Telegram Web Link
أي شوق هذا ؟ أي أمنياتٍ هذه ؟
إنها اليوم يا رسول الله أمنياتٌ إرهابية ! إنها اليوم أمنياتٌ مجرمة !
إنها اليوم مما يستتر به المسلمون ويخفونه ، فلا يكاد أحدهم ينطق بكلمة " جهاد " ولا " شوقٍ إلى استشهاد " إلا من رحم الله !
نسأل الله جل وعلا أن يجدد الإيمان في قلوبنا ، وأن يعظّم اليقين في نفوسنا .
28/01‏/2022م المــوافــق ‏25‏/06‏/1443ه
*التسويق الشبكي*
*٢٥|٦|١٤٤٣هـ الموافق ٢٨|١|٢٠٢٢م*
*جامع الرحمة بالشحر*
*الخطيب/ محمد بن سعيد للصالح*
*الخطبة الأولى*
أيها المسلمون، ظهرت في هذه الفترة شركات يقوم نشاطها على التسويق الشبكي، تروِّج للاشتراك فيها بعمولات كبيرة، تغري البسطاء والطامحين في تغيير وضعهم المالي، فيندفع إليها الشباب زَرافات وَوُحدانًا، إناثًا وذكرانًا، ممن لا يمكنهم مقاومة بريق العمولات الخيالية، فيشتركون قبل أن يعرفوا الحكم الشرعي، وإذا سمعوا أن العالم الفلاني أو دار الإفتاء الفلانية أفتت بالتحريم، أخذوا يجادلون في الحق بعدما تبين، ويردون فتاوى كبار العلماء ببارد القول، والشبهات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، أملًا في الحصول على العمولات التي وعدوا بها، فإذا طلع الصبح وبان لذي عينين أن المسألة خداع في خداع، وغش في غش، ومصيدة تصطاد بها الشركات المحترفة المساكين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلًا، وتكذب عليهم وتعطيهم كلامًا لا يفهمونه ولا يدركون أبعاده.. إذا حصل لهم ذلك، وذاقوا مرارة الخسارة، جاءوك يحلفون بالله إن إردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا، واعترفوا بأنهم كانوا لا يفقهون إلا قليلًا، ولكن بعد فوات الأوان، وبعدما وقعت الفأس في الرأس.
أيها الشباب، لماذا لا تسألون عن الحلال والحرام قبل أن تسألوا عن الأرباح والفوائد! هل يجوز أم لا يجوز؟ سؤال يتقدم أي مشروع وأي فكرة..
أيها المسلمون، ما هو التسويق الشبكي؟
التسويق الشبكي أن تدفع اشتراكًا ثم تقوم بالتسويق لهذه الشركة ودعوة آخرين من الغافلين للاشتراك والانضمام إليها أو تشتري سلعة أو مجموعة من السلع بمبلغ معين ثم تقوم بالتسويق لهذه الشركة التي تبيع هذه السلع والبضائع أو تنتج هذه المنتجات، وكلما خدعت أكبر قدر ممكن من المساكين وأقنعت أكبر قدر من الغافلين كلما حصلت على عمولات أكبر وأرباح أكثر..
وغالبًا ما يكون ثمن السلعة أو المنتج غاليًا جدًا مقارنة بأمثاله في السوق، ومع ذلك يشتريه هذا الغافل؛ لأن عينه على العمولات التي وعدوه بها والتي تصل إلى آلاف الدولارات.
وقد نبَّه العلماء ودور الإفتاء على أن هذا النوع من المعاملات محرم؛ وذلك لأن مقصود المعاملة هو العمولات وليس المنتج، فالعمولات تصل إلى عشرات الآلاف، في حين لا يتجاوز ثمن المنتج بضع مئات، وكل عاقل إذا عرض عليه الأمران فسيختار العمولات، ولهذا كان اعتماد هذه الشركات في التسويق والدعاية لمنتجاتها على إبراز حجم العمولات الكبيرة التي يمكن أن يحصل عليها المشترِك، وإغرائه بالربح الفاحش مقابل مبلغ يسير هو ثمن المنتج، فالمنتج الذي تسوِّقه هذه الشركات مجرد ستار وذريعة للحصول على العمولات، والأرباح، ولما كانت هذه هي حقيقة هذه المعاملة، فهي محرمة شرعًا لأمور:
أولًا: أنها تضمنت الربا بنوعَيه، ربا الفضل وربا النسيئة، فالمشترِك يدفع مبلغًا قليلًا من المال ليحصل على مبلغ أكبر منه، فهي نقود بنقود مع التفاضل والتأخير، وهذا هو الربا المحرم بالنص والإجماع، والمنتج الذي تبيعه الشركة على العميل ما هو إلا ستار للمبادلة، فهو غير مقصود للمشترِك، فلا تأثير له في الحكم.
ثانيًا: أنها من الغرر المحرم شرعًا؛ لأن المشترِك لا يدري هل ينجح في تحصيل العدد المطلوب من المشتركين أم لا؟ والتسويق الشبكي أو الهرمي مهما استمر فإنه لا بد أن يصل إلى نهاية يتوقف عندها، ولا يدري المشترك حين انضمامه إلى الهرم، هل سيكون في الطبقات العليا منه فيكون رابحًا، أو في الطبقات الدنيا فيكون خاسرًا؟ والواقع أن معظم أعضاء الهرم خاسرون إلا القلة القليلة في أعلاه، فالغالب هو الخسارة، وهذه هي حقيقة الغرر، وهي التردد بين أمرين أغلبُهما أخوفهما، وقد نهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الغرر، كما رواه مسلم في صحيحه.
ثالثًا: ما اشتملت عليه هذه المعاملة من أكل الشركات لأموال الناس بالباطل، حيث لا يستفيد من هذا العقد إلا الشركة ومن ترغب في إعطائه من المشتركين بقصد خداع الآخَرين، وهذا الذي جاء النص بتحريمه في قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ)).
رابعًا: ما في هذه المعاملة من الغش والتدليس والتلبيس على الناس، من جهة إظهار المنتج وكأنه هو المقصود من المعاملة والحال خلاف ذلك، ومن جهة إغرائهم بالعمولات الكبيرة التي لا تتحقق غالبًا، وهذا من الغش المحرم شرعًا، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من غش فليس مني)) رواه مسلم في صحيحه وقال أيضًا: ((البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذَبا وكتَما مُحِقت بركةُ بيعِهما)) متفق عليه.
وأما القول بأن هذا التعامل من السمسرة، فهذا غير صحيح؛ لأن السمسرة عقد يحصل السمسار بموجبه على أجر لقاء بيع السلعة، أما التسويق الشبكي فإن المشترِك هو الذي يدفع الأجر لتسويق المنتج، كما أن السمسرة مقصودها تسويق السلعة حقيقة، بخلاف التسويق الشبكي فإن المقصود الحقيقي منه هو تسويق العمولات وليس المنتج، ولهذا فإن المشترك يسوِّق لمن يُسوِّق لمن يُسوِّق، وهكذا بخلاف السمسرة التي يُسوِّق فيها السمسار لمن يريد السلعة حقيقة.
وأما القول بأن العمولات من باب الهبة فليس بصحيح، ولو سُلِّمَ فليس كلُّ هبةٍ جائزةً شرعًا، فالهبة على القرض ربا، ولذلك قال عبد الله بن سلام لأبي بُردة: ((إنك في أرض، الربا فيها فاشٍ، فإذا كان لك على رجلٍ حقٌّ فأهدى إليك حِمْلَ تِبْنٍ أو حِمْلَ شعيرٍ أو حِمْلَ قَتٍّ فإنه ربا)) رواه البخاري في صحيحه.
والهبة تأخذ حكم السبب الذي وجدت لأجله، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام - في العامل الذي جاء يقول: هذا لكم وهذا أهدي إليَّ - فقال عليه الصلاة والسلام: ((أفلا جلستَ في بيت أبيك وأمك فتنظرَ أيهدى إليك أم لا؟)) متفق عليه.
وهذه العمولات إنما وجدت لأجل الاشتراك في التسويق الشبكي، فمهما أعطِيَتْ من الأسماء، سواءٌ هديةٌ أو هبةٌ أو غير ذلك، فلا يغيِّر ذلك من حقيقتها وحكمها شيئًا.
وبرنامج التسويق الشبكي أو الهرمي لا يمكن أن ينمو إلا في وجود من يخسر لمصلحة من يربح، سواءٌ توقف النمو أم لم يتوقف، فالخسائر للطبقات الأخيرة من الأعضاء لازمة، وبدونها لا يمكن تحقيق العمولات الخيالية للطبقات العليا، وهذا يعني أن الأكثرية تخسر لكي تربح الأقلية، وكسبُها بدون حق هو أكل للمال بالباطل الذي حرمه الله.
كما أنه لا يقوم إلا على تغرير الآخرين، وبيع الوهم لهم لمصلحة القلة؛ أصحاب الشركة، فمن يدخل لا غرض له في السلعة، وإنما كلٌّ يقامر على أنه سيربح من العمولات، فالداخل يُغرَى بالثراء كي يدفع ثمن الانضمام إلى البرنامج، وفي حقيقة الأمر أن احتمال خسارته أضعافَ أضعاف احتمال كسبه، وهذا هو الغرر المحرم الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
كما أن التسويق الشبكي لا يمكن أن يستمر بلا نهاية، بل لا بد أن يتوقف مهما كان الأمر، وإذا توقف كان غالبية المشاركين فيه من الخاسرين. وتصل نسبة الخاسرين إلى ٩٤% وفق الدراسات الاقتصادية حول الموضوع. وإذا كان الغالب هو الخسارة فالمعاملة تعد من الغرر المحرم شرعًا؛ لأن الغرر المحرم هو ما تردد بين أمرين أغلبهما أخوفهما، كما هو مقرر عند العلماء.
فليحذر المسلم من هذا النوع من التسويق وليحذر من الشركات المتعاملة به التي تسعى لأكل أموال الناس بالباطل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله..
*الخطبة الثانية*
أيها المسلمون، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ: ((إِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِى الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِى الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ. أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِي الْقَلْبُ)) متفق عليه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ رُوحَ القُدس نفَثَ في رُوعي أنَّ نفسًا لن تموتَ حتى تستكملَ أجلَها، وتستوعِبَ رزقَها، فاتقوا الله وأجمِلوا في الطلَب، ولا يحمِلَنَّ أحدَكم استبطاءُ الرزق أن يَطلُبَه بمعصية الله؛ فإن الله تعالى لا يُنالُ ما عنده إلا بطاعته)) رواه أبو نُعَيم في الحلية والبغوي في شرح السنة والبيهقي في الشعب وصححه الألباني.
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنكم ملاقوه، ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، ولا تتعدَّوا حدود الله..
ألا صلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين..
🔸| دورة تدريبية قصيرة بعنوان :

[ *فن الخطابة - الارتجال -* ]

جمع وإعداد : ابو نزار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

🔸 التعريف : لغة واصطلاحا.
الارتجال : عرَّفه أهل اللغة: ارتجل الكلام: تكلَّم به من غير استِعداد وتهيئة.

والارتجال : هو إلقاء الخطبة شفويًّا من الحِفظ والذاكرة، دون الاعتماد على الورقة؛ وهو من فنون علم الخطابة.

الارتجال في الخطابة سنَّة الخلفاء والصَّحابة رضي الله عنهم أجمعين.

🔸أخي الداعية :
خطبة الجمعة من شعائر الله التي يجِب تعظيمها والاعتناء بها؛ لأنَّها موطن من مواطن الاجتماع الأسبوعي ، ويعدُّ ذلك منهلًا عذبًا من مَناهل المعرفة، التي تغذِّي الروح، وتَسمو بالأخلاق، وتحارب الرذيلة.

وجمهورك أخي الخطيب فيهم المثقف والأكاديمي والمسئول وأصحاب الوجاهات والمؤهلات العالية والمراكز الاجتماعية... وكل هذه الفئات المجتمعية تحتاج إلى إحترام لعقولها بالتحضير الجيد ومن ثم الإلقاء المناسب.

فالرعيل الأول گ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين كانوا يقومون بالخطبة ارتجالًا.

ولا ينبغي للخطيب العدول عن الارتجال إلى القراءة من الورقَة إلَّا إذا كان لا يحسن الارتجال أو في بداية تدربه على الخطابة.

و نصيحتي الشخصية لكل اخواني الدعاة ومن خلال التجربة والممارسة، هي أن يجمع الخطيب بين القراءة والارتجال، حتى يصل لمرحلة الارتجال الكامل...

كيف ذلك؟؟
بعد تحضيرك للخطبة وكتابة كل شاردة وواردة فيها وقراءتها أكثر من مرة، قم بتلخيصها گ رؤس أقلام بورقة صغيرة يسهل الاطلاع عليها..

بعد ذلك قم بإلقاء الخطبة لأول مرة من خلال قراءتك لرؤس الأقلام وارتجالك، لأنك قد قرأت واطلعت على أكبر قدر من المعلومات، وفيما بعد ستجد انك قد اكتسبت ملكة في الارتجال بما يمكنك لأن تكون خطيبا مفوها قادراً على التأثير في المستمعين.

🔸مساوئ خطيب الورقة :
يرى د. محمود عمارة في كتابه "الخطابة في موكب الدعوة": أنَّه لا يؤثِّر إلا المتأثِّر، ولن تستحيل الأفكار دمًا يَجري في عروق الخطيب إلَّا إذا مارس الحياة؛ حلوها ومرها، وعاش التجربة التي يحكيها.

◂ وهو يحمل حملةً عنيفة على خطيب الورقة، ويرى أنَّ نبرته الرتيبة ووصفه الآلي لا يصِل إلى ما ينبغي أن يكون للأسباب التالية :

1 - أنَّ صوته يمضي بالمستمع على نبرة واحدة، تفرض عليه النوم أحيانًا.

2 - هو مشغول بالنظر إلى ما خطَّـه قلمه خشـية الزلل ..

3 - لا تَلتقي عينه بالمستمِع الذي يشعر أنَّ شخصًا آخر يخاطِبه غير هذا الخطيب الذي يراه ولذلك فلا رابطة بينهما جامعة.

4 - هو مرتبط بما كتبه، فإذا دعَت للاختصار ضرورةٌ لا يَستطيع ذلك، مما يمكن أن يزيد الهوَّة اتساعًا.

5 - وروود بعض الأحداث الطارئة التي تستلزم تغييرَ الموضوع، ولكنَّه لا يستطيع؛ مما يترتَّب عليه أن الناس في وادٍ، وإمامهم في وادٍ؛ فهم مشغولون بالحدَث الطارئ، وإمامهم يَصرخ في وادٍ، وينفخ في رماد .

6 - يشعر المستمِعون أنَّ الخطيب ينقل تجرِبةَ غيرِه، وإذًا فلا فضل له إلَّا مجرد النقل، ومن ثمَّ تقل الثِّقة، وينعدم الارتباط والحب.

7 - هيئة خطيب الورقة جامِدة لا تتحرَّك، وينعكس الجمود على الموقف كله سآمة وملالًا.

🔸ثمـــرات الارتجـــال :
1 - قدرة الخطيب المرتجل أن يغيِّر مجرى خطابه تبعًا لما عسى أن يَجِدَّ من أحوال المستمعين، فربَّما يهيئ له موقف معيَّن أن يتحدَّث عن موضوع معيَّن، فلا ينبغي أن يفوِّت الفرصة؛ لأنها ربما لا تعود.

2 - الارتجال يمد الخطيب بمدد من تداعي الأفكار التي ربَّما كانت أعظم منزلة وأعظم تأثيرًا مما هيَّأه في نفسه.

3 - للارتجال أثر كبير في تحريك انفعال الخطيب، ولا يخفى عليك أنَّ التأثير في المستمعين يشتدُّ بمقدار تأثر الخطيب وانفعاله.

4 - ثقة الناس فيك فأنت "رجل المواقف الصعبة" تستطيع أن تتحدَّث في أيِّ وقتٍ وعن أي موضوع، أما غيرك فينتظر حتى يذهب ويبحث ثمَّ يأتي للناس "ببيانٍ" مكتوب يقرؤه.

5 -قدرة المرتجل على صد هجمات وأسئلة الجمهور
6 - إن الارتجال سنَّة الفصحاء والبلغاء:

وختاماً قال الجاحظ :"وكل شيءٍ للعرب فهو بديهةٌ وارتجالٌ، وكأنه إلهامٌ، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالةُ فكرٍ ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام، وإلى الرَّجز يوم الخصام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
🔸| أخي الداعية كن صالحاً ومصلحاً ؟؟

الاكتفاء بالصلاح دون الإصلاح ترف ووهن؛ إذ أن الناس تحبُ الصالحين وتعادي المُصلحين ..

لقد أحبَ الحبيبَ المصطفى قبل البعثة قومُه لأنه صالح؛ ولكن لما بعثه الله تعالى صار مصلحًا عادوه وقالوا ساحر كذاب مجنون.

#السبب : لأن المصلح يصطدم بصخرة أهوائهم ورغباتهم حين يريد أن ينتشلهم من فساد نفوسهم.

قال أهل العلم: مصلحٌ واحدٌ أحب إلى الله من آلاف الصالحين لأن المصلح يحمي الله به أمة، والصالح يكتفي بحماية نفسه.

ولقد قال الله فى كتابه:(وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) ولم يقل: صالحون..!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضل العمل الصالح وثمراته في العاجلة والآجلة
فضل العمل الصالح وثمراته في العاجلة والآجلة
فضل العمل الصالح وثمراته في العاجلة والآجلة[1]
الخطبة الأولى

الحمد لله الذي هدانا للإسلام، فأتم علينا به الإنعام.

أحمده سبحانه هو الملك القدوس السلام.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من قال ربي الله ثم استقام.

وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله، أخلص عبد وأشرف مرسل وأكمل إمام، وصاحب الشفاعة العظمى للخلائق يوم القيام، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الأئمة الأعلام.

أما بعد:

فيا أيها الناس أوصيكم ونفسي بالتقوى والعمل له سبحانه على ما يحب ويرضى والحذر من موجبات سخطه وجوالب عقوبته، فإن تلكم أسباب الضلالة والشقاء، وعاقبتها الندامة والخسران في الأخرى، فاعملوا صالحاً تحمدوه وتشكروا ربكم وترضوه، وتغتبطوا بعاقبته حين توافوه، ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ [آل عمران: 30].

عباد الله: العمل الصالح الحسن هو الغاية والحكمة من خلق السماوات والأرض، وما جعل على الأرض من زينة، بل ومن الموت والحياة، قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [هود: 7]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 7]، وقال تبارك اسمه: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2].

عباد الله:

وإذا كان ذلكم شأن العمل الحسن الصالح فإن محققه المستقيم عليه هو العبد الصالح الفائز من الله تبارك وتعالى بالمتجر الرابح، وإن فاقده أو مسيئه هو العبد الطالح الشقي الخاسر دنيا وآخرة، لما ارتكبه من الكفر والموبقات المهلكات القبائح، فاعملوا صالحاً تجدوه، ﴿ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المزمل: 20].

أيها المسلمون:

العمل هو كل فعل يفعله الإنسان بقصده من نية القلب وإرادته وميله وحركته وقول اللسان وسكوته، وفعل الجوارح وتركها والحسن الصالح منه ما ابتغي به وجه الله ومرضاته من حيث القصد والنية، وكان على وفق الشرع في أصل المشروعية، وتحقق به التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في الأداء والكيفية، وما كان بضد ذلك فهو عمل طالح قبيح لكونه شركاً في القصد والنية، أو البدعة في الأصل والكيفية، قال تعالى في الحديث القدسي: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري فهو للذي أشرك وأنا عنه غني))، وفي رواية: ((تركته وشركه))، وفيما صح من الحديث النبوي أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((من أحدث في أمرنا هذا -وفي رواية- من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))، فالعمل الصالح ما ابتغي به وجه الله تعالى في النية وكان على وفق الشرع في الأصل والكيفية، وهو الحسن الذي يترتب عليه الثواب الحسن في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 112]، وقال سبحانه: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5].

أيها المسلمون:

إن للعمل الصالح المبني على الإيمان المحقق ثمرات طيبة، وعواقب حسنة، وأجوراً كبيرة في الدنيا والآخرة، فمن ذلك الاستخلاف في الأرض وتمكين الدين والأمن بعد الخوف في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ﴾ [النور: 55]. ومن ثمرات العمل الصالح الأمن والاهتداء بحسبه في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾ [يونس: 9].

معشر المسلمين:
ومن ثمرات العمل الصالح طيب الحياة، وتكفير السيئات، والثبات على الحق حتى الممات، ودخول الجنة، ورفعة الدرجات، قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]، وقال سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [العنكبوت: 7]، وقال جل ذكره: ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ﴾ [الأحقاف: 16]، وقال سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ ﴾ [العنكبوت: 9]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [لقمان: 8،9]، بل إن الله تبارك وتعالى يتفضل على أهل الإيمان والعمل الصالح إذا تابوا من سيئاتهم وندموا عليها أن يزيدهم بعد تكفيرها عنهم، فيجعل ندمهم عليها حسنات متجددة، فكلما ذكروا الذنب وأحدثوا ندماً عليه كتب لهم بذلك الندم حسنة، قال تعالى: ﴿ إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70]، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا هم العبد بسيئة فلم يعملها قال الله تعالى للملائكة: اكتبوها له حسنة، إنما تركها من جرّاي)) أي: من أجلي، وهكذا تعظم وتكثر حسنات المؤمن بإيمانه وعمله الصالح، ويصرف عنه شؤم سيئاته فضلاً من الله ونعمة، والله ذو الفضل العظيم، فما أسعد أهل الإيمان بالعمل الصالح دنيا وآخرة.

أيها المؤمنون:

ومن ثمرات العمل الصالح المبني على الإيمان بالله ورسوله أن الشهادة به لصاحبه من عاجل البشرى له في الدنيا، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا شهدتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان))، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يعمل من الخير فيحمده الناس عليه، قال: ((ذلك عاجل بشرى المؤمن)) رواه مسلم، وفيه أيضاً: ((أنتم شهداء الله في أرضه، من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة))، وأن صلاة أهل الإيمان عليه بعد موته شفاعة له تدخله الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: ((ما من جنازة مسلم يصلي عليها أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا أدخله الله بها الجنة)).

معشر المؤمنين:

ومن بركات العمل الصالح للمؤمن أنه كلما ازداد عملاً نال به عند الله تعالى درجة ورفعة، قال صلى الله عليه وسلم: ((إنك لن تعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة))، وأنه كلما أنفق نفقة يحتسبها حتى وإن كانت واجبة عليه فإنها تكون له صدقة، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أنفق الرجل على أهله نفقة وهو يحتسبها فهي له صدقة))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في في امرأتك))، وأنه إذا مرض أو شغل كتب له عمله كاملاً، لما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل مثل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم))، وفي الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا مرض المؤمن قالت الملائكة يا ربنا عبدك فلان قد حبسته فيقول الرب عز وجل: اختموا على مثل عمله حتى يبرأ أو يموت)) رواه الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح.

أمة الإسلام:

ومن ثمرات العمل الصالح كرم الجزاء عليه من الرب الكريم البر الرؤوف الرحيم، حيث يجزيهم أجرهم بمعيار أحسن عملهم لا أدناه ولا أوسطه، قال تعالى: ﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ﴾ [الأحقاف: 16]، وقال سبحانه: ﴿ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 121]، ثم يثيبهم عليه ثواباً مضاعفاً، قال تعالى: ﴿ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ﴾ [سبأ: 37]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً ﴾ [الكهف: 107،108]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 29،30].

أمة الإيمان:
ومن ثمرات العمل الصالح دخول الجنة والتمتع بما فيها من النعيم المقيم، ورضوان الرب العظيم، والنظر إلى وجهه الكريم، قال تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 25]، وقال سبحانه: ﴿ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾ [البينة: 8]، وقال سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [العنكبوت: 58]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً ﴾ [الكهف: 107،108].

وهكذا -عباد الله- يضاعف للمؤمن عمله الصالح، ويضاعف له ثوابه، وينمى له أجره، ويتنوع له الجزاء الكريم عليه فيكون الجزاء عليه كثيراً وكبيراً وكريماً وعظيماً، قال تعالى: ﴿ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9]، وقال سبحانه: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [النساء: 173]، وقال سبحانه: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 9]، وقال جل ذكره: ﴿ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الحج: 50]، وقال تبارك اسمه في تنوع الثواب وعظمه وحسنه: ﴿ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 17]، وقال: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58].

أخوتي في الله:

العمل الصالح أنواع فأفرضه وأحبه إلى الله تعالى وأعظمه شأناً عنده أن يؤدي العبد ما افترض الله تعالى عليه، ففي الحديث القدسي الصحيح يقول الله تعالى: ((وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه))، ولن تسلم للمؤمن فريضته حتى يجتنب ما نهاه الله عنه، وحرمه عليه، فالانتهاء عن المنهيات، والكف عن المحرمات هو ثاني أفضل وأعظم وأوجب العمل الصالح، قال تعالى: ﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا ﴾ [النساء: 31]، ولن يعصم المرء من المحرمات الموبقات حتى يتقي الشبهات، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، وكمال العمل الصالح وزينته التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض، قال تعالى في الحديث القدسي: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه))، فأصل العمل الصالح أداء فرائض الطاعات، وحفظه باجتناب المنهيات، وكماله باتقاء الشبهات وفعل المستحبات.

أحبتي في الله: عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: إن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني بعمل يدخلني الجنة، قال: ((تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم)) متفق عليه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أنبئني عن أمر إذا عملته دخلت الجنة، قال: ((أفش السلام، وأطعم الطعام، وصل الأرحام، وقم بالليل والناس نيام، ثم أدخل الجنة بسلام)) رواه الحاكم وصححه، وعن معاذ رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار، قال: ((لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت الحرام))، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعد خمساً وقال: ((اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمناً، وأحب للناس ما تحب لنفسك، تكن مسلماً، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب)) رواه الترمذي وهو حديث حسن، وعن ركب المصري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((طوبى لمن تواضع من غير منقصة، وذل في نفسه من غير مسألة، وأنفق مالاً جمعه في غير معصية، ورحم أهل الذل والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة، طوبى لمن طاب كسبه، وصلت سريرته، وكرمت علانيته، وعزل عن الناس شره، طوبى لمن عمل بعلمه، وأفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ﴾ [النساء: 66-70].

بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه، وأنزل له من الهدى والبيان، واستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله على هداه، والشكر له سبحانه على سابغ نعماه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده فلا معبود بحق سواه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ومصطفاه، الذي بعث بمهمات منها أن توصل الأرحام ويوحد الله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وسائر من اتبع هداه.

أما بعد:

عباد الله اتقوا الله حق تقواه، واجعلوا همتكم وسعيكم في رضاه، وتذكروا آجالكم وأنها قواطع أعمالكم، وحوائل دون آمالكم، فالسعيد من اغتنمها قبل أن يفضي إلى أخراه في كل ما يحبه الله ويرضاه. فإن كل عبد مرتهن بما قدمت يداه.

عباد الله: لقد سمى الله الموت مصيبة لأنه به ينقطع العمل ويحال بين المؤمل والأمل، ولذا يحصل عنده تمني المحال، من المهلة لصالح الأعمال، ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99،100]، فما من أحد يحضره الموت إلا تمنى الرجعة، فإما محسناً فيزداد، وإما مسيئاً فيستعب، ولذلكم حظ ربكم تبارك وتعالى على اغتنام المهل بصالح العمل، وأخبركم أنه إذا حضر الأجل حيل بين المحتضر وبين صالح العمل، فقال سبحانه: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 10،11].

فاتعظوا - معاشر المؤمنين - بمن سمعتم وشاهدتم من الراحلين المحسنين والمسيئين، كيف فُجئوا بآجالهم، وقطعت أعمالهم، وحيل بينهم وبين آمالهم من أمور الدنيا والآخرة، فصاروا أثراً بعد عين، وحديثاً للمتحدثين، فهاهم تحت الجنادل محبوسون، ولأنموذج من ثوابهم يتذوقون، وليوم القيامة ينتظرون، فاعتبروا بغيركم قبل أن يعتبر بكم، وكونوا أسوة في صالح العمل لمن بعدكم، ولا تغفلوا فإنه ليس بمغفول عنكم، ألا وإن السعيد من يعمر في الإسلام على صالح عمل، وإن الشقي من رتع في دنياه رتوع البهائم وغفل، وإن المؤمن لن يزيده عمره إلا خيراً، فخيركم من طال عمره وحسن عمله، وشركم من طال عمره وساء عمله، فأتباع نوح وسلفه كثيرون، وأتباع إبليس وجنده أكثر العالمين، فللجنة واحد وللنار المئات، ﴿ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 5،6].

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

[1] خطبة الشيخ عبد الله بن صالح القصير -حفظه الله- بجامع الأمير فيصل بن محمد بن تركي آل سعود.
الابتلاء بالموت وفقد الأحبة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد جعل الله تعالى هذه الدنيا دار فناء وزوال، لا تصفو لأحد، ولا تدوم على حال، ولا تبقى لأحد، إن أضحكت أبكت، وإن سرّت أحزنت، وإن أراحت أتعبت، زينتها سراب، وعمرانها إلى خراب، كل حي فيها يموت، وكل مخلوق فيها يفنى؛ قال سبحانه: ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 26، 27].

كل ناعٍ فسيُنعى

كل باكٍ فسيُبكى

ليس غير الله يبقى

مَن علا فالله أعلى

إنها الحقيقة التي لا ينجو منها مخلوق ولا ينكرها أحد، الكل سيذوق كأس الموت، الجميع سيموت، الكل سيرحل يومًا ما ويفارق هذه الدنيا؛ الصغير والكبير، الغني والفقير، ولو دامت لغيرنا لما وصلت إلينا، أليس قد مات أشرف الخلق، مات الأنبياء والمرسلون، والأولياء والصالحون؟

ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها *** لكان رسول الله حيًّا وباقيًا

قال سبحانه: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ﴾ [الأنبياء: 34].

لا يستطيع أحد أن يفر من الموت؛ فقد قهر الجبابرة، وأدرك أصحاب البروج المشيدة؛ قال سبحانه: ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ﴾ [النساء: 78]، وكل من حان أجله وانقضى عمره، فلن يتأخر ساعة ولو اجتمع له أطباء العالم كله؛ قال سبحانه: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [الأعراف: 34].

أيها الأحبة في الله، هذه الدنيا دار ابتلاء وامتحان، يمتحن فيها الإنسان بالمصائب والأقدار المؤلمة، ومن أعظم المصائب التي يُصاب بها الإنسان مصيبة الموت وفقد الأحبة، ويشترك في هذه المصيبة المسلم والكافر، والبر والفاجر، ولكن شتان بين المؤمن والكافر، وفرق بين الصابر والساخط؛ فعن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له))؛ رواه مسلم في صحيحه (2999).

هنيئًا لمن صبر، فله بشارات من الله؛ قال سبحانه: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157].

قال عبدالله بن مطرف رحمه الله عندما مات ولده: "والله لو أن الدنيا وما فيها لي، فأخذها الله عز وجل مني، ثم وعدني عليها شربة من ماء، لرأيتها لتلك الشربة أهلًا، فكيف بالصلاة والرحمة والهدى؟".

فيا من ابتُلي بفقد حبيب أو قريب، اصبر واحتسب الأجر من الله وارضَ بقضاء الله، واعلم أننا كلنا لله وأننا إليه راجعون، وعن هذه الدنيا راحلون، وردد: ﴿ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾، وأبشر بالخير، فسيعوضك الله خيرًا مما فقدت؛ فقد ثبت عن أم المؤمنين أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: ﴿ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾، اللهم أجرني في مصيبتي، وأَخْلِفْ لي خيرًا منها، إلا أَجَرَه الله في مصيبته، وأَخْلَفَ له خيرًا منها، قالت: فلما تُوفي أبو سلمة، قلتُ كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخلف الله لي خيرًا منه، رسول الله صلى الله عليه وسلم))؛ رواه مسلم (918)، والمعنى: أن الله أكرمها بأن تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأبشر أيها المبتلى إن صبرت واحتسبت الأجر؛ فأجر الصابرين بلا حساب؛ ألم يقل ربنا سبحانه: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].

يا من ابتليت فصبرت، اعلم أن البلاء والحزن والألم الذي أصابك تكفيرٌ للسيئات، ورفعة للدرجات في الجنات؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا همٍّ ولا حزن، ولا أذًى ولا غمٍّ، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه))؛ رواه البخاري في صحيحه (5641)، وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصبي لها فقالت: يا نبي الله، ادعُ الله له؛ فلقد دفنت ثلاثة قبله، فقال صلى الله عليه وسلم: دفنتِ ثلاثة؟ - مستعظمًا أمرها - قالت: نعم، قال: لقد احتظرتِ بحِظارٍ شديد من النار))؛ أي: لقد احتميتِ بحمًى عظيم من النار.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيَّه من أهل الدنيا، ثم احتسبه، إلا الجنة))؛ صحيح الجامع.
أيها المبتلى، يا من فقد حبيبًا له، اعلم أنك لست وحدك من ابتُليتَ بهذه المصيبة، فغيرك قد ابتلي بأعظم من مصيبتك، من الناس من فقد ابنًا أو أكثر، ومن الناس من فقد حبيبه وأنيسه، ومن الناس من حلت عليه مصائب كثيرة وهموم متتالية، وما من أحد إلا وقد أصيب بمصائب، والفراق في الدنيا لا بد منه؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:

((جاءني جبريل فقال: يا محمد، عِشْ ما شئت فإنك ميت، وأحبب مَن شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه...))؛ صححه الألباني في صحيح الجامع.

فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم، ابتُلي بموت جميع أبنائه وبناته في حياته ما عدا فاطمة رضي الله عنها، تخيل يا عبد الله، ستة من الأبناء والبنات، منهم الصغير ومنهم الكبير، فما أشد هذا البلاء! عاش يتيمًا وكفله جده، ومات جده الذي كان له بمثابة الأب، وماتت في حياته زوجته خديجة التي كان يحبها كثيرًا، وكانت التي تشد أزره في زمن عصيب.

ثمانية لا بدَّ منها على الفتى

ولا بدَّ أن تجري عليه الثمانية

سرورٌ وهمٌّ واجتماع وفرقة

وعُسر ويُسر ثم سقم وعافية

ولا تنسَ يا عبد الله أن هذا الفراق ليس فراقًا إلى الأبد، بل هو فراق مؤقت بإذن الله؛ فالمؤمن يلقى أهله وذريته وأحبابه من المؤمنين في الجنة، فأبشر؛ فسيجمعك الله بمن فقدت في اجتماع أبدي لا فراق بعده؛قال سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الطور: 21]، وقال سبحانه: ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ﴾ [الرعد: 23].

رزقنا الله وإياكم الصبر والرضا والتسليم لقضاء الله وقدره، وجمعنا وإياكم وجميع أحبابنا في دار كرامته.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
أنظروا هذين حتى يصطلحا - ملتقى الخطباء
عناصر الخطبة
1/ دعوة للبعد عن الشحناء بين المسلمين 2/ مساوئ الخصام والتهاجر بين المسلمين 3/ فضل العفو والصفح 4/ عظم أجر الإصلاح بين المتخاصمين
اقتباس
أقاربُ يجمعُهم الدَّمُ واللَّحمُ.. تربَّوا في بيتٍ واحدٍ، وناموا في سريرٍ واحدٍ. كمْ ليلةٍ في الضَّحكِ سَهروها؟! وكم من خِدعةٍ لصديقٍ مكروها؟ ! حياتُهم مليئةٌ بالمرحِ والألعابِ، وكانَ الخِصامُ ينتهي بكلمةِ عتابٍ.. ولكن عندما كَبَروا نفخَ الشَّيطانُ في القلوبِ الحبيبةِ، وجعلَ سوءَ الظَّنِّ يسودُ بينَ القَريبِ وقريبِه.. وفي نهايةٍ مُتوقَّعةٍ انتهتْ العلاقةُ ونُسيتْ القَرابةُ، ومنذ ذلك الحينِ والعدوُ سعيدٌ والحبيبُ حزينٌ

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ الذي خلقَ الإنسانَ في أحسنِ تَقويمٍ، وفَضَّله على كثيرٍ ممن خَلَقَ تفضيلا، الحمدُ للهِ الذي خلقنا من ذكرٍ وأُنثى، وجعلنا شعوباً وقبائلَ لنتعارفَ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأَشهدُ أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، بعثَه اللهُ للعالمينَ بشيرًا ونذيرًا، صلِّ اللَّهُمَّ عليه وعلى آلِه وصحبِه وسَلِّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات:12].

أصدقاءُ طفولةٍ.. لَعِبوا كثيراً واستمتعوا كثيراً. نشأوا جميعاً.. أوقاتُهم جميعاً.. في حيٍّ واحدٍ وفي مدرسةٍ واحدةٍ بل وفي جامعةٍ واحدةٍ. لهم كثيرٌ من الحِكاياتِ، وبينهم أسرارٌ وذِكرياتٌ؛ وفي موقفٍ حضرَ فيه الشَّيطانُ، وضَعُفَ فيه وازعُ الإيمانِ اختلفوا وتشاحنوا وتخاصموا، فتلاشتْ رابطةُ الحبُّ والوِئامِ، وبدأتْ رِحلةُ الصُّدودِ والخِصامِ، ومُنذُ شُهورٍ لا يُكلِّمُ بعضُهم بعضاً، ولا يسَلِّمُ أحدُهم على الآخرِ.

اثنانِ في عملٍ واحدٍ.. بدأوا الحياةَ العمليَّةَ في سنةٍ واحدةٍ.. أعوامٌ وهم في تعليمٍ وعملٍ وتعاونٍ.. يجلسونَ جميعاً ويأكلونَ جميعاً ويتحدثونَ كثيراً، بل إن أحدَهم ليجلسُ مع صاحبِه في العملِ أكثرُ مما يجلسُ مع أهلِه في البيتِ، وفي وجهةِ نظرٍ مُختلفةٍ.. نزغَ الشَّيطانُ بينهما فتهاجرا وتشاجرا، وطارتْ العِشرةُ في مهبِّ الرِّيحِ، وأُغلقتْ القلوبُ بالمفاتيحِ، وهم على ذلكَ شهورٌ حتى كأنَّ الصاحبَ لا يعرفُ صاحبَه.

أقاربُ يجمعُهم الدَّمُ واللَّحمُ.. تربَّوا في بيتٍ واحدٍ، وناموا في سريرٍ واحدٍ. كمْ ليلةٍ في الضَّحكِ سَهروها؟! وكم من خِدعةٍ لصديقٍ مكروها؟! حياتُهم مليئةٌ بالمرحِ والألعابِ، وكانَ الخِصامُ ينتهي بكلمةِ عتابٍ.. ولكن عندما كَبَروا نفخَ الشَّيطانُ في القلوبِ الحبيبةِ، وجعلَ سوءَ الظَّنِّ يسودُ بينَ القَريبِ وقريبِه.. وفي نهايةٍ مُتوقَّعةٍ انتهتْ العلاقةُ ونُسيتْ القَرابةُ، ومنذ ذلك الحينِ والعدوُ سعيدٌ والحبيبُ حزينٌ.

وهكذا أحداثٌ متكرِّرةٌ كثيرةٌ، ووقائعُ محزنةٌ مُثيرةٌ.

فيا أيَّها المؤمنونَ الذينَ هم لمغفرةِ ربِّهم راجون: اسمعوا معي لهذا الحديثِ الخطيرِ وتأملوا ما فيه من الخُذلانِ الكبيرِ.. وماذا قالَ فيه اللَّطِيفُ الخَبِيرُ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ الله عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا".

لا إله إلا اللهُ.. كم في هذا الأسبوعِ من عباداتٍ؟! كم فيه من صلواتٍ؟! كم فيه من صدقاتٍ؟! كم فيه من أذكارٍ؟! كم فيه من توبةٍ واستغفارٍ؟! كم فيه من صيامٍ وبرٍّ للوالدينِ وصلةِ أرحامٍ؟! ومع ذلكَ لا يُغفرُ لهذا العبدِ.. بل ولا يُنظرُ في عملِه؛ فأيُّ خسارةٍ هذه، وأيُّ مُصيبةٍ تلك.

يا أهلَ الإيمانِ: اسمعوا داعيَ اللهِ -تعالى- إلى من اختلفوا قبلَكم.. وقد جاءَهم رَسولٌ وكِتابٌ؛ فقالَ -سبحانَه-: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران: 105].

ففِروا من عذابِ اللهِ الغفورِ الرَّحيمِ بالاجتماعِ والمحبةِ على الصِراطِ المُستقيمِ، واستعيذوا باللهِ -تعالى- من الشَّيطانِ الرَّجيمِ.

أتعلمونَ ما هي أولُ خُطوةٍ للشَّيطانِ بعدَ أن يعجزَ عن دعوةِ المُسلمينَ إلى الشِّركِ؟.. يَقُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبَدُه الْمَصْلُونُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ".
سُبحانَ اللهِ.. وهل الخِلافُ والشَّحناءُ التي تكونُ بينَ المسلمينَ مُهمَّةٌ إلى هذه الدَّرجةِ؟! نعم.. أتعلمونَ لماذا؟ لأن فسادَ ذاتِ البينِ والبغضاءَ بينَ المسلمينَ هي الحالقةُ. قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ".

من مِنكم يُريدُ أن يأتيَ يومَ القيامةِ وهو قد قتلَ مؤمناً بغيرِ حقٍّ، وهو يعلمُ أن الْمُؤْمِنَ لا يَزَالُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا.. اسمعوا معي لهذا الحديثِ: قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ".

هل تسمعُ يا من هجرَ أخاهُ سنينَ؟ هل ترضى أن تُحشرَ مع سافكي دماءِ المُسلمينَ؟.

عبادَ اللهِ: ألم يقلْ اللهُ -تعالى- في كتابِه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)؟! فكيفَ تُخالفُ هذه الآيةَ وتجعلُ المؤمنَ عدوَّاً؟! إلى متى الخِصامُ والهجرُ؟! ألم يأتِك ما جاءَ في ذلكَ من الزَّجرِ؟! عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ الله عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ، فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ".

فالأمرُ خطيرٌ ولا يحتملُ التَّأخيرَ؛ فكن خيرَ الرَّجلينِ عندَ اللهِ -تعالى-؛ فعَنْ أبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ -رَضِيَ الله عَنْهُ-: أَنْ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "لَا يحلُّ لمسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَياَلٍ يَلْتْقَيِاَنِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بالسَّلَامِ".. فالتمس لأخيكَ عُذراً.. فإن لم تجدْ فقلْ لعلَّ له عذراً لا أعرفُه.

إذا شِئتَ أن تُدعى كَريمًا مكرَّمًا *** أديبًا ظَريفًا عاقلًا ماجِدًا حُرَّا

إذا ما أتتْ من صاحبٍ لك زَلَّةٌ *** فكن أنتَ محتالًا لِزلّته عُذرا

جرى بينَ الحسينِ بنِ عليٍّ وأخيه محمدٍ بنِ الحنفيَّةِ -رضيَ اللهُ عنهم- أجمعينَ كلامٌ فانصرفا مُتَغاضبيْن، فلما وصلَ محمدٌ -وهو الأصغرُ- إلى منزلِه أخذَ رُقعةً وكتبَ فيها: "بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ.. من محمدٍ بنِ عليٍّ بنِ أبي طالبٍ إلى أخيه الحسينِ بنِ عليٍّ بن أبي طالبٍ، أما بعدُ: فإنَّ لك شرفًا لا أبلغُه، وفضلاً لا أدركُه، فإذا قرأتَ رِقعتي هذه فالبسْ رداءَك ونعليكَ، وسِرْ إليَّ فترضَّاني، وإياكَ أن أكونَ سابقَك إلى الفضلِ الذي أنتَ أولى به مني والسَّلامُ".

فلما قرأَ الحسينُ -رضيَ اللهُ عنه- الرِّقعةَ لَبسَ رداءَه ونعليه، ثم جاءَ إلى أخيه فترضَّاه.

هكذا عندما تكونُ الهِممُ جبالاً، وهكذا عندما ينتصرُ الإنسانُ على نفسِه الأمارةِ بالسُّوءِ.

أيُّها الأحبَّةُ: الصُّلحَ الصُّلحَ والعُذرَ العذرَ، وكونوا عبادَ اللهِ إخواناً، وكن سابقاً مُعتذراً أو كن للعُذرِ قابلاً.

قَالَ يُونُسُ الصَّدَفِيُّ: "مَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ مِنَ الشَّافِعِيِّ، نَاظَرْتُهُ يَوْمًا فِي مَسْأَلَةٍ، ثُمَّ افْتَرَقْنَا، وَلَقِيَنِي، فَأَخَذَ بِيَدِي، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا مُوسَى، أَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ نَكُونَ إِخْوَانًا وَإِنْ لَمْ نَتَّفِقْ فِي مَسْأَلَةٍ". قالَ الذَّهبيُ -رحمَه اللهُ تعالى- بعدَ ذِكرِ هذه القِصَّةِ: "هَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ عَقْلِ هَذَا الْإِمَامِ، وَفِقْهِ نَفْسِهِ؛ فَمَا زَالَ النُّظَرَاءُ يَخْتَلِفُونَ".

إِذَا اعْتَذَرَ الْجَانِي مَحَا الْعُذْرُ ذَنْبَهُ *** وَكَانَ الَّذِي لا يَقْبَلُ الْعُذْرَ جَانِيَا

وإيَّاكَ أن يُرفعَ عملُكَ إلى اللهُ -تعالى-، ثُمَّ لا يُعرضُ لشحناءٍ بينَك وبينَ أحدٍ من المسلمينَ؛ فيا خسارةَ من سعيا واجتهدا وعمِلا صالحاً.. ثُمَّ قالَ اللهُ -تعالى- فيهما: "أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا".

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيْمِ، وَنَفَعَنِي وَاِيِّاكُمْ بِمَا فِيْهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيْمِ، أقُوْلُ قَوْلِي هَذا، وَأسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيْمَ لَيْ وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على سيِّدِ البَشرِ، الذي انشقَّ له القمرُ، وسلَّمَ عليه الحجرُ، ما طلعتْ الشَّمسُ على أشرقَ منه وجهًا ولا أنورَ، فاللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ عليه وعلى آلِه وصحبِه والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ المحشرِ..

أما بعدُ:

أيُّها المؤمنُ: اسمع إلى قولِ خالقِنا ورازقِنا -سبحانَه- في كثيرٍ من أحاديثِ مجالسِنا: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 114].
فما أعظمَ الحديثِ في الإصلاحِ بينَ الإخوانِ.. قالَ الشَّيخُ السِّعديُّ -رحمَه اللهُ- في تفسيرِه: "والسَّاعي في الإصلاحِ بينَ النَّاسِ أفضلُ من القَانتِ بالصَّلاةِ والصِّيامِ والصَّدقةِ، والمصلحُ لا بدَّ أن يصلحَ اللهُ سعيَه وعملَه، كما أنَّ السَّاعي في الإفسادِ لا يصلحُ اللهُ عملَه ولا يُتِمُّ له مقصودَه كما قالَ -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس: 81]".

وصدقَ -رحمَه اللهُ تعالى-؛ فقد قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟"، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ".. لذلك أُجيزَ الكَذبُ في الإصلاحِ بينَ المُتَخاصمينِ؛ لما فيه من المصلحةِ الكُبرى للأفرادِ والمُجتمعاتِ. عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا، وَالْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ، وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ".

فماذا تنتظرُ يا من يرجو فضلَ ربِّه، ويرحمُ إخوانَه، ويحبُّ مُجتمعَه، ففي إصلاحِك بينَ النَّاسِ خيرٌ عظيمٌ في الدُّنيا والآخرةِ، كلامُكَ فيه أعذبُ وأعظمُ الكلامِ، ومشيُّكَ له خيرُ ما مشتْ إليه الأقدامُ، وصاحبُه من البَررةِ الكِرامِ.

إنَّ المكارمَ كُلَّها لو حُصِّلتْ *** رَجَعْتُ بجُمْلَتِهَا إلى شَيئينِ

تعظيمُ أمرِ اللهِ جلَّ جلالُه *** والسَّعيُ في إصلاحِ ذاتِ البَيْنِ

اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَجَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُلُوبِنَا وَأَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا، وَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ شَاكِرِينَ لِنِعْمِكَ مُثْنِينَ بِهَا عَلَيْكَ قَابِلِينَ لَهَا، وَأَتِمِمْهَا عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

المرفقات
هذين حتى يصطلحا
خطبة عن التقوى والمتقين
الحمد لله الذي أكمَل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، وجعل أُمتنا وله الحمد خيرَ أمة، وبعث فينا رسولًا منا يتلو علينا آياته، ويزكينا ويُعلمنا الكتاب والحكمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تكون لمن اعتصم بها خير عصمة، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله للعالمين رحمةً، وخصَّه بجوامع الكلم، فرُبما جمع أشتات الحِكَم والعلم في كلمة أو شطر كلمة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً تكون لنا نورًا من كل ظُلمة، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أيها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى القائل: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281]، اتقوا يومًا الوقوف فيه طويل والحساب فيه ثقيل، أما بعد:

عباد الله، مع التقوى سيكون حديثنا، مع صفات المتقين سنعيش في هذه الدقائق بإذن الله تعالى.

والتقوى: أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه وقاية، وتقوى العبد لربه: أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من غضبه وسخطه وقاية تَقيه من ذلك بفعل طاعته واجتناب معاصيه. وتقوى الله أن يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا ينسى، وأن يُشكر فلا يُكفر. وهي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.

فاحرِص يا أخي الكريم على تقوى الله تعالى لتعيش سعيدًا في الدنيا وفي الآخرة.

نتكلم عن التقوى؛ لأن التقوى هي التي تصحبنا إلى قبورنا، فهي المؤنس لنا من الوحشة والمنجية لنا من عذاب الله العظيم.

التقوى هي خير ضمانة نحفظ بها أولادنا ومستقبل أبنائنا من بعدنا، قال تعالى: ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ [النساء: 9].

وتأملوا عباد الله: كيف أن الله سبحانه سخَّر نبيًّا هو موسى عليه السلام، ونبيًّا آخر هو الخضر عليه السلام، لإقامة جدار في قرية بخيلة، فاعترض موسى عليه السلام: ﴿ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾ [الكهف: 77]. ثم يُخبر الخضر عليه السلام سبب فِعله بالغيب الذي أطلعه الله عليه في هذا الأمر، فيقول: ﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 82]، فحُفظا بصلاح أبيهما، وكان الأب السابع، والله أعلم.

والتقوى وصية الله للأولين والآخرين؛ قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النساء: 132].

قال القرطبي رحمه الله: «الأمر بالتقوى كان عامًّا لجميع الأمم»، وقال بعض أهل العلم: «هذه الآية هي رحى آي القرآن كله؛ لأن جميعه يدور عليها، فما من خير عاجل ولا آجل، ظاهر ولا باطن إلا وتقوى الله سبيل موصل إليه ووسيلة مبلغة له، وما من شرٍ عاجل ولا ظاهر ولا آجل ولا باطن إلا وتقوى الله تعالى حرزٌ متين وحصنٌ حصين للسلامة منه والنجاة من ضرره».

فالتقوى أصلح للعبد وأجمع للخير، وأعظم للأجر، وهي الجامعة لخيري الدنيا والآخرة، الكافية لجميع المهمات.

التقوى وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، فعن العرباض بن سارية رضي الله عنه: قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فقال صلى الله عليه وسلم: «أُوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن كان عبدًا حبشيًّا»؛ [سنن الدارمي وغيره].

وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها».

والتقوى هي وصية الرسل الكرام لأقوامهم، قال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [الشعراء: 124]، وقال: ﴿ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [الشعراء: 142].

وقال رجل لرجل أوصني، قال: «أُوصيك بتقوى الله، والإحسان، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، فيكفي المتقين شرفًا أن الله معهم برعايته وحفظه».

ومن وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: «اتَّق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تَمْحُها، وخالق الناس بخُلقٍ حسن»؛ [رواه الترمذي وقال حسن صحيح].

ماذا نفهم من وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه بالتقوى؟

نفهم أن المرء محتاج للتقوى ولو كان أعلم العلماء، وأتقى الأتقياء، يحتاج إلى التقوى؛ لأن الإنسان تمر به حالات يضعف فيها إيمانه وينقص، يحتاج إلى التقوى للثبات عليها، يحتاج إلى التقوى للازدياد منها.
اتَّق الله حيثما كنت، في السر والعلانية، في الشدة والرخاء، في الخلوة والجلوة.

والتقوى هي أجمل لباس يتزيَّن به العبد؛ قال تعالى: ﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ﴾ [الأعراف: 26].

إذا المرء لم يلبس ثيابًا من التُقى*** تقلَّب عُريانًا وإن كان كاسيَا

والتقوى هي أفضل زاد يتزود به العبد؛ قال تعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197].

وبها الطريق إلى الجنة فقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ قال: «تقوى الله وحُسن الخلق»؛ [رواه أحمد].

والنبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل الله التقوى في دعائه، فيقول: «اللهم إني أسألك الهدى والتُقى والعفاف والغنى»؛ [رواه مسلم].

وفي دعاء السفر كان يقول صلى الله عليه وسلم: «اللهم إنَّا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى». فالتقوى في السفر بالذات لها طعم خاص، فالمسافر يغيِّر مكانه وحاله، وقد يكون في بلاد الغربة لا يخشى مما يخشى منه في بلده وموطنه، ولا يَخشى فضيحة لو عُرف، لكن في بلده يخاف الفضيحة، لذلك كانت ملازمة التقوى في السفر مهمة جدًّا.

إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقُل

خلوت ولكن قُل عليَّ رقيبُ

ولا تَحسبنَّ الله يغفلُ ساعةً

ولا أن ما يخفى عليه يغيب

عباد الله، إن تقوى الله إذا استقرَّت في القلوب، وارتسمت بها الأقوال والأعمال والأحوال، أثمرت من الفضائل والفوائد والثمار ما تصلح به الدنيا والآخرة، وما يشحذ هممَ أولي الأبصار إلى صراط العزيز الغفار.

أيها المؤمنون، إن من فوائد التقوى وثمارها أنها سببٌ لتيسير العسير؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 4].

وتقوى الله سببٌ لتفريج الكروب وإيجاد المخارج والحلول عند نزول الخطوب، وهي سبب لفتح سبُل الرزق؛ قال تعالى: ﴿ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 3].

تقوى الله سبب لنجاة العبد من الهلاك والعذاب والسوء؛ قال تعالى: ﴿ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الزمر: 61].

وهي سببٌ لتكفير السيئات ورفع الدرجات والفوز بالغرف والجنات؛ قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴾ [الطلاق: 5].

فاتقوا الله عباد الله، فإن تقوى الله هي أكرم ما أسررتم، وأعظم ما ادَّخرتم، وأزين ما أظهرتم، وقال تعالى: ﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 15].

إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التُّقى

ولاقيت يوم الحشر من قد تزوَّدا

ندمت على أن لا تكون كمثله

وأنك لم تُرصد كما كان أرصدا

وكل من أراد العز في الدين والدنيا، والبركة في الرزق والوقت والعمل؛ فعليه بتقوى الله، فإنها من أعظم ما استُنزلت به الخيرات، واستُدفعت المكروهات؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96].

إن تقوى الله أعظم جُنة يحتمي بها العبد يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الزمر: 61].

اللهم اجعَل لنا وللمسلمين من كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل همٍ فرجًا، اللهم فرِّج همَّ المهمومين، واقضِ الدين عن المدينين، واغفر لنا ولآبائنا ولأمهاتنا وللمسلمين.

بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم،

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخُطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا، أما بعد:

فعباد الله، اعلموا أن التقوى سببٌ في توفيق العبد في الفصل بين الحق والباطل، ومعرفة كل منهما؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الأنفال: 29].
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحديد: 28].

التقوى سببٌ لعدم الخوف من ضرر وكيد الكافرين؛ قال تعالى: ﴿ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ [آل عمران: 120].

التقوى سبب لتعظيم شعائر الله؛ قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32].

التقوى سببٌ لنيْل رحمة الله، وهذه الرحمة تكون في الدنيا كما تكون في الآخرة؛ قال تعالى: ﴿ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 156].

التقوى سببٌ للإكرام عند الله تعالى؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13].

فأكرم الناس وأفضل الناس، وخير الناس عند الله أتقاهم: التقي النقي.

التقوى سبب للفوز والفلاح؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [النور: 52].

إنها سببٌ للنجاة يوم القيامة من عذاب الله؛ قال تعالى: ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 72]، وقال تعالى: ﴿ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ﴾ [الليل: 17].

إنها سببٌ لقَبول الأعمال؛ قال تعالى: ﴿ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27].

التقوى طريق لميراث الجنة؛ قال تعالى: ﴿ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا ﴾ [مريم: 63].

إنها سببٌ في دخولهم الجنة؛ وذلك لأن الجنة أُعدَّت لهم؛ قال تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].

إن التقوى سببٌ لعدم الخوف والحزن وعدم المساس بالسوء يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [يونس: 62].

إنهم يُحشرون يوم القيامة وفدًا إليه، والوفد هم القادمون رُكبانًا، وهو خير موفود؛ قال تعالى: ﴿ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا ﴾ [مريم: 85].

إن الجنة تُقرَّب لهم؛ قال تعالى: ﴿ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ ﴾ [ق: 31].

قال ابن المعتمر:

لا تحقرنّ صغيرةً

إن الجبال من الحصى


عبد الله كيف تكون تقيًّا؟

أولًا: أن تحب الله أكثر من أي شيء.

ثانيًا: أن تستشعر مراقبة الله دائمًا.

ثالثًا: البعد عن المعاصي والأوزار.

تفنى اللذاذة ممن نال لذتها

من الحرام ويبقى الإثم والعار

تبقى عواقب سوء من مغبَّتها

لا خير في لذة من بعدها النار


رابعًا: أن تتعلم كيف تقاوم هواك وتتغلب عليه.

خامسًا: أن تُدرك مكائد الشيطان ووساوسه.

أسال الله العلي القدير أن يجعلنا من عباده المتقين.

هذا وصلوا - رحمكم الله - على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك، فقال في كتابه الكريم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
الإيمان باليوم الآخر - ملتقى الخطباء
عناصر الخطبة
1/للإيمان باليوم الآخر شأن عظيم 2/بعض مشاهد ومواقف يوم القيامة 3/الحقوق مصونة في يوم القيامة 4/إكرام الله للمؤمنين المتقين في اليوم الآخر 5/من مات على شيء بعث عليه 6/جزاء المكذبين المعاندين
اقتباس
ويقدُم الناس على الله -تعالى- في أرض المحشر على الحال التي فارقوا عليها الدنيا، فمن مات على شيء بعثه الله عليه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فمن الناس من يُبعَث ملبِيًّا؛ لأنه مات مُحرِمًا، ويأتي الشهيد وجُرْحُه يثعب دمًا، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، وكل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة...

الخطبة الأولى:

الحمد لله، الحمد لله جامع الناس ليوم لا ريب فيه، (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[الْبَقَرَةِ: 20]، (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)[لُقْمَانَ: 28]، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك، وهو اللطيف الخبير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد معاشر المؤمنين: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71].

أمة الإسلام: إن الإيمان باليوم الآخِر، من أعظم القضايا التي جاءت بها الرسل، ونزلت بشأنها الكتب، فما من نبي إلا ذكَّر أمته به، فهو أحد أركان الإيمان الستة، ففي حديث جبريل -عليه السلام- قال: "فأَخْبِرْني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"(رواه مسلم).

ولعِظَم هذا اليوم أكثَر سبحانه من ذِكْره في القرآن العظيم، وبيَّن أحوالَه وأهوالَه، وحذَّر من نسيانه والغفلة عنه، وأمَر عبادَه بالاستعداد له، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)[الْحَجِّ: 1-2]، وسمَّاه في القرآن بأسماء كثيرة؛ فهو يوم الحاقة، والقارعة، والقيامة، وهو يوم الدين، ويوم الفصل، ويوم التغابن، وهو يوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين، ويلتقي فيه أهل السماوات والأرضين، (ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)[هُودٍ: 103-105].

أيها المؤمنون بالله ورسوله: إذا جاء يوم القيامة أمر الله -تعالى- إسرافيل -عليه السلام- بأن ينفخ في الصور فتمور السماء مورا، وتسير الجبال سيرا، ويصعق كل من في السماوات والأرض، ولا يبقى إلا الله -جل جلاله-، الواحد الأحد، الملك الصمد، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)[الرَّحْمَنِ: 26-27]، ثم يأمر سبحانه وتعالى بأن تُمطِر السماء، فيَنبُت الناسُ في قبورهم كما ينبت البقل، وينفخ إسرافيل -عليه السلام- في الصور، نفخة البعث والنشور، فتعاد الأرواح إلى أجسادها، وتتشقَّق القبور عن أهلها، (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)[الزُّمَرِ: 68]، فيخرج الناس من قبورهم كأنهم جراد منتشر، يُساقون إلى أرض المحشر؛ أرض بيضاء عفراء؛ أي: تميل إلى الحمرة، (لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا)[طه: 107]، وليس فيها معلَم لأحد، يُحشَر الناس فيها حفاة عراة غرلا، قالت عائشة -رضي الله عنها-: قلتُ: يا رسول الله، النساء والرجال جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال صلى الله عليه وسلم: "يا عائشةُ، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض"(رواه البخاري، ومسلم).

معاشر المؤمنين: في أرض المحشر يجتمع الخلق كلهم، فتدنو الشمس حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العَرَق، فمنهم من يكون إلى كَعْبَيْهِ، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حِقْوَيْهِ، ومنهم مَنْ يُلجِمُهم العرقُ إلجاما، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فيفزع بعض الناس إلى الرسل والأنبياء ليشفعوا لهم عند خالق الأرض والسماء حتى يأذن بالحساب، وفصل القضاء، وكلما أتَوْا نبيًّا من أُولي العزم اعتذر، وأحالهم إلى نبي آخر، حتى يأتوا إلى رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، فيقول: "أنا لها"، قال عليه الصلاة والسلام -كما في (صحيح البخاري)-: "فأستأذِنُ على ربي فيؤَذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها،
لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأَخِرُّ له ساجدا، فيقول: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يُسمع لكَ، وسَلْ تُعْطَ، واشفع تشفَّع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي"، فحينئذ يأذن الرب -جل جلاله- بفصل القضاء، فيجيء مجيئا يليق بجلاله في ظُلَل من الغمام، وتجيء الملائكة الكرام، صفًّا صفًّا، صفوفَ ذُلٍّ وخضوع للملك العلام، ويؤتى بجهنم في أرض المحشر لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف مَلَك يجرونها، (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)[الْفَجْرِ: 21]، فإذا جاء الرب -جل جلاله- (خَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)[طه: 108]، (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ)[الزُّمَرِ: 69-70].

فالحقوق -يا عباد الله- في ذلك اليوم محفوظة مصونة، (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)[غَافِرٍ: 17]، فأول ما يقضى بين الناس في الدماء، وكل مَنْ كانت عليه مظالم للعباد فإنهم يأخذون من حسناته بقدر مظلمته، فإن لم تكن له حسنات يؤخَذ من سيئاتهم فتُطرح عليه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كانت له مظلمة لأخيه مِنْ عِرْضه أو شيء، فليتحلله منه اليومَ، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخِذَ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أُخِذَ من سيئات صاحبه فحُمِلَ عليه"(رواه البخاري).

أمةَ الإسلامِ: يُعرَض العبادُ على ربهم في أرض المحشر لا تخفى عليه منهم خافية، فينادى بكل إنسان: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)[الْإِسْرَاءِ: 14]، فيقوم منفردا يجادل عن نفسه بكل ضَعْفه، أمام الملك -جل جلاله- وتقدَّست أسماؤه، (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[النَّحْلِ: 111]، و(في الصحيحين): قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أَيْمَنَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر أشأمَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، ولو بكلمة طيبة". فأما العبد المؤمن فإن الله -تعالى- يُعَرِّفه ببعض ذنوبه، ويتجاوز عما يشاء من هفواته حتى يعرف العبدُ فضلَ الله ومِنَّتَه عليه؛ بستره عليه في الدنيا، وعفوه عنها في الآخرة، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله يُدنِي المؤمنَ فيضع عليه كنَفَه ويستره، فيقول: "أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نَعَمْ أَيْ ربِّ، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتُها عليكَ في الدنيا وأنا أغفرها لكَ اليومَ، فيُعطى كتابَ حسناته"(رواه البخاري، ومسلم).

ويُنكِر فئام من الناس ما حفظه عليهم الملائكة الكاتبون، ولا يرضون إلا بشاهد من أنفسهم، فيختِم اللهُ على أفواههم، وتستنطق جوارحهم، ففي (صحيح مسلم)، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضحك، فقال: هل تدرون مِمَّ أضحك؟ قالوا: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربَّه، يقول: يا ربِّ ألم تُجِرْني من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا مني، قال: فيقول: كفي بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام الكاتبين شهودا، قال: فيُختَم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يخلَّى بينه وبين الكلام، قال: فيقول: بُعْدًا لكن وسُحْقًا، فعنكن كنتُ أناضل، فعنكن كنت أناضل" (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ)[فُصِّلَتْ: 20-22]، فأَعِدُّوا -يا عباد الله- للسؤال جوابا، ولذلك الموقف عملا صالحا، ففي الحديث القدسي يقول الله -عز وجل-: "يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجَد خيرًا فليحمد الله، ومن وجَد غيرَ ذلك فلا يلومنَّ إلا
نفسَه".

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[الْكَهْفِ: 110]، بارَك الله لي ولكم في القرآن والسُّنَّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه كان غفورا رحيما.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا، وأشهد ألَّا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما مزيدا.

أما بعد معاشر المؤمنين: فإن أعظم ما يقدِّمه العبدُ للقاء الله -جل جلاله-، هو توحيده وإفراده بالعبادة، (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)[الْأَنْعَامِ: 82]، وفي الحديث القدسي يقول الرب -جل جلاله-: "ومَنْ لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرةً"(رواه مسلم).

ويقدُم الناس على الله -تعالى- في أرض المحشر على الحال التي فارقوا عليها الدنيا، فمن مات على شيء بعثه الله عليه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فمن الناس من يُبعَث ملبِيًّا؛ لأنه مات مُحرِمًا، ويأتي الشهيد وجُرْحُه يثعب دمًا، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، وكل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة حتى يُفصَل بين الناس، وسبعة يظلهم الله -تعالى- في ظله يوم لا ظل إلا ظله: "إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلَّق في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرَّقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إن أخاف الله، ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شِمالُه ما تُنفِق يمينُه، ورجل ذكَر الله خاليًا ففاضت عيناه".

وللمتاحبِّين بعظمة الله وطاعته منزلة رفيعة يوم القيامة، حيث ينادي بهم الرحمن فيقول: "أين المتاحبون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي"(رواه مسلم). قال ابن تيمية -رحمه الله-: "فقوله: أين المتحابون بجلال الله، تنبيه على ما في قلوبهم من إجلال الله وتعظيمه، مع التحاب فيه، وبذلك يكونون حافظين لحدوده، دون الذين لا يحفظون حدوده لضَعْف الإيمان في قلوبهم".

وفي تلك العرصات يُكرِم اللهُ رسولَه -صلى الله عليه وسلم- بحوض عظيم، ماؤه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب من المسك، ترى فيه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء، مَنْ شَرِبَ منه شربةً لم يظمأ بعدها أبدا، وفي ذلك اليوم العظيم يأتي القرآن الكريم شفيعا لأصحابه، تقدمه سورة البقرة وآل عمران تظللان صاحبهما وتدافعان عنه، ففي (صحيح مسلم)، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اقرأوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرأوا الزهراوين: البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما، ويقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنتَ ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها".

وأما من أعرض عن ذكر الله فإنه يحشر يوم القيامة أعمى، (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى)[طه: 125-126]، وثلاثة في ذلك اليوم لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: "المسبِل والمنَّان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب"، وأما المتكبرون فإنهم يُحشَرون أمثال الذر، يطؤهم الناس بأقدامهم احتقارا لهم، ولكل غادر لواء يوم القيامة يُعرَف به، يقال: هذه غدرة فلان، وآكِل الربا يخرج إلى أرض المحشر كالمجنون، (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ)[الْبَقَرَةِ: 275]، وأما الكافرون الجاحدون: فإنهم يُحشَرون على وجوههم عُمْيًا وبُكْمًا وصُمًّا، ففي الصحيحين أن رجلا قال: "يا رسول الله، كيف يُحشَر الكافرُ على وجهه يوم القيامة؟ قال: أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟!".

فاتقوا الله يا عباد الله، (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[لُقْمَانَ: 33].

اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته، كما صليتَ على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته، كما باركتَ على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وجودك يا أرحم الراحمين.
2024/09/23 06:36:05
Back to Top
HTML Embed Code: