Telegram Web Link
الاعجاز البلاغي في القرآن د خديجة بناني pinned «بسم الله الرَّحمن الرَّحيم الحمد لله رب العالمين عليه نتوكل وبه نستعين سورة الانشقاق سُمِّيت هذه السُّورة المباركة في زمن الصَّحابة: " سورة إذا السَّماء انشقَّت" وسماها المفسرون وكتَّاب المصاحف: "سورة الانشقاق". ابتدأت بوصف أشراط السَّاعة وحلول…»
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد الله رب العالمين عليه نتوكل وبه نستعين
سورة المطففين
سميت هذ السُّورة في كتب السُّنَّة وبعض التَّفاسير: "سورة ويلٌ للمطففين" وفي كثير من كتب التَّفسير والمصاحف: "سورة المطففين" .
اشتملت على التَّحذير من التَّطفيف في الكيل والوزن، وتهويل يوم وقوفهم عند ربهم، ووعيد الَّذين يكذِّبون بيوم الجزاء وبالقرآن، وقوبل حالهم بضدِّه من الأبرار أهل الإيمان.
وما أنسب قولهم أنَّها نزلت بين مكَّة والمدينة لتطهير المدينة من فساد المعاملات التِّجاريَّة قبل أن يدخل إليها النَّبي - صلى الله عليه وسلم- لئلا يشهد فيها منكراً عاماً( ).
افتتاح السُّورة المباركة باسم الويل مؤذن بأنَّها تشتمل على وعيد شديد؛ فلفظ {ويلٌ} من براعة الاستهلال ( ). وهو افتتاح شديد يؤذن بالعذاب الأليم ( ) وتقديمه لأهميته؛ لأنَّه مقياس اقتصاد العالم وميزان التَّعامل فينتج عنه فساد كبير ( ).
ويسند هذا الويلُ بلام الاستحقاق: {للمطففين}، فما هو التَّطفيف؟
التَّطفيف: النَّقص عن حق المقدار في الموزون أو المكيل، ولم ينقل إلا بصيغة "التَّفعِيل" كأنَّهم راعوا في هذه الصِّيغة معنى التَّكلف والمحاولة؛ لأنَّ المُطفف يحاول أن ينقص الكيل دون أن يشعر به المُكتال ( ).
وتأتي الصِّفة الكاشفة لهم بقوله تعالى: {الَّذين إذا اكتالوا على النَّاس يستوفون} يتقدمها الاسم الموصول: {الَّذين} وتتبعه جملة الصِّلة مؤلفة من أداة الشَّرط: {إذا} وجملة الشَّرط :{اكتالوا على النَّاس} وجوابه: {يستوفون} لتحقق هذه الصَّفة فيهم؛ لأنَّ: {إذا} تفيد تأكيد حصول جملتيها.
وتقديم الجار والمجرور: {على النَّاس} دلالة على الاختصاص أي يستوفون حقهم من النَّاس كاملاً من غير نقص، إذا اشتروا من النَّاس ما يباع بالكيل، فحذف المفعول إيجازاً؛ لأنَّه معلوم في فعل: {اكتالوا}. أي: المكيل.
ثمَّ وصلت الجملة: {وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} بما يقابلها بحرف (الواو) لمناسبة التَّضاد حيث يظهر ظلمهم لغيرهم بأوضح ما يكون؛ لأنَّهم: ينقصونهم ذلك، إمَّا بمكيال وميزان ناقصين، أو بعد ملء المكيال والميزان يطففونه اختلاساً، أو نحو ذلك.
يقول السَّعدي فهذا سرقة لأموال النَّاس وعدم إنصاف لهم منهم. ثمَّ يتابع رحمه الله قائلاً: وإذا كان هذا الوعيد على الَّذين يبخسون النَّاس بالمكيال والميزان فالَّذي يأخذ أموالهم قهراً أو سرقة أولى بهذا الوعيد من المطففين ( ).
ويأتي الاستئناف بقوله تعالى: {ألا يظنُّ أولئك أنَّهم مبعوثون} استئناف ناشئ عن الوعيد والتَّقريع لهم بالويل على التَّطفيف وما وصفوا به من الاعتداء على حقوق المبتاعين.
وعليه نجده متصدراً بهمزة الاستفهام، وحرف النَّفي: (لا) توبيخاً على فعلهم وإنكاراً وتعجباً من عملهم. وقد قام اسم الإشارة: {أولئك} بإظهارهم وهم مقترفون ذلك الجرم الَّذي كانوا أشد حرصاً على إخفائه، ولكن ما خفي عن البشر لا يخفى على الخاق، فأبرزهم ربُّهم للعيان وهم متلبسين بجرمهم، إما كفراً بالله وإنكاراً للبعث، أو إغفالاً عن الحق إن كانوا مسلمين ( ).
كما صوَّرت صيغة البعد في: {أولئك} بعدهم عن الحق والصَّواب، يقول أبو السَّعود: وفي التَّعبير باسم الإشارة إظهار في مقام الإضمار؛ للإشعار بمناط الحكم الَّذي هو وصفهم ( ).
وهكذا ذكر يوم البعث بصفته في قوله تعالى {ليومٍ عظيم} (اللام) التي تصدرته لام التَّوقيت وفائدتها إدماج الرَّد على شبهتهم الحاملة لهم على إنكار البعث باعتقادهم الخاطئ أنَّه لو كان بعثٌ لبُعث أموات القرون الغابرة فأومأ قوله {ليوم} أنَّ للبعث وقتاً معيناً يقع عنده لا قبله. ووصف يوم بـ{عظيم} باعتبار ما يقع فيه من الأهوال. وجاء البدل عنه بقوله تعالى: {يوم يقوم النَّاس لربِّ العالمين} معنى {يقوم النَّاس} صور هيئتهم العجيبة وهم قيام لهول ما ينتظرونه من أحكام ربِّ العالمين الَّتي ستحدد مصيرهم الأبدي، فالتَّعبير بزمن المضارعة في: {يقوم} لاستحضار المشهد لما لهذا الزمن من قدرة على ذلك.
واللام في: {لربِّ العلمين} للأجل، أي لأجل ربوبيته وتلقي حكمه، وجاء التَّعبير عنه - سبحانه- بوصف: {رب العالمين} لاستحضار عظمته بأنَّه مالك أصناف المخلوقات ( ).
وقيل: وفي هذا إنكار وتَّعجب، وإيراد الظنِّ، والإتيان باسم الإشارة، ووصف يوم القيامة بالعظمة، والإبدال منه، ووصفه تعالى بالرَّبوبية بيان بليغ لعظم ذنب التَّطفيف ( ).
ثمَّ يأتي قوله تعالى: {كلا إنَّ كتاب الفجَّار لفي سجِّين} يحمل الكثير من الرَّدع والزجر عن التَّطفيف والتَّكذيب بيوم الدِّين على سبيل الاستئناف ( ).
فـ{كلا} إبطال وردع لما تضمنته جملة: {ألا يظن أولئك أنَّهم مبعوثون} والمعنى: كلا بل هم مبعوثون لذلك اليوم العظيم، ولتلقي قضاء ربِّ العالمين؛ فهي جواب عمَّا تقدم ( ). وعليه تأتي الجملة بعد {كلا} مؤكدة بمؤكدين حرف التأكيد: {إنَّ} واللام في خبرها. {لفي سجين}.
والتَّعريف في {الفجَّار} مراد به استغراق الجنس؛ لذا يقول السَّعدي: وهذا شامل لكُلِّ فاجرمن أنواع الكفرة والمنافقين والفاسدين ( ).
ويقول ابن عاشور في قوله تعالى: {لفي سجين} إن كان على ظاهر الظرفيَّة كان المعنى أنَّ كتب أعمال الفجَّار مودوعة في مكان اسمه {سجِّين} أو وصفه: {سجين} وذلك يؤذن بتحقيره، أي تحقير ما احتوى عليه من أعمالهم المكتوبة فيه.
وإن حملت الظَّرفيَّة في قوله تعالى: {لفي سجين} على غير ظاهرها، فجعل كتاب الفجَّار مظروفاً في {سجين} مجاز عن جعل الأعمال المحصاة فيه في سجين، وذلك كناية رمزيَّة عن كون الفجَّار في سجين
و {سجِّين}: تدور مادة الكلمة حول الحبس، والسِّجين: الصَّلب الشَّديد في كُلِّ شيء. وقد اختلف في معناه على أقوال أشهرها وأولاها أنَّه علم لوادٍ في جهنَّم، صيغ بزنة "فِعِّيل" من مادة السِّجن للمبالغة ( ).

ثمَّ جاء الاستفهام عن السِّجين بقوله تعالى: {وما أدراك ما سجين} تعظيماً ( ). وتهويلاً ( ). لأمر السِّجين بحيث لا يدرك أهواله أحد ( ).
ويأتي قوله تعالى: {كتاب مرقوم} بيان لكتاب الفجَّار ( ) والكلام على حذف المسند إليه والتَّقدير "وهو كتاب مرقوم" وذلك حذف متبع في استعمال العرب إذا تحدثوا عن خبر جديد ( ).
قال بعض المفسرين ( ): هو اسم كتاب مخصوص للفجَّار، بدليل قوله تعالى بعده: {كتابٌ مرقوم} وهو الأرجح
ويقول السَّعدي: أي: كتاب مذكور فيه أعمالهم الخبيثة، والسّجين: المحل الضَّيق الضَّنك، وقد قيل: إنَّ "سجِّين" هو أسفل الأرض السَّابعة، مأوى الفجَّار ومستقرُّهم في معادهم ( ).
ثمَّ جاء التَّهديد الشَّديد بقوله تعالى: {ويلٌ يومئذٍ للمكذبين} إجمالاً لكُلِّ مكذِّب ثمَ أعيد مفصِّلاً ببيان متعلق التَّكذيب بقوله تعالى: {الَّذين يكذبون بيوم الدِّين} لزيادة تقرير تكذيبهم في أذهان السَّامعين منهم، ومن غيرهم من المسلمين وأهل الكتاب؛ فالصِّفة هنا للتَّهديد وتحذير المطففين المسلمين من أن يستخفوا بالتَّطفيف فيكونوا بمنزلة المكذِّبين بالجزاء عليه ( ).
ومن دلائل التَّكذيب بيوم الدِّين الإقدام على السَّيئات والجرائم دون مبالاة أو تحسب لذلك اليوم الَّذي يوجد فيه الحساب الدَّقيق من رب العباد. ولذلك أعقبه سبحانه بقوله تعالى: {وما يكذب به إلا كلُّ معتدٍ أثيم} بأسلوب القصر "بما وإلا" الدَّالة على الجحود والنُّكران والجهل ( ). وعليه فقد جمع هذا الأسلوب أنواع من فئات النَّاس منهم الكافر الجاحد، ومنهم المشرك العارف المكابر، ومنهم المسلم الجَّاهل. لذا جاء تنكير كلمتي {معتدٍ أثيمٍ} لتدل على العموم والسعة في هذا الوصف
ويصف سبحانه حال تكذيبهم بقوله تعالى: {إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} بجملتي شرط وأداة الشَّرط فيها "إذا" الَّتي تدلُّ على الجزم والتَّأكيد. ويستوقفنا تعريف الآيات بإضافتها لضمير العظمة بقوله تعالى: {آياتنا} تعظيماً لها وحثاً على استيعاب ما تحمله من أحكام والتَّمسك باتباعها؛ لكن الكافرين قالوا {أساطير الأولين} استخفافاً بها، "والمراد بالأولين: الأمم السَّابقة؛ لأنَّ الأول يطلق على السَّابق على وجه التَّشبيه"( ).
ثمَّ يقع الردع والزَّجر لقولهم السَّابق بقوله تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}. آية تكشف سبب كفرهم وجحودهم للقرآن ورب القرآن - تعالى وتقدس- والمأمور بتبليغه -عليه أفضل الصَّلاة وأتم التَّسليم –
وتستوقفنا للتأمل كلمة {ران} الَّتي تدور حول: الطَّبع والدَّنس، والرَّين: كالصَّدأ يغشى القلب ويغطيه ( ). والرَّان المحيط بالقلب هو: نتيجة المعاصي والذُّنوب الَّتي يرتكبها الإنسان ( ).
ويأتي جزاؤهم المخزي وعقابهم الشَّديد بقوله تعالى: {كلا إنَّهم عن ربِّهم يومئذٍ لمحجوبون}. نلاحظ في هذه الآية تقديم الجار والمجرور {عن ربهم} للاهتمام به على متعلقه {لمحجوبون}؛ الكلمة الَّتي دلت على أنَّ الكافرين يوم القيامة محجوبون من رؤية الله عزَّ وجل ( ) إهانة وذلة لهم، وقيل محجوبون عن رحمته وكرامته( )
وكذلك جاء هذا التَّقديم لافتاً للنتيجة المذكورة في قوله تعالى: {ثمَّ إنَّهم لصالوا الجحيم} معطوفة بحرف العطف "ثمَّ" الدَّال في عطف الجمل على أن المعطوف أقوى في المعنى من المعطوف عليه. وعليه قيل: "للإشارة إلى ترقي عقاب هؤلاء المكذبين" ( ).
ويعطف عليه أيضاً بحرف العطف {ثمَّ} قوله تعالى {ثمَّ يقال لهم هذا الَّذي كنتم به تكذبون} كم تحمل هذه الآية من التَّوبيخ والتَّقريع الشَّيء الَّذي يُذِيبُ قلوبَهم حسرة وندماً على ما فرطوا في زمن السِّعة
والقائلون لهم ذلك على الأرجح هم زبانية "جهنَّم" وإنَّما طوي ذكرهم؛ لأنَّ المقصود ذكر القول، مع ما في عدم ذكرهم من التَّعميم، وبذلك يشتد الخوف ( ).
ويستوقفنا للتأمل ذكر النَّار بعنوان: الجَّحيم؛ وأحسب - والله أعلم- أنَّ ذلك لِمَا في حروف كلمة "الجحيم" من تصوير دقيق لشدَّة عذابها وتجهمها لهم كما قال تعالى في سورة الملك: {تكاد تميز من الغيظ كُلَّما أولقي فيها فوجٌ سألهم خزنتها الم يأتكم نذيرٌ. قالوا بلى قد جاءنا نذيرٌ فكذَّبنا وقلنا ما نزَّل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلالٍ كبير. وقالوا لو كنَّا نسمع أو نعقل ما كنَّا في أصحاب السعير. فاعترفوا بذنبهم مسحقاً لأصحاب السَّعير} [8-11].
والله أعلم وأحكم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
هذا ما تيسر ونستكمل السَّورة بحول الله وقوته في اللقاء القادم.
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
والحمد لله رب العالمين عليه نتوكل وبه نستعين
تكملة سورة المطففين
يبدأ هذا القسم من السُّورة المباركة بقوله تعالى: {كلا إنَّ كتاب الأبرار لفي عليين} فـ{كلا} أداة ردع وإبطال لما تضمَّنه ما يقال لهم: {هذا الَّذي كنتم به تكذبون} [المطففين:17] إبطالاً لتكذيبهم المذكور.
وكعادة أسلوب القرآن الكريم في إعقاب النَّذارة بالبشارة والعكس يأتي الاستئناف بوصف نعيم الأبرار بقوله تعالى: {إنَّ كتابَ الأبرارِ لفي عليين. وما أدراك ما عليُّون. كتابٌ مرقوم. يشهده المقربون}. يبدأ المقطع بحرف التأكيد {إنَّ}، و إضافة كتاب الَّذي هو اسم {إنَّ} لكلمة {الأبرار} الَّتي هي جمع " بَرّ"َ بفتح "الباء" وهو التَّقي؛ وسمي كذلك لأنَّه بَرَّ ربه، أي صدَّقه ووفى له بما عهد له من الأمر بالتَّقوى( ).
ويأتي خبر {إنَّ} بقوله تعالى: {لفي عليٍّن} تتقدمه "لام" التَّوكيد لبيان محل كتاب الأبرار ( ). وهو ضد محلِّ كتاب الفجَّار ( ). فجاءت المقابلة البلاغيَّة توضح أنَّ حال الأبرار مقابل لحال الفجَّار.
ثمَّ يأتي الاستفهام في قوله تعالى: {وما أدرك ما علِّيون} تنبيهاً على عظم شأن العلِّيين ( )، وبالتالي تفخيم مراتب الأبرار ( ). فـ(عليِّين ، و علِّيون) تدور مادتها حول الارتفاع والرُّقي والعظمة ( ). واختلف المفسرون في المراد به فقيل السَّماء السَّابعة، أو مكان عند قائمة العرش، أو الجنَّة ( ). أو علم لديوان الخير الَّذي دُوِّن فيه كُلَّ ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين، سمي بذلك؛ لأنَّه سبب للارتفاع في درجات الجنَّة، أو لأنَّه مرفوع في السَّماء السَّابعة ( ).
وجاء تفسير كتاب الأبرار بقوله تعالى: {كتابٌ مرقومٌ} أي: المكتوب كتابة بيِّنة تشبه الرَّقم في الثَّوب المنسوج، وهذا وصف يفيد تأكيد ما يفيده لفظ {كتاب}( ).
وفي قوله تعالى: {يشهده المقربون} من الملائكة الكرام، وأرواح الأنبياء والصِّدِّيقين والشُّهداء، ويُنوِّه الله بذكرهم في الملأ الأعلى ( ).
يقول ابن عاشور: أي يطلعون عليه، أي : يعلن به عند المقربين، وهم الملائكة وهو إعلان تنويه بصاحبه ( ).
ثمَّ يأتي الاستئناف البياني لذلك بقوله تعالى: {إنَّ الأبرار لفي نعيم} كأنَّ سألاً يسأل هذا حال كتابهم، فما حالهم؟ فأجيب بما ذكر ( ). ونجد أنَّ الأبرار ذكروا بالاسم الظاهر دون الاكتفاء بضميرهم تنويهاً بهذه الصِّفة فيهم.
كما صوَّر خبر "إنَّ" بحرف الجر "في" المسبوق بلام التوكيد في {لفي} صوّر انغماسهم في ذلك النَّعيم الَّذي لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؛ كرم من الكريم المنان.
ويأتي الخبر الثَّاني عن الأبرار بقوله تعالى: {على الأرائك ينظرون} أي: هم على الأرائك متكئون.
والأرائك: جمع أريكة بوزن سفينة، والأرائك: اسم لمجموع سرر ووسادته وحَجلةٍ منصوبة عليها، فلا يقال: أريكة إلا لمجموع هذه الثلاثة ( ).
و جاء وصف حالهم بقوله تعالى: {ينظرون} قيل: حذف مفعول {ينظرون} إمَّا لدلالة ما تقدم عليه من قوله تعالى: {إنَّهم عن رَّبِّهم يومئذ لمحجوبون}[المطففين:15] والتَّقدير ينظرون إلى ربِّهم، وإمَّا لقصد التَّعميم، أي ينظرون كُلَّ ما يبهج نفوسهم ويسرهم بقرينة مقام الوعد والتَّكريم ( ).
وزمن الفعل المضارع: {ينظرون} يفيد استمرار. حال تنعمهم بذلك النَّظر لذا جاء بعده قوله تعالى: {تعرف في وجههم نضرة النَّعيم} على الالتفات؛ لفت الانتباه إلى آثار النِّعم على وجوه الأبرار ( ).
والنَّضرة: البهجة والحُسن، وإضافة {نضرة} إلى {النَّعيم} من إضافة المسبب إلى السبب، أي النَّضرة والبهجة الَّتي تكون لوجه المسرور الرَّاضي إذ تبدو عليه ملامح السُّرور ( ).
ويأتي قوله تعالى: {يسقون من رحيق مختوم} خبر رابع عن الأبرار أو حال ثالثة منه. وعُبِّرَ بـ{يسقون} دون: {يشربون} للدلالة على أنَّهم مخدُمون بخدم مخلوقات لأجل ذلك في الجنَّة. ولا بد أن يدلَّ ذلك على تمام الإنعام والتَّرفيه ولذَّة الرَّاحة.
والرَّحيق: اسم للخمر الصَّافية الطَّيِّبة. والمختوم: المسدود إناؤه وجعل – سبحانه- ختام خمر الجنَّة بعجين المسك عوضاً عن طين الختم فقال تعالى: {ختامه مسك} نعت لـ{رحيق} أو بدل مفصِّل من مجمل، أو استئناف بياني ناشئ عن وصف الرَّحيق بأنَّه {مختوم} ( ). وإذا كان ذلك هو ختام الكأس فكيف بحشوه ( ).
ونراه - سبحانه وتعالى- رغَّب في العمل الموجب لهذه الكرامة بجملة معترضة: قال تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} ( ). قُدِّم الجار والمجرور (في ذلك) على متعلقه (فليتنافس) للحصر، أي: في هذا الخمر لا في خمر الدُنيا {فليتنافس المتنافسون} ( ). أو في هذا النَّعيم لا نعيم الدُّنيا فليتنافس المتنافسون
يقول ابن عاشور: ولمَّا كانت (الواو) اعتراضيَّة لم يكن إشكال في وقوع (فاء) الجواب بعدها، والتَّقدير: وفي ذلك فلتنافسوا؛ فتكون الجملة في قوة التَّذييل؛ لأنَّ المقدر تنافس المخاطبين، والمصرَّح به تنافس جميع المتنافسين؛ فهو تعميم بعد تخصيص، وجاءت (لام) الأمر في: {فليتنافس} مستعملة في التَّحضيض والحث ( ).
ثمَّ جيء للرحيق بوصف آخر في قوله تعالى: {ومزاجه من تسنيم}.
{ومزاجه} ما يمزج به، وبيَّنَ التَّسنيم بقوله تعالى: {عيناً يشرب بها المقربون} ( ). قيل: هي علمٌ لعين في الجنَّة ( ). ونكرت {عيناً} تعظيمها ( ).
يشرح السَّعدي قائلاَ: فمزاج هذا الشَّراب من تسنيم وهي عين {يشرب بها المقربون} وتلك أعلى أشربة الجنَّة على الإطلاق؛ لذلك كانت خالصة للمقربين الَّذين هم أعلى الخلق منزلة، وممزوجة لأصحاب اليمين أي: مخلوطة بالرَّحيق وغيره من الأشربة اللذيذة ( ). وهنا تكون (الباء) في {بها} سببيَّة.
يقول ابن عاشور: وإمَّا أن تكون (الباء) للملابسة وفعل {يشرب} معدى إلى مفعول محذوف وهو الرَّحيق، أي يشربون الرَّحيق ملابسين للعين، أي محيطين بها وجالسن حولها؛ و هذا تصوير دقيق ورائع لمجالسهم حول تلك العين الَّتي تسمى تسنيم؛ لأنَّها تصب من أعلى جنانهم، أي: من علوٍّ فكأنَّها سنام ( ). وبذلك يتضح حال نعيم الأبرار عند مقابلتها بحال الفجَّار السَّابق الذكر.
وعند هذه الآيات انتهت أوصاف نعيم الأبرار، ولوحظ الإطناب في تعداد تلك النِّعم ( ) ترغيباً فيها وتشويقاً للحصول عليها والتمتع بها وذلك أسلوب من الأساليب التربويَّة في قرآننا الكريم.
ثمَّ انتقل للحديث عن قُبح معاملة الكُفَّار للأبرار المؤمنين في الدُّنيا، ابتداءً من قوله تعالى: {إنَّ الَّذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون} الافتتاح بـ{إنَّ الذين أجرموا} بصورة الكلام المؤكد لإفادة الاهتمام بالكلام ليتوجه بذلك الافتتاح جميع السَّامعين، وعبَّر بالموصول وهذه الصلة: {الذين أجرموا} للتنبيه على ما أخبر به عنهم وهو الإجرام، وليظهر موقع قوله تعالى: {هل ثوِّب الكفار ما كانوا يفعلون} في خاتمة السُّورة المباركة.
والتَّعبير عن المكذبين بـ{الَّذين أجرموا} إظهار في مقام الإضمار على طريقة الالتفات، وقُدِّمَ الجار والمجرور: {من الَّذين آمنوا} على متعلقه {يضحكون} للقصر إشعاراً بشناعة فعل هؤلاء المجرمين ( ).
وصياغة فعل: {يضحكون} بزمن المضارع يصوِّر المشهد ويدلُّ على الاستمرار.
وتتابع الآيات لتصوير عدد من تصرفات المجرمين الشَّنيعة في حق المؤمنين في قوله تعالى: {وإذا مرُّوا بهم يتغامزون. وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فَكِهين}
التغامز: تفاعل من الغمز ويطلق على جس الشَّيء باليد جساً متمكناً، كما يطلق على تحريك الطَّرف لقصد تنبيه النَّاظر لِمَا عسى أن يفوته النَّظر إليه، وكلا الإطلاقين يصح حمل المعنى في الآية عليه ( ).
ويستوقفنا للتأمل التِّكرار في قوله تعالى: {وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين} وذلك لتقرير معناه في أذهان السَّامعين بما يصوِّره معنى الانقلاب من الخسران والتَّخبط؛ وإن كانوا {فكهين} أي فرحين بما هم عليه من الكفر والاستهزاء بالمؤمنين. والله أعلم وأحكم.
وقد حكت جملة: {وإذا رأوهم قالوا إنَّ هؤلاء لضالون} ما يقوله الَّذين أجرموا في المؤمنين إذا شاهدوهم؛ هكذا جمعوا بين الأذى بالإشارات وبالهيئة وبسوء القول في غيبتهم وسوء القول إعلاناً به على مسامع المؤمنين لعلهم يرجعون عن الإسلام إلى الكفر. ومرادهم بالضلال فساد الرأي.
وكلمة: {إذا} الَّتي تصور زمن الفعل تكررت في كُلِّ جملة من الجمل الثَّلاث فهي ظرف متعلِّق بالفعل الموالي له في كُلِّ جملة ( ). يصوِّر أحوال الكافرين مع المؤمنين في جميع تقلباتهم.
وعليه جاء قوله تعالى: {وما أرسلوا عليهم حافظين} تهكماً بهم، فهم لم يوكلوا للرقابة على المؤمنين أو الاعتناء بهم؛ لأنَّ معنى الحفظ هنا الرَّقابة ولذلك عُدِّي بحرف (على) ليتسلط النَّفي على الإرسال والحفظ، ولذا جاء تقديم الجار والمجرور {عليهم} على متعلقه {حافظين} للاهتمام به ( ).
ثمَّ جاء قوله تعالى: {فاليوم الَّذين آمنوا من الكفار يضحكون} حكاية لما يقال لهم يوم القيامة ( ).
وهكذا قُدِّم الجار والمجرور: {من الكفُّار} على متعلقه: {يضحكون} للقصر تحقيقاً للمقابلة بين حال المؤمنين في الآخرة وحال الكفَّار لا العكس كما فعلوا في الدُّنيا ( ). وهو قصر إضافي، أو قُدِّم اهتماماً بالمضحوك منهم، تعجيلاً لإساءتهم ومعرفتهم لمصيرهم عند سماع هذا التَّقريع. وقد جاء الإظهار في مقام الإضمار في قوله تعالى: {الكُفَّار} لمزيد من الذَّم بإظهار هذا الوصف ( ).
يصف السَّعدي حالهم بقوله: وذلك حين يرونهم في غمرات العذاب يتقلبون، وقد ذهب عنهم ما كانوا يفترون. والمؤمنون في غاية الرَّاحة والطمأنينة ( ). ولعل في ذلك عبرة لأمثالهم عبر الزَّمان.
يقول أبو السُّعود: في الآية مشاكلة ومجانسة لحال الكافرين في الآخرة بحال المؤمنين في الدنيا ( ). وعليه يأتي مزيد من بيان أحوال المؤمنين في ذلك اليوم بقوله تعالى: {على الأرائك ينظرون} يقول السَّعدي: هي السُّرر المزينة و{ينظرون} إلى ما أعد الله لهم من النَّعيم، وينظرون إلى وجه ربِّهم الكريم ( ).
وتختم السورة المباركة بقوله تعالى: {هل ثوِّبَ الكفَّار ما كانوا يفعلون} تبدأ هذه الآية بالاستفهام التقريري ( ). أو التعجبي؛ لعدم إفلات الكافرين من الإثابة بعد دهور ودهور، والإثابة تستعمل في الشَّر كالمجازاة ويراد به التهكم ( ) أو التَّنغيص ( ). وهو قول يوجهه - سبحانه وتعالى- للمؤمنين؛ ليزيد من سرورهم، لِمَا فيه من الاستخفاف بأعدائهم ( ).
يقول السَّعدي: فكما ضحكوا في الدُّنيا من المؤمنين ورموهم بالضَّلال، ضحك المؤمنون منهم في الآخرة ورأوهم في العذاب والنِّكال، الَّذي هو عقوبة الغي. نعم ثوِّبوا ما كانوا يفعلون، عدلاً من الله وحكمة، والله عليم حكيم ( ).
والله أعلم وأحكم وصلى الله تعالى نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الاعجاز البلاغي في القرآن د خديجة بناني pinned «بسم الله الرَّحمن الرَّحيم والحمد لله رب العالمين عليه نتوكل وبه نستعين …»
سورة الانفطار
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
والحمد لله رب العالمين عليه نتوكل وبه نستعين
سميت هذه السُّورة المباركة "سورة الانفطار في المصاحف ومعظم التَّفاسير.
وفي حديث رواه التِّرمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من سرَّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنَّه رأيُ عين فليقرأ إذا الشَّمس كوِّرت، وإذا السَّماء انفطرت، وإذا السَّماء انشقت" قال التِّرمذي حديث حسن غريب ( ).
اشتملت هذه السُّورة على: إثبات البعث، وذكر الأهوال الَّتي تتقدمه، وكذا إيقاظ النَّظر في الأمور الَّتي تصرف عن الاعتراف بتوحيد الله - سبحانه وتعالى- وتلفت إلى النَّظر في دلائل وقوع البعث والجزاء ( ).
أول ما يلفتنا لهذه السُّورة وأمثالها افتتاحها بـ{إذا} الَّتي هي ظرف زمان للمستقبل متضمنة معنى الشَّرط ( ). وتكراره بعد ذلك ثلاث مرات مع الجمل المتعاطفة على الجملة الأولى، وهو افتتاح مشوِّق لمضمون الجواب، وهذا نوع من الإطناب يقتضيه مقام التَّهويل ( ).
والقول الكريم {إذا السَّماء انفطرت} يقدِّرُه أهل اللغة بقوله: "إذا انفطرت السَّماء انفطرت" وذلك للقاعدة الَّتي تفرض دخول أداة الشَّرط على الجملة الفعليَّة، وعليه يقول ابن عاشور: وافتتاح هذه الجمل الَّتي أضيف إليها "إذا" بمسند إليه - أي "السَّماء" الَّتي هي فاعل الانشقاق- مفسَّرة بمسند فعلى: أي {انشقت} لقصد الاهتمام ( ). والتَّفخيم ( ). والتَّأكيد على هذا الحدث العظيم.
كلمة: {انفطرت} تدور مادتها حول: التَّشقق والتَّصدع ( ). قال الرَّاغب: (أصل الفَطْر: الشَّق طولاً) ( ). والسَّماء تتشقق بالغمام يوم القيامة ( ). أو تتشقق لتزول بنيتها ( ). أو لنزول الملائكة ولهيبة الله تعالى( ). ويمثِّل ذلك كُلَّه أصوات حروف الكلمة القرآنيَّة: {انفطرت}.
يقول ابن عاشور: والظاهر أنَّ هذا الانفطار هو المعبَّر عنه بالانشقاق أيضاً في سورة الانشقاق؛ وهو حدث يكون قبل يوم البعث، وأنَّه من أشراط السَّاعة؛ لأنَّه يحصل عند إخلاف النِّظام الَّذي أقام الله – سبحانه وتعالى- عليه حركات الكواكب وحركة الأرض ذلك يقتضيه قرنه بانتشار الكواكب وتفجُّر البحار وتبعثر القبور ( ).
ولذا يأتي العطف عليه بقوله تعالى: {وإذا الكواكب انتثرت}. انتثار الكواكب: تساقطها ( ). متفرقة ( ). من مواقعها الَّتي هي منظمة فيها ( ).
قيل التَّعبير عن تفرُّق الكواكب بالانتثار استعارة لإزالة الكواكب، حيث شُبهت بجواهر قُطِعَ سِلكها، وهي استعارة تصريحيَّة أو مكنيَّة ( ).
ويعطف عليه – سبحانه – حدث أخر قائلاً: {وإذا البحار فُجِّرت} كلمة "فجرت" تدور مادتها حول: الشَّق والميل والسُّقوط عن الطَّريق ( ).
يقول الطَّبري: وفجَّر الله البحار بعضها في بعض فملأ جميعها، أو أذهب ماءها، أو فَجَّر عذبها في مالحها وما لحها في عذبها ( ).
وتأتي الجملة الرَّابعة في هذه المتعاطفات بقوله تعالى: {وإذا القبور بعثرت} يدور معنى كلمة {بعثرت} حول التَّفريق وقلب الشَّيء بعضه على بعض لاستخراج شيء وكشفه ( ). فبعثرة القبور حالة من حالات الانقلاب الأرضي والخسف خصت بالذِّكر من بين حالات الأرض لِمَا فيها من الهول باستحضار حالة الأرض وقد ألقت على ظاهرها ما كان في باطن المقابر ( ).
ويستوقفنا للتأمل صيغة الماضي في هذه الأفعال كُلِّها مع أنَّ تلك الأحداث لم تقع بعد؛ وذلك لِمَا لصيغة الماضي من قوة تأكيد الحدث؛ لذا قيل: مستعملة في المستقبل تشبيهاً لتحقيق وقوع المستقبل بحصول الشَّيء في الماضي ( ).
ثمَّ يأتي جواب كُلُّ تلك الجمل الشَّرطيَّة بقوله تعالى: {علمت نفسٌ ما قدَّمت وأخرت}
يقول ابن عاشور: جواب لما في {إذا} من معنى الشَّرط، ويتنازع التَّعلق به جميع ما ذكر من كلمات {إذا} الأربع. وهذا العلم كناية عن الحساب على ما قدمت النُّفوس وأخرت ( ).
ويستوقفنا للتأمل اختيار: {علمت نفسٌ} وأحسب-الله أعلم- أنَّ ذكر العلم بالشَّيء قبل وقوعه يصور الأحوال النفسيه الَّتي تكون فيها النفوس؛ بين العلم به ووقوع الحدث نفسه؛ فإمَّا البشرى بالخير وإمَّا والعياذ بالله العذاب المنتظر وذلك بحد ذاته عذاب نفسي شديد. ولأنَّ تنكير كلمة {نفسٌ} دلَّ على العموم أي كلُّ نفس.
وقيل: إثبات علم النَّاس بما قدموا وأخروا عند حصول تلك الشُّروط لعدم الاعتداد بعلمهم بذلك الَّذي كان في الحياة الدُّنيا، فقد أنزل منزلة عدم العلم ( ).
وفي قوله تعالى: {ما قدَّمت وأخرت} أقوال منها: ما عملت من خير وشر ( ).
وقيل هو كناية عن الحساب على ما قدمَّتْ النُّفوس وأخرتْ من أعمال ( ).
وقد جاء الطِّباق بين: (قدَّمت) و (أخرت) وهو من المحسنات البديعية ( ). لتتفكَّر النُّفوس بكلِّ ما قدَّمته وما أخرته ( ). في حياتها الدُّنيا؛ لأنَّه لابد من شاهدته لها أو عليها في الآخرة.
يقول السعَّدي: فحينئذ ينكشف الغطاء، ويزول ما كان خفياً، وتعلم كلًّ نفس ما معها من الأرباح والخسران، هنالك يعض الظالم على يديه إذا رأى أعماله باطلة، وميزانه قد خف، والمظالم قد تداعت إليه، والسيئات قد حضرت لديه، وأيقن بالشقاء الأبدي والعذاب السَّرمدي. وهناك يفوز المتقون المقدِّمون لصالح الأعمال بالفوز العظيم والنَّعيم المقيم، والسَّلامة من عذاب الجحيم ( ).
وعليه يأتي النداء العام بقوله تعالى: {يا أيها الإنسان ما غرك بريك الكريم. الَّذي خلقك فسوَّاك فعدل. في أي صورة ما شاء ركبك}.
يقول السِّعدي في هذا: يقول تعالى معاتباً للإنسان المقصر في حق ربه، المتجرئ على معاصيه. {ما غرك بربك الكريم} أتهاوناً منك في حقوقه؟ أم احتقاراً منك لعذابه؟ أم عدم إيمان منك بجزائه ( ).
ويستوقفنا هنا إيثار تعريف الله بوصف "ربك" دون ذكر اسم الجلالة "الله" لِمَا في معنى الرَّب من الملك والإنشاء والرَّفق، ففيه تذكير للإنسان بموجبات استحقاق الرَّب طاعة مربوبه فهو تعريض بالتوبيخ ( ). وكلمة "رب" تحمل من الرِّفق الشَّيء الكثير فهي كلمة أكثر ما تذكر في تفضل الله على عباده بالنِّعم الَّتي لا تعد ولا تحصى؛ وعليه جاء وصفه - جلَّ جلاله – بـ{الكريم} دون غيره من صفات الله للتَّذكير بنعمته على النَّاس بعامة ولطفه بهم فإنَّ الكريم حقيق بالشُّكر والطَّاعة ( ).
ويستمر خطاب الإنسان للمواجهة بهذا الإعجاز العلمي في تَّدرج وجود الإنسان بعد أن كان عدماً في قوله تعالى: {خلقك فسواك فعدلك} تصوير معجز لمراحل خلق الجنين بدقَّة متناهية.
وعليه جاء الاستفهام في قوله تعالى: {في أي صورة ما شاء ركبك} مراداً به التَّعجب، إشعاراً بمزيد المنَّة والفضل منه تعالى على عباده ( ). وهو جامع لكثير مما تؤذن به الأوصاف السَّابقة؛ فإنَّ الخلق والتَّسوية والتَّعديل وتحسين الصُّورة من الرِّفق بالمخلوق، وهي نعم عليه، وجميع ذلك تعريض بالتَّوبيخ على كفران نعمته بعبادة غيره ( ).
ثمَّ جاء الرَّدع والزَّجر في قوله تعالى: {كلا}، والإضراب بعده بقوله تعالى: {بل تُكذِّبون بالدِّين} وصيغة المضارع في قوله تعالى: {تكذِّبون بالدِّين} إفادة بأنَّ تكذيبهم بالجزاء متجدد لا يقلعون عنه؛ وهو سبب استمرار كفرهم، مع استحضار حالة هذا التَّكذيب استحضاراً يقتضي التَّعجب منه ( ).
قيل: الدِّين هنا يراد به الجزاء، أو الحساب، أو الإسلام الَّذي هو كناية عن التَّصديق بالثَّواب والعقاب ( ).
ثمَّ عطف عليه قوله تعالى: {وإنَّ عليكم لحافظين} جملة مؤكدة بإنَّ و(لام) التَّأكيد لأنكار المشركين ذلك إنكاراً قوياً، وقد دلِّ تقديم الجار والمجرور: {عليكم} على مزيد اهتمام؛ كما صوَّر حرف الجر "على" صورة العلو والتَّمكين منهم.
يقول ابن عاشور: و {الحافظين} صفة لمحذوف تقديره: الملائكة الحافظين، وقد أجرى عليهم أربعة أوصاف هي:
1ـ الحفظ، ومعناه الرِّعاية والمراقبة.
2 ـ والكرامة: وهي صفتهم النَّفسية الجامعة للكمال.
3ـ والكتابة: المراد بها ضبط ما وكُّلوا على حفظه؛ فلا يتعرض للنسيان.
4ـ والعلم: الإحاطة بما يصدر عن النَّاس من أعمال، وما يخطر ببالهم من تفكير بما يعمله النَّاس، وفي هذا تنويه بشأن الملائكة الحافظين ( ).
ثمَّ استؤنف قوله تعالى: {إنَّ الأبرار لفي نعيم} جملة مؤكدة بحرف التوكيد {إنَّ} و (لام) الابتداء جواباً لسؤال يدور في خاطر المتلقي لما مر من ذكر المكذبين بقوله تعالى {كَلَّا بل تُكذبون بالدِّين}. وحرف الجر في قوله تعالى {لفي نعيم} رسم صورة انغماس الأبرار في ذلك النَّعيم الَّذي لا يقادر قدره إلا المنعم به -عزَّ وجل-.
ولا شك أنَّ الأبرار هم المتقون الله -جلَّ جلاله- قيل سمي المتقي بَرَّاً؛ لأنَّه بَرَّ ربه، أي صدقه ووفى له بما عهد له من الأمر بالتَّقوى( ).
وتتضح صورة ذلك النَّعيم الَّذي ينغمس فيه الأبرار بمقابلته بضده في قوله تعالى: {وإنَّ الفجَّار لفي جحيم. يصلونها يوم الدين. وما هم عنها بغائبين} بنفس تَّرتيب التأكيد للاهتمام بتحقيق كونهم في جحيم لا يطمعون في مفارقته. ويعمل وتنكير: :{نعيم} و :{جحيم} على تفخيم كُلٍّ منهما زيادة في التَّهويل ( ).
ويزيد ذلك وضوحاً جملة: {يصلونها} الَّتي جاءت صفة لـ{جحيم} أو حال من {الفجَّار}.
وأما الظَّرف: {يوم الدِّين} لجملة: {يصلونها} جاء بيان: أنَّهم يصلونها جزاء عن فجورهم؛ لأنَّ الدِّين الجزاء ويوم الدِّين يوم الجزاء، وهو من أسماء يوم القيامة.
ولا يخفى أنَّ زمن المضارع في الفعل: {يصلونها} دلَّ على استمرار ذلك الحدث وقام برسم صورته في ذهن المتأمل.
ويؤكده قوله تعالى: {وماهم عنَّها بغائبين} أي خالدون فيها ( ). نلحظ تقديم: {عنها} على متعلِّقه ذلك للاهتمام بالمجرور "الضمير" العائد على جهنَّم زيادة في استحضار صورة ذلك الإصلاء وهم مخلدون فيه على الدَّوام. نسأل الله السلامة والعافية من غضبه وعقابه.
ثمَّ يطالعنا الاستفهام عن يوم الدِّين بقوله تعالى: {وما أدراك ما يوم الدِّين} استفهام يبث في النُّفوس التعظيم والتهويل والتخويف، وقد كرر بـ(ثمَّ) في قوله تعالى: {ثمَّ ما أدرك ما يوم الدِّين} الَّتي تفيد التَّراخي الرُّتبي؛ لزيادة التَّهويل ( ). والتَّعظيم من شأن يوم الدِّين ( ). وحق له ذلك وهو يوم عند الله وعلى عباده عظيم .
وجاءت الآية الأخيرة تؤكد ذلك بقوله تعالى: {يوم لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً والأمر يومئذٍ لله} فكلٌ مشتغل بنفسه لا يطلب الفكاك لغيرها، {الأمر يومئذٍ لله} فهو الَّذي يفصل بين العباد، ويأخذ للمظلوم حقه من ظالمه ( ).
يقول أبو السِّعود شارحا هذه الخاتمة: هذا بيان إجمالي لشأن يوم القيامة إثر إيهامه، وبيان خروجه عن علوم الخلق بطريق إنجاز الوعد؛ فإنَّ نفي إدرائهم مشعرٌ بالوعد الكريم بالإدراء ( ). وقد بينه لنا – سبحانه وتعالى- بقرآنه العظيم في هذه السُّورة وأمثالها
والله أعلم وأحكم وصل اللهم على نبينا وشفيعنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
والحمد لله ربِّ العالمين عليه نتوكل وبه نستعين
سورة التكوير
اسم السُّورة المباركة
قيل لم يثبت عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم – أنَّه سماها تسمية صريحة غير ما ذكر في حديث التِّرمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: "من سرَّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنَّه رأيُ عينٍ فليقرأ إذا الشَّمس كُورت، وإذا السَّماء انفطرت، وإذا السَّماء انشقت".
وأكثر التَّفاسير يسمونها "سورة التَّكوير" كذلك تسميتها في المصاحف.
ما اشتملت عليه من أغراض:
اشتملت على تحقيق الجزاء صريحاً، وعلى إثبات البعث وما ابتُدئ به من وصف الأهوال الَّتي تتقدمه، وعلى التَّنويه بشأن القرآن ( ).
الافتتاح بـ(إذا) افتتاح مشوِّق؛ لأنَّ {إذا} ظرف يستدعي متعلقاً، وفي نفس الوقت هو شرط يحتاج إلى جواب بعده، وعليه إذا سمعه السَّامع ترقَّب ما سيأتي بعده؛ فعندما يسمعه يتمكن من نفسه كمال تمكن؛ وخاصة بالإطناب بتكرار كلمة {إذا}( ).
ثمَّ يلي {إذا} العلامة الأولى من علامات السَّاعة: وهي تكوير الشَّمس؛ وقد ذُكر في تكويرها عِدَّة أقوال كُلُّها تدور حول نهاية أمرها، لأنَّ الله - سبحانه وتعالى- جعل لها أجلاً مسمى ( ).
في قوله تعالى: {إذا الشَّمس كوِّرت} يقول السِّعدي: تكوُّر الشَّمس أي: تجمع وتلف ( ). ويجعل الشِّهاب ذلك على الاستعارة التِّبعية، أو المكنيَّة بتشبيهها بالجواهر والأمور النَّفيسة الَّتي إن رفعت لُفت في ثوب ( ). وهذا الموقف الأول الرَّهيب الَّذي يصوِّر الظلام العام إلا من جعل الله – سبحانه وتعالى- له نوره الخاص به لقوله تعالى: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورهم بين أيديهم وبأيمانهم بُشراكم اليوم جنَّاتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم[الحديد:12]
وفي إعادة كلمة {إذا} بعد واو العطف في هذه الجمل الَّتي أضيف إليها اثنتى عشرة مرة إطناب اقتضاه قصد التَّهويل، كما إنَّ إعادة {إذا} مع كُلِّ جملة إشارة إلى أنَّ مضمون كُلِّ جملة من هذه الجمل الاثنتي عشرة مستقل بحصول مضمون جملة الجواب، بقطع النَّظر عن تفاوت زمان حصول الشَّرط ( ). أي أنَّ الجواب الَّذي ذكر بعد جمل الشَّرط الاثنتي عشرة يتكرر معناه مع كُلِّ جملة منها؛ وفي هذا تصوير دقيق للحالة النَّفسيَّة الَّتي تصاحب تلك الأحداث لكُلِ إنسان على تفوت زمن حدوثها والله أعلم.
لأنَّ كلمة {كوِّرت} تدور مادتها حول: اللَّف والجمع والزِّيادة، وتكوير الشَّمس: جَمْعُ ضوئها ولفه كما تلف العمامة ( ).
وهذه المعاني هي الَّتي دار حولها المفسرون ( ). وزادوا قد يراد بالتكوير ذهاب الشَّمس نفسها ( )، ورميها ( )، ورفعها وسترها ( ).
وتأتي العلامة الثَّانية بقوله تعالى: {وإذا النُّجُومُ انكَدَرَت} وذلك تابع للعلامة الأولى؛ يقول ابن عاشور: وإذا زال ضوء الشَّمس انكدرت النُّجُوم؛ لأنَّ معظمها يستنير من انعكاس نور الشَّمس عليها ( ).
ثمَّ يقول: والاكدار: مطاوع كَدَّره المضاعف على غير قياس، أي: حصل للنُّجوم انكدار من تكدير الشَّمس لها حين زال انعكاس نورها، فلذلك ذكر مطاوع كدر دون ذكر فاعل التَّكدير ( ). وجعلوا ذلك استعارة حيث شُبه ذهاب ضوئها بتكدير الماء المذهب لصفائه، ورونق منظره ( ).
ويقول السِّعدي في: {إذا النُّجوم انكدرت}: أي تغيرت وتساقطت من أفلاكها ( ). على سطح الأرض( ). أو في جهنَّم؛ ليرها كُلُّ من عبدها في النَّار( ).
وبعد ذكر أعلام السَّماء العظيمة يتبعه – سبحانه تعالى- بأعلام الأرض بقوله تعالى: {وإذ الجبالُ سُيرت} يقول الشِّهاب: تسيير الجبال في الآية أي: إزالتها عن وجه الأرض على سبيل الاستعارة أو المجاز المرسل ( ).
ويفصِّل ذلك السَّعدي بقوله: أي صارت كثيباً مهيلاً، ثمَّ صارت كالعهن المنفوش، ثمَّ تغيَّرت وصارت هباء منبثاً، وسيرت عن أماكنها ( ).
وبعد ذكر أعظم الجمادات يأتي - سبحانه وتعالى- بذكر ما عظم حجمه وكثر نفعه من الحيوانات بقوله تعالى: {وإذا العشار عطلت}. إذ قيل: هنَّ النُّوق الَّتي بلغ حملها عشرة أشَّهر فهو اسمها حتَّى تضع في تمام السَّنة ( ). وقيل هي النُّوق الَّتي يتبعها نتاجها من الصِّغار؛ وقد كانت من أنفس الأموال عند العرب الَّذين نزل فيهم القرآن.
فخُصَّ ذكر تعطيل العشائر في الآية؛ لأنَّ ذلك ينبئ عن ذهاب الأموال وبطلان الأملاك واشتغال النَّاس بما هو أعظم ( )، وهو كناية عن شِدَّة أهوال القيامة ( ).
وقيل: العشائر كناية عن السَّحاب الَّتي تعطَّلت عمَّا فيها من الماء ( )، مما يعني توالي القحط على الأرض، وذلك على الاستعارة، وذهب ابن عاشور إلى أنَّه الأنسب مما قبله؛ لأنَّه من أشراط السَّاعة العلويَّة مما يتناسب مع تكوِّير الشَّمس وانكدار النُّجوم ( ).
وجاء التَّناسق المعنوي المعجز بذكر الوحوش بعد ذكر العِشَار بمشهدٍ رهيب في قوله تعالى: {وإذا الوحوش حُشِرتْ}، (وحشرها جمعها في مكان واحد من الأرض؛ وقد يكون سبب حشرِها طوفاناً يغمر الأرض من فيضان البحار فكلَّما غمر جزءاً من الأرض فرَّت وحوشه حتَّى تتجمع في مكان واحد طالبة النَّجاة من الهلاك) ( ). ويشعر بهذا ما عطف عليه من قوله تعالى: {وإذا البحار سُجِّرت}.
وذكر هذا بالنِّسبة إلى الوحوش إيماء إلى شدَّة الهول فالوحوش الَّتي من طبعها نفرة بعضها عن بعض تتجمع في مكان واحد لا يعدو شيء منها على الآخر من شِدة الرَّهب؛ فهي ذاهلةٌ عمَّا في طبعها من الاعتداء والافتراس ( ).
(وحشرها للقصاص كناية عن العدل التَّام) ( ). يقول السِّعدي: أي جمعت ليوم القيامة، ليقتص الله تعالى من بعضها لبعض، ويرى العباد كمال عدله، حتَّى إنَّه ليقتص من القرناء للجماء، ثمَّ يقول لها: كوني تراباً ( ). فيتحسر الكافر عند ذاك ويقول {يا ليتني كنت تراً} أي: يتمنى لوكان حيوان مثل تلك الحيوانات الَّتي انتهى أجلها؛ لأنَّه يعلم عندها أنَّه إلى الجحيم صائرٌ.
وتتضاعف مشاهد الأهوال في ذلك اليوم بالعلامة السَّادسة بقوله تعالى: {وإذا البحار سُجِّرتْ}. كلمة: {سُجِّرت} تدور مادتها حول: الإملاء والفيضان، أو التَّوقُّد والإحماء، يفصِّل في ذلك أبو السعود قائلاً: أي: أحميت أو ملئت بتفجير بعضها إلى بعض حتَّى تعود بحراً واحداً من سجر التنُّور إذا ملأه بالحطب ليحميه، وقيل ملئت نيرناً تضطرم لتعذيب أهل النَّار، وقيل: يذهب ماؤها حتَّى لا يبقى فيها قطرة ( ).
ويقول السِّعدي: أُقدت – على عِظَمِها- ناراً تتوقد ( ).
وتنتهي العلامات السِّتة الدُّنيوية بهذا المشهد الرَّهيب، وينتقل السِّياق القرآني الكريم منها إلى العلامات السِّتة الأخروية بقوله تعالى ـ {وإذا النُّفوس زوجت}. والمراد بالنُّفوس – هنا- إمَّا الأرواح أو الأجساد، فإن كان المراد الأرواح، فالأرواح تتزاوج يومئذ بالأجساد المخصصة لها بعد أن كانت الأرواح بلا أجساد في الحياة البرزخيَّة.
وإن كان المراد الأجساد، فالأجساد تصنَّف إلى مؤمنين وصالحين، وكافرين وفجَّار، ولعلَّ قصد إفادة هذا العموم هو السِّر في العدول عن ذكر ما زُوِّجت النَّفوس به ( ).
وبمناسبة ذكر تزويج النَفوس بالأجساد خُص سؤال الموءدة دون غيره مما يُسأل عنه المجرمون يوم الحساب فقال تعالى: {وإذا الموءدة سئلت. بأي ذنب قتلت}.
الموءودة المقتولة، وهي الابنة تدفن وهي حيَّة، سميت بذلك لِمَا يطرح عليها من التُراب، فيؤودها أي يثقِّلُها حتَّى تموت؛ ومنه قوله تعالى: {ولا يَؤُوده حفظهما} أي لا يثقِلُه ( ).
قيل: سؤال الموءودة عن ذنبها الَّذي قتلت به دون سؤال وائدها؛ جاء لتبكيته وتوبيخ العرب الفاعلين لذلك ( ). وقيل: (توجيه السُّؤال إليها لإظهار كمال الغيظ من قاتلها حتَّى كان لا يستحق أن يُخاطب ويُسأل عن ذلك ( ). أو لتدل على قاتلها ( ) وهو نوع من الاستدراج واقع على طريقة التَّعريض وهو أبلغ من التَّصريح ( ). وعليه فإنَّ الاستفهام في قوله تعالى: {بأي ذنب} يراد به: النَّفي ( ). أي: لا ذنب لها.
وجاءت العلامة التَّاسعة في قوله تعالى: {وإذا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} قيل: نشرت: أي فُرِّقتْ على أهلها فآخذٌ كتابه بيمينه وآخذٌ كتابه بشماله، أو من وراء ظهره ( ). لتفُتح بعد أن كانت مطويَّة، وتلك هي صحف الأعمال الَّتي كتبت الملائكة فيها ما فعل أهلُها من خير وشر، تطوى بالموت، وتنشر في يوم القيامة، فيقف كُلُّ إنسان على صحيفته فيعلم ما فيها ( )، فيقول عندها: {مالِ هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها} [الكهف:49]
وجاءت العلامة العاشرة بقوله تعالى: {وإذا السَّماءُ كُشِطَتْ} كشط السَّماء كما يكشط الجلد عن الشَّاة على سبيل الاستعارة المكنيَّة ( ). لأنَّ كلمة: {كُشِطَتْ} يدور معناها حول: القلع والنَّزع والكشف ( ). وفسَّرها السَّعدي بقوله: أُزيلت، وأكدها بقوله تعالى: {يوم تشقق السَّماءُ بالغمام} و قوله تعالى: {يوم نطوي السَّماء كطي السِّجل للكتب} وغيره ( ).
فإذا بالسَّماء مكشوطة والمكشوط عنه عالم الخلود ( )، وقد أخر ذكرها لمناسبة ذكر الصُّحف الَّتي تنشرها الملائكة الَّذين هم من أهل السَّماء ( ).
ولا شك أنَّ قوة أصوات كلمة: {كُشِطَت} تصور هذا الحدث العظيم المهول الَّذي يفوق كُلَّ ما قبله؛ ويؤكد ذلك ما جاء بعده بقوله تعالى: {وإذا الجَحيم سُعِّرت. وإذا الجنَّة أزلفت}.
قيل: الجَّحيم أصله: النَّار ذات الطبقات من الوَّقود من حَطَبٍ ونحوه بعضها فوق بعض، وصار علماً بالغلبة على جهنَّم دار العذاب في الآخرة في اصطلاح القرآن، وتسعيرها، أو إسعارها: إيقادها، أي هُيِّئتْ لعذاب من حقَّ عليهم العذاب ( ).
وبعد ذكر ذلك الموقف الَّذي من شأنه هلع القلوب وفزع النفوس جاءت المقابلة البلاغيَّة الرائعة تحمل البشرى للمؤمنين بقوله تعالى: {وإذا الجنَّة أزلفت} أي: دنت وقربت من المتقين ( ).
لأنَّ الزلفى في لغة العرب القرب، أي قربت الجنَّة من أهلها، أي: جعلت بقرب من محشرهم؛ بحيث لا تعب عليهم في الوصول إليها؛ وذلك كرامة لهم من ربهم الرَّحمن الرَّحيم ( ). وهذا المشد يصوِّر تشوقهم لها وتشوقها لهم؛ فهي دار الكرامة من رب كريم.
يقول ابن عاشور معقباً على تركيب تلك الجمل الشرطيَّة الَّتي وصف بها يوم البعث: واعلم أنَّ تقديم المسند إليه في الجمل الاثنتي عشرة المفتتحات بكلمة {إذا} من قوله تعالى: {إذا الشَّمس وكورت} إلى هنا، والإخبار بالمسند الفعلي مع إمكان أن يقال: إذا كورت الشمس وإذا انكدرت النُّجوم، وهكذا كما قال تعالى: {فإذا انشقت السَّماء فكانت وردة كالدهان} [الرَّحمن:37] أنَّ ذلك التَّقديم لإفادة الاهتمام بتلك الأخبار المجعولة علامات ليوم البعث توسلاً بالاهتمام بأشراطه إلى الاهتمام به وتحقيق وقوعه ( ).
فجاء تقديم الفاعل: {الشَّمس} على الفعل {كورت} ومثله في كُلِّ تلك الجمل الشَّرطيَّة للاهتمام بالشَّرط الَّذي يدلُّ على الاهتمام بيوم البعث. والله أعلم وأحكم.
وهكذا تنتهي تلك العلامات الاثنتي عشرة الَّتي حملتها الجمل الشَّرطية وينتظر المتلقي جوابها بكُلِّ حرص
وكانت إطالة تلك الجمل الشرطيَّة تشويقاً للجواب الواقع بعدها بقوله تعالى: {علمت نفسٌ ما أحضرت} لِمَا يحمل في معناه من قوة الوعيد؛ وعليه جاءت كلمة {نفسٌ} نكرة قيل: للتَّحقير، وقيل للعموم ( )، وهو الأرجح - والله أعلم- لأنّه ذُكِرَ بعد اطلاع كُلِّ نفسٍ على صحيفتها.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنَّ العلم بالأعمال كناية عن المجازاة عليها، فالعلم لازم للمجازاة ( ).
ويستوقفنا للتأمل قوله تعالى: {علمت نفسٌ ما أحضرت} جملة {ما أحضرت} المكونة من الاسم الموصول: {ما} المفيد معنى العموم، وجملة الصِّلة {أحضرت} بمعناها وزمن فعلها الماضي المفيد للتأكيد؛ قد حملت معاني عميقة يعجز البيان عن حصره فهي حقيقة بالتأمل؛ فكأن المقطع يقول هذا ما أفنيت عمرك كله في جمعه وأبليت صحتك وشباب في تراكمه قد حملته معك من تلك الدَّار الفانية إلى هذه الدَّار الباقية؛ فإن كان خيراً فمن توفيق الله لك وفضله عليك، وإن كان غير ذلك فلا تلومنَّ إلا نفسك.
ولا شك أن هذا الموقف يرسم في الِّذهن مشهدين متقابلين متفاوتين في النَّتيجة: مشهد الفوز والانتصار على النَّفس الأمَّارة بالسُّوء والشَّيطان بدخولهم في رحمة الله الجنَّة دار السَّعادة الأبديَّة
والمشهد المقابل الَّذي من أبسط ما يقال فيه النَّدم الذي لا ينفع والحسرة المضنية والخسران الأبدي نسأل الله اللطف والسَّلامة والعافية.
والله أعلم وأحكم وصلى الله على سيدنا وحبيبنا وشفيعنا "محمد" وعلى آله وصحبه وسام.
ونلتقي بحول الله وقوته في الأسبوع القادم لنكمل دراسة بقية آيات هذه السُّورة المباركة. دمتم في حفظ الله ورعايته آمين.
2024/11/18 16:50:39
Back to Top
HTML Embed Code: