Telegram Web Link
هذه السُّورة المباركة وردت تسميتها في السُّنَّة سورة: {سبح اسم ربك الأعلى} وسماها أكثر المفسرين وكتَّاب المصاحف "سورة الأعلى" لوقوع صفة الأعلى فيها دون غيرها.
واشتملت على تنزيه الله تعالى والإرشاد إلى وحدانيته لانفراده بخلق الإنسان وخلق ما في الأرض مما فيه بقاؤه. وعلى تأييد النَّبي- صلى الله عليه وسلم- وتثبيته على تلقي الوحي ( ).
افتتحت السُّورة المباركة بأمر النَّبي – صلى الله عليه وسلم- بأن يسبح اسم ربِّه بالقول يؤذن بأنَّه سيُلقي إليه عَقِبَه بشارة وخيراً له؛ وذلك قوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى} [الأعلى :6] وفي ذلك براعة استهلال، ولا شك أنَّ الخطاب للنَّبي – صلى الله عليه وسلم – ومن بعده لكُلِّ قلبٍ محبٍ للقرآن. الكريم
والتَّسبيح: التَّنزيه عن النَّقائص، وهو من الأسماء الَّتي لا تضاف لغير اسم الله تعالى، وكذلك الأفعال المشتقَّة منه لا تَرفع ولا تنصب على المفعوليَّة إلا ما هو اسم الله وكذلك أسماء المصادر منه نحو: سبحان الله( )
وإضافة كلمة "رب" إلى ضمير المخاطب في {ربِّك} المقصود به أولاً رسول الله – صلى الله عليه وسلم- إضافة تشريف ورحمة؛ لأنَّ كلمة "رب" تدلُّ على القرب والعطف والرَّحمة وهي تجلب معها معنى الرِّضى والحبور. ولا يقتصر ذلك على النَّبي – صلى الله عليه وسلم- بل يصل من بعده إلى كُلِّ تالٍ أو سامعٍ متأملٍ بقلب يقظ. (مع دلالة هذه الإضافة على أن يسكون له حظ زائد على التَّكليف بالتَّسبيح) ( )
والتَّسبيح قد يتوجَّه للرَّب أو لاسمه، والأول هو الأرجح عند جمهور من المفسرين؛ فالاسم صلة جيء به لضرب من التَّعظيم على سبيل الكناية ( )
ويأتي وصف الرَّب تبارك وتعالى بقوله: {الأعلى} قيل المراد به العلويَّة والتَّنزيه في المكانة من كُلِّ شائبة نقص ( ). وقيل: {الأعلى} في الآية بمعنى: (علوَ الحق في العظمة والكبرياء) ( ).
وقيل: العلو في عرف النَّاس يفيد الكمال، خاصة مع عدم ذكر مفضَّل عليه، للدلالة على التَّفضيل المطلق ( ).
وإثار هذا الوصف في هذه السُّورة؛ لأنَّها تضمنت التَّنويه بالقرآن والتَّثبيت على تلقيه وما تضمنه من التَّذكير؛ وذلك لعوِّ شأنه فهو من متعلقات وصف العلوّ الإلهي إذ هو كلامه جلَّ جلاله ( ).
وقد جُعل من قوله تعلى: {سبح اسم ربك الأعلى} دعاء السُّجود في الصَّلاة؛ ليقرن أثر التَّنزيه الفعلي بأثر التَّنزيه القولي ( ).
ويأتي قوله تعالى: {الَّذي خلق فسوى} حاملاً وصفين له -عزَّ وجلَّ- وقد أطلق الخلق ليعمَّ كُلَّ مخلوق. وعطف عليه {فسوى} بـ(فاء) التَّفريع باعتبار أن الخلق مقدم، وإن كان ذلك بلا مهلة لِمَا للعطف بالـ(فاء) من معنى الترتيب والمسارعة.
والتَّسوية: التَّقويم والتَّعديل، وقد خلق الله تعالى كُلَّ مخلوق مستوٍ على أحسن ما يتناسب لخلقه وما خُلق له ( ).
ويعطف عليه صفتين أخريين بقوله تعالى: {والذي قدَّر فهدى} أعيد الاسم الموصول في هذه الآية مع إغناء حرف العطف عن تكراره للاهتمام بكُلِّ صلة من هذه الصِّلات وإثباتها لمدلولها، وهذا من مقتضيات الإطناب البلاغي ( ).
معنى: {والَّذي قدَّر فهدى} أي قدَّر خلق كُلَّ مخلوق وهداه إلى ما قدَّره له ( ). ولذا عطف: {فهدى} على {قدَّر} عطف المسبَّب على السَّبب.
وهذه الهداية العامة، الَّتي مضمونها أنَّ هدى كُلَّ مخلوق لمصلحته، وتذكر فيها نعمه الدنيويَّة ( ).
ولهذا قال تعالى فيها ( ): {والَّذي أخرج المرعى. فجعله غُثاءً أحوى} يأتي مرتبطاً بما قبله بحرف الوصل (الواو) وهو تذكير لخلق جنس النَّبات من شجر وغيره. ولكن خصَّ ذكر الكلأ؛ لأنَّه معاش السَّوائم الَّتي يكثر انتفاع النَّاس بها ( ).
والغُثاء: المراد منه: الهشيم الجاف من ورق الشَّجر الَّذي إذا خرج السَّيل رأيته مخالطاً زبده ( ). ولاختيار هذه الكلمة إعجاز صوتي؛ فقوة صوت حرف الـ(غين) تقابل القوة الظاهرة من النَّبات الجاف، ثم يصور حرف الـ(ثاء) بضعفه وبعدها الألف الممتدَّة تدرج مراحل الضعف للنبات ثمَّ تأتي الـ(همزة) لتقابل تحول النَّبات إلى هشيم ( ).
وقد وصف بقوله تعالى: {أحوى} ( ) وهو نعت مؤكِّد أو حالاً من المرعى ( )، أي: أخرج المرعى أحوى: أخضر، ثمَّ صيَّره غثاء بتغير لونه وشكله.
هذه الآية تلفت إلى سرعة زوال الدَّنيا وفنائها؛ لذلك ينبغي عدم الالتفات إليها والانشغال بها؛ لأنَّها مانعة من التَّسبيح الخالص لله تعالى ( ). وفي ذلك إدماج ( ).
يقول السَّعدي: يأمر تعالى بتسبيحه المتضمن لذكره وعبادته والخضوع لجلاله، والاستكانة لعظمته، وأن يكون تسبيحاً يليق بعظمة الله تعالى بأن تذكر أسماؤه الحسنى العالية على كُلِّ اسم بمعناها الحسن العظيم، وتذكر أفعاله الَّتي منها أنَّه خلق المخلوقات فسواها، أي: أتقنها وأحسن خلقها، {والذي قدر} تقديراً تتبعه جميع المقدرات {فهدي} إلى ذلك جميع المخلوقات ( ).
ثمَّ تأتي البشارة للنَّبي الكريم بعد أن أمره بالتسبيح( ) بقوله تعالى{سنقرئك فلا تنسى}على طريقة الاستئناف البياني وعلى أسلوب الالتفات بضمير المتكلم المعظِّم؛ لأنَّ التَّكلم أنسب بالإقبال على المُبشَّر. فتنشئ في نفس النَّبي – صلى الله عليه وسلم- ترقباً لوعد بخير يأتيه؛ فبشَّره بأنَّه سيزيده من الوحي، فالـ(سين) في قوله تعالى: {سنقرئك} علامة على استقبال مدخولها وتقتضي تأكيده واستمراره وتجدده مع ما فرَّع على قوله: {سنقرئك} قوله تعالى: {فلا تنسى} ( ).
وقد كانت هذه السًّورة من أوائل السُّور نزولاً. والجملة {فلا تنسى} خبر مراد به الوعد والتَّكفُّل له بذلك ( ).
ويأتي الاستثناء بقوله تعالى: {إلا ما شاء الله} الاستثناء مفرَّع من الفعل: {تنسى} وما موصولة هي المستثنى. والتَّقدير إلا الَّذي شاء اللهُ أن تنساه فحُذِفَ مفعول فعل المشيئة جرياً على غالب استعماله في كلام العرب ( ).
يقول السَّعدي: أي ستحفظ ما أوحينا إليك من الكتاب ويعيه قلبك، فلا تنسى منه شيئاً. أي: إنَّ الله تعالى سيعلمه علماً لا ينساه {إلا ما شاء اللهُ} مما اقتضت حكمته أن ينسيكه لمصلحة بالغة: {إنَّه يعلم الجهر وما يخفى}( ).
والالتفات إلى الاسم الجليل: (الله) في الآيات؛ لتربية المهابة والإيذان بان المشيئة على عنوان الألوهيَّة المستتبعة لسائر الصِّفات( ).
وقد كشف عِلَّة هذا النَّسخ أو النسيان ( ) بقوله تعالى: {إنَّه يعلم الجَّهر وما يخفى} وفي قوله تعالى: {الجهر) و (ما يخفى) يظهر الطِّباق ليتضح شمول علمه لكُلِّ شيء؛ حتَّى الخفايا الَّتي قد لا تظهر للنَّاس ولا يدركونها( ).
ثمَّ تأتي البشارة الثَّانية للنَّبي – صلى الله عليه وسلم- بقوله تعالى: {ونُيسِّرُك لليسرى} وصلت الجملة بحرف العطف عطفت على قوله تعالى: {سنقرئك فلا تنسى} [الأعلى:6] وجملة: {إنَّه يعلم الجهر وما يخفى} [الأعلى:7] . وهذا العطف من عطف الأعم على الأخص في المآل ( )
والتَّيسير: جعل العمل يسيراً على عامله. واليسرى: مؤنث الأيسر، وصفة فُعلى تدلُّ على قوة الوصف؛ لأنَّها أفعل. وعلى هذا المعنى: فالتَّيسير مستعار للهيئة، وهذه الاستعارة تحسِّنها المشاكلة بين (نُيسرك) و(اليسرى) ( ).
وقد جاء الجناس الاشتقاقي بين قوله تعالى: {نيسرك} و {اليسرى}( ) ليتحقق التَّجانس الشَّكلي، وينضم إلى التَّجانس الدَّلالي بينهما( ).
ثمَّ أُمِرَ الرسول – صلى الله عليه وسلم – بقوله تعالى: {فذكِّر إنَّ نفعت الذِّكرى} وغرض هذا الأمر الإرشاد والنُّصح والتَّنبيه ( ).
الـ(فاء) التي بدأ بها المقطع للتَّفريع على ما تقدَّم تفريع النَّتيجة على المقدِّمات، ومفعول: {فذكِّر} محذوف لقصد التَّعميم ، وجملة : {إن نفعت الذِّكر} معترضة بين الجملة المعللة وعلتها، وهذا الاعتراض منظور فيه إلى العموم الَّذي اقتضاه حذف مفعول {فذكِّر} ، فأداة الشَّرط {إن} مقصود بها التَّشكيك في نفع كُلِّ من ذُكِّر لذا
يقول السعدي: أي ذكِّر بشرع الله وآياته، ما دامت الذِّكرى مقبولة، والموعظة مسموعة سواء حصل من الذِّكرى جميع المقصود أو بعضه. ومفهوم الآية الكريمة أنَّه لم تنفع الذِّكرى، بأن كان التَّذكير يزيد في الشَّر، أو ينقص من الخير لم تكن الذِّكرى مأمور بها، بل منهياً عنها؛ فالذِّكرى ينقسم النَّاس فيها إلى قسمين منتفعون وغير منتفعين ( ).
فأمَّا المنتفعون فقال عنهم سبحانه وتعالى: {سيذكر من يخشى}. فاعل الفعل {يخشى} ضمير مستتر يعود على {مَنْ} وتكرار إسناده دليل على تقوية الفعل والعمل به ( )
وقد نزَّل الفعل {يخشى} منزلة الفعل اللَّازم فلم يقدر له مفعول، أي: يتذكر من الخشية جبلته ( ) ثمَّ تأتي المقابلة بقوله تعالى: {ويتجنبها الأشقى} وقد جاء وصفه باسم تفضيل لأنَّ شقاءه لا يعادل شقاء أي أحد في الآخرة؛ وعليه يأتي وصف حاله بقوله تعالى: {الذي يصلى النَّار الكبرى} وقد جاء تعريف {النَّار} بـ(ال) لتفخيمها، وبيان شِدَّة حرارتها ومدى إيلامها ( ) ويزيد كل ذلك وصفها ب-(الكبرى)
و يأتي ذكر عذاب ذلك الأشقى بقوله تعالى: {ثمَّ لا يموت فيها ولا يحي} كناية عن نفي خلاصه وراحته من العذاب بناء على أنَّ لازم الإحراق الهلاك، ولازم الحياة عدم الهلاك ( ). الكلام على حقيقته، فاصطلاء الأشقى في نار جهنَّم لا يميته ولا يحيه؛ لأنَّ الموازين مختلفة في الآخرة عن موازين الدٌّنيا؛ وذلك بالطبع أبلغ في التَّعذيب ( ).
قال الطَّبري: لأنَّ العرب كانت إذا وصفت الرَّجل بوقوع في شِدَّة شديدة قالوا: لا هو حي، ولا هو ميت، فخاطبهم اللهُ بالَّذي جرى به ذلك في كلامهم ( ).
وقد أبرز صورة عذابهم محسن الطِّباق بين: (يموت) و (يحيا)، لأجل التَّضاد الظَّاهر بينهما ( ).
ثمَّ يأتي الاستئناف البياني إجابة لمن يتساءل عن حال جزاء من يخشى فقال: {قد أفلح من تزكى} مؤكداً بحرف التَّحقيق {قد} وزمن الفعل الماضي {أفلح}.
وقد جُمعت أنواع الخير في هذه الآية فإنَّ فلاح و نجاح المرء فيما يطمح إليه نعمة كبرى فهو يجمع معنيي الفوز والنَّفع، وذلك هو الظَّفر المبتغى من الخير( ).
ومعنى الآية قد فاز وربح من طهَّر نفسه ونقَّاها من الشَّرك والظُّلم ومساوئ الأخلاق، {وذكر اسم ربِّه فصلى} أي: اتصف بذكر الله: وانصبغ به قلبه، فأوجب له ذلك العمل بما يرضي الله، خصوصاً الصَّلاة الَّتي هي ميزان الإيمان ( ).
ورتبت هذه الخصال الثَّلاث على ترتيب تولُّدها، فأصلها: إزالة الخباثة النَّفسيَّة من عقائد باطلة وأحاديث النَّفس المضرات الفاسدة وهو المشار إليه بقوله {تزكى}، ثمَّ استحضار معرفة الله بصفات كماله وحكمته ليخافه ويرجوه وهو المشار إليه بقوله {وذكر اسم ربِّه}، ثمَّ الإقبال على طاعته وعبادته وهو المشار إليه بقوله: {فصلى}( ) لقوله تعالى: {إنَّ الصَّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر}[العنكبوت:45]
ويأتي قوله تعالى: {بل تؤثرون الحياة الدَّنيا} مبتدئ بحرف الإضراب أي انصرف القول أو الحكم إلى ما يأتي بعد {بل}، والمعنى: أنَّهم بُعداء عن أن يظن بهم التَّنافس في طلب الفلاح؛ لأنَّهم يؤثرون الحياة الدُّنيا.
والإيثار: اختيار شيء من بين متعدد ( ). أي تقدمونها على الآخرة، وتختارون نعيمها المنغَّص الكدر الزائل على الآخرة ( )
وقوله تعالى: {والآخرة خيرٌ وأبقى} عطف على جملة التَّوبيخ عطف الخبر على الإنشاء؛ لأنَّ هذا الخبر يزيد إنشاء التَّوبيخ توجيهاً وتأييداً بأنَّهم في الإعراض عن النَّظر في دلائل حياة آخرة قد أعرضوا على ما هو خير وأبقى ( ). فحب الدُّنيا وإثارها على الآخرة رأس كُلِّ خطيئة ( ).
ويأتي التَّذييل بقوله تعالى: {إنَّ هذا لفي الصُّحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى} فهو الكلام النَّافع الثَّابت في كتب إبراهيم وموسى -عليهما السَّلام - قصد به الإبلاغ للمشركين الَّذين كانوا يعرفون رسالة إبراهيم ورسالة موسى ولذلك أكِّد هذا الخبر بـ{إنَّ} و(لام) الابتداء ؛ لأنَّه مسوق إلى المنكرين.
والحق الذي لا مراء فيه أنَّه حيث ما يقلِّب العبد نظره في ملك الله تعالى يجد في ذلك عظيم القدرة ودقَّة الصُّنع وإحكام التَّسخير في السَّماء وما فيها من مخلوقات، وفي الأرض ما حوت من بديع الصَّنعة وكلٌّ قائمٌ بهداية الخالق لما خلق له فسبحان ربنا العظيم ما عبدناه حق عبادته ولا شكرناه حق شكره لا إله إلا هو تبارك وتعالى وتقدس.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أعزائي المشتركين والمشاركات استميحكم عذراً عن توقف هذه الدروس إلى ما بعد العيد بحول الله وقوته وكل عام والجميع بخير وعافية والمسلمين أجمعين آمين
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله رب العالمين عليه نتوكل وبه نستعين
سورة الطَّارق
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة: بأنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسَّماء ذات البروج والطارق؛ فسماها أبو هريرة: " السماء والطارق". وسميت في كتب التَّفسير والسَّنَّة وفي المصاحف "سورة الطارق".
ومن أغراضها: إثبات إحصاء الأعمال والجزاء عليها، وذلك يقتضي إثبات البعث، وأدمج في ذلك التَّذكير بدقيق صنع الله سبحانه وتعالى وحكمته في خلق الإنسان، والتَّنويه بشأن القرآن ( ).
اُفتتحت السُّورة المباركة بالقسم تحقيقاً لِمَا يقسم عليه، ووقع القسم بمخلوقين عظيمين فيهما دلالة على عظيم قدرة خالقهما هما: السَّماء، والنُّجوم، أو نجم منها عظيم، أو ما يبدو انقضاضه من الشُّهب ( ).
بدأ القسم بأعظم آية: {والسَّماء} لتصوِّر عظم قدرها وبعد أفاقها وما فيها من آيات معجزات تسترعي نظر المتأمل؛ وذلك ما يدلُّ عليه جرس حرف (السَّين) وصوت المد في أخرها.
وعطف عليها بواو التشريك في الحكم آية أخرى من مخلوقاته: {الطَّارق} تدور مادة هذه الكلمة حول: الضَّرب والدَّق ( ). "فالطَّاء والقاف" تحكيان صوت الطَّرق، وبينهما "الرَّاء" الَّتي تشير إلى تكرار هذا الحدث لما لها من خاصيَّة التِّكرار ( ).
وقد أبهم الموصوف: {الطَّارق} ابتداءً، ثم زيد إبهاماً مشوباً بتعظيم أمره بقوله تعالى: {وما أدراك ما الطَّارق} استفهام مستعمل في تعظيم الأمر، ثمَّ بُين بقوله( ): {النَّجم الثَّاقب} ليحصل من ذلك مزيد تقرير للمراد بالمقسم به وهو أنَّه من جنس النُّجوم، شُبه طلوع النَّجم ليلاً بطروق المسافر الطَّارق بيتاً بجامع كونه ظهور في الليل. فوقعت كلمة: {النَّجم} خبراً عن ضمير محذوف تقديره: هو، أو: الطَّارق النَّجم الثاقب ( ).
{الثَّاقب} تدور مادته حول كُلِّ ما ينفذ ( )، فالثُّقب خرق شيءٍ ملتئم، وهو مستعار لظهور النَّور في خلال ظلمة الليل ( )
يقول السَّعدي: ثمَّ فسر الطَّارق بقوله: {النَّجم الثَّاقب} أي: المضيء، الَّذي يثقب نوره فيخرق السَّماوات فينفذ حتَّى يرى في الأرض ( ).
ويقول الشِّنقيطي: قيل: ما يثقب الشَّياطين عند استراقهم السَّمع ( ). والآيات [الشعراء، 210، 211، 212] تدل على ذلك.
وقيل: الصَّحيح أنَّه اسم جنس يشمل سائر النُّجوم الثَّواقب( ). لأنَّ النُّجوم كلها مضيئة.
ولا يخفى أنَّ للطرق صوت يسمع خاصة طرق تلك الأجرام السَّماوية العظيمة لكن برحمة الله الرؤوف بالعباد جعل في السَّماء أحزمة تحجب تلك الأصوات فضلاً منه ومنَّة؛ وإلا لما استطاع أحدٌ أن يهنأ بحياته ثانية لكثرة وشدَّة ما في السَّماء من أصوات.
ثمَّ جاء جواب القسم السَّابق في قوله تعالى: {إن كُلُّ نفسِ لَمَّا عليها حافظ} وما بينه وبين القسم اعتراض جيء به لتأكيد فخامة المقسم به من أجل تأكيد مضمون الجملة المقسم عليها ( ). والمعنى إن كُلُّ نفسٍّ عليها حافظ يحفظ أعمالها الصَّالحة والسَّيئة، وتجازى عليها بعملها المحفوظ عليها ( )
وقيل في قوله تعالى: {إن كُلُّ نفسٍ لمَّا عليها حافظ} أي: حارس يحرسها في المرحلة الجنينيَّة فهو في حفظ الله:
أولاً: لأنَّه {في قرار مكين} [المؤمنون:13].
وثانياً: في الحديث: "إنَّ لله وكَّلَ بالرَّحم ملكاً..." أخرجه البُّخاري ومسلم من حديث أنس ( ). وبعد بلوغه سنَّ التَّكليف يجري عليه القلم فيحفظ عليه عمله ( ).
وفي هذا الجواب كناية رمزيَّة عن المقصود، وهو إثبات البعث( ).
وعليه يأتي قوله تعالى: {فلينظر الإنسان مم خلق} في هذا القول الكريم دليلٌ على وجوب التَّدبر والنَّظر في قدرة الله تعالى في آياته العظام الَّتي من جملتها خلق هذا الإنسان؛ فالتَّدبر في ذلك من أجَلِّ العبادات لِمَا له من أثر عظيم في تعظيم الخالق - جلَّ وعلا-
ووقع التَّعبير بالفعل: {فلينظر} لبيان طُرق المعرفة، فهو بسط في إيجاز وإدماج ( ). فالفاء الَّتي بدأت بها الآية لتفريع الأمر بالنَّظر في الخلقة الأولى ليعلم أنَّ إعادة الخلق أي: البعث ليس بأبعد من الخلق الأول( ).
ونجده سبحانه قد لفت نظر الإنسان إلى أوَّل أمره بأسلوب الاستفهام في القول الكريم: {...مِمَّ خُلق} للإيقاظ والتَّنبيه إلى ما يجب على الإنسان علمه ( )
يقول السَّعدي ( ): أي فليتدبر خلقته ومبدأه فإنَّه مخلوق: {من ماءٍ دافق}.
وقد اتضح مماذَ خلق الإنسان في قوله تعالى: {خُلق من ماءٍ دافق} و حُذف فاعل الفعلين: {خُلق} في الآيتين: [5، 6] للعلم به أولاً، إذ لا يُسند الخلق إلا لله عزَّ وجلَّ، و للتَّفخيم بإضماره ثانياً( ).
ويستوقفنا للتأمل إرجاع خلق الإنسان إلى (ماء) وكأنَّه ماءٌ واحدٌ دون أن يقال: ماءان؛ لامتزاجهما في الرَّحم، واتحادهما عند ابتداء خَلق الإنسان ( ).
وجاء الإطناب في وصف الماء بقوله تعالى: {يخرج من بين الصُلب والتَّرائب}، هذه الجملة وقعت حالاً من الماء الدافق. والتَّعريف في كُلِّ من (الصُّلب والتَّرائب) للعهد؛ لأنَّ الصُّلب – عند الجمهور مخصوص بالرَّجل، والتَّرائب بالمرأة ( ).
وهي دليلٌ قوي على قدرته على الخلق يتوصل بها إلى قدرته على البعث.
يقول السِّعدي( ): فالَّذي أوجد الإنسان من ماء دافق يخرج من هذا الموضع الصَّعب قادرٌ على رجعه في الآخرة وإعادته للبعث والنُّشور والجزاء ولهذا جاء قوله تعالى: {إنَه على رجعه لقادر}.
ويذكر الطَّبري عِدَّة وجوه في تفسير هذه الآية؛ من أرجحها قوله: إحياء الإنسان بعد مماته( ).
ونقف وقفة تأمل في تركيب هذه الآية الَّتي احتشدت بالمؤكدات لِمَا لهذا الأمر من أهميَّة عظمى كان ومازال كثيرٌ من النَّاس يجحدونه افتراءً منهم على قدرة الخاق تعالى وتقدس.
فقد بدأت الآية الكريمة بأقوى أدوات التوكيد "إنَّ" وجاء اسمها الضَّمير العائد على الله -جلَّ جلاله- في {إنَّه} ثمَّ قدم التَّابع {على رجعِه} تأكيداً للاهتمام به وصيغة الكلمة المجرورة {رجعهِ} بالمصدر لقوة المعنى، والضَّمير المتصل عائد على الإنسان، ثمَّ جاء خبر حرف التَّوكيد {لقادرٌ} تتقدمه لام التَّوكيد أيضاً، وصيغت هذه الكلمة على وزن "فاعل" فهي صفة مشبهة باسم الفاعل لدلالتِها على الاستمرار، والدَّوام؛ فقدرته تبارك وتعالى ليس لها حد، ولا تنقضي بوقت من الأوقات.
ويأتي قوله تعالى: {يوم تُبْلَى السَّرَائرُ} الابتلاء: هو الاختبار، والمراد به الاستنباء عن السَّرائر كناية لازمة عن التَّعرف عليها، وهو متعلق بـ{رجعِه} أي يَرْجِعه يومَ القيامة ( ) فتختبر سرائر الصُّدور، ويظهر ما كان في القلوب من خير وشر على صفحات الوجوه قال تعالى: {يوم تبيضُّ وجوه وتسودُّ وجوه} ففي الدُّنيا تنكتم كثير من الأمور، ولا تظهر عياناً للنَّاس، وأما في القيامة فيظهر برُّ الأبرار، وفجور الفجَّار وتصير الأمور علانية ( ).
ويأتي قوله تعالى: {فماله من قوة ولا ناصر} متفرعاً عن الآية: {يوم تبلى السَّائر} و الضَّمير في قوله {فماله} عائد إلى الإنسان في قوله السَّابق: {فينظر الإنسان} والمقصود به المشركون من النَّاس؛ لأنَّهم المسوق لأجلهم هذا التَّهديد، أي فما للإنسان المشرك من قوة يدفع بها عن نفسه وما له من ناصر يدافع عنه ( ).
ويأتي القسم مرَّة أخرى بقوله تعالى: {والسماء ذات الرَّجع. والأرض ذات الصدع. إنَّه لقول فصل. وما هو بالهزل}.
لا يخفى أن حرف الواو الذي بدأت به الآيتان هو للقسم. وقد وصفت السَّماء بأنَّها {ذات الرَّجع} هو مصدر "رَجَعَ" وعليه تعددت الأقوال بوصفها بهذه الصِّفة؛ فقيل: رجع السَّماء: إعادة ضوء النُّجوم والشَّمس والقمر. وقيل: "الرَّجع": الملائكة ترجع بأعمال العباد. وقيل " الرَّجع": المطر وأرزاق العباد( ). وكل ذلك وارد وأكثر منه بكثير ما يعلمه علَّام الغيوب من إشعاعات ونيازك وأصوات وأمور اكتشفت وأمور كثيرة هي في علم الغيب؛ وعليه حق للسَّماء أن تذكر بـ{ذات الرَّجع}. لعظم ذلك الرَّجع الَّذي اقسم بالسَّماء من أجله.
وتأتي المقابلة البلاغيَّة بقوله تعالى: {والأرض ذات الصَّدع} قيل: تنشقُّ عن الخلائق يوم البعث. وقيل: تنشقُّ بالنبات ( ). وكله صحيح ومنه ما اكتشف مؤخر عن انصداع طبقات الأرض أو دخول طبقة تحت أخرى وما يعلمه الله أخفى وأعظم.
ويأتي جواب القسم بقوله تعالى: {إنَّه لقولٌ فصلٌ. وما هو بالهزل} أي: حق وصدق، بيِّن واضح، {وما هو بالهزل} أي جد ليس بالهزل، وهو القول الَّذي يفصل بين الطَّوائف والمقاولات وتنفصل به الخصومات ( ).
وعليه جاء مُؤَكداً بعِدَّة مؤكدات للرد على إنكار الكافرين للقرآن، أو للبعث والنُّشور، على أنَّ القرآن أو بعث الإنسان: {لقول فَصل. وما هو بالهزل}، وسياق السُّورة يؤيد القول الثَّاني؛ لأنَّ السُّورة كلها في معرض إثبات قدرته تعالى على بعث الإنسان من خلال القَسَمَين: الأول والثَّاني، ولفت نظر الإنسان إلى مبدأ خَلقه( ). هذا إضافة إلى التَّعبير بلفظي: (الرَّجْع) و(الصَّدع) اللذين يلمح فيهما الإشارة إلى رجع الإنسان بعد الموت، وبعثه من الأرض إثر تصدُّعها عنه ( ).
ثمَّ يأتي الإخبار عن الكفَّار بقوله تعالى: {إنَّهم يكيدون كيداً. وأكيدُ كيداً} استئناف بياني ينبئ عن سؤال سائل يتعجب من إعراضهم عن القرآن مع أنَّه قول فصل ويعجب من معاذيرهم الباطلة مثل قولهم: هو هزل، أو هذيان، أو سحر، فبُين – سبحانه وتعالى- للسَّامع أن عملهم ذلك كيد مقصود.
وعليه جاء التأكيد بـ{إنَّ} لتحقيق هذا الخبر لغرابته؛ و قوله {وأكيد كيداً} تتميم وإدماج وإنذار لهم حين يسمعونه، وكذلك تثبيت للرسول( ) – صلى الله عليه وسلم-.
و{كيداً} في الموضعين مفعول مطلق مؤكد لعامله وقصد منه مع التوكيد وتنوين تنكيره الدَّال على التَّعظيم ( ).
وتختم هذه السُّورة الكريمة بوعيد شديد اللهجة بقوله تعالى: {فمهِّل الكافرين أمهلهم رويداً}.
بدأت الآية بحرف الفاء الَّذي دلَّ على تفريع الأمر بالإمهال على مجموع الكلام السَّابق من قوله تعالى: {إنَّه لقولٌ فصل} بما فيه من تصريح وتعريض وتبيين ووعِد بالنَّصر، أي: فلا تستعجل لهم بطلب إنزال العقاب فإنَّه واقع بهم لا محالة.
ونلاحظ الجمع بين {مهِّل} و{أمهلهم} تكرار للتأكيد بقصد زيادة التَّسكين. و{رويداً} مصدر مؤكد لفعل {أمهلهم} فقد أكد {فمهل الكافرين} مرتين ( ).
وبعد، فإنَّ نُذُرَ الحقِ تطرقُ القلوبَ جميعها، فإمَّا أن تفتح له، فيغمرها بالخير والصَّلاح في الدُّنيا والآخرة، وإمَّا أن تغلق دونه؛ فيكسوها بالرَّان، ويظل القلب خاوياً فيمتلئ فساداً أو ضلالاً( ).
والله أعلم وأحكم وصلى الله على نبينا وشفيعنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الاعجاز البلاغي في القرآن د خديجة بناني pinned «ويستوقفنا للتأمل إرجاع خلق الإنسان إلى (ماء) وكأنَّه ماءٌ واحدٌ دون أن يقال: ماءان؛ لامتزاجهما في الرَّحم، واتحادهما عند ابتداء خَلق الإنسان ( ). وجاء الإطناب في وصف الماء بقوله تعالى: {يخرج من بين الصُلب والتَّرائب}، هذه الجملة وقعت حالاً من الماء الدافق.…»
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
والحمد لله رب العالمين عليه نتوكل وبه نستعين
سورة البروج
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة: "أنَّ الرَّسول – صلى الله عليه وسلم – كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسَّماء ذات البروج" وهذا ظاهر في أنَّها تسمى سورة "السَّماء ذات البروج". وسميت في المصاحف وكتب التَّفسير " سورة البروج".
ومن أغراضها ضرب المثل للذين فتنوا المسلمين بمكة بأنَّهم مثلُ قوم فتنوا فريقاً ممن آمن بالله ليكون المثل تثبيتاً للمسلمين وتصبيراً لهم، وإشعاراً للمسلمين بأنَّ قوة الله عظيمة فسيلقى المشركون جزاء صنيعهم، ويلقى المسلمون النَّعيم الأبدي ( ) .
قال تعالى: {والسماء ذات البروج} في افتتاح السُّورة المباركة بهذا القسم تشويق إلى ما يرد بعده، وإشعار بأهميَّة المقسم عليه، ومع ذلك يَلفت ألباب السَّامعين إلى الأمور المقسم بها ( ).
لقد أقسم المولى -عزَّ وجلَّ - بالسَّماء لعظمة ما تحويه من عجائب صنع الله منها كونها ذات بروج. وجاء تعريف " السَّماء " للدلالة على عموم اتصاف السَّماء بالبروج.
فما هي البروج؟ كلمة تدور مادتها حول: الظُّهور والارتفاع ( ). واختلف في معناها هنا قيل: نجومها ( ) أو عظام كواكبها ( ) أو أبوابها ( ) أو منازل الكواكب ( ).
والقسم بالسَّماء بوصفها ذات البروج يتضمن قسماً بالأمرين معاً لتلتفت أفكار المتدبرين إلى ما في هذه المخلوقات، وهذه الأحوال من دلالة على عظم القدرة وسعة العلم الإلهي؛ إذ خلقها على تلك المقادير المضبوطة لينتفع بها النَّاس في مواقيت الأشهر والفصول ( ).
ثمَّ يأتي العطف بقسمٍ آخر لا يقل أهميَّة وعظمة عن الأول بقوله تعالى: {واليوم الموعود} هو يوم القيامة بإجماع المفسرين، وقد كانوا يُوعدون به في الدُّنيا، فهو اليوم الموعود به كُلِّ من الفريقين ( ). ولا يخلف الله الميعاد.
يقول ابن عاشور: فيه إدماج إلى وعيد أصحاب القصَّة على مضمونها، ووعيد أمثالهم المعرَّض بهم.
ويأتي القسمُ الثَّالث بقوله تعالى: {وشاهدٍ ومشهود} لقد حملت هذه الآية من الرُّعب ما ترتعد له فرائص المتدبرين.
و حذف متعلق الوصفين: {شاهدٍ مشهودٍ} لدلالة الكلام عليه، أو ليذهب المقدر كُلُّ مذهب في تقدير المتعلق، فقد جاء هذا الحدث عاماً لكثرة ما يجمع من مواقف، وشهود، ومشهود عليهم، في ذلك اليوم الموعود، ومن أعظم الشهود "رب" العزَّة والجلال- لقوله تعالى: {والله على كُلِّ شيء شهيد} ومن بعده ملائكته، ورسله، وأرضه، وسماءُه، حتَّى أعضاء الإنسان؛ تنضم مع الشُّهود، كُلُّ ذلك وأكثر منه جمعه هذا الأسلوب الَّذي أريد به الجنس في قوله تعالى: {وشاهدٍ ومشهودٍ} وقد قيل في أرجح الأقوال إنَّ المشهود: هو الإنسان المحشور للحساب ( ). كما جاء الجناس الاشتقاقي رابطاً آخر بين اللفظين ( ).
واُختلف في جواب القسم لهذه الثَّلاثة قيل: إنَّه محذوف لدلالة قوله تعالى: {قتل أصحاب الأخدود} عليه.
وقيل: تقديره: أنَّ الأمر لحقٌ في الجزاء على الأعمال: أو لتبعثنَّ. وقيل الجواب مذكور فيما يلي فقال الفراء: هو {إنَّ بطش ربك لشديد}، والكلام الذي بينهما اعتراض. وقيل غير ذلك ( ).
ثمَّ تأتي الجملة الخبرية بقوله تعالى: {قُتل أصحاب الأخدود} التي جعلها بعض المفسرين جواباً للقسم الذي بدأت به السَّورة. والتَّقدير أنَّهم ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود. وهو كناية عن اللعن لأنَّه من لوازمه ( ).
وجاءت المبالغة في وصف نار الأخدود في قوله تعالى: {النَّارِ ذاتِ الوَقُود} تصويراً لامتلاكها لوقودها تتصرف فيه كيف شاءت؛ وذلك كناية عن زيادة اتقادها زيادة لا حد لها ولا انقطاع؛ فوقودها تحت تصرفها في كل وقت.
يقول ابن عاشور: ومعنى {ذات الوقود}: أنَّها لا يخمد لهبها؛ لأنَّ لها وقوداً يلقى فيها كلما خبت ( )
ثمَّ وصف أصحاب الأخدود وصفاً تفصيلياً بقوله تعالى: {إذ هم عليها قعود}. يبرز هذا المشهد الظرف: {إذ} الَّذي بدأت به الآية، الَّتي صيغت بالجملة الاسميَّة لما لها من قدرة على التَّأكيد والدَّوام؛ فجاء المبتدأ بضمير الغائب: {هم} يعود على أصحاب الأخدود، ويصور بعدهم عن الحق، وقد قُدِّم الجار والمجرور: {عليها} على الخبر للاهتمام بما يصوره من معنى، ثمَّ جاء الخبر {قعودٌ} كني به عن الملازمة للأخدود؛ لئلا يتهاون المكلفون بتسعير النَّار فيكون "على" للاستعلاء المجازي؛ فعبر على القرب والمراقبة والحرص به.
وعلى احتمال أن يكون المراد بـ{أصحاب الأخدود} المؤمنين المعذَّبين فيه فالقعود حقيقة و (على) للاستعلاء الحقيقي، أي قاعدون على النَّار بأن كانوا يحرقونهم مربوطين بهيئة القعود؛ لأنَّ ذلك أشد تعذيباً وتمثيلاً ( ).
ويأتي تكملة المشهد بقوله تعالى: {وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود} يتقدمه واو الحال فالجملة حال من ضمير {إذ هم عليها قعود} كأنَّه قيل: قعود شاهدين على فِعلهم بالمؤمنين على الوجهين المتقدِّمين في معاد ضمير {يفعلون}، وفائدة هذه الحال تفظيع ذلك القعود وتعظيم جُرمه ( ). وقد تكرر الضَّمير: {هم} للتأكيد على وجود أصحاب الأخدود، وللإخبار عنهم ( ).
وتقديم الجار والمجرور (على ما) على متعلقه: {شهودٌ} لفت إلى أفعال هؤلاء الكفَّار المُنكرة ( ).
ثمَّ يوضح – سبحانه وتعالى- سبب انتقام هؤلاء الكافرين من المؤمنين في قوله تعالى: {وما نقموا منهم إلَّا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد. الَّذي له ملك السَّماوات والأرض} بأسلوب تأكيد المدح بما يشبه الذَّم ( ).
يقول السَّعدي: والحال أنَّهم ما نقموا من المؤمنين إلا خصلة يمدحون عليها، وبها سعادتهم، وهي أنَّهم كانوا يؤمنون بالله العزيز الحميد: أي الَّذي له العزَّة الَّتي قهر بها كُلَّ شيء، وهو حميد في أقواله وأوصافه وأفعاله ( ).
فإجراء الصِّفات الثَّلاث على اسم الجلالة لزيادة تقرير صفاته الَّتي تقتضي عبادته ونبذ ما عداه؛ لأنَّه ينصر مواليه ويثبتهم؛ ولأنَّه يَملكهم وما عداه ضعيف العزَّة لا يضر ولا ينفع ولا يملك منهم شيئاً فيقوى التَّعجب منهم بهذا ( ).
وجملة: {والله على كُلِّ شيءٍ شهيد} تذييل بوعيد اللذين اتخذوا الأخدود وأمثالهم لتعذيب المسلمين ووعد اللذين عُذبوا من المسلمين بالأجر العظيم.
ثمَّ يتبعه – سبحانه وتعالى- بمصير الفاتنين بقوله تعالى: {إنَّ الَّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثمَّ لم يتوبوا فلهم عذابُ جهنَّم ولهم عذابُ الحريق} جملة خبريَّة مؤكدة بحرف التَّوكيد: {إنَّ} وجاء اسمه الموصول: {اللذين} للرَّبط بما ذكر عن الفاتنين في هذه السُّورة، وكُلِّ من يقوم بهذا العمل ماضياً وحاضراً ومستقبلاً ، وذلك ما شرحته جملة الصِّلة: {فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثمَّ لم يتوبوا} أي: مستمرون على ذلك،
قال الحسن رحمه الله: انظر إلى هذا الكرم والجود هم قتلوا أولياءه وأهل طاعته، وهو يدعوهم إلى التَّوبة ( )
ويأتي خبر الحرف النَّاسخ: {إنَّ} على شوق بقوله تعالى: {فلهم عذابُ جهنَّمَ ولهم عذاب الحريق} بجملتين اسميَّتين: {فلهم عذاب جهنَّم} {ولهم عذاب الحريق}. تقدَّم فيهما الخبر {لهم} على المبتدأ وذلك ليدل على الحصر والقصر فمن مواضع الحصر تقديم ما حقه التَّأخير، ثًّم إنَّ تقدم (لام) الاختصاص في {لهم} في الموضعين أسهم في تأكيد ذلك الحصر وخصصهم به.
وقد ظهر التِّكرار بارزاً في قوله تعالى: {لهم عذاب جهنَّم ولهم عذاب الحريق} للتأكيد على أنَّ لأصحاب الأخدود عذابين كليهما واقع في الآخرة؛ الأول بسبب كفرهم، والثَّاني: بسبب فتنتهم للمؤمنين ( ). وقيل: العذابان متلازمان ( ).
ولابن عاشور رَأيٌ أخر يقول ( ): والَّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات هم مشركو قريش وليس المراد أصحاب الأخدود؛ لأنَّه لا يلاقي قوله: {ثمَّ لم يتوبوا} إذ هو تعريض بالتَّرغيب في التَّوبة، ولا يلاقي دخول (الفاء) في خبر {إنَّ} من القول {فلهم عذابُ جهنَّم ولهم عذابُ الحريق}.
ثمَّ كعادة أسلوب القرآن في إبراز الصُّور المتقابلة في ذكر عذاب الكافرين متبوع بنعيم المؤمنين وعكس ذلك؛ لتضح كُلٌّ من الصُّورتين بأشد ما يكون عليه الوضوح؛ يقول جلَّ من قائل: {إنَّ الَّذين آمنوا وعملوا الصَّالحات لهم جنَّاتٌ تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير}.
يجوز أن يكون هذا استئنافاً بيانياً ناشئاً عن قوله: {ثمَّ لم يتوبوا} المقتضي أنَّه إن تابوا وأمنوا وعملوا الصالحات لهم جنَّات...، فإنَّ التَّوبة الإيمان، فلذلك جيء بصلة: {آمنوا} دون تابوا: ليدل على أنَّ الإيمان والعمل الصَّالح هو التَّوبة من الشِّرك الباعث على فتن المؤمنين ( ). وذلك فضلٌ من الله؛ لأنَّ الإيمان يجب ما قبله.
وقد أكدت الجملة بنفس مؤكدات الجملة السَّابقة لنفس الغرض الاهتمام بالخبر ( ).
ويستوقفنا للتأمل تلك الصُّورة البديعة للجنَّات الَّتي تجري من تحتها الأنهار، فقد جلب معنى الفعل "تجري" وزمنه المضارع صورة تتراءى فيها للناظرين خضرة تلك الجنَّات اليانعة بجمال زهورها وثمارها ولمعان أنهارها الَّتي تجري من تحتها حتَّى يخيل للرائي أن الأرض هي الَّتي تجري لشدَّة صفاء الماء فكيف لا يكون ذلك هو الفوز الكبير؟ رزقنا الله وإياكم بكرمه ذلك النعيم المقيم والمسلمين أجمعين آمين.
ويتراوح الأسلوب بين التَّرغيب والتَّرهيب فيأتي قوله تعالى: {إنَّ بطش ربك لشديد} البطش: الأخذ بعنف وشِدَّة ويستعار للعقاب المؤلم الشَّديد.
والخطاب موجه للنبي – صلى الله عليه وسلم- لأنَّ بطش الله بالَّذين فتنوا المؤمنين فيه نصر للنبي - صلى الله عليه وسلم- وتثبيت له، ومن بعده لأمته في كُلِّ زمان ومكان.
والآية ذكرت علَّة لمضمون قوله تعالى: {إنَّ الذين فتنوا المؤمنين} إلى {ولهم عذاب الحريق} [لبروج:10] فموقع {إنَّ} في التَّعليل يغني عن (فاء) التَّسبب.
ولا شك إنَّ بطش الله يشمل تعذيبه إياهم في جهنَّم ويشمل ما قبله مما يقع في الآخرة وما يقع في الدُّنيا، وقد حكت أصوات حروف الكلمة الشِّدَّة والمسارعة والانتشار، وعزز ذلك إسناده للرَّب مالك الملك، ووصفه بقوله تعالى: {لشديد}. مع بدء الجملة بالتَّأكيد في {إنَّ} وخاتمتها بالتَّأكيد لما تدل عليه لام الابتداء المزحلقة للخبر في: {لشديد}.
ويأتي قوله تعالى: {إنَّه هو يبدئ ويعيد} تعليلاً لجملة: {إنَّ بطش ربك لشديد}؛ لأنَّ الَّذي يُبدئ ويعيد قادرٌ على إيقاع البطش الشَّديد في الدُّنيا وهو الإبداء، وفي الآخرة وهو إعادة البطش، ونلاحظ حذف مفعولي الفعلين (يبدئ ويعيد) لعمومها في كُلِّ شيء، ويستوقفنا للتأمل تركيب الجملة : حيث بدأت بحرف التَّوكيد في {إنَّه} و جاء اسمها ضمير الغائب المتصل ثمَّ جاء ضمير الفصل {هو} لتحقيق الخبر زيادة في التَّوكيد، ثمَّ جاء خبر النَّاسخ: {إنَّ} جملتين فعليتين {يبدئ ويعيد} زيادة في تأكيد حكم الإسناد له جلَّ جلاله.
ويعطف عليه - سبحانه وتعالى- {وهو الغفورُ الودودُ}. يقول السَّعدي في: {وهو الغفور} الَّذي يغفر الذُّنوب لمن استغفر وتاب، ويؤكده قوله تعالى: {الودود} الَّذي يحبه أحبابه محبة لا يشبهها شيء؛ فكما أنَّ لا يشابهه شيء في صفات الجلال والجمال والمعاني والأفعال، فمحبته في قلوب خواص خلقه التَّابعة لذلك لا يشبهها شيءٌ من أنواع المحاب؛ ولهذا كانت محبته أصل العبوديَّة، وكُلُّ المحاب تابعة لها، وهو تعالى الودود لأحبابه ، كما قال تعالى: {يحبهم ويحبونه} والمودَّة، هي المحبَّة الصَّافية وفي هذا سر لطيف حيث قرن {الودود} بالغفور ليدل ذلك على أنَّ أهل الذُّنوب إذا تابوا إلى الله وأنابوا غفر لهم ذنوبهم وأحبهم فله الحمد والثَّناء لوصفه بالوداد ما أعظم بره وأكثر خيره ( )
ولما ذكر الله تعالى من صفاته ما تعلُّقه بمخلوقاته بحسب ما يستأهلون من جزاء أعقب ذلك بصفاته الذَّاتية على وجه الاستطراد والتكملة بقوله تعالى: {ذو العرش المجيدُ. فعالٌ لما يريد} تنبيهاً للعباد إلى وجوب عبادته لاستحقاقه العبادة لجلاله كما يعبدونه لاتقاء عقابه ورجاء نواله ( ).
و {العرش} اسم لعالم يحيط بجميع السَّماوات، سمي عرشاً لأنَّه دالَّ على عظمة الله تعالى ( )
فيكون المعنى: صاحب العرش العظيم الَّذي من عظمته أنَّه وسع السَّماوات والأرض والكرسي؛ فهي بالنِّسبة إلى العرش كحلقة ملقاة في فلاة، وخص الله العرش بالذكر لعظمته وأنَّه أخص المخلوقات بالقرب منه تعالى، وهذا على قراءة الجر لكلمة {المجيدِ} ، فيكون "المجيد" نعتاً للعرش، وأمَّا على قراءة الرَّفع أي : {المجيدُ} فإنَّ المجيد نعت لله والمجد سعة الأوصاف وعظمتها( ).
ثمَّ ذَيل ذلك بصفة جامعة لعظمته الذَّاتية وعظمة نعمه بقوله تعالى: {فعال لما يريد} فصيغة المبالغة في قوله: {فعَّال} للدلالة على الكثرة في الكميَّة والكيفيَّة مع ما حملت من تأكيد على قدرته المطلقة تعالى وتقدس.
ويأتي قوله تعالى: {هل أتاك حديث الجنود. فرعون وثمود} متصلاً بقوله تعالى: {إنَّ بطش ربك لشديد} فالخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم- ثمَّ من بعده لكُلِّ متدبر؛ وذلك لبيان أنَّ بطشه – سبحانه وتعالى- شديد وهو تمثيل ودليل، وجاء على طريقة الاستفهام للتهويل لما فيه من التَّعرض للمشركين بأنَّه قد يحل بهم من البطش ما حلَّ بأولئك الأوائل.
ويأتي الإضراب الانتقالي بقوله تعالى: {بل الَّذين كفروا في تكذيب.} أي لا يزالون مستمرين على التَّكذيب والعناد لا تنفع فيهم الآيات ولا تُجدي لديهم العظات ( ) و يستوقفنا للتأمل قوله تعالى: {في تكذيب} فقد جعل التَّكذيب مظروفهم وهم فيه غرقى فأنى لهم يروا حقائق الدِّين وهم في غيهم منغمسون، لكنهم وإن كانوا مختبئين بتكذيبهم إلا إن {والله من ورائهم محيط} جلَّ جلاله. هذه الجملة خبر مستعمل في الوعيد والتَّهديد وقد عطف على جملة: {الَّذين كفروا في تكذيب} أي بقدر ما هم متمكنون من التَّكذيب الله يسلط عليهم عقاباً لا يفلتون منه لإحاطته بهم ( ).
يقول ابن عاشور فيها: هي تمثيل لحال انتظار العذاب إياهم وهم في غفلة عنه بحال من أحاط به العدو من ورائه وهو لا يعلم حتَّى إذا رام الفرار والإفلات وجد العدو محيطاً به ( ) والمثل الأعلى لله عزَّ وجلَّ.
وتختم السُّورة المباركة بقوله تعالى: {بل هو قرآن مجيد في لوحٍ محفوظ}. بدأ المقطع بحرف الإضراب "بل" هو إضرابُ إبطال لتكذيبهم؛ لأنَّ القرآن جاءهم بدلائل بيِّنة فاستمروا على التَّكذيب لسوء اعتقادهم فوصفوه بصفات النَّقص والضلال؛ فجاء التَّنويه به جامعاً لإبطال جميع ترهاتهم على طريق الإيجاز ( ).
يقول السَّعدي في قوله تعالى: {بل هو قرآن مجيد} أي: واسع المعاني عظيمها كثير الخير والعلم. {في لوحٍ محفوظ}: من التَّغيير والزِّيادة والنَّقص، محفوظ من الشَّياطين، وهو اللوح المحفوظ الَّذي قد أثبت الله تعالى فيه كُلَّ شيء. وهذا يدل على جلال القرآن وجزالته ورفعة قدره عند الله تعالى ( ).
والله أعلم وأحكم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله رب العالمين عليه نتوكل وبه نستعين
سورة الانشقاق


سُمِّيت هذه السُّورة المباركة في زمن الصَّحابة: " سورة إذا السَّماء انشقَّت" وسماها المفسرون وكتَّاب المصاحف: "سورة الانشقاق".
ابتدأت بوصف أشراط السَّاعة وحلول يوم البعث واختلاف أحوال الخلق يومئذ بين أهل نعيم وأهل شقاء ( ).
بدأت السَّورة المباركة بأول حدث من أحداث يوم القيامة بقوله تعالى: {إذا السَّماء انشقت} يقول السَّعدي فيه: أي: انفطرت وتمايز بعضُها من بعض، وانتثرت نجومُها، وخُسِفَ بشمسها وقمرها ( ).
بدأت الآية الكريمة بظرف للزمان المستقبل {إذا} والفعل {انشقت} مؤول بالمستقبل وصيغ بالماضي للتنبيه على تحقق وقوعه لأنَّ أصل {إذا} تدل على القطع بوقوع الشَّرط.
وكلمة {انشقت} تدور حول: الصَّدع، أو الخرم ( ). وقد تعددت أقوال المفسرين حول المراد بانشقاق السَّماء فقيل بالغمام ( ). لقوله تعالى: {ويوم تشقق السَّماء بالغمام...}[الفرقان:25] ، أو تشققها لتكون أبواباً ( ) ، أو لنزول الملائكة وصعودهم يومئذ، أو لهول يوم القيامة( ). أو هو انشقاق من جراء اختلال في تركيب الكرة الهوائية، أو من ظهور أجرام كوكبيَّة تخرج عن دوائرها المعتادة في الجوِّ العلوي، فتنشق القبة الهوائية المحيطة بالأرض ( ). وقد حكى صوتي الشِّين والقاف ذلك الحدث بوضوح بما يدلان عليه من الانتشار والقوة.
ونلاحظ في تركيب هذه الآية تقديم المسند إليه {السَّماء} على المسند {انشقت} دون أن يقال: "إذا انشقت السَّماء" وذلك لإفادة تقوِّي حكم الإسناد، وهو التَّعلق الشَّرطي، أي إنَّ هذا الشَّرط محقق الوقوع، زيادة على ما يقتضيه {إذا} الشَّرطيَّة من قصد الجزم بحصول الشَّرط بخلاف "إن" ( ).
وفي عُرف النَّحويين أن بعد الظرف {إذا} فعل مضمر يقدَّر بـ"إذا انشقت السَّماء انشقت" وإضماره زاد في التَّفخيم، فإنَّ الشَّيء إذا أضمر ثمَّ فُسِّر كان أفخم مما إذا لم يتقدَّمه إضمار ( ).
ويأتي قوله تعالى: {وأذنت لربِّها وحُقَّتْ} أي: استمعت لأمره، وألقت سمعها، وأصاخت لخطابه، وحق لها ذلك، فإنَّها مسخرة مدبره تحت مسخر ملك عظيم لا يعصى أمره، ولا يخالف حكمه ( ).
وهذا حكاية عن خبر السَّماء العجيب، وقد أسند الاستماع والإصغاء مجازاً لتصوير المطاوعة ( ).
يشرحه ابن عاشور بقوله: وهو هنا مجاز مرسل في التَّأثر لأمر الله التَّكويني بأن تنشق ( ). أو يكون الكلام على حقيقته فللجمادات مع الله- سبحانه وتعالى- حالة ليست كحالتها مع المَخْلوقين ( ).
والتَّعبير بـ"ربِّها" دون غير ذلك من أسماء الله تعالى، وطريقه التَّعريف، لما يؤذن به وصف الرَّب من الملك والتَّدبير ( ). وقدرته الباهرة ( ).
ويأتي خضوع الأرض لأمر ربِّها بقوله تعالى: {وإذا الأرض مُدَّت} بالتَّرتيب نفسه الَّذي سبق في قوله تعالى: {إذا السَّماء انشقت} ليدلَّ ذلك أيضاً على تفخيم هذا الحدث المهول.
وجاء تكرار كلمة {إذا} مع الأرض؛ للإشعار باستقلال كُلٍّ من الأرض والسَّماء بنوع من القُدرة ( ).
وكلمة {مُدَّت} يدور معناها على: (الجذب والمطل) ( ) و(الجر) ( )
وذهب المفسرون إلى أنَّ مدَّ الأرض: بسْطُها ( ). وذلك للزيادة في سعتها ومساحتها ( ). أو بسطها بإزالتها عن هيئتها السَّابقة وتبديلها بهيئة أخرى ( ). أو بسطها بإزالة ما عليها من الجبال ويبوس بحارها ( ). قال تعالى: {فيذرها قاعاَ صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً} [طه:106، 107].
يقول ابن عاشور بعد أن ذكر عِدَّة معاني للمد: وذلك كله مما يؤذن باختلال نظام سير الأرض وتغيير جاذبتها وما يحيط بالأرض من كرة الهواء، فيعقب ذلك زوال هذا العالم ( ).
ويأتي تصوير ذلك بقوله تعالى: {وألقت ما فيها وتخلت} أي أخرجت ما في بطنها فلم يبق منه شيء لأنَّ فعل "تخلى" يدلُّ على قوة الخلوّ عن شيء لما في مادة "التَّفعل" من الدَّلالة على تكلُّف الفعل ( ).
كُلُّ كلمة في هذه الجملة تصور لنا مشهد من مشاهد يوم القيامة، فكلمة {ألقت} تدلُّ على القوة مع المسارعة في تسليم الأمانة الَّتي حافظت عليها ملايين السِّنين وهو متكدس في بطنها تنتظر لحظة تسليم الأمانة لباريها. ويؤكده قوله تعالى: {وتخلت} التَّي يدور معناها حول الفراغ ( ). والمراد من (تخلت) عمَّا في بطنها إلى الله -عزَّ وجل- ( ). غاية الخلو حتَّى لم يبق شيء في باطنها، كأنَّ تكلَّفت أقصى جهدها في ذلك يؤكده صيغة "تفعَّلت" ( ).
يقول صاحب أضواء البيان ( ): بعد أن كانت لهم كفاتاً أحياءً وأمواتاً، وبعد أن كانت لهم مهاداً، لفظتهم وتخلت عنهم، وهذا ما يزيد في رهبة الموقف وشِدته والتَّضييق على العباد ولا ملجأ لهم ومنجى إلا إلى الله، كما قال تعالى: {كلا لا وز. إلى ربك يومئذٍ المستقر} [القيام11، 12]. ويساعد في تصوير ذلك الحدث فخامة الحروف الَّتي خرجت بها كلمة {تخلَّت}.
وبمثل ما استجابت السَّماء فعلت الأرض يؤكد ذلك قوله تعالى: {وأذنت لربِّها وحقت} فهما محقوقتان لربِّهما لا تخرجان عن سلطانه؛ فهو الخالق وإذا شاء أزال ما خلق بقدرته لا يعظم عليه شيءٌ تبارك وتعالى. وعليه أعيد مع الأرض قوله تعالى: {وأذنت لربِّها وحقت}.
ويأتي على شوق جواب الشَّرط {إذا} بقوله تعالى: {يا أيها الإنسان إنَّك كادحُ إلى ربِّك كدحاً فملاقيه} إلى آخره. كُلُّ كلمة في هذه الآية تطلب وقفة تأمل عميق ولكن نقتطف منها بعض ثمارها:
تبدأ الآية الكريمة بنداء عام بقوله تعالى: {يا أيها الإنسان} لقد توجه النداء إلى كافة جنس الإنسان ليخصهم جميعاً فرداً فردا، والنِّداء إذا سبق الحكم دلَّ على أهميته لما يقوم به من تنبيه الغافل. ثمَّ يأتي مقصود النِّداء بقوله تعالى: {إنَّك كادحٌ} بجملة مؤكَّدة بأقوى أدوات التَّوكيد {إنَّ} وجاء اسمها "كاف" الخطاب زيادة في الحرص على التَّنبيه والاهتمام، ويأتي خبر النَّاسخ: {كادحٌ} الكلمة الَّتي تدور مادتها على العمل الدؤوب والسَّعي الحثيث والكسب الصَّعب ( ).
وهكذا تكاد الأصوات الثلاثة (ك، د، ح) بنسيجها تحكي صوت الكدح بما فيها من صفات ( ). وتصور تلك المشاق الَّتي يتجشمها كُلُّ إنسان خلال رحلة العمر، ويؤكده المفعول المطلق: {كدحاً}.
ولكن إلى أين المسير إنَّه {إلى ربك} فانتهاء غاية المسير إلى الله -جل جلاله- وقد ذكر نفسه هنا – سبحانه- بعنوان الرُّبوبيَّة {إلى ربك} المضاف إلى ضمير الخطاب لزيادة القرب لما تدلُّ عليه كلمة "رب" من معاني عظيمة لا تحصى عداً أبرزها أنَّه الخالق المدبِّر لكافة الأمور كما قال تعالى: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله ربُّ العالمين}[الأعراف:54].
وتنتهي الآية بمفاجأة عظيمه بقوله تعالى: {فملاقيه} هذه "الفاء" الَّتي عطفت الجملة صوَّرت المسارعة فأن َّ المولى يذكرنا بأمور كثير منها أنَّ العمر يمر سريعاً وفي لحظة يجد الإنسان نفسه أمام النِّهاية الحتمية ويحضر بين يدي الله فما عسى أن يكون حاله في هذا اللقاء الَّذي من عظمته لا يمكن لأحدٍ أن يوفيه حقه من الوصف.
ويأتي تفصيل الإجمال السَّابق من الآية [7] إلى الآية [15] مبتدأ بقوله تعالى: {فأمَّا من أُوتي كتابه بيمينه. فسوف يحاسبُ حساباً يسيراً. وينقلب إلى أهله مسروراً}
هذا تفصيل الإجمال الًّذي في قوله تعالى: {إنَّك كادحٌ إلى ربك كدحاً فملاقيه} أي: رجوع جميع النَّاس إلى الله - سبحانه وتعالى- وعليه بدأ المقطع {فأمّا} الَّتي هي للتفصيل.
ومن أول بشائر الخير للمؤمنين في ذلك الموقف الرَّهيب إتاؤه كتابه باليمين. والكتاب: صحيفة الأعمال: وجعل إتاؤه إياه بيمينه شعاراً للسَّعادة لِمَا هو متعارف من أنَّ اليد اليمنى تتناول الأشياء الزَّكيَّة حتَّى سموا البركة والَّسعادة يُمناً ( ).
وحرف (الباء) في {بيمينه} للملابسة أو المصاحبة. وحرف (سوف) في قوله تعالى: {فسوف يحاسب حساباً يسيراً} أصله لحصول الفعل في المستقبل، ويقصد به في استعمال البليغ تحقق حصول الفعل واستمراره، وهنا يفيد ذلك، ويصور حاله وهو ينقلب إلى أهله مسروراً وذلك المقصود من هذا الوعد العظيم ( ).
يقول السعدي في قوله تعالى: {فسوف يحاسب حساباً يسيراً} وهو العرض اليسير على الله فيقرره الله بذنوبه، حتَّى إذا ظنَّ العبد أنَّه قد هلك، يقول الله تعالى له: "إني قد سترتها عليك في الدُّنيا، فأنا أسترها لك اليوم".
ويستوقفنا للتأمل في هذه الآية الكريمة: {وينقلب إلى أهله} فكلمة: {ينقلب} الانقلاب في اللغة الرُّجوع إلى المكان الَّذي خرج منه وفي هذا إيحاء إلى رجوع المسلم إلى موطنه الأصلي حيث كان أبو البشر هناك في الجنَّة وخرج لخضوعه إلى وسوسة الشَّيطان اللعين، و بمقادير الله-عزَّ وجلَّ- ومن اتبع الشيطان في حياته الدُّنيا لم يعد إلى الجنَّة مرة ثانية إلا لمن شاء الله له السَّلامة.
وتأتي كلمة: {مسروراً} لتصف لنا حاله بحال من عاد إلى وطنه وأهله بعد غياب طويل فقد (نجا من العذاب وفاز بالثَّواب) ( )
وعليه ينطلق مسروراً فرحاً ينادي بأهله: {هاؤم اقرءوا كتابيه...} [الحاقة:19] وأهله آنذاك في الجنَّة من الحور والولدان، ومن أقاربه الَّذين دخلوا الجنَّة، وهذا من تمام النِّعمة يُعلم بها من يعرفه مما يزيد سروره وهو السُّرور الدائم ( ).
وتأتي المقابلة العجيبة بالغة الأهميَّة بين حال سرور من دخل الجنَّة بفضل ربِّه ومن كان تعجل سروره في الدَّنيا، وغفل عن أمر ربِّه واتَّبع هواه وشيطانه فأُعطي كتابه بشماله إيذاناً ببؤسه وشقائه الدائمين فقال تعالى: {وأمَّا من أوتي كتابه وراء ظهره. فسوف يدعوا ثبوراً ويصلى سعيراً. إنَّه كان في أهله مسروراً. إنَّه ظن أن لن يحور. بلى إن ربَّه كان به بصيراً}
يقول ابن عاشور: في قوله تعالى: {من أُتي كتابه وراء ظهره} هو الكافر، والمعنى إنَّه يؤتى كتابه بشماله كما تقتضيه المقابلة بـ{من أُتي كتابه بيمينه} وذلك أيضاً في سورة الحاقَّة قوله تعالى: {وأمَّا من أُتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه ...}، أي يعطى كتابه من خلفه فيأخذه بشماله تحقيراً له ويناول من وراء ظهره إظهاراً للغضب عليه لا ينظر مُناوله كتابه إلى وجهه ( ).
وتكرار ذكر (كتابه) دون الاكتفاء بما سبق لتغيير مضمون الكتابين وتخالفهما في الاشتمال والحكم في المآل ( ).
واتَّضح مصير هؤلاء الكافرين في قوله تعالى: {فسوف يدعوا ثبوراً. ويصلى سعيراً}. (أي من الخزي والفضيحة وما يجده في كتابه من الأعمال الَّتي قدمها ولم يتب منها) ( ).
الثُّبور: الهلاك وسوء الحال وهي كلمة يقولها من وقع في شقاء، والنِّداء في مثل هذه الكلمات مستعمل في التَّحسر والتَّوجع من معنى الاسم الواقع بعد حرف النِّداء .
قوله تعالى: {ويصلى سعيراً} أي تحيط به السَّعير من كُلِّ جانب، ويقلَّب فيها ليشتد عذابه، وجاءت كلمة {سعيراً} منكَّرة لإبراز هولها وأنَّها تصل إلى غاية لا يدرك كنهها البشر ( )
وسبب ذلك العذاب {إنَّه كان في أهله مسروراً} هذه الآية الكريمة المركبة بعدَّة مؤكدات تصف حاله زمن عمره القصير في الدُّنيا الفانية؛ فقد كان دائم الانغماس في السُّرور الَّذي ألهاه عن شكر فضل ربه عليه ، وأنساه وعودته إليه والعمل على النَّجاة من غضبه باتباع أمره واجتناب نهيه. يقول السَّعدي: لا يخطر البعث على باله، وقد أساء ولم يظن أنَّه راجع إلى ربه وموقوف بين يديه ( ).
وعليه يقوا ابن عاشور: وقوله: {إنَّه كان في أهله مسروراً} مستعملة في التَّعجب من حالهم كيف انقلبت من ذلك السُّرور الَّذي كان لهم في حياتهم الدَّنيا المعروف من أحوالهم بما حكي في آيات كثيرة فألوا إلى النَّار في الآخرة حتَّى دَعوا بالثُّبور. وتأكيد الخبر من شأن الأخبار المستعملة في التَّعجب، وهذه الجملة معترضة ( ).
ويأتي تعليل ذلك بقوله تعالى: {إنَّه ظن أن لن يحور} حرف {إنَّ} مغنٍ عن (فاء) التَّعليل، والمعنى: يصلى سعيراً لأنَّه ظنَّ أن لن يحور، أي لن يرجع إلى الحياة بعد الموت فهو يكذِّب البعث، وجيء بحرف {لن} الدَّال على تأكيد النَّفي ليصور عمق ظنه في عدم البعث بعد الموت.
و يأتي الإضراب عن هذا الظَّن الباطل بقوله تعالى: {بلى إنَّ ربه كان به بصيراً}، موقع {بلى} الاستئناف كأحرف الجواب، وجملة {إنَّ ربه كان به بصيراً} مبينة للإبطال الَّذي أفاده حرف {بلى} على وجه الإجمال أي: إنَّ ظنه باطل؛ لأنَّ ربه أنبأه بأنَّه يبعث، ولذا جاء حرف التأكيد "إنَّ" لرد إنكاره البعث الَّذي أخبره الله به على لسان رسوله- صلى الله عليه وسلم- وتقديم {به} على متعلقه للاهتمام بهذا المجرور، أي بصير به لا محالة.
ثمَّ استؤنف بالقسم قوله تعالى: {فلا أقسم بالشَّفق. والليل وما وسق. والقمر إذا اتسق} حرف "الفاء" الَّذي بدأ به المقطع لتفريع القسم وجوابه على التَّفصيل الَّذي في قوله تعالى: {فأمَّا من أوتي كتابه بيمينه} وما بعده إلى هنا.
ومعنى {لا أقسم} أي: أقسم واللام الَّتي تقدمته لتعظيم القسم.
يبدأ- سبحانه وتعالى- بالشَّفق. والشَّفق لغة: الرقَّة َّ ومنه رقَّة القب فهو هنا بقيَّة ضوء الشَّمس وحمرتُها، فكأنَّه تلك الرِّقَّة من ضوء الشَّمس، وهي ظاهرة كونيَّة تدل على عظمة الخالق مقلِّب الأحوال.
ثمَّ يتبعه بقسم آخر لحالة كونيَّة تتبع الأولى في الظُّهور بقوله تعالى: {والليل وما وَسَقَ}. كلمة (وسق) تدلُّ على الجمع والضَّم للشيء الكثير، فيكون المعنى والليل وما جمعه من المخلوقات.
ويأتي القسم الثَّالث بقوله تعالى: {والقمر إذا اتسق} أي: اتَّسع وتكامل نوره ( ).
ويعلل ابن عاشور الإقسام بهذه الآيات الثلاثة بقوله: ولعل ذِكر الشَّفق إيماء إلى أنَّه يشبه حالة انتهاء الدُّنيا؛ لأنَّ غروب الشَّمس مِثُل حالة الموت، وأنَّ ذكر الليل إيماء إلى شِدة الهول يوم الحساب، وذكر القمر إيماء إلى حصول الرَّحمة للمؤمنين ( ).
وجاء جواب القسم بقوله تعالى: {لتركبُنَّ طبقاً عن طَبقٍ} بصورة فريدة من الإيجاز ( ). وقد أكد الفعل {لتركبُنَّ} بلام القسم ونونه تأكيداَّ لهذا الحدث.
والكلام في الآية المباركة على الكناية عن شِدَّة الأهوال الَّتي يلقاها الإنسان في الدُّنيا والآخرة ( ).
يفسره السَّعدي بقوله ( ): أي: أطواراً متعددة وأحوالاً متباينة من النُّطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى نفخ الروح، ثمَّ يكون وليداَ وطفلاً، ثمَّ يميز ثمَّ يجري عليه قلم التَّكليف، والأمر والنَّهي، ثمَّ يموت بعد ذلك، ثمَّ يبعث ويجازى بأعماله، فهذه الطَّبقات المختلفة الجارية على العبد دالة على أنَّ الله وحده هو المعبود الموحد المدبر لعباده بحكمته ورحمته، وأنَّ العبد فقير عاجز ، تحت تدبير العزيز الرحيم، ومع هذا فكثير من النَّاس لا يؤمنون.
و يأتي تأكيده بقوله تعالى: {فمالهم لا يؤمنون. وإذا قُرِئ عليهم القرآن لا يَسجدون}
أول ما يستوقفنا للتأمل في هذا المقطع تغير أسلوب الكلام من المخاطب الحاضر إلى ضمير الغائب، وفي ذلك صورة لإبعادهم عن شرف الخطاب لبعدهم عن الإيمان به جلَّ جلاله وتقدس.
والكلام مفرعٌ على ما مضى من الأحوال الَّتي توجب الخوف والرَّهبة من لقاء الله – سبحانه وتعالى- وتدعوا إلى الإيمان.
وتركيب "ما لهم لا يؤمنون" يشتمل على (ما) الاستفهاميَّة مُخبر عنها بالجار والمجرور. والجملة بعد {لهم} حال من (ما) الاستفهاميَّة.
وهذا الاستفهام مستعمل في التَّعجب من عدم إيمانهم وفي إنكار انتفاء إيمانهم؛ لأنَّ شأن الشَّيء العجيب المنكر أن يسأل عنه. وجملة: {لا يؤمنون} في موضع الحال، ومُتعلُّق: {يؤمنون} محذوف يدل عليه السِّياق، أي: بالبعث والجزاء ( ).
وفي قوله تعالى: {إذا قرأ عليهم القرآن لا يسجدون}. صورة حيَّة لنفورهم من كلام الله وعدم احترمه له. يقول السَّعدي: أي لا يخضعون للقرآن، ولا ينقادون لأوامره ونواهيه ( ).
ويتبعه سبحانه بقوله تعالى: {بل الَّذين كفروا يُكذِّبون} إظهار في مقام الإضمار لما يؤذ به من ذمهم بالكفر. وهو إضراب انتقالي من التَّعجب من عدم إيمانهم وإنكاره عليهم إلى الإخبار عنَّهم بأنَّهم مستمرون على الكفر والطَّعن في القرآن، وعُبِّرَ عنه بالفعل المضارع الَّذي يفيد استحضار الحالة ويؤكد استمرارها ( ).
ويأتي قوله تعالى: {والله أعلم بما يوعون} بين الجملة السَّابقة، و قوله تعالى : {فبشرهم بعذاب أليم} وهذا كناية عن الإنذار والتَّهديد بأنَّ الله مجازيهم بسوء طويتهم، ومعنى: {بما يوعون} بما يضمرون في قلوبهم لذا قال تعالى: بعد: {فبشِّرهم بعذابٍ أليم} الفعل {بشِّرهم } مستعار للإنذار والوعيد على طريقة التَّهكم لأنَّ حقيقة التَّبشير الإخبار بما يسر وينفع.
وتختم السُّورة المباركة باستثناء فريق من النَّاس يصفه الرَّحمن بقوله {إلا الَّذين آمنوا وعملوا الصَّالحات لهم أحرٌ غيرُ ممنون}.
يقول السَّعدي: من النَّاس فريق هداهم الله فأمنوا بالله، وقبلوا ما جاءتهم به الرُّسل، آمنوا وعملوا الصَّاحات؛ فهؤلاء لهم أجرٌ غيرُ ممنون أي: غير مقطوع؛ بل أجرهم دائم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. نسأل الله من فضله كرمه ورحمته آمين.
والله أعلم وأحكم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
2025/03/09 02:43:29
Back to Top
HTML Embed Code: