الكُروبِ إلى استِحضار طيفِ الفرَجِ.
إن أيَّ مُجتمعٍ لم تطَلْه نيرانُ الحروبِ والتدميرِ من الداخل والخارج لهُوَ في عافيةٍ وسلامةٍ، فليَرْعَها وليستجلِبْ أسبابَ أمنِه الفكريِّ والغِذائيِّ والصحِّيِّ والماليِّ والجنائِيِّ على حدٍّ سواءٍ، وليبذِل قوَّتَه وجهدَه لدفع أسبابِ الفوضَى والتفرُّق والتشرذُم قبل ألا ينفعَ حولٌ لنا ولا قوة.
فإن الوقايةَ خيرٌ من العلاجِ، والدفعَ أولَى من الرَّفع، وإذا لم يُغبِّر حائطٌ في وقوعِهِ فليس له بعد الوقوع غُبار.
إن أحسنَ أدوية المِحَن والمُلِمَّات، وأنفعها في الحالِ والمآل: هو حُسنُ الظنِّ بالله، من خلال وجود الفَأْلِ الحسن في داخِلَةِ المرء؛ إذ بالفَأْلِ يحسُنُ ظنُّك بربِّك وتقتدِي بهديِ نبيِّك -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يُعجِبُه الفَأْلُ الحسن ويكرهُ الطِّيَرَة -وهي التشاؤُم- لأنها سُوءُ ظنٍّ بالله تعالى بغير سببٍ مُحقَّق.
فإن الله -جل وعلا- يُجرِي للعباد بالمصائِب الأجورَ، ويرفعُ الدرجات، ويُكفِّرُ السيِّئات، ثم يُتبِعُها الفرَجَ وحُسنَ العواقِبِ. فكم من المِحَن في طيَّاتها مِنَح!! وكم من العُسرِ أتبعَه اليُسرُ! (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح: 5، 6]، ولن يغلِبَ عُسرٌ يُسرَيْن.
غير أن بدايةَ طريق الوُصولِ من العُسر إلى اليُسر هو الفَأْلُ وحُسن الظنِّ بالله؛ فإنه يجعلُك تُحِسُّ بالنور ولو كنت أعمَى البصر؛ لأن التشاؤُم لا يُريك إلا الظلام ولو كنتَ أبصرَ الناس.
ولذا فإن من سبَرَ حياةَ المُصطفى -صلى الله عليه وسلم- وجدَها مليئةً بالفَأْلِ والتفاؤُل، حتى في لقائِه مع عدوِّه اللَّدُود؛ فإنه -صلى الله عليه وسلم- لما كان في صُلح الحُديبية، وأقبلَ عليهم رجلٌ من قُريش -هو سُه
يل بن عمرو-، قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "لقد سهُلَ أمرُكم".
ولقد كان من حُبِّه -صلى الله عليه وسلم- للتفاؤُل لما فيه من حُسن الظنِّ بالله، والصِّلَةِ بين العبدِ وبين ربِّه بهذا الظنِّ، أن راعَى حُسنَ تسمية المرء واختيارَ ما يبعثُ على التفاؤُل منها على ما يبعثُ على التشاؤُم.
فقد قدِمَ على النبي -صلى الله عليه وسلم- جَدُّ سعيد بن المُسيَّب -واسمُه حَزْن-، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما اسمُك؟!". قال: اسمِي حَزْنٌ، قال: "بل أنت سَهلٌ". قال: ما أنا بمُغيِّرٍ اسمًا سمَّانيه أبي. قال ابن المُسيَّب: "فما زالَت فينا الحُزُونَة بعدُ". رواه البخاري.
ولم يقتصِر تفاؤُل النبي -صلى الله عليه وسلم- على ما يكون في أرضِ الواقعِ؛ بل إنه يستحضِره حتى في تعبير الرُّؤَى المناميَّة؛ فقد جاء عند مسلم في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "رأيتُ ذات ليلةٍ فيما يرَى النائِمُ كأنَّا في دارِ عُقبَةَ بن رافِع، فأُتينا برُطَبٍ من رُطَبِ ابنِ طاب، فأوَّلتُ الرِّفعةَ لنا في الدنيا، والعاقِبَةَ لنا في الآخرة، وأن دينَنا قد طابَ".
فلله! ما أعظم الفَأْل في سيرة حبيبِنا وقُدوتنا -صلى الله عليه وسلم-، إنه لا يُريد لأمَّته أن تيأسَ أو أن تتشاءَم؛ لأنه لم يُبعَث إلا رحمةً للعالمين، يُقرِّبُهم إلى الله، ويُحيِي روحَ التفاؤُل، وحُسنَ الظنِّ به، حتى في حالِ الدعاءِ بين العبدِ وبين ربِّهِ.
يُذكِّرُنا -صلى الله عليه وسلم- بالفَأْل فيقول: "ادعُوا اللهَ وأنتم مُوقِنون بالإجابة". رواه الترمذي.
وإني لأدعُو اللهَ حتى كأنَّما *** أرَى بجميلِ الظنِّ ما اللهُ صانِعُ
ويُربِّي أمَّتَه -صلوات الله وسلامُه عليه- حتى وإن اشتدَّت بهم المضائِق، وأنَّت آنَّتُهم، وحنَّت حانَّتُهم، وانصاحَت جِبالُهم، واغبَرَّت أرضُهم؛ فإن الفرَجَ في الفأْل والسَّعَة في الأمل بالله؛ فقد كان -صلى الله عليه وسلم- إذا استسقَى بأصحابِه قلَبَ رداءَه تفاؤُلاً في أن يُغيِّرَ الله حالَهم من الشدَّة إلى الرخاء، ومن الجَدبِ إلى الغيث والإنباتِ.
فإذا كان هذا في انحِباسِ المطر عنهم؛ فكيف بانحِباسِ النصر والتمكين؟! وتغيُّب عزَّتهم وكرامتهم بعد أن سُلِبَت منهم؟!
ذكر شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أن عليًّا -رضي الله تعالى عنه- عندما أرادَ المسيرَ لقتالِ الخوارِج، عرَضَ له مُنجِّمٌ، فقال له: يا أميرَ المُؤمنين: لا تُسافِر؛ فإن القمرَ في العقرَب، فإنك إن سافَرتَ والقمرُ في العقرَبِ -أي: في بُرجِ العقرَب- هُزِم أصحابُك. فقال عليٌّ -رضي الله تعالى عنه-: "بل نُسافِر ثقةً بالله، وتوكُّلاً على الله، وتكذيبًا لك". فسافرَ، فبُورِك له في ذلك السفر، حتى قتلَ عامَّةَ الخوارِج. وكان ذلك من أعظم ما سُرَّ به -رضي الله تعالى عنه-.
إنه الفَأْل والأمل بالله الذي تعلَّمَه من حبيبِهِ وقُدوتِه -صلوات الله وسلامُه عليه-.
إنك -أيها المرءُ- مُخيَّرٌ في حياتِك وما يَعتريكَ فيها بين اليأسِ والأملِ، والتفاؤُلِ والتشاؤُم؛ فالأملُ والتفاؤُل لك مع الله، واليأسُ والتشاؤُم لك مع الشيطان: (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) [المجادلة: 10]، وفي الحديث القُدسيِّ يقول الله تعالى: "أنا عند ظنِّ عبدِي بي". رواه البخاري ومسلم.
فها هُما طريقان وبابَان أمامَك -أيها المرء-، فانظُر أيَّ الطريقين أوأ يَّ البابَيْن تختارُ؟! (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) [المدثر: 38، 39].
باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمن نفسِي والشيطان، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المُسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفِروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفورُ الرحيم.

🌻🌻🌻🌻🌻🌻🌻🌻

📜الخطبة الثانية:-



الحمد لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتِنانه.
وبعد:
فاتقوا الله -عباد الله-.
ثم اعلموا أن للمرء أن يعجبَ كلَّ العجَب حينما يرَى مصارِع أهل المصائِب والابتِلاءَات، أفرادًا وجماعاتٍ، كيف سفُلَت نفوسُهم، وخارَت هِمَمهم، فلم يطلُبُوا رفعةً، ولم يستجلِبُوا فأْلاً، وإنما خيَّمَ على أفئِدَتهم جيوشُ اليأس والقنوط والحِطَّة، فلم يجعَلوا للأمل بريقًا، ولا للفأْل طريقًا.
أما لو أدركَ هؤلاء جميعًا أن الله بيدِه ملكُوتُ كل شيءٍ، وهو يُجيرُ ولا يُجارُ عليه، وأن ما شاءَ كان وما لم يشَأ لم يكُن؛ لما أمكنَ -مع ذلك- أن يتحكَّم فيهم اليأس، أو تغتالَهم غائِلَةُ القنوط التي تُودِي ببعضِهم إلى حُزنٍ وقلقٍ واكتِئابٍ، ولربَّما كانت حبلاً ممدودًا لانتِحال الهلكَى منهم، أعاذَنا الله وإياكم من ذلك.
الفأْل -عباد الله- فيه معنى الصبر والرِّضا، والنصر والعِزَّة والرجاء. واليأسُ والتشاؤُم فيهما معنى السَّخَط والهزيمة والذِّلَّة والقلق.
الفأْل لا يعنِي تحقُّق الأشياء بالضرورة، لكنَّه أُسُّ علاجِ التشا
ؤُم واليأسِ، ففي جوِّ الفأل يتعافَى الفِكرُ والبدنُ، ويكونُ العبدُ أقربَ إلى الله ورسولِهِ -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنهما أمرَا به. وفي جوِّ اليأس يبعُدُ العبدُ عن الله، وعن رسولِهِ -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنهما قد نهَيَا عنه.
الفأْل -عباد الله- أُولَى خُطوات العمل، والتشاؤُم أُولَى خُطوات الكسَل والإخلادِ إلى الأرض واتِّباعِ الهوَى. الفأْل -عباد الله- كالمرهَم على الجُرح، والتشاؤُم كالمِلحِ على الجُرح. فالفأل -عباد الله- ثقةٌ بالله، وإيمانٌ بقضائِه وقدرِه، وفي التشاؤُم سُوءُ ظنٍّ بالله ورِيبةٌ في قضائِه وقدرِه. الفألُ حياة، والتشاؤُم وفاة.
الفأل نورٌ للفتى وسعادةٌ *** فاهنَأٍ بدربٍ يستضِيءُ بفالِكَا
ما الشُّؤمُ إلا ظُلمةٌ وشقاوةٌ *** من نالَ منه الشُّؤمُ أصبحَ هالِكًا
هذا؛ وصلُّوا -رحمكم الله- على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأَ فيه بنفسِه، وثنَّى بملائِكتِه المُسبِّحة بقُدسِه، وأيَّه بكم -أيها المؤمنون-، فقال -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ صاحبِ الوجهِ الأنور، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خُلفائِه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، ونفِّس كربَ المكرُوبِين، واقضِ الدَّيْنَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم كُن لإخواننا المُستضعَفين في دينِهم في سائر الأوطان، اللهم كُن لهم ولا تكُن عليهم، اللهم انصُرهم على من بغَى عليهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجعل شأنَ عدوِّهم في سِفال، وأمرَه في وَبال يا حي يا قيوم، يا سميع الدعاء.
🕋🕋🕋🕋🕋🕋🕋🕋

🎤خطبةجمعة🎤

نموذج رقم(4)

📝المتفائلون يصنعون الحياة 📝

👳🏻 حسان أحمد العماري.

🎯عناصر الخطبة:-

1/ تساؤلات وهموم وسط صخب الحياة.

2/ قيم ومفاهيم ومعانٍ غائبة تبعث الطمأنينة والأمل.

3/ التفاؤل دأَب الأنبياء .

4/ هدي النبي الكريم في التفاؤل وصناعة الأمل .

5/ ثمرات التفاؤل.


📜الخطبةالاولى:-


الحمدُ لله العظيم الشأن، الكبير السلطان، خلق آدمَ من طين ثم قال له كن فكان، أحسن كل شيء خَلْقه وأبدع الإحسان والإتقان.
أحمده -سبحانه- وحمدُه واجبٌ على كل إنسان، وأشكره على ما أسداه من الإنعام والتوفيق للإيمان، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه؛ أكرم مسؤول، وأعظم مأمول، عـــــــالم الغيوب مفرّج الكروب، مجيب دعوة المضطر المكروب.
سهِرَتْ أعينٌ ونامَتْ عُيُـونُ *** في شُؤونٍ تكونُ أوْ لَا تكونُ
فاطْرَحِ الهَـمَّ مـا اسْتَطَعْتَ عن النَّفْـــ *** ــــسِ فحمْـلَانك الهمـومَ جنـونُ
إنَّ رَبَّاً كفاك ما كان بالأمـــــْـــ *** ــــسِ سيكفيـك فـي غدٍ ما يكونُ

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة قامت بها السماوات السبع والأرض المهاد، وخضع لها جميع العباد،
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب الحوض، وشفيع الخلق يوم المعاد، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيراً.

أمَّا بَعْـــد:
عباد الله:
مع صخب الحياة ومتطلباتها ومشاكلها، وضعف الوازع الديني، وفساد القيم والأخلاق في نفوس الكثير من الناس، والتنافس على الدنيا ونسيان الآخرة؛ ومع كثرة النزاعات والفتن والحروب التي تعصف بالدول والشعوب والمجتمعات، ومع تعدد الكوارث والحوادث، ومع حلول الأمراض والأوبئة من إنسان لآخر؛ يتساءل المرء: إلى متى يعيش الإنسان هكذا حياة؟ وهل لهذه المشاكل والابتلاءات من نهاية؟ وكيف يمكن للإنسان يعيش في ظل هذه الأوضاع بنفس مطمئنة؟ وكيف يستطيع أن يتجاوزها ويخرج منها وقد حفظ دينه وأمانته وأخلاقه، وقام بما عليه من واجبات؟ وكيف يستطيع الإنسان أن يمنع اليأس والتشاؤم من أن يصل إلى حياته؟ وهل يجب أن نتفاءل ونستبشر بقدوم الفرج وتبدل الأحوال وتغير الظروف وزوال الغمة وحلول النعمة، رغم ما يحيط بنا وما يظهر لنا وما ينزل بساحتنا وحياتنا من مصائب وابتلاءات؟ وما هي القوة التي يجب أن نلجأ إليها ونثق بها ونستمد منها العون والمدد والنصر ونطلب منها تبديل الأحوال وتغيير الظروف؟.
ومِن خلال هذه التساؤلات التي تجول بخواطرنا وأصبحت جزءاً من همومنا، ومن خلال القرآن الكريم والسنة النبوية والواقع وأحداث الزمان ومسيرة الأفراد والمجتمعات والشعوب، أقول:
إن هذه الدنيا جبلت على كدر، يقول -سبحانه-: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ) [البلد:4]، أي: في مكابدة ومعاناة منذ مولده، في دارٍ كلّها بلاء وعناء وكدر، أحسن في وصفها الإمام علي -رضي الله عنه- لمن سأله عنها فقال: دار أولها بكاء، وأوسطها عناء، وآخرها فناء.
ووَصَفَها أبو الحسن التهامي فأجاد في قوله:
جُبلت على كَدَرٍ وأنتَ تُريدُها *** صفواً من الآلام والأكدارِ
ومُكَلِّفُ الأيامِ ضدَّ طِباعِهـا *** مُتَطَلِّبٌ في الماء جذوةَ نار

وقال تعالى: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء:35]،
وقال -سبحانه- وهو أصدق القائلين:
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ولَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ والضَّرَّاءُ وزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [البقرة:214]، وقال -تعالى-:
(لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وأَنْفُسِكُمْ ولَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ومِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وإِنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ) [آل عمران:186].

ومع ذلك فإنه ينبغي للمسلم أن يدرك طبيعة الحياة، وعليه أن يستعين بمن خلقها وأوجدها وهو المولى -سبحانه وتعالى-، فيقوي إيمانه، ويؤدي ما افترضه عليه، ويبذل من الأسباب ما يستطيع، ويكون عنده أمل ويقين بأن الله يبتليه بالضراء وهو أرحم به من نفسه، وأنه هو القادر على كشف الضر ودفع البلاء وتبديل الأحوال،
وما من شيء يقع أو يحدث في الأرض أو في السماء إلا بأمره -سبحانه وتعالى- القائل:
(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام:59].
وأن هذه الحياة إلى زوال، وأن الآخرة خير وأبقى، وأن سعادة الدنيا رغم ما فيها لا يحصل عليها العبد إلا بإيمان صادق، وعمل خالص.
وهذه القيم والمفاهيم والمعاني تغيب على الكثير؛ بسبب ضعف الإيمان، ومع قوة البل
اء وكثرة الفتن وضيق الحال يكون السقوط في فتنة هي أعظم وأشدّ، قال -تعالى-: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ) [الحج:11].

أيها المؤمنون عبــاد الله: إن على الإنسان أن يتفاءل بالخير مهما كانت الظروف، فسواد الليل يأتي بعده ضياء الصباح، وإن البرق والرعد مهما كانت شدته وخاف الناس من سطوته فإنه يأتي محملاً بالأمطار والخير.
إذا اشْتَمَلَتْ على اليأسِ القلوبُ *** وضاقَ لما بهِ الصدرُ الرحيبُ
ولم تَرَ لانْكِشَافِ الضُّرِّ وَجْهـَاً *** ولا أغنـى بحيلتـِه الأريـبُ
أتاك على قُنُـوطٍ منك غَـوْثٌ *** يَمُـنُّ به اللطيفُ المسـتجيبُ
وكل الحـادثاتِ وإنْ تَنَـاهَتْ *** فموصـولٌ بها الفرجِ القريب
لما جاءت إبراهيم -عليه السلام- البشرى بالولد في سنٍ كبير أبدى تعجبه فقال: (قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِي الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) [الحجر:54]، فماذا كان جوابهم؟: (قالوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنْ الْقَانِطِينَ * قال وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ) [الحجر:55-56].
ويعقوب -عليه السلام- وقد فقد ولديه وبصره أربعين عاماً، وما زال أمله بالله أن يردهما إليه وأن يجمعهما به، فكان يوصى أبناءه قائلاً لهم: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف:87].
وحقق الله أمل يعقوب ورجاءه، وَرَدَّ عليه بصره وولديه، لم يتطرق اليأس إلى قلبه لحظة واحدة؛ لأن قلبه موصول بالله، متوكلٌ عليه، واثقٌ من قدرته ورحمته.
وهذا موسى -عليه السلام- وقومه وقد تبعهم فرعون وجنوده حتى إذا وصلوا إلى شاطئ البحر وفرعون من خلفهم قال اليائسون والمتشائمون:
(إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء:61],
فقال لهم نبي الله موسى -عليه السلام- في ثقة وتفاؤل ويقين، يريد أن يصنع حياتهم ومستقبلهم من جديد: (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء:62]،
فأمره الله -سبحانه- أن يضرب بعصاه البحر، فانشق نصفين، وكان كل فرق كالطود العظيم، ومشى مع قومه في طريقٍ يبس.
قال -تعالى-: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) [البقرة:155-156]،
فما بعد العسر إلا يسر، وما بعد الكرب إلا فرج، وما بعد الضيق إلا سعة؛ قال -تعالى-: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [يوسف:110]،
حتى إذا بلغ اليأس مداه عادت الحياة وجاء الفرج منه -سبحانه-.

عبــاد الله: إنَّ التفاؤلَ يدفع الإنسان لتجاوز المحن، ويحفِّزُه للعمل، ويورثه طمأنينة النفس وراحة القلب؛ والمتفائل لا يبني من المصيبة سجناً يحبس فيه نفسه، لكنَّهُ يتطلَّعُ للفرج الذي يعقب كل ضيق، ولليسر الذي يَتْبَعُ كل عسر.
لقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- إماماً في التفاؤل والثقة بوعد الله -تعالى-، وكان يحارب اليأس والتشاؤم، ويصنع الحياة، ويزرع الأمل مهما كانت الظروف.
والمتأمّل في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- يجد ذلك، يخاطب -صلى الله عليه وسلم- يوماً عدي بن حاتم يبشّره ويقول، كما روى ابن هشام في سيرته: "لعلّك -يا عديّ- إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم (أي حاجة المسلمين وفقرهم)، فوالله! ليوشكنّ المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه! ولعلّك إنما يمنعك من الدخول فيه ما ترى من كثرة عدوّهم وقلّة عددهم، فوالله! ليوشكنّ أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور البيت لا تخاف! ولعلك إنما يمنعك من الدخول أنك ترى الملك والسلطان في غيرهم، وايمُ الله! ليوشكنّ أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم"، قال عديّ: فأسلمت.
بل عندما هاجر -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وقد أرسلت في طلبه قريش وقد أباحت دمه وهو في الصحراء لا طعام ولا شراب، والموت يترصده في أي لحظة، فإذا بسراقة بن مالك أحد فرسان قريش خلفه قد غاصت قدما فرسه في التراب، فينظر إليه رسول -صلى الله عليه وسلم- قائلاً له بكل ثقة وتفاؤل: "يا سراقة، لم تصنع هذا؟"، قَالَ: إن قريشاً قد وعدوني بكذا من الإبل، قَالَ: "أوليس لك بخير منها؟"، قَالَ: وما هما، قَالَ: "سواري كسرى" رواه البخاري ومسلم.
أيها المؤمنون عبــاد الله: لقد سلك الإسلام كل سبيل في غرس روح التفاؤل بالخير في المجتمع المسلم، فأمرنا -صلى الله عليه وسلم- بأن نلقى إخواننا بوجه طلق حتى نشيع في الم
جتمع روح التفاؤل والأمل, فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-"كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَإِنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ، وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ في إِنَاءِ أَخِيكَ" أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد.
كما أمرنا بإفشاء السلام بيننا حتى تسود المحبة والألفة, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ" رواه أحمد ومسلم.
وأمرنا -كذلك- بمجالسة الجليس الصالح الذي يشبه حامل المسك؛ حتى نتلمس من مصاحبته روح الصلاح والخير.
وفي حديث الأنصاري الذي لزم المسجد حزيناً من كثرة همومه وديونه, أرشده النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى استبدال اليأس بالأمل والتفاؤل, وأن عليه أن يترك اليأس والتشاؤم ويحسن التوكل على الله -تعالى-.
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ: أَبُو أُمَامَةَ فَقَالَ: "يَا أَبَا أُمَامَةَ، مَالِي أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاَةِ؟". قَالَ هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: "أَفَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلاَمًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ؟". قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: "قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ". قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَمِّي، وَقَضَى عَنِّى دَيْنِي" أخرجه أبو داود.
كما نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن إشاعة روح التشاؤم في المجتمع بسب الدهر أو الادعاء بأن الناس قد هلكوا، وأن الخير قد انتهى من الناس.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ" أخرجه أحمد.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الْخَيْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ" أخرجه أحمد والبخاري ومسلم.
ونهى -صلى الله عليه وسلم- عن تقنيط وتيئيس المرء لمن حوله مهما كانت الظروف والأحوال، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا سَمِعْتَ الرَّجُلَ يَقُولُ: هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ"، وفي رواية: "إِذَا سَمِعتُمْ رَجُلاً يَقُولُ: قَدْ هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ، يَقُولُ اللهُ: إِنَّهُ هُوَ هَالِكٌ" أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد ومسلم.
نعم، من قال هلك الناس، لا فائدة مما نقوم به، لن تتعدل الأوضاع، لن يأتي الفرج، ذهب الخير؛ من يقول هذا فإنه يقتل الحياة ويغتال الأمل ويزرع اليأس، ويكون أول الهالكين.
اللهم اهد قلوبنا، وزينها بالإيمان والتقوى، قلت قولي هَذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

💐💐💐💐💐💐💐💐


📜الخطــبة الثانــية:-


عبــاد الله: إن للتفاؤل ثمرات في حياة الإنسان مهما كانت الظروف والأحوال، فبه تتجدد الحياة، ويزيد الإنتاج والعطاء، وبه يتغلب المرء على المعوقات والصعاب، وهو طريق للتوبة والرجوع إلى الله وترك الذنوب والمعاصي والسيئات، قال -تعالى-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53].
والتفاؤل يبعث في النفوس الراحة والطمأنينة، فلا يخاف المؤمن على رزقه، ولا يخشى من أجله، قال -تعالى-: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابَاً مُؤَجَّلَاً) [آل عمران:145].
والتفاؤل يدفع المؤمن ليحسن الظن بالله، ويوجهه ليصنع من المحنة منحة، ومن الكرب والعسر والضيق طريقاً وسبيلاً للبحث عن الفرج واليسر والخلاص.
فثقوا بالله، وأمّلوا به، وتفاءلوا بالخير تجدوه، واصنعوا الحياة من حولكم بالتفاؤل، ولا تكونوا معول هدم، ولا سببا في تقنيط الناس من رحمة الله، وابذروا الخير والأمل، واعملوا على تآلف القلوب واجتماع الصفوف، فمن يدري؟ ربما كانت هذه المصائب الفتن والابتلاءات باباً
إلى خير مجهول، ورب محنة في طيها منحة، يقول -سبحانه-: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة:216].
فقد مرت الأمة بأزمات وفتن، وابتليت بمصائب، فدفع الله عنها ذلك، وحفظها من كل سوء، وبعث فيها الحياة من جديد عندما عادت إليه وصدقت في حمل دينه واتباع رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
ومهما خطط البشر، ومهما بلغ كيدهم ومكرهم، فإن الله من ورائهم محيط، ولا يكون إلا ما يريد، قال -تعالى-: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30].
فاللهم اجعل لنا من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل عسر يسرا، ومن كل بلاء عافية.
اللهم احقن دماءنا، واحفظ بلادنا، وألف بين قلوبنا؛ ومن أرادنا أو أراد بلادنا بسوء أو مكروه فرد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه.
هذا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، والحمد لله رب العالمين.

🕌🕌🕌🕌🕌🕌🕌
2025/07/09 02:39:12
Back to Top
HTML Embed Code: