Telegram Web Link
M 30
قناة عبد العزيز بن داخل المطيري
#مجالس_الأسئلة_العلمية |المجلس الثلاثون
🔹موعد المجلس: الثلاثاء 28 جمادى الأولى 1445 هـ، من الساعة الثامنة إلى الساعة التاسعة مساء بتوقيت الرياض.
🔹موضوع المجلس: مسائل في الفقه وأصوله.
#مسائل_التفسير | #مسائل_السلوك
س: في قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} نرجو منكم توضيحا شافيا لهذه الآية بارك الله فيكم.
وهل الظن الذي هو عمل قلبي يمكن أن يكون إثماً وهو حبيس القلب، أم إذا اقترن بقول أو فعل يطال المظنون به؟

الجواب:
للجواب على هذا السؤال ينبغي أن نعرف قاعدة مهمة في الأعمال الباطنة يزول بها اللبس بإذن الله عز وجل؛ فالأعمال الباطنة على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: حديث النفس من الخواطر ووسوسة النفس ونحوها، مما لم ينعقد عليه القلب، ولم يترتب عليه عمل؛ فهذا معفوٌ عنه لما في الصحيحين من حديث قتادة عن زرارة بن أبي أوفى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن عز وجل تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل)).
وفي رواية عند الإمام أحمد: من طريق همام عن قتادة به: ((إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عن كل شيء حدَّثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به)).
وقوله: (أو تعمل به) يدخل فيه عمل القلب، وهو ما انعقد عليه القلب.
المرتبة الثانية: الهمّ بالفعل، وهو مرتبة أعلى من حديث النفس، فحديث النفس لم ينعقد عليه القلب، ولم يبلغ أن يكون من عمل القلب أصلاً، بل هو من الخطرات والوساوس وحديث النفس التي لا ينبني عليه عمل ولا قول، فهذا لا يؤاخذ به, بل منه ما ينكره الإنسان من نفسه.
أما الهمّ بالفعل فهو أعلى درجة منه؛ وهو أن يهمّ بحسنة أو بسيئة؛ فإذا هم بحسنة ولم يعملها لعارضٍ عرض له كُتبت له حسنة تامة، وإذا هم بسيئة ليعملها ثم تركها لله كتبت له حسنة تامة؛ لأن الترك لله عمل صالح، وهو من أعمال التقوى، فتُكتب له حسنة لا لكونه هم بالسيئة، وإنما لأنه تركها لله عز وجل، وهذا قد دلّ عليه ما في الصحيحين من حديث الجعد بن دينار اليشكري قال: حدثنا أبو رجاء العطاردي، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى، قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بيّن ذلك؛ فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة».
وفي صحيح مسلم من حديث معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قالت الملائكة: ربّ ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة، وهو أبصر به، فقال: ارقبوه فإنْ عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جرّاي ».
من جراي أي: لأجلي.
المرتبة الثالثة: عمل القلب، والقلب له أعمال، بل هي أصل الأعمال، وأصل ما يؤاخذ به العبد كما قال الله عز وجل: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}.
والقلب هو محلّ نظر الربّ جل وعلا كما في صحيح مسلم من حديث جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».
فما تكسبه القلوب هو أصل ما يترتب عليه من قول اللسان وعمل الجوارح، وقد لا يترتب عليه إلا عملُ القلب؛ فما انعقد عليه عمل القلب فالعبد مؤاخذ به، وهو مختلف اختلافاً كبيراً عن حديث النفس.
وأعمال القلوب منها أعمال محبوبة لله عز وجلّ يثاب عليه العبد ثواباً عظيم بل هي أصل ما يثاب عليه العبد، من محبة الله عز وجل وخشيته ورجائه والتوكل عليه والاستعانة بالله عز وجل، وتمني عمل الطاعة، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم، ومحبة المؤمنين ومحبة الخير للمسلمين، وهذه كلها أعمال عظيمة من أعمال البرّ يثاب عليها العبد.
والإخلاص الذي هو أصل قبول الأعمال عمل قلبي، وربّ عملٍ يعمله العبد بقلبه يرتفع به درجات عظيمة عند الله عزّ وجلّ لما وقر في قلبه من التصديق واليقين وتعظيم الله عزّ وجلّ، وتعظيم أمره، وقوّة الاحتساب.
ومن أعمال القلوب أعمال محرمة يؤاخذ بها العبد وقد يخرج بها عن ملة الإسلام؛ فالشرك بالله عز وجل يقع منه شرك بعمل القلب وقد يصل إلى الشرك الأكبر، ويقع منه ما دون ذلك كالرياء.
والأعمال القلبية التي قد يقع فيها بعض المسلمين منها أعمال محرمة، يُنهى عنها ويؤاخذ العبد بها؛ كراهة بعض ما أنزل الله، والظن السيء بالمسلمين، والحسد، والحقد، والغل، ومحبة أن يُعصى الله عز وجل؛ وتمني عمل المعصية تمنياً ينعقد عليه القلب يؤاخذ به العبد، وقد صحّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً وموقوفاً: (والقلب يزني، وزنا القلب التمني).
وفي مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجة من حديث الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل هذه الأمة مثل أربعة نفر: رجلٌ آتاه الله مالاً وعلماً، فهو يعمل به في ماله ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فهو يقول: لو كان لي مثل مال هذا عملت فيه مثل الذي يعمل.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « فهما في الأجر سواء »
ورجل ‌آتاه ‌الله ‌مالاً ‌ولم يؤته علماً فهو يخبط فيه ينفقه في غير حقه، ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو كان لي مالٌ مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهما في الوزر سواء».
- وفي سنن أبي داوود من حديث مغيرة بن زياد الموصلي، عن عدي بن عدي، عن العرس ابن عميرة الكندي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا عُملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان ‌كمن ‌شهدها ».
وله شاهد من حديث ابن مسعود موقوفاً عند ابن أبي شيبة.
وهذا بسبب عمله القلبي الذي يؤاخذ به من محبة المعصية.
وكذلك الحسد هو تمني زوال النعم عن المحسود، والتمني عمل قلبي، فمن قام بقلبه هذا التمني فقد حسد، ولو لم يتكلم بذلك.
أما من كانت تعرض له خطرات الحسد فيردّها، ويدعو لأخيه المسلم بالبركة، ويستعيذ بالله أن يحسد مسلماً على خير آتاه الله إياه؛ فهذا قد سلم من الحسد، ولا يضرّه ما حدّث به نفسه ولم ينعقد عليه قلبه.

فتبيّن الفرق بين أعمال القلوب وبين حديث النفس الذي لم ينعقد عليه القلب، ولم يعمل به المرء.
وفقه مراتب الأعمال الباطنة مهمّ جداً، ولها أثر في الاعتقاد والسلوك والفقه.
فعلى سبيل المثال: من همَّ أن يتناول مفطّرا في نهار رمضان، ثم ترك ذلك لله تعالى، وأتمّ صيامه؛ فصومه صحيح، ويثاب على تركه السيئة لله تعالى.
لكن لو نوى قطع الصيام؛ فإنه يعدّ مفطراً ولو لم يأكل شيئاً، ولم يشربْ، لأن الصيام قائم على نية الإمساك عن المفطرات؛ فمن نوى قطع الصيام فقد أخلّ بركنه الذي قام عليه، ولا يصحّ الصيام إلا بالإمساك عن المفطرات بنية خالصة لله تعالى.
فهذا مما يدل على التفريق بين الهمّ بالفعل وبين عقد القلب على العمل؛ فالذي نوى قطع الصيام انعقد قلبه على الإفطار، أما الصائم الذي عرضت له رغبة في أن يشرب أو أن يأكل أو أن يتناول مفطراً غيرهما من المفطرات، وهمّ بذلك ثم تركه لله؛ فهو لم يقطع الصيام بمجرّد الهمّ ولا بحديث النفس.
إذا تبيّن تأصيل هذه المسألة نرجع إلى ما سألت عنه السائلة وهو الظنّ السيء كيف يؤاخذ به العبد وهو عمل قلبي.
فيقال في الجواب عنه: إساءة الظن بالمسلمين منها ما يكون من الخطرات التي تخطر على قلب العبد ولا ينعقد عليها القلب؛ فهذه لا يُؤاخذ بها.
ومنها ما ينعقد عليه القلب؛ فهذا عمل قلبي يؤاخذ عليه العبد.
والتبعيض في قول الله تعالى: {إن بعض الظنّ إثم} دليل على أنّه يتبعض فتختلف أحكامه.
فالظنّ السيء بالمسلم البريء ظلم له وهو عمل قلبي يأثم عليه صاحبه.
والظنّ الذي ليس بإثم إما لكون الظنّ من الخطرات التي لم ينعقد عليها ولا يؤاخذ بها العبد.
وإما لكون المظنون به قد صدق عليه ما ظنّ به لقرائن معتبرة؛ فهذا لا حرج فيه.
والأمر باجتناب كثير من الظنّ لأن بعضه إثم أصل في التقوى والورع، والتحرز من المآثم، ومن ظنّ فلا يحقق؛ بل ينبغي له أن يستثني، وأن يجعل له مخرجاً من ظنّ السوء.
- وفي الأدب المفرد للبخاري من حديث الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (ما يزال المسروق منه ‌يتظنَّى حتى يصير أعظم من السارق).
فمن سُرق منه متاع ثمّ استرسل في ظنّ السوء بالمسلمين تخرصاً منه قد يصل به الازدياد من الإثم إلى أن يكون إثمه أعظم من إثم السارق.
وربما تكلم بهذا الظن، فجرّ على أناس من الأذى والضرر ما لا يستحقونه، ولا تسبب لهم فيه، والناس يسرعون إلى تصديق مقالة السوء، كما قيل: أسرع من منحدر السائل.
فيكون هذا المتظني قد ارتكب من المعاصي ما هو أشد إثما من إثم السارق.

وقوله: "يتظنّى" أي: يظنّ بفلان، وبفلان، أنه سرق متاعه، والأصل يتظنن، لكن أبدلت النون ألفاً للتسهيل، والمصدر "التظني" بالياء، ومنه قول لبيد بن ربيعة:
أعاذل ما يدريك إلا تظنيا .. إذا رحل السُّفّار من هو راجع

وأما إذا كان الظنّ قائماً على قرائن معتبرة فإنه لا يأثم على مجرّد الظن لوجود قرينة معتبرة، لأن القرينة لها دلالة معتبرة، لكنها لا تمنع من قيام الاحتمال ببراءته؛ فلذلك لا يحل له أن يُحقق هذا الظن السيء بغير بيّنة.
فيستثني ويضع في نفسه مع اعتبار القرينة ودلالتها إمكان براءة أخيه من هذه التهمة.
والمقصود أنه يجب أن تُراعى القواعد الشرعية والأصول الضوابط للظن، فالظن السيء إذا كان له موجب من بينة أو قرينة معتبرة فهذا لا يؤاخذ به العبد، لكن إذا كانت القرينة غير قاطعة فلا ينبغي له أن يُحقق ظنه؛ بل يضع في نفسه احتمال البراءة، ولا يحلّ له أن يتكلم في ذلك الشخص إلا لما تقتضيه مصلحة الوصول إلى حقه، وتقدر الحاجة بقدرها.
أما إذا لم يكن لديه بينة ولا قرينة معتبرة فهنا لا يحل له أن يظن بأخيه ظناً سيئاً.
#مسائل_التفسير
س: كيف يمكن توجيه ما أورده الطبري عن ابن عباس وابن مسعود في أن إبليس من الملائكة هل هو من الإسرائيليات أم من الإخبار بالغيب الذي له حكم المرفوع؟

الجواب:
مثل هذه الأخبار التي تروى عن بعض الصحابة والتابعين قبل أن نشتغل بتوجيهها يجب أن نتحقق من صحة نسبتها إليهم أولاً؛ فإذا صحَّت عنهم نُظر في الأجوبة عليها على مراتب.
أما إذا لم تصح عنهم فلا ينغي أن يُشتغل بتوجيهها؛ بل الآثار المروية بأسانيد واهية حكمها الرد، وتُنهى المسألة.
والاشتغال بتوجيه الأقوال الضعيفة ومحاولة الجمع بينها وبين الأقوال الصحيحة يؤدي إلى الخروج بتوجيهات متكلفة أو أقوال مجانبة للصواب.
والواجب أن تفحص الأقوال ويتحقق من صحة نسبتها إلى قائليها؛ فيردّ ما لا يصحّ، ويؤخذ بالأقوال الصحيحة، وتدرس متونها بما تقتضيه قواعد الجمع والترجيح، والنقد والإعلال.

وما يخص هذه المسألة فالخلاصة فيه أنّ القول بأن إبليس كان من الملائكة ثم مسخ شيطاناً لم يصحَّ عن أحدٍ من الصحابة رضي الله عنهم، نعم روي عن ابن مسعود وابن عباس لكن بأسانيد واهية لا تقوم بها الحجة، وهي أخبار أشبه بالإسرائيليات.
وابن مسعود إنما جاءت النسبة إليه مما رواه ابن جرير من تفسير السدي الذي جمعه من طرق منها طريقا أبي مالك الغفاري وأبي صالح مولى أمّ هانئ، عن ابن عباس، وطريق مرّة الهمْداني، عن ابن مسعود، وطرق مبهمة لم يبيّنها عن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل هذا الإسناد للكتاب كلّه من باب تبيين مصادره؛ ولم يميّز كلّ رواية عمّن أخذها؛ فلما أراد ابن جرير أن يفرقه على السور والآيات كرر الإسناد في كلّ رواية؛ فأوهم ذلك أن كلّ رواية من تلك الروايات مروية عن هؤلاء جميعاً.

والأولى في مثل هذا هو منهج الإمام شعبة بن حجاج رحمه الله ومن تبعه من المحدثين؛ فإنه كان إذا نقل عن السدي في تفسيره لم يجاوز به السدي إلى غيره، بل يقول قال السدي، ويقتصر عليه، وكذلك فعل ابن أبي حاتم في تفسيره.
ونسبة القول إلى السدي نسبة صحيحة لأنها إما نسبة اختيار من أقوال من أخذ التفسير عنهم، وإما نسبة اجتهاد في التفسير.
وهذا أمر ينبغي أن يُتنبه له؛ فتكرير ابن جرير لهذا الإسناد لا يسوّغ أن ننسب هذا القول إلى ابن مسعود، وقد كان ابن مسعود من أبعد الناس عن رواية عمن يقرأ كتب أهل الكتاب، بل كان شديد النهي عن ذلك.
وما يُروى عن ابن عباس في هذه المسألة إنما هو بأسانيد واهية أو معلولة لا تقوم بها الحجة، منها ما هو منقطع الإسناد، ومنها ما فيه بعض المتروكين، ومنها ما هو معلول.
لكن هذا القول صحَّ عن ثلاثة من التابعين هم: قتادة، وسعيد بن جبير، ومحمد بن إسحاق صاحب السيرة.
فنظرنا عمَّن أخذ هؤلاء فوجدنا:
- أنَّ قتادة إنما روى هذا القول عن نوف بن فضالة البكالي، ونوف بن فضالة ممن عرف برواية الإسرائيليات، وقد وقع التصريح بهذه الرواية في كتاب العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني.
- وسعيد بن جبير ممن أخذ عن نوف البكالي، وهو معدود في شيوخه.
- ومحمد بن إسحاق معروف برواية الإسرائيليات، بل هو مكثر من الرواية منها، وكان يكتب عن بعض أهل الكتاب.
فهؤلاء الثلاثة عُرفوا برواية الإسرائيليات، وهذا خبر إسرائيلي لم يصحّ عن أحد من الصحابة لكن ضعفاء الرواة الذين أتوا بعد هؤلاء قد يخطئون في سياق هذه الروايات فينسبونها إلى ابن عباس أو إلى بعض الصحابة وهي لا تصحّ عنهم.
وهذا القول عُرف في زمن التابعين وأنكره بعضهم، وممن أنكره الحسن البصري رحمه الله، حتى قال: (قاتل الله أقواماً يزعمون أن إبليس كان من ملائكة الله، والله تعالى يقول: {كان من الجن}).
وقال أيضا: (ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط، وإنه لأصل الجنّ كما أنَّ آدم عليه السلام أصل الإنس). وهذان الأثران في تفسير ابن أبي حاتم.
وفيهما ردٌّ لهذا القول الذي قيل في زمن التابعين.
والقول بأنَّ إبليس من الملائكة مخالف لأدلة محكمة في القرآن الكريم وفي السنة النبوية، ولا موجبَ للقول به.
وفي صحيح مسلم من حديث معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خُلقت الملائكة من نور، وخُلق الجانّ من مارجٍ من نار، وخلق آدم مما وصف لكم».
فبيّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ الملائكة خُلقت من نور، وأنَّ الشياطين خُلقت من نار، وقد علمنا أنّ آدم خلق من طين؛ فأصل خلقة الشياطين مختلف عن أصل خلقة الملائكة.
ولذلك فإنّ توجيه ابن جرير الذي قال فيه: "جائز أن يكون الله تعالى قد خلق صنفاً من ملائكته من نارٍ كان منهم إبليس، وأن يكون أفرد إبليس بأن خلقه من نار السموم دون سائر الملائكة" توجيه غير صحيح.
لأنَّ إبليسَ قد نُصَّ على أنّ الله خلقه من نار السموم، والملائكة قد نُصَّ على أنهم خلقوا من نور بتعريف الجنس المستغرق لجميع الأفراد؛ فلا مسوّغ لاستثناء طائفة من الملائكة والزعم بأنّهم خلقوا من نار؛ لأنّ هذا التوجيه فيه استدراك على عموم النص النبوي.
وهذا التأويل إنما كان سببه اعتقاد صحة تلك الروايات عن الصحابة؛ فإنَّ تعدد أسانيدها قد يوقع في النفس شهرة هذا القول واعتقاد استناد تلك الآثار على خبر معصوم.
فأدّى ذلك إلى محاولة الجمع بينها وبين النصوص الصحيحة البيّنة في هذه المسألة، وهذا مسلك غير صحيح في دراسة المسألة.
والواجب أن تميز تلك الأسانيد، وأن تستبعد الآثار المروية بأسانيد واهية، ويحكم عليها بالضعف، ولا يتكلف الجمع بينها وبين النصوص الصحيحة.
والقول الصحيح هو ما دلّ عليه نص قول الله عز وجل: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}
فبين الله تعالى أن إبليس من الجن، والتعريف في الجن للجنس الذي تعرفه العرب في خطابها وتعهده.
- وبيّن أنَّ له ذرية بخلاف الملائكة الذين لا يتوالدون ولا يتناكحون.
- وبيّن أنه فسق عن أمر ربه والملائكة {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }.
- وبيّن أن مادة خلق إبليس غير المادة التي خُلق منها الملائكة كما قال الله تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ}.
فالقول الصحيح أن إبليس من الجنّ، وليس من الملائكة، وهذا قول الحسن البصري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وابن شهاب الزهري، وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير.
ومن المتأخرين: محمد الأمين الشنقيطي، وشيخنا ابن عثيمين، والألباني.
كلهم صححوا هذا القول، وردوا القولَ بأنَّ إبليس كان من الملائكة ثم مسخ شيطاناً.
والله تعالى أعلم.
#مسائل_طلب_العلم
س: كيف تكتب المتزوجة بحثا علمياً وهي ذات أطفال وأشغال؟ هل من نصيحة؟ وهل العلم يضاد الحياة الزوجية والتربوية خاصة للنساء؟

الجواب:
مما يعين المرأة على مواصلة طلب العلم، وعلى إنجاز الأعمال العلمية الصدق مع الله عز وجل، فتكون المرأة صادقة في نيتها ومقصدها، ومن صدق الله صدقه الله، وهيأ الله له أسباب ما ينفعه، وكذلك مما يفيدها قراءة سير الصالحات من العالمات والفقيهات وكيف كن ينظّمن أعمالهن على ساعات الليل والنهار حتى تأتسي بهنَّ في ذلك؛ فقد كان يعرض لهن من العوارض والأشغال من جنس ما يعرض للنساء في هذا الزمان، وكنَّ يغالبن أشغالهن، ويجعلن لطلب العلم وحفظه ورعايته أولوية بعد أداء الواجبات.
وقد روى الفريابي في فضائل القرآن من طريق وكيع، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن عائشة رضي الله عنها أنها «كانت تقرأ في رمضان في المصحف بعد الفجر؛ فإذا طلعت الشمس نامت».
وهذا فيه استغلال للأوقات الفاضلة، لأنها كانت كثيرة قيام الليل، وكانت مع ذلك لا تترك صلاة الضحى كما في الموطأ للإمام مالك عن زيد بن أسلم، عن عائشة أم المؤمنين؛ أنها كانت تصلي الضحى ثماني ركعات، ثم تقول: (لو نشر لي أبواي ما تركتهن).
وزيد بن أسلم لم يدرك عائشة لكن صحّ ذلك عن عائشة من طرق؛ فقد روى مسدد من طريق سعد بن إبراهيم الزهري، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر أن عائشة رضي الله عنها كانت تصلي الضحى فتطيلها.
- وقال عاصم بن عمر بن قتادة، عن جدته رُميثة، قالت: أصبحت عند عائشة فلما أصبحنا قامت فاغتسلت، ثم دخلت بيتا لها فأجافت الباب، قلت: يا أم المؤمنين! ما أصبحتُ عندك إلا لهذه الساعة!
قالت: فادخلي.
قالت: فدخلت؛ فقامت فصلت ثماني ركعات، لا أدري أقيامهن أطول أم ركوعهن أم سجودهن؟ ثم التفتت إليَّ فضربت فخذي، فقالت: يا رميثة! رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها ولو نشر لي أبواي على تركها ما تركتها). رواه النسائي في السنن الكبرى، وأبو يعلى في مسنده.
- وقال سعد بن سعيد بن قيس الأنصاري: أخبرني القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحبّ الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قلّ».
قال: (وكانت عائشة إذا عملت العمل لزمته). رواه مسلم.
وقد ذكرت في سيرة عائشة رضي الله عنها آثاراً في سمتها وهديها في تعبّدها في الحضر والسفر لتنتفع بها المرأة المؤمنة وتتسي بها.

والمقصود أنه ينبغي للمرأة المؤمنة أن تنظم أوقات يومها وليلتها، وأن تجعل لها أعمالاً تداوم عليها بما يتيسر لها في التعبد بنوافل العبادات، وبطلب العلم، ونشره، والدعوة إلى الله تعالى، وأحبّ العمل إلى الله أدومه، وإن قل.
والمداومة على العمل من أعظم أسباب حصول البركة واتساع الأثر ونماء العمل.
ويدخل في التنظيم تفصيلات بحسب تلك الأعمال؛ فتجعل لكل وقت ما يناسبه من العمل، فما يحتاج فيه إلى هدوء وتركيز يُختار له أوفق الأوقات لذلك كالأوقات التي تكون مظنّة نوم الأطفال وانشغالهم كآخر الليل مثلا أو في أوقات ذهاب الأولاد إلى مدارسهم ونوم بعضهم.
ولا تكاد تعجز المرأة أن تخصص في يومها وليلتها ساعتين أو ثلاث ساعات تتفرغ فيها لأعمالٍ علمية.
ومن الأعمال البحثية والعلمية أعمال لا يحتاج فيها إلى تركيز عالٍ، بل يكفي لها ما يفي بالغرض؛ فليس من الحكمة إضاعة أوقات النشاط والهدوء والتركيز فيه.

ولا بدّ مع ذلك من مغالبة الأشغال والعوارض، وترك الاستسلام لها؛ لأن من يطاوع العوارض لا يبلغ المقاصد، بل يغالبها بما يستطيع، ولو أن يظفر في وقت يسير بجزء من العمل؛ فهذا ينفعه، ويبني عليه شيئاً فشيئاً حتى يتمّ عمله.
- قال سالم بن غيلان: اشتكى صحابة عمر بن عبد العزيز إلى عمر تفلّت القرآن منهم، فقال: (اقرأوه في ممشاكم وفي إقبالكم وإدباركم). رواه ابن وهب.
وصاحب الأشغال لا ينبغي له أن ينتظر فراغاً تاماً وهدوءاً حتى يراجع حفظه من القرآن أو من غيره.
وكانت امرأة من نساء القرن السادس تشتغل بنسخ الكتب، اسمها مريم بنت عبد القادر؛ كتبت نسخه لكتاب الصحاح للجوهري، وكتبت في آخر الكتاب: "من وجد في النسخ نقصاً فليعذرني فإنما كنت أكتب بيميني وأهز ولدي بشمالي".
فلم يمنعها حال انشغالها بولدها الصغير الذي تهزه بشمالها عن أن تكتب بيمينها، وقد وصف خطها بأنه خط جميل، ولعل بقاء عملها وانتفاع العلماء به من بعدها من دلائل صدق عزيمتها، وصلاح قصدها.
ولو اجتهدت باحثة من الباحثات في استخلاص مواقف الصالحات مما يعرض لهن من الأشغال والعوارض، وكيف أنجزن ما أنجزن لرجوت أن يكون لبحثها نفع وبركة.
رزقني الله وإياكم صلاح القصد، وبركة العمل، وحسن الأثر.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
#مجالس_الأسئلة_العلمية |المجلس الحادي والثلاثون
🔹موعد المجلس: الثلاثاء 6 جمادى الآخرة 1445 هـ، من الساعة الثامنة إلى الساعة التاسعة مساء بتوقيت الرياض.
🔹موضوع المجلس: مفتوح.
🔹 أستقبل أسئلتكم في التعليقات، وأسأل الله التوفيق والسداد.
M31
قناة عبد العزيز بن داخل المطيري
تسجيل المجلس الحادي والثلاثين | مجلس مفتوح
#مسائل_التأصيل_العلمي
س: ما المنهجية الصحيحة المتدرجة لتلقي علم التفسير وعلوم القرآن الكريم؟ وكيف يتم ضبط المسائل والرسوخ في تلكم العلوم؟

الجواب:
كل علم من علوم الشريعة واللغة العربية يُحتاج فيه إلى التدرج على مراحل، وفي كلّ مرحلة ما يناسبها من المعارف والمهارات.
فيبدأ بدراسة كتاب مختصر شاملٍ لعامة أبوابه ومسائله؛ فيدرسه على سبيل الإجمال بإشراف علمي حتى يحصل له التصور الأوّلي لمسائل ذلك العلم، وعامة المختصرات كتبها قليلة الحجم، سهلة الدراسة، لكن لا بد فيها من الضبط الجيّد لتلك المسائل.
ويتدرب على إتقان المهارات الأساسية من استخلاص المسائل وتعرّف ما يتصل بها، وتلخيصه بإشراف علمي.
وعلم التفسير كذلك يحتاج طالب العلم إلى دراسة تفسير مختصر يُعنى بالبيان عن المسائل التفسيرية بما يناسب طلاب العلم المبتدئين على سبيل الإيجاز والاختصار.
والمختصرات في التفسير على نوعين:
1: مختصرات اُلّفت لعامة الناس، وقد يكون فيها إغفال لكثير من مسائل التفسير، واجتزاء من أوجه التفسير، وتجوّز في العبارة؛ فهذه التفاسير تناسب العامة لأن غرضهم التحصيل السريع لما يقرّب لهم معاني الآيات.
2: مختصرات كُتبت لطلاب العلم ليضبطوا بها مسائل التفسير بما يناسب ابتداءهم، فيُعنى أصحابها بإبراز المسائل التفسيرية، والبيان عنها بصياغة علمية تناسب طلاب العلم.
ومن أجود التفاسير التي تناسب المبتدئين من طلاب العلم فيما أعلم زُبدة التفسير للأستاذ محمد الأشقر رحمه الله، وتفسير السعدي؛ فهذان التفسيران جيدان للمبتدئين في طلب العلم ولو جمع بينهما طالب العلم، وقرأ معهما قراءات في تفسير ابن كثير؛ فإنَّ هذا ينفعه كثيراً بإذن الله تعالى إذا درسها تحت إشراف علمي.
فيدرس كل مقطع من الآيات، ويستخلص ما فيه من المسائل العلمية، ويلخص كلام أهل العلم فيها، ثم يعرض تلخيصه على شيخه؛ فإنْ أقره على فهمه وصياغته وإلا صوّبه, وأرشده إلى ما أخطأ فيه أو غفل عنه من المسائل.
فالآية الواحدة قد تشتمل على مسائل كثيرة، وربما لا يتفطن بعض الطلاب إلا لمسألتين أو ثلاث من تلك المسائل, ويغيب عنه مسائل كثيرة, ولو سُئل عنها أو عرض له فيها إشكال لتنبّه لها.
ولُبّ علم التفسير إنما هو في استخلاص المسائل، وتعرف الأقوال وحججها، والتعبير عنها بصياغة علمية.
ومن أتقن هذه المهارات فقد أتقن المهارات الأساسية في التفسير.
ولذلك يحتاج طالب علم التفسير إلى الجمع بين المعارف الأولية التي تتحصل له بدراسة المختصرات في التفسير، والمختصرات في علوم القرآن.
ويحتاج أيضا إلى التمهر بالمهارات الأساسية بالتفسير.
وبتحصيل هذين النوعين يتحقق له التأسيس في التفسير، وينتقل إلى مرحلة البناء في التفسير، وفيها يكون أكثر التحصيل العلمي لطالب العلم في التفسير وعلوم القرآن، لكن ينبغي أن يكون التأسيس العلمي لديه جيداً حتى ينتفع من هذه المرحلة.
فإذا حصّل تحصيلاً علمياً جيداً في مرحلة البناء العلمي انتقل إلى مرحلة التأهيل لتدريس التفسير مع احتياجه إلى مواصلة البناء العلمي.
والمعاهد والمراكز التعليمية التي تعنى بتدريس المبتدئين متعددة ولله الحمد، ولدينا في معهد إعداد المفسر دورة في المهارات الأساسية في التفسير أرجو أن تنفع طلاب علم التفسير، لأنهم إذا أتقنوا هذه المهارات الأساسية مع دراستهم للمعارف الأولية المتحصلة لهم من المختصرات؛ فإنهم يكونون قد جمعوا بين الجانبين: المعرفي التأصيلي، والمهاري التطبيقي، وبالتدرج فيهما يحصل لهم حسن دراسة مسائل التفسير بإذن الله تعالى.

وعلم التفسير من العلوم الطويلة التي لا يُحاط بها لكن يحتاج طالب العلم إلى الصبر ومواصلة الطلب على منهج صحيح، وضبط المسائل العلمية، وإتقان المهارات، ويتدرج في ذلك حتى يبلغ ما كتب له من العلم.
وتقسيم مراحل الطلب إلى ثلاثة مراحل مهمة: مرحلة التأسيس, ثم مرحلة البناء, ثم مرحلة التأهل لتدريس العلم ونشر ما تحصل عليه طالب العلم من العلم في مرحلتي التأسيس, والبناء
هذه المراحل الثلاث تشترك فيها عامة العلوم، ولكل مرحلة منها ما تختص به من المعارف والمهارات، ومن التنبيهات والمحاذير التي ينبغي لطلاب العلم أن يتنبهوا لها.
وأرشد في ذلك إلى دورة علمية منشورة في معهد إعداد المفسر وفي معهد آفاق التيسير بعنوان مراحل التكوين العلمي لطالب العلم.
بيّنتُ فيها هذه المراحل بتفصيل وتمثيل، وأسأل الله أن ينفع بها إنه حميد مجيد.
#مجالس_الأسئلة_العلمية |المجلس الثاني والثلاثون
🔹موعد المجلس: الثلاثاء 13 جمادى الآخرة 1445 هـ، من الساعة الثامنة إلى الساعة التاسعة مساء بتوقيت الرياض.
🔹موضوع المجلس: مفتوح.
🔹 أستقبل أسئلتكم في التعليقات، وأسأل الله التوفيق والسداد.
M32
قناة عبد العزيز بن داخل المطيري
#مجالس_الأسئلة_العلمية |المجلس الثاني والثلاثون
🔹موعد المجلس: الثلاثاء 13 جمادى الآخرة 1445 هـ، من الساعة الثامنة إلى الساعة التاسعة مساء بتوقيت الرياض.
🔹موضوع المجلس: مفتوح.
🔹 أستقبل أسئلتكم في التعليقات، وأسأل الله التوفيق والسداد.
#مسائل_التأصيل_العلمي | #مسائل_التفسير
س: هل يغني تفسير عن سائر التفاسير؟ وما أحسن الكتب في التفسير التي تنصح بها المتخصص؟

الجواب: التفسير علم لا يُحاط به لكثرة مسائله وتنوّع أنواعها، ولا يزال العلماء يستخرجون من علوم القرآن وكنوزه ولطائفه وعجائبه التي لا تنقضي، ولذلك لا تغني التفاسير مجتمعة في الإحاطة بمعاني القرآن ولطائفه.
ولكن حاجة القارئ قد يكفيها تفسير واحد أو اثنان أو بضعة تفاسير بحسب غرضه وأهليته العلمية ووجه عنايته.
وما يصلح لطائفة قد يكون الأنسب غيره لطائفة أخرى، من غير استغناء عن بقية التفاسير عند استدعاء الحاجة؛ فلا أعلم تفسيراً على وجه الأرض يحيط بمسائل التفسير، وليس ذلك في مقدور أحد.
وسأعرّف ببعض أنواع التفاسير وأصنّفها على أوجه العناية العلمية للقراء مع مراعاة ما تقدّم لأنّ قراءة القارئ فيما يوافق عنايته العلمية وأهليّته أنفع له من التشتت والتذبذب بين كتب لا توافقه، وإن وافقت غيره وأعظم الثناء عليها.
1: فمن كان غرضه من التفسير معرفة المعنى الإجمالي، وهدايات الآيات على وجه الاختصار والتقريب؛ فمن أجود التفاسير له:
- تفسير السعدي.
- وعمدة التفسير لأحمد شاكر.
- وتوفيق الرحمن لابن مبارك.
- وزبدة التفسير للأشقر.
2: ومن كان غرضه معرفة أقوال السلف في التفسير فأوصيه بهذه التفاسير:
- تفسير ابن جرير.
- وتفسير ابن أبي حاتم.
- وتفسير عبد الرزاق.
- والدر المنثور للسيوطي مع التنبه للتحقق من النسبة عنده فلديه تجوّز كبير في العزو.
ولا ينبغي أن يغفل عن كتب التفسير في دواوين السنة.
وقد جمعتُها في "جمهرة تفاسير السلف"، ونشرتها في موقع جمهرة العلوم مقسمة على الآيات، ومرتبة على التسلسل التاريخي.
3: ومن كان غرضه معرفة أقوال علماء اللغة في مسائل التفسير؛ فمن أجمع التفاسير لها:
- معاني القرآن وإعرابه لأبي إسحاق الزجاج.
- ومعاني القرآن لأبي جعفر النحاس.
- ومعاني القرآن للفراء.
- والبحر المحيط لأبي حيان.
وقد جمعت في "جمهرة التفسير اللغوي" كثيراً من المراجع اللغوية من هذه الكتب وغيرها عدا البحر المحيط لأبي حيان ورتبتها على الآيات.
4: ومن كان غرضه الاطلاع على تلخيص أقوال المفسرين في مسائل التفسير؛ فمن أقرب المراجع له:
- النكت والعيون للماوردي.
- والهداية لمكي بن أبي طالب.
- وتفسير ابن عطية.
- وزاد المسير لابن الجوزي.
- وتفسير القرطبي.
مع التنبه لما في هذه المراجع من تجوّز في نسبة الأقوال لكنها تفيد الباحث تصوراً أولياً للخلاف في المسألة.
5: ومن كان غرضه التحرير العلمي لمسائل الخلاف في التفسير فيحتاج إلى جملة تفاسير منها:
- تفسير ابن جرير.
- وتفسير ابن عطية.
- وما جُمع من تفسير ابن تيمية وابن القيم.
- وتفسير ابن كثير.
- والتحرير والتنوير لابن عاشور.
- وأضواء البيان للشنقيطي، والعذب النمير الذي فرّغ من دروسه في التفسير.
6: ومن كان غرضه التفسير البياني والبحث عن اللطائف البلاغية؛ فمن أجود التفاسير في هذا الباب:
- حاشية الطيبي على الكشاف.
- وقطف الأزهار للسيوطي
- والتحرير والتنوير لابن عاشور.
- وتفسير أبي السعود.
7: ومن كان غرضه البحث عن المسائل السلوكية وهدايات الآيات؛ فأوصيه بهذه الكتب:
- ما جمع من كلام ابن تيمية وابن القيم وابن رجب في التفسير.
- وتفسير السعدي.
- وأيسر التفاسير لأبي بكر الجزائري.
- وتفسير ابن عثيمين.
وأنواع أغراض قرّاء التفسير كثيرة لا تحصر فيما تقدّم، ولكل غرض مراجع مشتهرة به، ولعل ما ذُكر فيه كفاية في التنبيه على جواب السؤال.

والمتخصصون في التفسير يختلفون في أوجه عنايتهم ولا بدّ مع هذه المراجع لمن أراد الانتفاع الجيد من علمه بالتفسير وأن ينفع غيره من أمرين:
أحدهما: إتقان مهارات التفسير، وضبط قواعد التفسير وأصوله؛ فهي بمثابة الأدوات للمفسر في تحرير مسائل التفسير، واجتناب الخطأ في دراسة تلك المسائل.
والآخر: أن يجمع مع علمه بالتفسير التخصص في علم آخر مما يحسنه؛ وهذا أمر مهمّ جداً وله أثر مبارك على توجيه عنايته في دراسة مسائل التفسير إلى ما يحسنه وينتفع به وينفع به غيره؛ فالمتخصص في العقيدة والتفسير يسدّ ثغرة مهمّة في التنبيه على الفوائد العقدية، وتقويم دراسة بعض المسائل، والتنبيه على بعض الأخطاء المنهجية وغيرها في دراسة مسائل التفسير المتصلة بالعقيدة.
والمتخصص في التفسير والحديث يسدّ ثغرة مهمة في تحرير أسباب النزول، والتحقق من صحة الأقوال المنسوبة إلى السلف في التفسير.
والمتخصص في التفسير والفقه يظهر أثر جمعه بين التخصصين في تحقيقه لتفسير آيات الأحكام، وتحرير المسائل الفقهية.
والمتخصص في التفسير والسلوك يظهر أثر جمعه بين التخصصين في استخراج الفوائد السلوكية والهدايات القرآنية وبيان أثرها.
والمتخصص في التفسير وعلوم اللغة يظهر أثر جمعه بين التخصصين في تحرير المسائل اللغوية في التفسير، وفي التنبيه على اللطائف البيانية.
#مسائل_التفسير
س: في قوله تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر منه} أي: صلوا ما تيسر لكم؛ لأن الآية في سياق قيام الليل.
السؤال: هل يصح لو فسرنا الآية بقراءة القرءان مجردا عن الصلاة؟


الجواب:
قول الله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} فسره أهل العلم بالقراءة في قيام الليل لدلالة السياق على ذلك، وهي دلالة معتبرة، ولا تقتضي الحصر ما دام اللفظ محتملاً لمعنى آخر صحيح لا يعارض نصاً ولا إجماعاً.
فيبقى في الآية دلالة على مشروعية القراءة خارج الصلاة، وقد دلت على ذلك آيات وأحاديث، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل بالأمرين: القراءة في الصلاة، والقراءة خارج الصلاة، والصحابة كذلك عملوا بالأمرين، لكن لما كان سياق الآية في قيام الليل، وطول قيام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكون طول القراءة سبب طول القيام؛ وبقية الأركان تبع للقراءة في ذلك؛ جاء التخفيف للقراءة فقال تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ}.
- قال ابن جرير: (فاقرءوا من اللّيل ما تيسّر لكم من القرآن في صلاتكم؛ وهذا تخفيفٌ من اللّه عزّ وجلّ عن عباده فرضه الّذي كان فرض عليهم بقوله: {قم اللّيل إلاّ قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً}).
- وقال ابن كثير: (عبّر عن الصّلاة بالقراءة، كما قال في سورة سبحان: {ولا تجهر بصلاتك} أي: بقراءتك، {ولا تخافت بها}).
يريد أنه كما عبّر عن القراءة بالصلاة؛ فقد عبّر عن الصلاة بالقراءة.

ثم اختلفوا في مقدار المتيسر، ومتى يكون المرء مؤدياً لهذا المتيسر ومتى يكون مقصرا مفرّطاً في تحقيقه على أقوال.
- فقال أبو رجاء الحداني: (قلت للحسن [البصري]: يا أبا سعيدٍ! ما تقول في رجلٍ قد استظهر القرآن كلّه عن ظهر قلبه فلا يقوم به، إنّما يصلّي المكتوبة؟
قال: (يتوسّد القرآن، لعن اللّه ذاك؛ قال اللّه للعبد الصّالح: {وإنّه لذو علمٍ لما علّمناه} {وعلّمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم}).
قلت: يا أبا سعيدٍ! قال اللّه: {فاقرءوا ما تيسّر من القرآن}.
قال: (نعم، ولو خمسين آيةً). رواه ابن جرير.
وروي عن السدي: (مئة آية).
- وقال الربيع بن أنس البكري، عن الحسن، قال: (من قرأ مِئَة آيةٍ في ليلةٍ لم يحاجّه القرآن). رواه ابن جرير.

والتحقيق أن ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس وما يعترضهم؛ فالذي يقرأ القرآن وهو عليه شاق ليس كالماهر بقراءة القرآن، وكثير الأشغال والعوائق ليس كغيره، لكن ينبغي ألا يقلّ قيامه عن عشر آيات، وينبغي للحافظ أن يختمه في كلّ شهر مرة؛ فإن زاد فهو خير؛ لأنّ ذلك هو أوّل ما أمر الله به عبد الله بن عمرو بن العاص كما في الصحيحين من حديث مغيرة بن مقسم، قال: سمعت مجاهداً، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «صم من الشهر ثلاثة أيام».
قال: أطيق أكثر من ذلك؛ فما زال حتى قال: «صم يوما وأفطر يوما».
فقال: «اقرإ القرآن في كل شهر».
قال: إني أطيق أكثر فما زال، حتى قال: «في ثلاث».
فدلّ هذا الحديث على أن من قرأ القرآن في شهر؛ فقد أدّى ما عليه من حقّ قراءته.
- وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أيضاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين ». أبو داوود، وابن خزيمة، وابن حبان، والبيهقي في شعب الإيمان من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أبي سوية، عن ابن حجيرة الخولاني قاضي مصر في زمانه عن عبد الله بن عمرو.
2024/10/01 13:43:21
Back to Top
HTML Embed Code: