Telegram Web Link
Forwarded from د/ خديجة بنَّـاني
بسم الله الرَّحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيد الخلق أجمعين
أول ما يستوقفنا في هذ المقطع من السُّورة المباركة بدؤها بالخطاب الموجه إلى منكري البعث ( ). بقوله تعالى: {ءأنتم أشدُّ خلقاً أمِ السَّماءُ بناها} قيل: لغرض توبيخهم وتبكيتهم ( ). خاطبهم الله به خطاباً مباشراً بعد أن كان الأسلوب على طريقة الغائب فيما مضى، من قوله تعالى: {يقولون أءنا لمردودون في الحافرة} [النَّازعات:10] وما بعدها، وهذا ما يطلق عليه العلماء: الالتفات، وهو أسلوب من أساليب لغتنا العربيَّة، وما أروعه في القرآن الكريم، وحاجة المعنى لذلك أنَّ في خطاب المواجهة قدرة قويَّة تهز قلوب المخاطبين لعلهم يرشدون ( ).
وعليه جاء: {أءنتم} باستفهام تقرري ( ). توبيخي، إنكاري ( ).
وقوله تعالى: {أشد خلقاً} أي: أصعب خلقاً أم خلق السَّماء؛ وذلك ليدبروا ويتأملوا ويتفكروا بين خلقهم الضَّعيف، وخلق تلك السَّماء الَّتي لا يستطيعون تطاولها مهما بذلوا من جهد؛ ولذلك أتي بقوله {أم السَّماءُ بناها} أي أم خلق السَّماء على عظمها وانطوائها على تعاجيب البدائع الَّتي تحار العقول عن ملاحظة أدناها ( ). فلا يسعهم عند ذلك إلا أن يقروا بأنَّ خلق السَّماء أشدُ وأعظم.
أول ما يشدنا للتأمل في كلمة: {السَّماءُ} ذلك المد في الكلمة الَّذي يقتضي أربع إلى خمس حركات، وكأن الكلمة بهذا الأداء الصَّحيح تصوِّر بعد السَّماء وعلوها وعظم بنائها؛ وقد فسَّرت السُّنة المطهَّرة ذلك بأحاديث شريفة يحسن الرُّجوع إليها.
وجاء قوله تعالى: {بناها} بيان وتفصيل لكيفية خلقها، ولم يذكر الفاعل في هذا الفعل، ولا فيما عطف عليه من الأفعال تنبيهاً على تعينه في الأذهان وتفخيم شأنَّه -عزّ وجلَّ- ( ).
قيل: استعمل لفظ (البناء) مع السَّماء مع أنَّها كالسَّقف للأرض؛ للإشعار إلى أنَّها كالبناء في البعد عن الاختلال والانحلال ( ). كمثال تقريبي؛ ولكن شتان بينهما
ويأتي بيان البناء بقوله تعالى: {رفع سمكها} أي: جعل مقدار ارتفاعها من الأرض وذهابها إلى سمت العلو مديداً رفيعاً مسيرة خمسمائة عام ( ).
كما جاء قوله تعالى: {فسوَّاها} زيادة في وصف حال تلك السَّماء. وعطفه بحرف الـ(فاء) دلالة على التَّعقيب ( ). أي: أنَّ التسوية أعقبت البناء. مع دلالة حرف الـ(فاء) على المسارعة أيضاً فسبحان من بنى وسوى تبارك وتعالى.
قيل معنى: {فسواها} فعدلها مستوية ملساء ليس فيها تفاوت ولا فطور، أو فتممها بما علم أنَّها تتم به من الكواكب وغيرها مما لا يعلمه إلا الخالق العليم من قولهم سوى أمر فلان إذا أصلحه ( ).
يقول ابن عاشور: وجملة {رفع سمكها فسواها} مبيِّنة لجملة {بناها} أو بدل اشتمال منها، وسلك طريق الإجمال ثمَّ التَّفصيل لزيادة التَّصوير ( ). أي أجمل في قوله بناها، وفصَّل في قوله تعالى {فسواها}
وجاء العطف عليه بقوله تعالى: {وأغطش ليلها وأخرج ضُحاها} لمغايرة ذلك للبناء؛ لأنَّ العطف بالواو يفيد المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه.
ويفسرها السَّعدي بقوله: أي: أظلمه، فعمَّت الظلمة جميع أرجاء السَّماء، فأظلم وجه الأرض ( ). بذلك
وتستوقفنا للتأمل كلمة: {أغطش} الَّتي تدور مادتها حول: الظَّلام ( ). لنتسأل لماذا لم تأتي الجملة بالقول أظلم ليلها؟؟؟
ذلك لأنَّ في إيراد هذه اللَّفظة: {أغطش} إعجاز صوتي لا تؤديه كلمة "أظلم" فكافة أصوات كلمة: {أغطش} تدلُّ على القوة: فالـ(همزة) بغلقها ثمَّ انفجارها تقابل قوَة الظَّلام الهائلة في أوَّله، ثمَّ الـ(غين) بقوتها والـ(طَّاء) القويَّة بعدها مباشرةً؛ لتقابلا إحكام قوة الإظلام وتمامه، وأخيراً يأتي حرف الـ(شِّين) برخاوتها وتفشيها، لتقابل انتشار الإظلام في الكون كُلُه ( ). وهكذا عبَّرت أصوات حروف: {أغطش} عن شّدَّة الحدث وصوَّرت ظلاماً دامساً يأتي من العليم الحكيم ليغمر الكون كله.
ويأتي العطف بحرف الـ(واو) لإفادة المغايرة في قوله تعالى: {وأخرج ضحاها}. أي: أظهر فيه النَّور العظيم حين أتى بالشَّمس فأنتشر النَّاس في مصالح دينهم ودنياهم ( ).
قيل: وفي التَّعبير عن إحداثه بالإخراج؛ لأنَّ إضافة النَّور بعد الظلمة أتم في الإنعام وأكمل في الإحسان ( ).
لكنَّ كلمة "أخرج" تدلُّ على أن شيئاً أخرج من قلب شيءٍ أخر، وقد كان مستتراً فيه، وفي ذلك دلالة قويَّة على أنَّ الظَّلام هو الحدث الدَّائم العام في الكون كله؛ وإذا أراد القادر – سبحانه- بأهل الأرض خيراً أخرج من قلب ذلك الظَّلام نورَ الضُحى؛ لتسعد الأرض ومن عليها من كائنات، كُلُّ الكائنات؛ حتَّى النَّبات يسعد بذلك ويستنشق عبير الحياة. وفي هذا دلالة قويَّة على عظيم قدرة الله، وإكرامه للخلائق وإحسانه بهم. وعليه لم يقل – سبحانه - أنار ضُحاها. فشتان بين هذا وذلك.
ويستوقفنا للتأمل أيضاً اختيار وقت الضُحى للدَّلالة على نور النَّهار.
Forwarded from د/ خديجة بنَّـاني
قيل: وتجوز بـ{الضُحى} عن النَّهار بكامله، اعتماداً على قرينة المقابلة بالإغطاش أو الكلام على حذف مضاف، والتَّقدير: وضُحى شمسها، وكنى بذلك عن النَّهار والأول أقرب ( ).
وأقول - والله أعلم وأحكم- لأنَّ هذا الوقت قد أودع فيه الرَّب الرَّحيم من الخير والانشراح والنَّشاط الشَّيء العظيم، وعليه عندما أراد أن يسري عن قلب رسوله الحزين أقسم له بهذا الوقت المبارك في "سورة الضُحى" قال تعالى: {والضحى واللَّيل إذا سجى} مقدِّماً الضُحى على غيره.
وقد قال بعض المفسرين: خُصَّ بالذِّكر من النَّهار وقت الضُحى؛ لشرفه على كُل أوقات النَّهار؛ فكان أحق بالذِّكر في مقام الامتنان، وهو السِّرُ في تأخير ذكره عن ذكر الليل ( ). في هذه السُّورة المباركة "النَّازعات"
كما يستوقفنا للتأمل إسنادُ الليل والضُحى للسَّماء، قيل: وإضافة الليل والضُحى إلى السَّماء لدوران حدوثهما على حركتها ( ) كما قيل: (إضافة ليل وضُحى إلى السَّماء؛ لأنَّهما يلوحان في جهاتها ( ). وذلك لأنَّ الإضافة تحدث لأدنى ملابسة.
ويأتي العطف بمنَّة أخرى هي ألصق ما تكون بحياة المخاطبين في قوله تعالى: {والأرض بعد ذلك دحاها}.
وفي الانتقال من الاستدلال إلى الأرض بعد السَّماء محسن بديعي يسمى الطِّباق وفائدته اللفت إلى عظيم قدرة الله في كلٍّ من السَّماء والأرض.
ولأجل الاهتمام بدلالة خلق الأرض وما تحتوي عليه قُدِّم اسم: {الأرضَ} على فعله وفاعله: {دحاها}؛ فانتصب على طريقة الاشتغال؛ لأنَّ الاشتغال يتضمن تأكيداً باعتبار الفعل المقدر العامل في المشتغل عنه الدَّال عليه الفعلُ الظَّاهر المشتغل بضمير الاسم المقدَّم ( ).
وتوضيح ذلك أننا نقرأ كلمة: {الأرضَ} منصوبة؛ لأنَّها مفعول به لفعلٍ مقدَّر: أي "دحى الأرض بعد ذلك دحاها" وتكرار الفعل مرَّة ظاهراً وأخرى مقدراً أعطى مزيد من التَّأكيد على الحدث الَّذي يمثله الفعل، وذلك لمزيد لاهتمام به.
يقول الشيخ السَّعدي: فدحو الأرض بعد خلق السَّماء كما هو نص هذه الآيات الكريمات، أمَّا خلق نفس الأرض فمتقدم على خلق السَّماء كما جاء في آيات سورة [فصِّلت:10 -12]
والدَّحو والدَّحيُ يقال: دحوت ودحيتُ. واقتصر الجوهري على الواوي وهو الجاري في كلام المفسرين هو: البسط والمد بتسوية.
والمعنى: خلقها مدحوَّة، أي: مبسوطة مسوَّاة والإشارة بقوله تعالى: {بعد ذلك} إلى ما يفهم من {بناها رفع سمكها فسواها}، أي بعد خلق السَّماء خلق الأرض مدحوَّة ( ).
يقول السَّعدي ( ) في الدَّحو: أي أودع فيها منافعها، وفسَّر ذلك بقوله تعالى: {أخرج منها ماءها ومرعاها. والجبال أرساها}
فمن المنن الَّتي منَّ الله – سبحانه وتعالى- بها على عباده في خلق الأرض أولاً: وما تقوم به حياة الأحياء عليها فقال تعالى: {أخرج منها ماءها ومرعاها} هذه الجملة أتت بدل اشتمال من جملة {دحاها}؛ لأنَّ المقصد من دحوها بمقتضى ما يكمل تيسير الانتفاع بها ( ).
ونجده – سبحانه وتعالى- قدَّم ذكر الماء على المرعى؛ لأنَّه لا يكون إلا به ( ). كما أنَّ الماء لا تقتصر أهميته على إخراج المرعى؛ بل هي عامة لوجود حياة كل حي.
وعليه فقد جاءت الآية الكريمة على ما يعرف بإيجاز القصر ( ). وللإعجاز العلمي وقفة طويلة مع هذه الآية الكريمة يحسن الرَّجوع إليه.
قيل أريد من قوله تعالى: {مرعاها} ما يأكله الإنسان، فاستعير للإنسان ( ) كما في قوله تعالى: {...يرتع ويلعب...} [يوسف:12] ونكتة الاستعارة: توبيخ المخاطبين المنكرين للبعث، وإلحاقهم بالبهائم في التَّمتع بالحياة الدُّنيا والالتهاء عن الآخرة ( ).
ويأتي – سبحانه بذكر نعمة أخرى على الخلق بقوله تعالى: {والجبال أرساها} أي: أثبتها وأثبت بها الأرض أن تميد بأهلها، وهذا تحقيق للحق وتنبيه على أنَّ الرُّسو المنسوب إليها في مواضع كثيرة من التَّنزيل بالتَّعبير عنها بالرَّواسي ليس من مقتضيات ذواتها؛ بل هو بإرسائه -عزَّ وجلَّ- لها، فلولاه لما ثبتت في نفسها فضلاً عن إثباتها للأرض ( ).
ويستوقفنا للتأمل تقديم إخراج الماء والمرعى ذكراً مع تقدم الإرساء عليه وجوداً قيل: لإبراز كمال الاعتناء بأمر المأكل والمشرب مع ما فيه من دفع توهم رجوع ضميري الماء والمرعى إلى الجبال ( ).
ويأتي في ختام هذا التَّصوير الرَّباني المعجز قوله تعالى: {متاعاً لكم ولأنعامكم} ليدل سبحانه المنعم على كرمه وفضله على عباده؛ بل على كُلِّ مخلوقاته، وعليه فقد قيل في هذه الآية: إنَّها من جوامع الكلم ( ).
ونلاحظ تقديم متاع العباد على متاع أنعمهم بقوله تعالى: {متاعاً لكم ولأنعامكم} قيل في ذلك: تكريم وتشريف للإنسان ( ).
وأجد في ذلك ملحظ بلاغي آخر يكمن في ما يحمله حرف الجر (اللام) من معنى التَّخصيص والملكيَّة، فتلك الخيرات المذكورة من الماء والمرعى و الجبال الَّتي خلقها لتكون حصناً لهم من آفات كثيرة، كُلُّ تلك الخيرات بما فيها الأنعام هي متاع للإنسان المكلف بشكرها.
Forwarded from د/ خديجة بنَّـاني
ويؤيده قول ابن عاشور: وهذا إدماج الامتنان في الاستدلال؛ لإثارة شكرهم حق النِّعمة بأن يعبدوا المنعم وحده ولا يشركوا بعبادته غيره ( ).
وفي هذا القسم من السَّورة المباركة من قوله تعالى: {والأرض بعد ذلك...} إلى قوله تعالى: {متاعاً لكم ...} مُحسِّن بلاغي هو الجمع ثمَّ التَّقسيم ( ). وفائدته ترسيخ ما يحمله المقطع من مفاهيم عميقة المعنى، كثيرة الفائدة
كما نجد المقابلة الواضحة بين ذكر السَّماء وكُلِّ ما يتصل بها، والأرض كُلِّ ما يتصل بها؛ لتظهر بتلك المقابلة كُلَّ صورة منهما بأوضح ما يكون عليه الإيضاح، كما أنَّ تلك المقابلة تربط جزئيات التَّصوير بعضها ببعض فتظهر قدرة الخالق بصورة متكاملة يحار فيها الفكر، ثمَّ يهتدي لوحدانيَّة الخالق العظيم وبديع صنعه المتقن.
والله أعلم وأحكم صلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ولنا لقاء بإذن الله الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العلمين والصَّلاة والسَّلام على إمام المتقين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
القسم الأخير من سورة النَّازعات
بدأ هذه المقطع من السَّورة المباركة بالحديث عن القيامة بعد الفراغ من الاستدلال على إمكانيَّة البعث ( ). بقوله تعالى: {فإذا جاءت الطَّامة الكُبرى}.
وذلك من حديث حرف الـ(فاء) الَّذي ربط الآية بما قبلها للتفريع على كُلِّ ما سبق مما ذكر في السُّورة خاصة الآيات الَّتي ذكرت ما جعله المولى -جلَّ جلاله- متاعاً للنَّاس في هذه الحياة الدُّنيا؛ وعليه فهذه الآية وما بعدها تنذر بانتهاء ذلك كُلِّه بهذه الواقعة الَّتي وصفها سبحانه بـ{الطَّامة الكبرى}.
والفعل: {جاءت} هنا مجاز في الحصول والوقوع؛ لأنَّ الشَّيء المؤقَّت المؤجل بأجل يشبه شخصاً سائراً إلى غاية، فإذا حصل ذلك المؤجل عند أجله فكأنَّه السَّائر إذا بلغ المكان المقصود ( ).
والَّذي شُبَّه بالسَّائر هو: {الطَّامَّة} أي: الحادثة، أو الواقعة الَّتي تَطِمُّ أي: تعلو وتغلب بمعنى تفوق أمثالَها ( ). فمادتها تدور حول: كُلّ ما كَثُرَ وعلا حتَّى غلب ( ).
وقد قيل إنَّها النَّفخة الآخرة، أو السَّاعة الَّتي طمَّت كُلَّ داهية، أو من أسماء القيامة الكُبرى ( ).
قيل: سميت القيامة أو السَّاعة أو النَّفخة الثَّانية...الخ بالطامَّة؛ لأنَّها هي الغاشية والغامرة والهائلة الَّتي تطم كلَّ شيء وتغطِّيه ( ). وعليه وصفت بالكبرى.
ثمَّ يخبر - سبحانه وتعالى- بقوله: {يوم يتذكَّر الإنسانُ ما سعى} هذه الجملة أتت بدل اشتمال من جملة: {إذا جاءت الطَّامة الكُبرى}؛ لأنّ ما أضيف إليه اليوم هو من الأحوال الَّتي يشتمل عليها زمن مجيء الطَّامة الكُبرى، وهو يوم القيامة ويوم الحساب ( ).
ففي ذلك اليوم يوقف الإنسان على أعماله في كتابه؛ لأنَّ التَّذكر مطاوع ذكَّره والتَّذكير يقتضي سبق النِّسيان ( ). ولكنَّه محفوظ في صحيفة أعماله وإن كان نسيه من فرط الغفلة وطول الأمد ( ). وقد قال تعالى في موضع آخر: {أحصاه الله ونسوه}.
وعند هذا الموقف الرَّهيب يفاجأ أهل الموقف بما يذيب الأفئدة هلعاً في قوله تعالى: {وبرِّزَتْ الجَّحيمُ لمن يرى}. عطفت هذه الجملة بحرف الـ(واو) على جملة {جاءت} أي: أظهرت إظهاراً بيِّناً لا يخفى على أحد ( ).
ومجيء الفعل: {بُرِّزتْ} مضعَّف لإفادة إظهار الجحيم بأقوى ما يكون عليه الإظهار؛ لأنَّه إظهار لأجل الإرهاب. وزاد في رهبة الموقف بناء هذا الفعل لما لم يذكر فاعله، مما يصوِّر زيادة رهبة ذلك الموقف.
قيل: الكلام في الآية على الاستعارة إن حمل الضَّمير في {لمن يرى} للكافرين، أو على الحقيقة إن حمل الضَّمير فيه لكُّلِّ من له بصر من المؤمنين والكافرين، إلا أنَّ المؤمنين يرونها رؤية مرور لقوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} في سورة [مريم:71]، والكافرين: رؤية استقرار ( ).
ويأتي قوله تعالى: {فأمَّا من طغى ...} جواب لقوله تعالى السَّابق: {فإذا جاءت الطَّامة الكُبرى}، وقيل: هو تفصيل للجواب المحذوف المقدَّر بـ(انقسم الرَّاؤون قسمين فأمَّا من ....) والَّذي تستدعيه فخامة التَّنزيل ويقتضيه مقام التَّهويل أنَّ الجواب المحذوف كان من عظائم الشُّؤون مالم تشاهده العيون ( ). هو مشهد انقسام الخلق إلى فريقين متباينين. فريق إلى الجنَّة وفريق إلى السَّعير.
ومن بديع نظم القرآن أن تتقدم هذه الجملة (أمَّا) الَّتي هي حرف تفصيل وشرط ( ) والطغيان: مجاوزة الحد، بأن تجرأ على المعاصي الكبار ولم يقتصر على ما حدَّه الله تعالى له ( ). فطغى على أمر الله ولم يخاف عقابه كما دلَّ عليه قوله تعالى: {وأمَّا من خاف مقام ربِّه ونهى النفس عن الهوى}.
ونلاحظ تقديم ذكر الطُّغيان في قوله تعالى: {فأمَّا من طغى. وآثر الحياة الدنيا} لأنَّ الطُّغيان من أكبر أسباب إيثار الحياة الدَّنيا؛ فلمَّا كان مسبباً عنه ذكر عقبه مراعاة للترتيب الطبيعي
كما نلاحظ ترك ذكر المأثور عليه، لوضوحه من خلال السِّياق، أي: آثر الحياة الدُّنيا على الآخرة ( ).
ويأتي جواب الشَّرط بقوله تعالى: {فإنَّ الجحيم هي المأوى} مؤكدة بعِدة مؤكدات (إنَّ، واسميَّة الجملة، وضمير الفصل: هي). أي: الجحيم هي مأواه المنتظر لا غيرها.
ويستوقفنا للتأمل اختيار كلمة (المأوى) في هذا المقام، لِمَا لهذه الكلمة من معاني إيحائية عميقة؛ ففيها تصوِّرٌ معجزٌ يدلُّ على شِدَّة تلهف الجَّحيم على من ستأويهم في قرارها. وقد قال تعالى عنها: {إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً} [الفرقان:12].
وتأتي المقابلة المعجزة بين حال الطَّاغين وحال المتقين بقوله تعالى: {وأمَّا من خاف مقام ربه ونهى النَّفس عن الهوى. فإنَّ الجنَّة هي المأوى}؛ لأنَّ التقابل يظهر كل فريق بأدق ما يكون الإيضاح.
فقوله تعالى: {من خاف مقام ربه} مقابل قوله تعالى: {من طغى} لأنَّ الخوف ضد الطغيان ( ). وشتان بين الفريقين حياة ومآلاً.
قيل في: {خاف مقام ربه} أي: خاف مقامه بين يدي مالك أمره يوم الطَّامة الكبرى ( ).
ويجعل ابن عاشور: {مقام ربِّه} مجاز عن الجَّلال والمهابة، لأنَّ أصل المقام مكان القيام، ثمَّ شاع إطلاقه على نفس ما يضاف إليه على طريق الكناية بتعظيم المكان عن تعظيم صاحبه ( ). فصور المجاز عظم رهبة المؤمن ذلك الموقف فيثمر ذلك الخوف سلوكاً إيجابياً تحسباً لوقوفه بين يدي العزيز الجبَّار -عزَّ وجلَّ-
وعليه يأتي قوله تعالى: {ونهى النفس عن الهوى} مقابل قوله: {وآثر الحياة الدَّنيا}. قيل: نهى الخائف نفسه مستعار للانكفاف عن تناول ما تحبه النَّفس من المعاصي والهوى، فجعلت نفس الإنسان بمنزلة شخص آخر يدعوه إلى السَّيئات وهو ينهاه عن هذه الدَّعوة، وهذا يشبه ما يسمى بالتَّجريد ( ).
يقول السعدي: فأثر هذا الخوف في قلبه فنهى نفسه عن هواها الَّذي يقيدها عن طاعة الله، وصار هواه تبعاً لما جاء به الرَّسول، وجاهد الهوى والشهوة الصَّادين عن الخير ( ). وجهاد النفس من أعظم الجهاد.
ولمَّا كان الخوف من الله هو السَّبب الدَّافع لهوى النَّفس – لا جرم- قدَّم العلَّة على المعلول ( ). أي قدِّم الخوف على نهي النَّفس عن الهوى.
ثمَّ جاء جواب الشَّرط بقوله تعالى: {فإنَّ الجنَّة هي المأوى} هذه الجملة المؤكدة بعِدَّة مؤكدات حملت البشرى العظيمة بتوضيحها مآل المتقين ( ). وتفضي هذه المؤكدات إلى أنَّ الجنَّة هي المأوى لا غيرها لمن خاف مقام ربه ونهى النَّفس عن الهوى.لأنَّ المأوى: اسم مكان من الفعل "أوى" إذا رجع، فالمراد به: المقر والمسكن لأنَّ المرء يذهب إلى قضاء شؤونه ثمَّ يرجع إلى مسكنه ( ). ولما كانت الجنَّة هي مسكن أبي البشر الأول سيعود بنوه الموحدين إلى مسكنهم بفضل من الله ورحمته.
ومن بديع نظم القرآن الكريم: المحسِّن البلاغي "الجمع مع التَّقسيم " في الآيات من قوله تعالى: {يوم يتذكر الإنسان ما سعى} [النازعات:35] إلى قوله: {فإنَّ الجنَّة هي المأوى} [النَّازعات: 41]. وقد أظهر هذا المحسِّن البلاغي الرَّابط المعنويَّ العميق بين آيات المقطع بأوضح ما يكون عليه الإيضاح.
وتأتي الآيات [42-45] بقوله تعالى: {يسألونك عن السَّاعة أيان مُرساها. فيم أنت من ذكراها. إلى ربك منتهاها. إنَّما أنت منذرُ من يخشاها} استئنافاً بيانياً ( ).
والسَّائلون هم منكرو البعث، إذن السُّؤال في الآية سؤال استهزاء، أو استعجال لوقوعها لعدم إيمانهم بحقيقة وقوعها ( ).
أمَّا السُّؤال في قوله تعالى: {أيَّان مُرساها} مستعمل في الاستبعاد كناية عن الاستحالة، ونلاحظ مجيء التَّعبير عن وقت وقوع السَّاعة بـ(الرَّسو) على سبيل الاستعارة، وقوله تعالى: {أيَّان} ترشيح لهذه الاستعارة ( ).
أي: يسألك المتعنتون المكذبون بالبعث {عن السَّاعة} متى وقوعها ( ). فيقع قوله تعالى: {فيم أنت من ذكراها} موقع الجواب عن سؤال المشركين للسَّاعة، وهو من باب خروج الكلام على خلاف مقتضى الظَّاهر. وهو ما عَبَّرَ عنه مضمون قوله تعالى: {إنَّما أنت مُنذرُ من يخشاها} وهذا ما يطلق عليه الأسلوب الحكيم ( ).
والاستفهام في قوله تعالى: {فيم} مستعمل في التَّعجب والتَّوبيخ وقد قُدِّم الخبر {فيم} على المبتدأ: {أنت} للاهتمام بالخبر ( ).
ثمَّ علل هذا التَّعجب في قوله تعالى: {إلى ربك منتهاها} وفي هذه الجملة أيضاً قُدِّم الجار والمجرور: {إلى ربك}؛ لإفادة معنى القصر، وهو قصر صفة على موصوف أي: إليه وحده – سبحانه - ينتهي علمها ( ). لا إليك لا لأحدٍ غيرك.
ويستوقفنا للتأمل ظهور اسم "الرَّب" في هذا المقام وإضافته إلى ضمير المخاطب وهو رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في المقام الأول، تكريماً له -صلى الله عليه وسلم - ثمَّ لكل واقفٍ على الآية الكريمة من المسلمين، وحضور هذا الاسم في هذا المقام - والله أعلم- لِمَا يحمل هذه الاسم الكريم من معاني الرَّحمة والقرب والفضل، ومعانٍ أخرى لا حصر لها ومن أمسَّها هنا أنَّ الخلق والأمر له، والمنتهى إليه تعالى وتقدس لا إله غيره.
والمنتهى أصله: مكان انتهاء المسير، ثمَّ أطلق على المصير ( )؛ ولكنَّه بهذا المسمى يرسم صورة ركضنا الحثيث المستمر في هذه الحياة؛ حتَّى يفاجئنا الوصول إلى ذلك المنتهى.
ثمَّ يستمر الخطاب الشَّريف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بقوله تعالى: {إنَّما أنت منذرُ من يخشها} هذه الآية بما أتت عليه من تركيب أفادت أيضاً القصر، وجاء من باب قصر الموصوف على الصِّفة قصراً إضافياً. أي أنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم- حظه التَّحذير من بغتتها، وليس حظه الإعلام بتعيين وقتها ( ).
واختيار القصر بهذه الأداة "إنَّما" دون - النفي والإثبات- بـ(ما، وإلا) يؤكد دقَّة مسلك القرآن الكريم في إعجازه البلاغي؛ لأنَّه يعبر بهذه الأداة عمَّا هو معروف مسلم به. والمعنى من يخشى الله ويتقه هو من يعتبر بهذا الإنذار وينتفع به لا غيرهم. (فتخصيص الإنذار بمن يخشى مع عموم الدَّعوة؛ لشدَّة انتفاعه بها) ( ).
يقول السِّعدي: إنَّما نذارتك نفعها لمن يخشى مجيء السَّاعة، ويخاف الوقوف بين يديه – سبحانه- وتعالى- فهم الَّذين لا يهمهم سوى الاستعداد لها والعمل لأجلها.
وأمَّا من لا يؤمن بها، فلا يُبالى به ولا بتعنته؛ لأنَّه تعنت مبني على العناد والتّكذيب، وإذا وصل إلى هذه الحال كان الإجابة عنه عبثاً، ينزَّه الحكيم عنه ( ).
ثمَّ يأتي ختام هذه السُّورة المباركة بقوله تعالى: {كأنَّهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشيَّةً أو ضحاها}.
هذه الآية جواب عمَّا تضمنه قوله تعالى: {يسئلونك عن السَّاعة أيان مرساها} [النَّازعات:42] الَّذي يرمون به إلى تكذيب وقوعها، فأجيبوا على طريقة الأسلوب الحكيم، أي: إن طال تأخر حصولها فإنَّها واقعةٌ وأنَّهم يوم وقوعها كأنَّه ما لبثوا في انتظارها إلا بعض يوم، وهو ما أنبأ عنه التَّعبير بالعشيَّة أو ضحاها على طريقة التَّشبيه، وقرينته (كأنَّهم) ( ). فما أسرع انقضاء العمر لو فقه الغافلون.
والله أعلم وأحكم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله رب العالمين والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
سورة النَّبأ
سميت هذه السُّورة المباركة في كثير من المصاحف وكتب التَّفسير وكتب السُّنَّة "سورة النَّبأ" لوقوع كلمة "النَّبأ" في أولها.
وسميت في بعض المصاحف وفي "صحيح البخاري" "سورة عمَّ يتساءلون" ، وفي بعض التفاسير "سورة عمَّ" بدون زيادة.
وقد اشتملت على وصف خوض المشركين في شأن القرآن الكريم وما جاء به مما يخالف معتقداهم، ومن أهم ذلك إثبات البعث، وسؤال بعضهم بعضاً عن الرأي في وقوعه مستهزئين بالإخبار عن وقوعه.
ولهذا جاء فيها إقامة الحجَّة على إمكان البعث بخلق المخلوقات الَّتي هي أعظم من إعادة خلق الإنسان بعد موته بالخلق الأول للإنسان وأحواله. ووصف الأحول الحاصلة عند البعث من عذاب الطَّاغين الَّذين جحدوا به مع مقابلة ذلك بوصف نعيم المؤمنين، وأُدمج في ذلك أنَّ علم الله تعالى محيط بكل شيء ومن جملة الأشياء أعمال النَّاس ( ).
وأول ما يستوقفنا في هذه السُّورة المباركة افتتاحها بالاستفهام في قوله تعالى: {عمَّ يتساءلون} افتتاح تشويق لما يشغل المشركين ويستحوذ على مجالسهم فهم مهتمون بهذا النَّبأ العظيم الَّذي جعلهم حيارى مندهشين، لا يسعهم قبوله خوفاً على جاههم ولا بمقدرهم ردُّه.
يقول أبو حيان: والاستفهام عن هذا فيه تفخيم وتهويل وتقرير وتعجب ( ). فننظر كم جمع هذا الاستفهام المعجز من معاني يحار فيها لبُّ الحصيف.
ويقول ابن عاشور: افتتاح الكلام بالاستفهام عن تساؤل جماعة عن نبأ عظيم، افتتاح تشويق ثمَّ تهويل لِمَا سيذكر بعده، فهو من الفواتح البديعة لِمَا فيها من أسلوب عزيز غير مألوف، ومن تشويق بطريقة الإجمال ثمَّ التَّفصيل لتمكُّن الخبر الآتي بعده في نفس السَّامع أكمل تمكن، وبهذا يعد من براعة الاستهلال ( ).
ويستوقفنا الإيجاز البديع في قوله {عمَّ} فهو مركب من كلمتين هما "عن" حرف الجر، و "ما" الَّتي هي اسم استفهام، بمعنى: أي شيء، ويتعلق {عمَّ} بفعل {يتساءلون} فهذا التركب أصل ترتيبه: "يتساءلون عن ما" فقدِّم اسم الاستفهام؛ لأنَّ له الصَّدارة في الجملة ووصل به "ما" الَّذي حذفت ألفها فصارت {عمَّ} ( ). فلننظر إلى دِقَّة مسلك القرآن الكريم في أسلوبه وتراكبه - فسبحان ربِّنا رب القرآن-.
ويأتي الفعل {يتساءلون} على صيغة التَّفاعل الدَّالة على صدور الفعل من الجهتين فكل منهما يسأل الآخر عن هذا الحدث العظيم؛ مما يصور شِدة اهتمامهم به؛ فقد استحوذ هذا النَّبأ العظيم على كافة اهتمامهم، وأصبح شغلهم الشاغل في ليلهم ونهارهم؛ فهم (يتساءلون فيما بينهم ويخوضون فيه إنكاراً أو استهزاءً) ( ).
والسُّؤال الَّذي يدور في الذِّهن ما الغرض من بدء السُّورة المباركة بهذا الاستفهام
قيل: الغرض من هذا الاستفهام: تفخيم القصَّة ( ). وقيل: التَّعجب ( ). وقيل: الاستفهام في الآية على الاستعارة التَّبعيَّة، تشبيهاً للشيء العظيم الشأن المُفخَّم القدر - وإن لم يكن مجهولاً- بالمجهول المستفهم عنه ( ). والله أعلم بمراده.
وقيل: الضمير في: {يتساءلون} لأهل مكَّة، وقيل: الضمير لجميع العالم فيكون الاختلاف الَّذي سيذكر في الآية الثَّالثة يمثله تصديق المؤمن وتكذيب الكافر ( ). طول الدَّهر حتَّى يرث اللهُ الأرضَ ومن عليها.
ونرى أنَّ براعة إيجاز القرآن الكريم اقتضت أن يبادر المحتج بالجواب الَّذي يقتضيه الحال ( ). في قوله تعالى: {عن النَّبأ العظيم}. فهو بيان عن المسؤول عنه إثر تفخيمه بإيهام أمره، وتوجيه أذهان السَّامعين نحوه، وتنزيلهم منزلة المستفهمين للتنبيه على أنَّه خارج عن دائرة علوم الخلق، وهذا خليق بأن يعتنى بمعرفته، ويسأل عنه، فقيل بطريق الجواب: {عن النَّبأ العظيم} مسارعة إلى البيان ومراعاة لترتيب السُّؤال؛ هذا هو الحقيق بجزالة التَّنزيل ( ). وعليه جاء وصفه من العزيز العليم بقوله: {عن النَّبأ العظيم. الذي هم فيه مُختلفون}.
النَّبأ: الخبر الَّذي له شأن وخطر ( ). قال الرَّاغب: النَّبأ الخبر ذو الفائدة العظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن، ولا يقال للخبر نبأ حتَّى يتضمن هذه الأشياء ( ).
وتعريف: {النَّبأ} تعريف جنس؛ فيشمل كُلَّ نبأ عظيم أنبأهم به - رسول الله صلى الله عليه وسلم- وقد وصف بالعظيم زيادة في التَّنويه به؛ ولكونه وارداً من عالم الغيب زاده عظم ( ).
ثمَّ اتَّضح اختلافهم في هذا النَّبأ العظيم في قوله تعالى: {الَّذي هم فيه مختلفون} أي: عن الخبر العظيم الَّذي طال فيه نزاعهم، وانتشر فيه خلافهم على وجه التَّكذيب والاستبعاد، وهو النَّبأ الَّذي لا يقبل الشَّك، ولا يدخله الرَّيب؛ ولكن المكذِّبين بلقاء ربِّهم لا يؤمنون، ولو جاءتهم كُلُّ آية حتَّى يروا العذب الأليم ( ).
وعليه قُدَّم الظَّرف {فيه} على متعلقه في قوله تعالى {الَّذي هم فيه مختلفون} لتقوية الكلام ( ). وللتأكيد على أنَّ خلافهم في شيء لا يختلف فيه البتَّة لشِدة نصوعه وبيان برهانه.
ويزيده تأكيداً أن جيء بالجملة الاسميَّة في صلة الموصول؛ لوجود الضمير {هم} في أولها؛ دون أن يقول: "الَّذي يختلفون فيه" أو نحو ذلك، لتفيد الجملة الاسميَّة أن الاختلاف في أمر هذا النَّبأ متمكن منهم ودائم فيهم؛ لدلالة الجملة الاسميَّة على الدَّوام والثَّبات ( ).
ثمَّ جاء الرَّدع عن نفي المشركين قيام البعث بقوله تعالى: {كلا سيعلمون} ( )؛ لأنَّ "كلا" حرف ردع وإبطال لشيء يسبقه غالباً في الكلام ( ).
ويستوقفنا للتأمل تكرار الرَّدع مع الوعيد في قوله تعالى: {ثمَّ كلا سيعلمون} لتدلَّ {ثمَّ} على أنَّ الوعد الثَّاني أبلغ من الأول وأشد ( ). لما لعطف الجمل بـ(ثمَّ) من خاصيَّة التَّرتيب الرُّتبي، فتدل على أنَّ مضمون الجملة الَّتي بعدها أرقى رتبة في الغرض مما قبلها، وهذا يعني أنَّ المتوعَّد به الثَّاني أعظم مما يحسبون.
وإن قال بعضهم: لا تكرار؛ لأنَّ الأول وعيد للكفار، والثَّاني وعد للمؤمنين ( ).
ويؤيده حذف مفعول الفعل {سيعلمون} قيل جاء حذفه على سبيل التَّهويل ( ). أو على سبيل الاختصار ( ). أو لإفادة عموم العلم وعموم العالمين ( ).
ولما كان أعظم نبأ جاءهم به القرآن الكريم إبطال ألوهيَّة أصنامهم، وإثبات إعادة خلق أجسامهم، وهما الأصلان اللذان أثارا تكذيبهم بأنَّه من عند الله وتأليبهم على رسوله - صلى الله عليه وسلم- جاء سبحانه وتعالى- باستئناف جمع فيه آيات استدلال وحدانيته بالانفراد بالخلق والأمر وبدأت تلك الآيات بقوله تعالى: {ألم نجعل الأرض مهاداً}
بدأت هذه الآية الكريمة باستفهام تقريري: في قوله تعالى: {ألم نجعل} وهو تقرير على النَّفي كما هو غالب صيغ الاستفهام التَّقريري، والمقصود منه جعل الأرض مهاداً، وهذا ما لا قدرة لهم على إنكاره. فشُبّهت الأرض بمهد الصَّبي على طريقة التَّشبيه البليغ؛ إذ جعل سطحها ميسَّراً للجلوس والاضطجاع والمشي والبناء والزرع والحرث، وكافة ما يحتاجونه، وكل ذلك دليل على إبداع خلقه – سبحانه - وتيسيره على الخلائق، وذلك الاستدلال يتضمن الامتنان ( ). فقد جمع هذا المقطع القصير بين الاستدلال على ألوهيَّته، والامتنان على عباده بما خلق لهم بعد امتنانه عليهم بخلقهم.
ومناسبة ابتداء هذا الاستدلال على إمكان البعث بخلق الأرض، أنَّ البعث هو إخراج أهل الحشر من الأرض، فكانت الأرض أسبق شيء إلى ذهن السَّامع عند الخوض في أمر البعث، أي بعث أهل القبور.
وجاء العطف عليه بقوله تعالى: {والجبالَ أوتاداً} ليدخل تحت قوله تعالى: {ألم نجعل} لأنَّ العطف بحرف الواو يفيد التَّشريك في الحكم.
ونجده -سبحانه- في هذه الآية شبه الجبال بالخيمة المثبتة بالأوتاد ( )، ونوعه: تشبيه بليغ ( ).
أو يكون ذلك من باب الاستعارة مكنيَّة شُبِهَتْ جبال الأرض بأوتاد البيت تخيلاً للأرض مع جبالها بالبيت ومهاده وأوتاده ( ).
ويعطف عليه - سبحانه وتعالى- منَّة أخرى بقوله تعالى: {وخلقناكم أزواجاً} أول ما يستوقفنا في هذه الآية الكريمة الالتفات من أسلوب الغيبة إلى الخطاب الصَّريح وذلك - والله أعلم - أن هذه المنَّة هي أشد ما تكون لصوقاً بهم، وأسلوب الخطاب أقوى الأساليب تمكناً لما يحمله من معنى المواجهة.
وعليه قيل: جاء هذا الالتفات للمبالغة في الالتزام والتَّبكيت ( ).
يشرحه السِّعدي بقوله: أي: ذكوراً وإناثاً من جنس واحد ليسكن كُلُّ منهما إلى الآخر؛ فتكون المودَّة والرَّحمة وتنشأ عنهما الذريَّة، وفي ضمن هذا الامتنان بلذَّة المنكح ( ).
وما يستحق وقفة تأمل وتَّنويه به أن الفعل: {خلقناكم} بزمنه الماضي معطوف على الفعل المضارع في قوله تعالى: {ألم نجعل} ويأتي مسوغ ذلك في اتجاهين الأول: أن حرف النَّفي "لم" الَّذي دخل على الفعل المضارع {نجعل} قلب معنى المضارع إلى ماضٍ.
والثَّاني لمناسبة كُلِّ فعل لسياقه المعنوي: فالأول {ألم نجعل} لأنَّ صيغة المضارع تستعمل لقصد استحضار صُّورة الفعل في ذهن المتلقي؛ فالإتيان به يفيد استدعاء إعمال النَّظر في خلق الأرض والجبال؛ إذ هي مرئيات لهم، والأكثر أن يُغفل النَّظر عن التأمل في دقائقها؛ لتعودهم بمشاهدتها؛ فأوثر الفعل المضارع ليكون إقرارهم مما قُرروا به على بصيرة؛ فلا يجدوا إلى الإنكار سبيلاً.
وجيء بفعل المضي في قوله تعالى: {خلقناكم أزواجاً} وما بعده؛ لأنَّ مفاعيل فعل (خلقنا) وما عطف عليه ليست مشاهدة لهم ( ). والله أعلم وأحكم.
وفي ذكر ذلك حمل لهم على الشُّكر بالإقبال على النَّظر فيما بُلِّغ إليهم عن الله الَّذي أسعفهم بهذه النِّعم على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم- وفي الوقت نفسه تعريض بأن إعراضهم عن قبول الدَّعوة الإسلاميَّة ومكابرتهم فيما بلغهم من ذلك كفران لنعمة واهب النِّعم ( ).
وينتقل سبحانه من الاستدلال بخلق النَّاس إلى الاستدلال ببعض أحوالهم في قوله تعالى: {وجعلنا نومكم سباتاً} أي: كالسُّبات، فالكلام على التَّشبيه البليغ ( ).
وخصت من تلك الأحوال الحالة الَّتي هي ألصق شبهاً بالموت، لتكون أقوى في الاستدلال ( ).
يؤكده أبو السَّعود قائلاً ( ) أي: موتاً؛ لأنَّه أحد التوفيتين؛ لما بينهما من المشاركة التَّامة في انقطاع أحكام الحياة؛ وعليه قوله تعالى في مواضع أخرى: {وهو الَّذي يتوفاكم بالليل} وقوله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها والَّتي لم تمت في منامها}. وغير ذلك
وهذه منَّة عظيمة على الخلق لِمَا فيها من فوائد جمَّة لا يحصيها إلا علام الغيوب -عزَّ وجل- يذكر بعضها السِّعدي بقوله: أي راحة لكم، وقطعاً لأشغالكم الَّتي متى تمادت بكم أضرت بأبدانكم، فجعل الله الليل والنَّوم يغشى النَّاس لتنقطع حركاتهم الضَّارة، وتحصل راحتهم النَّافعة ( ).
ويعطف عليه سبحانه ما يؤكده بقوله: {وجعلنا الليل لباساً} أي كاللباس على التَّشبيه البليغ ( ). وقيل: على الاستعارة ( ).
يقول أبو السَّعود فيه: أي يستركم بظلامه كما يستر اللباس، ولعل المراد به ما يستتر به عند النَّوم من اللِّحاف ونحوه؛ فإنَّ شبه الليل به أكمل، واعتباره في تحقيق المقصد أدخل ( ).
وكما أنَّه سبحانه جعل الليل محلاً للنوم الَّذي جعل موتاً جعل بالمقابل النَّهار محلاً لليقظة المعبرة عنها بالحياة ( ).
في قوله تعالى: {وجعلنا النَّهار معاشاً}، وقد حصل في الكلام اكتفاء دلَّتْ عليه المبالغة، إذ تقدير: وجعلنا النَّهارَ واليقظة فيه معاشاً ( ). تبعثون فيه من منامكم فتتقلبون في تحصيل المعاش والحوائج ( ). لذا في قوله تعالى: {معاشاً} مجاز بعلاقة السَّببيَّة؛ لأنَّ النَّهار سبب للعمل الَّذي هو سبب لحصول المعيشة ( ).
ثمَّ تنتقل الآيات إلى الاستدلال بالعالم العلوي في قوله تعالى: {وبنينا فوقكم سبعاً شِداداً}. أي: سبع سماوات قويَّة الخلق محكمة البناء لا يؤثر فيها مرُّ الدُّهور وكر العصور، والتَّعبير عن خلقها بالبناء مبني على تنزيلها منزلة القبَّة المضروبة على الخلق ( ).
ويستوقفنا للتأمل: تقديم الظرف: {فوقكم} على مفعول الفعل {بنينا} ووصفه في قوله تعالى: {سبعاً شِداداَ}، وذلك لم يكن لمراعاة الفواصل فقط؛ بل للتشويق إليه فإنَّ ما حقه التَّقديم إذا أُخر تبقى النَّفسُ مترقبةً له؛ فإذا ورد عليها تمكن عندها فضل تمكن ( ).
وذكر السَّماوات يحضر في الذِّهن ذكر أعظم ما يشاهده النَّاس في فضائها؛ وذلك الشَّمس، ففي ذلك مع العبر بخلقها عبرة في كونها على تلك الصِّفة، ومنَّة على النَّاس باستفادتهم من نورها فوائد جمَّة.
فجاء الكلام في تسميتها: {سراجاُ وهاجاً} على التَّشبيه البليغ والغرض منه تقريب صفة المشبَّه إلى الأذهان، والوهاج: أي الشَّديد السَّنا، ويطلق على المتلألئ المضيء؛ ولذلك أوثر فعل: {جعلنا} دون: خلقنا؛ لأنَّ كونها سراجاً وهَّجاً حالة من أحوالها وإنَّما يعلق فعل الخلق بالذوات ( ).
يقول السِّعدي: نبه بالسِّراج على النِّعمة بنورها، الَّذي صار كالضرورة للخلق، وبالوهَّاج الَّذي فيه الحرارة على حرارتها وما فيها من المصالح ( ).
ثمَّ تتتابع المنن بقوله تعالى: {وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجاجاً. لنخرج به حباً ونباتاً. وجنَّات ألفافاً}
أول ما يستوقفنا للتأمل إسناد الفعل "أنزل" إلى نون العظمة الدَّالة على الله -سبحانه وتعالى – أي {وأنزلنا} بعظمتنا.
وذكرت السُّحب المحملَّة بالمطر بـ{المعصرات} قيل: هي السَّحائب إذا أعصرتها الرِّياح ( ).
وفي هذا استدلال بحالة أخرى من الأحوال الَّتي أودعها الله تعالى في نظام الموجودات، وجعلها منشأً شبيهاً بحياة بعد موت، لخلق الموجودات من ذرات دقيقة. وذلك نفسه ما يحدث بإنزال ماء المطر من الأسحبة على الأرض؛ فتنبت الأرض به وهي صورة قريبة من حياة الإنسان والحيوان، عند منشأ خلقه، وعند إعادة بعثه؛ فيكون ذلك دليلاً على تصور البعث بعد الموت حتَّى تضمحل من نفوس المكابرين شُبَهُ إحالة البعث ( ).
ومع هذا نجد في الآية استدلالين، الأول بإنزال الماء من السَّحاب والآخر بالإنبات، وفيه منَّة على المعرضين عن النَّظر في دلائل صنع الله الَّتي تتطلب شكر المنعم بها لِمَا فيها من منافع للنَّاس جمَّة ( ).
والثَّجاج: الماء المنصب بقوة، وذلك دليلٌ على الكثرة. ولا يخفى أنَّ وصف الماء هنا بالثَّجاج للامتنان على الخلائق.
ثمَّ بيَّن – سبحانه- عِلَّة إنزال المطر في قوله تعالى: {لنخرج به حباً ونباتاً. وجنَّاتٍ ألفافاً} فنجد بعد لام التَّعليل يأتي الفعل "نخرج" تتصدره نون العظمة أيضاً لتدل على عظمة ذلك الإخراج، وعظمة مخرجه - سبحانه وتعالى – والضمير في "به" يعود على الماء الثَّجاج " المطر" وقد بدأ - سبحانه- بذكر الحب؛ لأنَّه الأصل في الغذاء؛ بل هو الأصل في زراعة كُلِّ نبات، وثنى بالنَّبات لاحتياج جميع النَّاس والأنعام إليه، وأخر ذكر الجنَّات؛ لأنَّ الحاجة إلى الفواكه ليست ضروريَة ( ).
قيل: والتَّعبير بالحب على اعتبار ما سيصير إليه النَّبات على المجاز المرسل، وفي التَّعبير بـ(جنَّات) مزيد امتنان من الله على الإنسان، وفي قوله تعالى: {ألفافاً} مجاز عقلي؛ لأنَّ الالتفاف في أشجار الجنَّات لا في الجنَّات ذاتها، وذهب ابن عاشور إلى أنَّ هذا الوصف من مبتكرات القرآن الكريم ( ).
وبهذا الاستدلال ختمت الأدلة الَّتي أُقيمتْ على وحدانيَّته تعالى، وكمال قدرته على البعث – في هذه السُّورة المباركة، مع ما أدمج فيها من المنن، كما نلحظ في هذه الآيات الأخيرة أسلوب ردّ للعجز على الصَّدر ( ) وهو نوعٌ من المحسنات البديعيَّة يفيد التَّأكيد على أهم مضمون في النَّص.
والله أعلم وأحكم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ونلتقي بحول الله وقدرته في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله رب العالمين وصلاة والسَّلام على أشرف المرسلين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
القسم الثَّاني من سُورة "النَّبأ" (17-30)
يبدأ هذا القسم من السورة بقول الله تعالى: {إنَّ يوم الفصل كان ميقاتاً} الآية الكريمة تمهيد لذكر ما يكون في يوم القيامة الَّذي يتساءل عنه المكذِّبون، ويجحده المعاندون، فتؤكد على أنَّه يوم عظيم، وأنَّ الله تعالى جعله {ميقاتاً}.
هذا ببيان لِمَا أُجمِلَ في بداية السُّورة من قوله تعالى: {عن النَّبأ العظيم. الَّذي هم فيه مختلفون}. وهو المقصود من تلك الفاتحة الَّتي افتتحت بها السُّورة ( ). بقوله تعالى: {عمَّ يتساءلون}
فجاء في هذا القسم تفصيلاً لما أجمل مما سيلاقيه الطَّاغون من صنوف العذاب حسبما جرى به الوعيد إجمالاً ( ).
ولذا بدأت الآية بأقوى أدوات التَّوكيد "إنَّ" المشددة، واسميَّة الجملة، وأخبر عنها بجملة "كان" زيادة في التَّوكيد، وأخبر عن "كان" بقوله تعالى: {ميقاتاً} وهكذا جاء هذا الخبر مؤكداً بعِدَّة مؤكدات؛ (لإبطال إنكار المشركين وتكذيبهم لوقوع يوم الفصل، وجاء التعبير بـ{ميقاتاً} كناية تلويحيَّة عن تحقق وقوعه ( ).
ويوم الفصل: يوم البعث للجزاء؛ لأنَّ الفصل: التَّمييز بين الأشياء المختلفة، فالجزاء على الأعمال فصل بين النَّاس بعضهم من بعض، وأوثر التَّعبير بيوم الفصل لإثبات الفصل بين الصِّدق والكذب، والقضاء بين النَّاس بالحق ( ).
ثمَّ يأتي تفصيل البعث دون الالتفات إلى وقت وقوعه، فيبدأ ذكر ذلك الحدث العظيم بقوله تعالى: {يوم يُنفخ في الصُّور فتأتون أفواجاً} أي: النَّفخة الثَّانية جاء ذلك الخبر بدل من يوم الفصل، أو عطف بيان له مفيد لزيادة تفخيمه وتهويله ( ). لما لعطف البيان من خاصيَّة.
وهذا حدث عظيم؛ فبالنفخ في الصُّور تنتهي مرحلة الحياة الدُّنيا، ويبعث النَّاس من قبورهم إلى مصيرهم الَّذي وعدوا أو أوعدوا به، فيأتون أفواجاً.
يستوقفنا عطف هذا المقطع بـ(فاء) التَّعقيب الَّتي مما تفيده مسارعة الحدث فهاهم النَّاس أمام قدرة الله وعظمته، لا يستطيعون حولاً ولا قوَّة، سائرون أفواجاً إلى مصيرهم المجهول إما إلى نعيم أو إلى جحيم.
كما ويستوقفنا للتأمل أسلوب الذِّكر الحكيم الَّذي جاء بالخطاب في: {فتأتون أفواجاً} وذلك لِمَا لهذا الأسلوب من قوة تأثير على نفس المخاطب؛ لاستشعاره أنَّه فرد في خضم هذه الأفواج.
فكلمة أفواجاً الَّتي وقعت حال من ضمير {تأتون} جمع لكلمة فوج الَّتي تعني الجماعة المتصاحبة من أناس مقسَّمين باختلاف الأغراض ( ).
ويزيد المشهد رهباً قوله تعالى: {وفتحت السَّماء فكانت أبواباً} هذا الحدث العظيم عطف على ما قبله بحرف (الواو) ليدل على المصاحبة والملازمة زمناً، وجاء الفعل {فتحت} بزمن الماضي لما لهذا الزَّمن من قدرة على تأكيد وقوع الحدث وإن كان مستقبلاً.
قيل: في التَّعبير بالفتح دون الشَّق أو الفطر إشارة إلى كمال قدرته -عزَّ وجلَّ- حتَّى كأنَّ شقُّ هذا الجرم العظيم المؤلف من سبع طبقات عظام بمثابة فتح الباب سهولة وسرعة، أو الفتح على ظاهر معناه، والكلام على تقدير مضاف، أي: فكانت السَّماء ذات أبواب ( ). لكن قوله تعالى: {فكانت أبواباً} تشبيه بليغ أي: كالأبواب ( ) لتقريب المعنى إلى الأذهان؛ فكأنَّ السَّماء برمتها أبواب مفتحة؛ لعظم تلك الأبواب
يقول أبو السَّعود: أي: كثرت أبوابها المفتَّحة لنزول الملائكة نزولاً غير معتاد حتَّى صارت كأنَّها ليست إلا أبواباً مفتحة ( ).
ويقول ابن عاشور في ذلك الحدث: وحينئذ لا يبقى حاجزٌ بين سُكَّان السَّماوات وبين النَّاس ( ). ويا له من مشهد مهيب.
وتتلاحق مشاهد يوم القيامة بقوله تعالى: {وسُيِّرت الجبالُ فكانت سراباً} قيل: أي نقلت الجبال وقلعت من مقارَّها حتَّى كأنَّها تسير من مكان إلى آخر، وهو نقل يصحبه تفتيت كما دلَّ عليه تعقيبه بقوله تعالى: {فكانت سراباً}؛ لأنَّ ظاهر التَّعقيب ألَّا تكون معه مهلة، أي فكانت كالسَّراب في أنَّها لا شيء.
كما نلاحظ مجيء الفعلين: {فُتِحتْ} و {سُيِّرتْ} بالبناء: لِمَا لم يسم فاعله، وذلك زيادة في تهويل تلك المشاهد الَّتي يشيب لهولها الوليد.
وجاء أيضاً قوله تعالى: {فكانت سراباً} على طريقة التَّشبيه البليغ لرسم هذه الصُّورة في ذهن المتلقي بأوضح ما تكون عليه. فبعد أن كانت أكبر وأعظم ما يشاهد في الأرض ذهبت وتلاشت بقدرة الخالق العظيم. كما جاء في سورة أخرى: {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً. فيذرها قاعاً صفصفاً. لا ترى فيها عِوجاً ولا أمتاً}[طه:115-117]
ويستوقفنا للتأمل البدء بتفصيل حال الأشقياء قبل السُّعداء بقوله تعالى: {إنَّ جهنَّم كانت مرصاداً} قيل: لأنَّ السُّورة بُنِيتْ منذ مبدئها على التَّهديد ( ).
فجاء هذا الخبر مؤكداً بأقوى أدوات التوكيد؛ لظهور "إنَّ" في أولها، والإخبار عنها بجملة "كان" فهو شُّروع في تفصيل أهوال يوم القيامة ( ).
المرصاد: اسم للمكان الَّذي يرصد فيه، أي: إنَّها كانت في حكم الله تعالى وقضائه موضع يرصد فيه خزنة النَّار الكفار ليعذبوهم فيها ( ). فيترقبون من يزجى إليها من أهل الطغيان كما يترقب أهل المرصاد من يأتي من علوّ( ).
ومن سعة رحمته وفضله نجده - سبحانه- قد حدد المرصود في جهنَّم بقوله تعالى: {للطاغين مئاباً} ولذا جاء الإظهار في مقام الإضمار لتسجيل وصف الطُّغيان عليهم، ولبيان أنَّ الشرك بالله هو أقصى درجات الطُّغيان، و حتَّى يخرج الطائعين لله من هذا التَّوعد بفضلٍ منه ورحمة، وبذلك حق وصف الطغيان على الكفرة والمشركين جزاءً وفاقاً.
وكلمة: {مئاباً} مكان للأوب؛ وهو الرُّجوع، أطلق على المقر والمسكن إطلاقاً أصله كناية، ثمَّ شاع استعماله فصار اسماً للموضع الَّذي يستقر به المرء، ونصب هنا على الحال من {جهنَّم}، أو على أنَّه خبر ثانٍ لفعل {كانت}، أو على أنَّه بدل اشتمال من {مرصاداً}؛ لأنَّ الرَّصد يشتمل على أشياء مقصودة منها أن يكونوا صائرين إلى جهنَّم ( ).
وفي قوله تعالى: {للطاغين مئاباً} أصل الجملة "مئاباً للطاغين" لكن قُدِمَ قوله تعالى: {للطاغين} وهو جار ومجرور على متعلقه {مئاباً} لإدخال الروع على قلوب المشركين ( ).
ويأتي الخبر الأقوى بقوله تعالى: {لابثين فيها أحقاباً} كناية عن دوام لبثهم في النَّار دون انتهاء في معظم أقوال المفسرين ( ).
فهم إذا وردوها {لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً}. وحقيقة الذَّوق: إدراك طعم الطَّعام والشَّراب. ويطلق على الإحساس بغير الطعوم إطلاقاً مجازياً. وشاع في كلامهم، يقال: ذاق الألم، على وجدان النَّفس كقوله تعالى: {ليذوق وبال أمره} [المائدة: 95]. وقد استعمل هنا في معنييه حيث نصب {برداً} و{شراباً} مفعولين للفعل المنفي: {لا يذوقون}. يفسره السِّعدي بقوله: أي لا ما يبرد جلودهم، ولا ما يدفع ظمأهم ( ).
ثمَّ أستثنى من عدم الذَّوق الحميم والغسَّاق، فالحميم: الماء الشَّديد الحرارة. أمَّا الغسَّاق: فمعناه الصَّديد الَّذي يسيل من جروح الحرق وهو المُهْل ( ).
فجاء استثناء {حميماً وغسَّاقاً} من {برداً} أو {شراباً} على أسلوب اللف والنَّشر المرتب ( ).
وهو استثناء منقطع؛ لأنَّ الحميم ليس من جنس البرد في شيء؛ إذ هو شديد الحرِّ، ولأنَّ الغسَّاق ليس من جنس الشَّراب، وصورة الاستثناء هنا من تأكيد الشيء بما يشبه ضدَّه في الصُّورة ( ).
وتبرز المطابقة البلاغيَّة بين (البرد) و(الحميم) ( )؛ لِمَا لأسلوب المطابقة من قوة في إبراز كل حالة منهما بأوضح ما تكون.
يشرح ذلك السِّعدي بقوله: أي ماءً حاراً يشوي وجوههم، ويقطع أمعاءهم، و{غساقاً} وهو صديد أهل النَّار الَّذي هو في غاية النتن، وكراهة المذاق، وإنَّما استحقوا هذه العقوبات الفظيعة جزاءً لهم على ما عملوه من أعمال، ولم يظلمهم الله -سبحانه وتعالى- ولكن ظلموا أنفسهم ( ).
يؤكده قوله تعالى: {جزاءً وفاقاً} أي: جوزوا بذلك جزاءً وافق أعمالهم ( ). حيث أنكروا البعث وكذَّبوا الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من القرآن الكريم. لقوله تعالى: {إنَّهم كانوا لا يرجون حِساباً. وكذَّبوا بآياتنا كِذَّاباً}.
وعليه صُّدرت الجملة الأولى بِعِدَّة مؤكدات؛ لرد إنكار المشركين، منها: "إنَّ" و "كان" لكون تكذيبهم بذلك قد استقر في نفوسهم، ولم يترددوا فيه و ذلك ما يصوِّره زمن الفعل "كان" لما لزمن الماضي من قوة تأكيد.
وقد جاء الفعل المنفي: {لا يرجون} بزمن المضارع دلالة على استمرارهم في ذلك، والتَّعبير بفعل الرَّجاء ليطمئن المسلمون بأنَّهم ناجون مما سيلقاه الطَّاغون، وترقبهم ليوم الحساب ترقب رجاء، وفي الكلام كناية تعريضيَّة ( ).
ويُعطَفُ على جرمهم الأول جرمٌ ثانٍ بقوله تعالى: {وكذَّبوا بآياتنا كذَّاباً}
يقول السِّعدي: أي كذَّبوا بها تكذيباً واضحاً صريحاً وجاءتهم البيِّنات فعاندوها ( ).
ولذا جاء انتصاب: {كِذَّاباً} على أنَّه مفعول مطلق مؤكد لعامله؛ لإفادة شِدَّة تكذيبهم بالآيات ( ).
ويأتي قوله تعالى: {وكلَّ شيءٍ أحصيناه كتاباً} ليقول أنَّ أي: من الأشياء الَّتي من جملتها أعمالهم ( ). قد أحصاها العليم القدير.
وانتصاب {كُلَّ} على المفعوليَّة لـ{أحصيناه} على طريقة الاشتغال بضميره، وتقديمه للتأكيد على مضمونه.
وإحصاء الأعمال كناية عن ضبطها وتحصيلها، والجزاء عليها. فمن عمل مثقال ذرة خيراً يره ومن عمل مثقال ذرة شراً يره.
وانتصاب: {كتاباً} على المفعوليَّة المطلقة للفعل {أحصيناه} والتقدير: أحصيناه كتابة، وهذا كناية عن شِدة الضبط وعليه جاء مفعولاً مطلقاً ( ) لِمَا له من قوة في تأكيد الحدث.
ثمَّ جاءت آية في غاية الشِدَّة على الطَّاغين، هي قوله تعالى: {فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً} ويزيد من شِّدَّتها الالتفات من الأسلوب الغائب إلى أسلوب الخطاب ( ). لما تعبر عنه المواجهة من توبيخ وتقريع.
يقول ابن عاشور: والمعنى: فسنزيدكم عذاباً زيادة مستمرة في أزمنة المستقبل، أي: سنزيدكم عذاباً مؤبداً، فهذه الآية ابتداء مُطمِع بانتهاء مُؤْيِس؛ وذلك أشد حزناً للطَّاغين وإيذاناً بشِدَّة عذابهم ( ).
ويقول السِّعدي وغيره من المفسرين: وهذه الآية أشد الآيات في شِدَّة عذاب أهل النَّار أجارنا الله منها ( ). نسأل الله اللطف والسَّلامة والعافية من سوء المصير آمين.
والله أعلم وأحكم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
نلتقي في الأسبوع القادم بحول الله وقدرته.
القسم الثَّالث من دراسة سورة النَّبأ
بسم الرَّحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين الرَّحمن الرحيم
والصَّلاة والسَّلام على خاتم النَّبيين "محمد بن عبد الله " وعلى آله وصحبه أجمعين
يبدأ هذا القسم من السُّورة المباركة بتبشير من هم أهل للبشارة، وذلك على عادة القرآن الكريم من تعقيب إنذار المنذَرِين، ببشارة المؤمنين.
فانتقلت الآيات الكريمات من ترهيب الكافرين بما سيلاقونه إلى ترغيب المتقين فيما أُعد لهم في الآخرة من كرامة، ومن سلامة مما وقع فيه أهل الشِّرك ( ).
فقال تعالى: {إنَّ للمتقين مفازاً} بدأت هذه الجملة الخبريَّة بحرف التَّأكيد {إنَّ} تأكيداً لتحقيق وعد الله الَّذي لا يخلف وعده - سبحانه وتعالى-.
قيل: الافتتاح بحرف {إنَّ} للدلالة على الاهتمام بالخبر لئلا يشك فيه أحد ( ).
وخصص ذلك بالمتقين، وذلك ما دلَّ عليه تقديم خبر "إنَّ": {للمتقين} على اسمها {مفازاً} ويزيد ذلك التَّخصيص "لام" الملكيَّة في قوله تعالى {للمتقين} أي: ملك لهم
يقول ابن عاشور: والمقصد منهم المؤمنون اللَّذين آمنوا بالنَّبي - صلى الله عليه وسلم- واتبعوا ما أمرهم به واجتنبوا ما نهاهم عنه، وهو المقصود من مقابلتهم بالطَّاغين المشركين ( ). فيما سبق من آيات.
فهم اللذين اتقوا سخط ربهم بالتَّمسك بطاعته، والانكفاف عمَّا يكره فلهم مفاز ومنجى وبعد عن النَّار ( ).
فما المراد من {مفازاً} قيل: يراد به اسم المكان، إذن هو موضع فوز، وقيل: قد يكون مصدراً ميمياً، ليعني عندها: فوزاً أو ظفراً أو نجاة، وقد رجَّح الرَّازي معنى المصدر؛ لأنَّه فُسِّر بما جاء بعده من الآيات ( ).
ويأتي بيان ذلك بعِدَّة آيات ابتداءً من قوله تعالى: {حدائق وأعناباُ} ( ).
فأبدل: {حدائق} من {مفازاً} بدل بعض من كُلِّ باعتبار أنَّه بعض من مكان الفوز، أو يكون بدل اشتمال باعتبار معنى الفور ( ).
ولكن ماذا تعني كلمة: {حدائق} في هذا المقام؟
يقول السِّعدي: {حدائق}: هي البساتين الجامعة لأصناف الشَّجر الزَّاهية في الثِّمار الَّتي تنفجر بين خلالها الأنهار، وقد خص الأعناب لشرفها وكثرتها في تلك الحدائق ( ).
ويُعطف عليه قوله تعالى: {وكواعبَ أترباً} وذلك؛ لأنَّ نعيم المكان لا يكمل الاستمتاع به إلا بمشاركة أحب وأقرب ما يكون على قلب المتنعم.
قيل في: {كواعبَ} جمع كاعب ( )؛ وهنَّ الزَّوجات النَّواهد من شبابهنَّ وقوتهنَّ ونضارتهنَّ. وأمَّا {أتراباً} اللات على سن واحد متقاربات، ومن عادة الأتراب أن يكنَّ متآلفات متعاشرات، وذلك السِّن الَّذي هنَّ فيه ثلاث وثلاثون سنة في أعدل سن الشباب ( ).
ويتتابع ذكر النَّعم بقوله تعالى: {وكأساً دهاقاً} أي: كأساً مترعة يقال: أدهق الحوض أي ملأه ( ). يقول السَّعدي: مملوء من رحيق لذَّة للشاربين ( ).
ويستوقفنا للتأمل عطف كُلِّ تلك النِّعم على بعضها بحرف الـ(واو) الَّذي يدُلُ العطف به على المشاركة والمزامنة؛ لتصوير حضورها كلها في وقتٍ واحدٍ، وذلك لكمال التَّنعم بها دون تنغيص التَّراخي الزمني أو انتظار.
ويأتي قوله تعالى: {لا يسمعون فيها لغواً ولا كذَّاباً} يحمل متعة أخرى دالة على نقاء تلك الأجواء من جميع المنغصات الَّتي لا تكاد تنفك منها متعة من متع الحياة الدُّنيا. فقد صوَّرت هذه الآية الكريمة النَّعيم الرُّوحي بجانب النَّعيم الجسدي.
لأنّ َمعنى: {لغواً} هو الكلام الَّذي لا فائدة فيه، و {كذاباً} الكلام الَّذي يجلب الإثم وينتج العدوان ( ).
وتأتي المنَّة الكبرى من ربٍّ رحمن رحيم بقوله تعالى: {جزاءً من ربِّك عطاءً حِساباً}.
يشرح أبو السَّعود هذا القول الكريم قائلاً: بدأت الجملة بمصدر مؤكد منصوب بمعنى إنَّ للمتقين مفازاً؛ فإنَّه في قوة أن يقال جازى المتقين بـ(مفازاً) جزاءً كائناً {من ربِّك}، والتَّعرض لعنوان الرُّبوبيَّة المنبئة عن التَّبليغ إلى الكمال شيئاً فشيئاً، مع الإضافة إلى ضميره – عليه الصَّلاة والسَّلام- مزيد تشريف له -صلى الله عليه وسلم-( ).
وعليه يأتي قوله تعالى: {عطاءً} أي: تفضلاً وإحساناً منه – سبحانه وتعالى- إذ لا يجب عليه شيء، وهذه الكلمة بدل من {جزاءً}. وتأتي كلمة {حساباً} صفة لـ{عطاء} بمعنى كافياً، وقيل: على حسب أعمالهم ( ).
ويستوقفنا للتأمل المفارقة فيما جاء في حق الكُفَّار قال تعالى: {جزاءً وفاقاً}، وفي حق المؤمنين قال تعالى: {عطاءً حِساباً}.
يقول الشِّنقيطي ( ): ففي الأول بيان أنَّ مُجَازاتهم وفق أعمالهم، ولا يظلم ربُّكَ أحداً. وفي الثَّاني بيان بأنَّ هذا النَّعيم عطاءً من الله وتفضُّلاً عليهم به من الأصل، وهو المفازُ المُفسرُ في قوله تعالى: {فمن زُحزحَ عن النَّار وأُدخل الجنَّة فقد فاز} [آل عمران:185]؛ فدخول الجنَّة ابتداءً عطاءً من الله، كما في الحديث الشَّريف "لن يدخل أحدكم الجنَّة بعمله" ( ).
ويمدح الله تعالى نفسه ( ) بقوله تعالى: {ربِّ السَّماواتِ والأرضِ وما بينهُما الرِّحمنِ لا يملِكون مِنه خطاباً} فقوله تعالى: {ربِّ السَّماوات} نعت لـ{ربِّك} من قوله تعالى: {جزاءً من ربِّك} ويأتي النَّعت الثَّاني بقوله {الرَّحمنِ}، الَّذي وسعت رحمته كُلَّ شيءٍ؛ فرباهم ورحمهم ولطف بهم، حتَّى أدركوا ما أدركوا؛ وهكذا دلَّت الآية الكريمة على عموم ربوبيته على جميع ما في الكون، وفي عموم ربوبيَّته وملكه إشعار بمدار الجزاء المذكور سابقاً ( ).
ويأتي قوله تعالى: {لا يملكون منه خطاباً} استئناف مقرر لما أفاده الرُّبوبيَّة العامة من غاية العظمة والكبرياء، واستقلاله تعالى بما ذكر من الجزاء والعطاء من غير أن يكون لأحدٍ قدرة عليه ( ).
هذا ما أكده وقوع قوله تعالى: {لا يملكون منه خطاباً} في سياق العموم الدَّال على المخصص بمخصص منفصل؛ كقوله عقب هذه الآية: {إلا من أذن له الرَّحمن وقال صواباً}. والغرض من ذكره إبطال اعتذار المشركين حين استشعروا شفاعة عبادتهم الأصنام ( ).
ويأتي تحديد ذلك اليوم بقوله تعالى: {يوم يقوم الرُّح والملائكة صفاً} قيل الروح خلق أعظم من الملائكة وأشرف منهم وأقرب من ربِّ العالمين، وقيل هو جبريل -عليه السلام-، وجاء قوله تعالى: {صفاً} حال أي مصطفين ( ).
فجاء ذكر قيام الرَّوح والملائكة صفاً ليبرز مشهداً عظيماً من مشاهد ذلك اليوم المجموع له النَّاس، وفيه ما فيه من التَّهويل والتَّعظيم لشأنه ما لا يخفى.
وعليه يأتي قوله تعالى: {لا يتكلمون} مؤكداً للجملة السَّابق: {لا يملكون منه خطاباً} أعيدت بمعناها لتقرير المعنى إبطالاً لزعم المشركين شفاعة أصنامهم إذ الشفاعة كلام من له وجاهة وقبول عند سامعه ( ).
ولذا ويستثنى منهم بقوله تعالى: {إلا من أذن له الرَّحمن وقال صواباً}
ونقف وقفة تأمل مع تقديم {له} على الفاعل {الرَّحمنُ} قيل: للاهتمام بمن سيأذن له الله تعالى بالشَّفاعة، وهو نفس السَّبب لإظهار هذا الفاعل {الرَّحمنُ} مع احتمال المقام إضماره ( ).
وإطلاق صفة {الرَّحمن} على مقام الجَلالة إيماءً إلى أنَّ إذن الله لمن يتكلم أثرٌ من آثار رحمته؛ لأنَّه أذن فيما يحصل به نفع لأهل المحشر من شفاعة أو استغفار ( ).
وهكذا -جلَّ جلاله- يأتي بهذا الاسم {الرَّحمن} وفي هذا المقام المهيب تطمينٌ لعباده المطيعين، وليؤكد أنَّ رحمته وسعت كُلَّ شيء، وهي قريبة من عباده المتقين.
جملة: {وقال صواباً} أي: يأذن الله تعالى له في الكلام؛ لأنَّ علم أنَّه سيتكلم بما يرضى الله – تعالى- ويستوقفنا للتأمل ورود هذا الفعل بزمن الماضي، وهو مستعمل في معنى المضارع، أي: ويقول صواباً؛ لكن عُبر عنه بالماضي لإفادة تحقق ذلك في علم الله تعالى ( ).
وعليه يأتي قوله تعالى: {ذلك اليوم الحقُّ فمن شاء اتخذ إلى ربِّه مئاباً} هكذا أشير إلى ذلك اليوم بأداة البعيد تأكيداً لعظمته، وعلوِّ شأنه على سائر الأيَّام.
وقيل: الإشارة إلى اليوم المتقدم في قوله تعالى: {إنَّ يوم الفصل كان ميقاتاً} وأيَّمَّا كان فهو يوم مشهود، يشهده كُلُّ خلق الله من الملائكة والإنس والجان.
وعليه جاء تعريف: {اليوم} بأل العهديَّة زيادة في تعظيمه، ودلالة على معنى الكمال، والمقصود التَّنويه بعظيم ما يقع فيه من الجزاء بالثَّواب والعقاب، وهو نتيجة أعمال النَّاس من يوم وجود الإنسان في الأرض ( ).
ووصفه بـ{الحق} تكريماً، قيل: يجوز أن يكون بمعنى الثَّابت، ويجوز أن يراد ما قابل الباطل، أي: العدل وفصل القضاء؛ فيكون وصف اليوم به على وجه المجاز العقلي؛ إذ الحق يقع فيه، واليوم ظرف له ( ).
ويتفرَّع عنه قوله تعالى: {فمن شاء اتخذ إلى ربِّه مئاباً} بـ(فاء) الفصيحة لإفصاحها عن شرط مقدر ناشئ عن الكلام السَّابق، والتَّقدير: فإذا علمتم ذلك كُلَّه فمن شاء اتخاذ مآب عند ربِّه فليتخذ.
يقول ابن عاشور: وهذا تفريع من الآية من أبدع المواعظ بالتَّرغيب والتَّرهيب ( ). وذلك لما في الشَّرط من قوة تأكيد وربط بين جملة الشَّرط وجوابه.
ويستوقفنا قوله تعالى: {اتَّخذ} بصيغة "افتعل" لأنَّ الاتخاذ: مبالغة في الأخذ، أي: أخَذَ أخذاً فيه تمكين؛ وذلك لأنَّه {إلى ربِّه} بكُلِّ ما تتضمن كلمة رب من معاني الخير.
ومعنى: {مئاباً} قيل: المآب يكون اسم مكان من الفعل " آب" إذا رجع فيطلق على المسكن، لأنَّ المرء يؤوب إلى مسكنه، ولكن قد يكون مصدراَ ميمياً وهو الأوب، أي: الرجوع والمعنى: فليجعل أوباً مناسباً للقاء ربه، أي: أوباً حسناً ( ).
وتختم السُّورة المباركة بما يزيد في تخويف الكافرين ( ). بقوله تعالى: {إنَّا أنذرناكم عذاباً قريباً يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً} جاء الخطاب فيها عام لجميع الكافرين ( ). وهو مستعمل في قطع العذر ( ).
2024/11/18 16:38:13
Back to Top
HTML Embed Code: