بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين عليه نتوكل وبه نستعين
القسم الثَّاني من سورة التَّكوير المباركة:
ويأتي التَّفريع على القَسَمِ وجوابه في الكلام السَّابق بقوله تعالى: {فلا أقسم بالخنَّس. الجوارِ الكنَّس. والليل إذا عسعس. والصُّبح إذا تنفس. إنَّه لقول رسولٍ كريمٍ. ذي قوةٍ عند ذي العرش مكين. مطاعٍ ثمَّ آمين}.
ذلك ما أوحت به (فاء) التَّفريع الَّذي بدأ المقطع بها في قوله تعالى: {فلا أقسم بالخنَّس} لتشير إلى أنَّ ما تقدم من الكلام؛ هو بمنزلة التَّمهيد لِمَا بعد (الفاء)؛ فإنَّ الكلام السَّابق أفاد تحقيق وقوع البعث والجزاء؛ فهم قد أنكروه وكذَّبوا بالقرآن الَّذي أنذرهم به، فجاء التَّفريع هنا تفريع معنى وتفريع ذِكر معاً ( ).
ولا شك أنَّ المراد من القسم تأكيد الخبر وتحقيقه، وادمج فيه – سبحانه- أوصاف الأشياء المقسم بها للدلالة على تمام قدرة الله تعالى ( ).
فقوله تعالى: {لا أقسم} أي أقسم و(لا) للتأكيد. والمقسم به عِدَّة أشياء بدأها – سبحانه – بـ{الخنس} ووصفها بقوله تعالى: {الجواري الكنَّس}.
قيل (الخُنَّس}: جمع خانس من الخنوس وهو التَّواري، وهي الَّتي تخنس، أي تختفي في النَّهار، وتظهر بالليل، وكنس في وقت غروبها أي تتأخر عن البصر لخفائها فلا ترى. ذكر ذلك جمهور من المفسِّرين ( ).
يقول السَّعدي: أقسم الله بها في حال خنوسها أي: تأخرها، وفي حال جريانها وفي حال كنوسها أي: استتارها بالنَّهار، ويحتمل أن يراد بها جميع النَّجوم الكواكب السيَّارة وغيرها ( ).
في قوله تعالى: {الخنَّس} يقول ابن عاشور: هو من بديع التَّشبيه، لأنَّ الخنوس اختفاء الوحوش عن أنظار الصَّيادين ونحوه دون سكون في كِناس، وكذلك الكواكب شُبِّهت حالة بُدُوِّها بعد احتجابها مع كونها كالمتحركة بحالة الوحوش تجري بعد خنوسها تشبيه التَّمثيل. وهو يقضي أنَّها صارت مرئيَّة؛ فلذلك عقَّب بعد ذلك بوصفها بالكنَّس أي عند غروبها تشبيهاً لغروبها بدخول الظبي أو البقر الوحشي كناسها بعد الانتشار والجري ( ).
ثمَّ عطف عليه القسم بالليل لمناسبة جريان الكواكب في الليل، ولأنَّ تعاقب الليل والنَّهار من أجلِّ مظاهر الحكمة الإلهيَّة في هذا العالم ( ).
فقال تعالى: {والليل إذا عسعس} يقسم - سبحانه وتعالى- بالليل في وقت إقباله وإدباره؛ لأنَّ مادة الكلمة (عسعس) تدور حول: الطَّواف باللَّيل، وعسعس اللَّيل من الأضداد قيل أقبل بظلامه أو أدبر ( ).
وبذلك يكون إيثار هذا الفعل لإفادة كلا حَالين صالحين للقسم به؛ فهو إيجاز بلاغي معجز ( ).
وفي كلا الحالتين آية عظيمة من آيات الله تعالى الدَّالة على عظيم قدرته في تدبير هذا الكون الَّذي مقاليده بيده - جلَّ جلاله وتقدس- ففي إقبال الليل اختلاط بين النُّور والظَّلام؛ حتَّى يغلب الظَّلامُ النُّورَ، والمشهد نفسُه يحدث في إدبار الليل حتَّى يغلب النُّورُ الظلامَ فلابد من لحظة يتشابه فيها الإقبال والإدبار.
وتكرار الصَّوتين في: {عسعس} يقابل تكرُّر هذا الاختلاط للنُّور أو الظَّلام، كما أنَّ هذا التِّكرر يعطي دلالة السُّرعة، فسرعان ما يذهب الظَّلامُ ويحل النُّورُ، أو العكس ( ).
ثمَّ جاء القسم بالصبح إذا تنفس معطوفاً على القسم بالليل فقال تعالى: {والصُّبحِ إذا تنفس} قيل: التَّعبير عن إقبال الصَّباح وزيادة ضوئه وطوله بالتَّنفس مجاز ( ). أو هو استعارة لطيفة ( ). حيث شُبِّه الليلُ المظلمُ بالمكروبِ المحزونِ فإذا تنفَّس وجد راحة ( ). وفي هذا نظر؛ لأنَّ الآية تنسب التَّنفس للصبح وليس لليل.
ولكن للإعجاز العلمي دراسة تصف فيها تغير حالات طبقات الجو عند تغير الليل بالنَّهار، وكيف يمتلئ الكون بالأكسجين بعد أن كان ملوثاً بثاني أكسيد الكربون، وهذه العملية هي نفسها تحدث بالتَّنفس عند الكائن الحي؛ وكأن للكون كله رئةً كبيرة بحجم الفضاء في حالة زفير وشهيق مستمرين كُلِّ صباح؛ "يرجى الرُّجوع إليه في موقع الإعجاز العلمي" فسبحان ربِّ الأكوان ومنزل القرآن.
يقول السِّعدي في قوله تعالى: {والليل إذا عسعس والصُّبح إذا تنفس} هذه آيات عظام أقسم الله بها على علو سند القرآن وجلالته وحفظه من كُلِّ شيطان رجيم ( ).
وعليه يأتي جواب القسم بقوله تعالى: {إنَّه لقول رسولٍ كريم} بدأت الآية الكريمة بأقوى أدوات التوكيد في: {إنَّه} والضمير المتصل بإنَّ اسمها، وهو عائد إلى القرآن ولم يسبق له ذكر؛ ولكنَّه معلوم في سياق الإخبار بوقوع البعث؛ فإنَّه مما أخبرهم به القرآن وكذَّبوا بالقرآن لأجل ذلك ( ).
ويأتي خبر إنَّ بقوله تعالى: {لقول رسولٍ كريم} صُدر الخبر بلام التَّوكيد أيضاَ فجتمع في الآية الكريمة عِدَّة مؤكدات "إنَّ، واللام، واسميَّة الجملة" وذلك لمقابلة جحود المنكرين للحق تعنتاً واستكباراً.
الحمد لله رب العالمين عليه نتوكل وبه نستعين
القسم الثَّاني من سورة التَّكوير المباركة:
ويأتي التَّفريع على القَسَمِ وجوابه في الكلام السَّابق بقوله تعالى: {فلا أقسم بالخنَّس. الجوارِ الكنَّس. والليل إذا عسعس. والصُّبح إذا تنفس. إنَّه لقول رسولٍ كريمٍ. ذي قوةٍ عند ذي العرش مكين. مطاعٍ ثمَّ آمين}.
ذلك ما أوحت به (فاء) التَّفريع الَّذي بدأ المقطع بها في قوله تعالى: {فلا أقسم بالخنَّس} لتشير إلى أنَّ ما تقدم من الكلام؛ هو بمنزلة التَّمهيد لِمَا بعد (الفاء)؛ فإنَّ الكلام السَّابق أفاد تحقيق وقوع البعث والجزاء؛ فهم قد أنكروه وكذَّبوا بالقرآن الَّذي أنذرهم به، فجاء التَّفريع هنا تفريع معنى وتفريع ذِكر معاً ( ).
ولا شك أنَّ المراد من القسم تأكيد الخبر وتحقيقه، وادمج فيه – سبحانه- أوصاف الأشياء المقسم بها للدلالة على تمام قدرة الله تعالى ( ).
فقوله تعالى: {لا أقسم} أي أقسم و(لا) للتأكيد. والمقسم به عِدَّة أشياء بدأها – سبحانه – بـ{الخنس} ووصفها بقوله تعالى: {الجواري الكنَّس}.
قيل (الخُنَّس}: جمع خانس من الخنوس وهو التَّواري، وهي الَّتي تخنس، أي تختفي في النَّهار، وتظهر بالليل، وكنس في وقت غروبها أي تتأخر عن البصر لخفائها فلا ترى. ذكر ذلك جمهور من المفسِّرين ( ).
يقول السَّعدي: أقسم الله بها في حال خنوسها أي: تأخرها، وفي حال جريانها وفي حال كنوسها أي: استتارها بالنَّهار، ويحتمل أن يراد بها جميع النَّجوم الكواكب السيَّارة وغيرها ( ).
في قوله تعالى: {الخنَّس} يقول ابن عاشور: هو من بديع التَّشبيه، لأنَّ الخنوس اختفاء الوحوش عن أنظار الصَّيادين ونحوه دون سكون في كِناس، وكذلك الكواكب شُبِّهت حالة بُدُوِّها بعد احتجابها مع كونها كالمتحركة بحالة الوحوش تجري بعد خنوسها تشبيه التَّمثيل. وهو يقضي أنَّها صارت مرئيَّة؛ فلذلك عقَّب بعد ذلك بوصفها بالكنَّس أي عند غروبها تشبيهاً لغروبها بدخول الظبي أو البقر الوحشي كناسها بعد الانتشار والجري ( ).
ثمَّ عطف عليه القسم بالليل لمناسبة جريان الكواكب في الليل، ولأنَّ تعاقب الليل والنَّهار من أجلِّ مظاهر الحكمة الإلهيَّة في هذا العالم ( ).
فقال تعالى: {والليل إذا عسعس} يقسم - سبحانه وتعالى- بالليل في وقت إقباله وإدباره؛ لأنَّ مادة الكلمة (عسعس) تدور حول: الطَّواف باللَّيل، وعسعس اللَّيل من الأضداد قيل أقبل بظلامه أو أدبر ( ).
وبذلك يكون إيثار هذا الفعل لإفادة كلا حَالين صالحين للقسم به؛ فهو إيجاز بلاغي معجز ( ).
وفي كلا الحالتين آية عظيمة من آيات الله تعالى الدَّالة على عظيم قدرته في تدبير هذا الكون الَّذي مقاليده بيده - جلَّ جلاله وتقدس- ففي إقبال الليل اختلاط بين النُّور والظَّلام؛ حتَّى يغلب الظَّلامُ النُّورَ، والمشهد نفسُه يحدث في إدبار الليل حتَّى يغلب النُّورُ الظلامَ فلابد من لحظة يتشابه فيها الإقبال والإدبار.
وتكرار الصَّوتين في: {عسعس} يقابل تكرُّر هذا الاختلاط للنُّور أو الظَّلام، كما أنَّ هذا التِّكرر يعطي دلالة السُّرعة، فسرعان ما يذهب الظَّلامُ ويحل النُّورُ، أو العكس ( ).
ثمَّ جاء القسم بالصبح إذا تنفس معطوفاً على القسم بالليل فقال تعالى: {والصُّبحِ إذا تنفس} قيل: التَّعبير عن إقبال الصَّباح وزيادة ضوئه وطوله بالتَّنفس مجاز ( ). أو هو استعارة لطيفة ( ). حيث شُبِّه الليلُ المظلمُ بالمكروبِ المحزونِ فإذا تنفَّس وجد راحة ( ). وفي هذا نظر؛ لأنَّ الآية تنسب التَّنفس للصبح وليس لليل.
ولكن للإعجاز العلمي دراسة تصف فيها تغير حالات طبقات الجو عند تغير الليل بالنَّهار، وكيف يمتلئ الكون بالأكسجين بعد أن كان ملوثاً بثاني أكسيد الكربون، وهذه العملية هي نفسها تحدث بالتَّنفس عند الكائن الحي؛ وكأن للكون كله رئةً كبيرة بحجم الفضاء في حالة زفير وشهيق مستمرين كُلِّ صباح؛ "يرجى الرُّجوع إليه في موقع الإعجاز العلمي" فسبحان ربِّ الأكوان ومنزل القرآن.
يقول السِّعدي في قوله تعالى: {والليل إذا عسعس والصُّبح إذا تنفس} هذه آيات عظام أقسم الله بها على علو سند القرآن وجلالته وحفظه من كُلِّ شيطان رجيم ( ).
وعليه يأتي جواب القسم بقوله تعالى: {إنَّه لقول رسولٍ كريم} بدأت الآية الكريمة بأقوى أدوات التوكيد في: {إنَّه} والضمير المتصل بإنَّ اسمها، وهو عائد إلى القرآن ولم يسبق له ذكر؛ ولكنَّه معلوم في سياق الإخبار بوقوع البعث؛ فإنَّه مما أخبرهم به القرآن وكذَّبوا بالقرآن لأجل ذلك ( ).
ويأتي خبر إنَّ بقوله تعالى: {لقول رسولٍ كريم} صُدر الخبر بلام التَّوكيد أيضاَ فجتمع في الآية الكريمة عِدَّة مؤكدات "إنَّ، واللام، واسميَّة الجملة" وذلك لمقابلة جحود المنكرين للحق تعنتاً واستكباراً.
وإضافة {القول} إلى {رسول} وهو " جبريل" عليه السَّلام" إيماء إلى أنَّ القول الَّذي يبلغه هو رسالة من الله مأمور بإبلاغها كما هي للرسول الله "محمدٍ" - صلى الله عليه وسلم-.
وجاء الاستطراد من خلال الثَّناء على القرآن الكريم بالثَّناء على الملك المرسل به تنويهاً بالقرآن الكريم وتنويهاً بالملك المرسل به، وللكناية على أنَّ ما نزل به صدق فكمال القائل يدُّل على صدق القول ( ). وعليه وصف {ّرسول} بخمسة صفات: أولها كريم: يعني النَّفيس في نوعه ( ).
ويقول السِّعدي: وصفه الله بالكريم لكرم أخلاقه، وكثرة خصاله الحميدة، فإنَّه أفضل الملائكة وأعظمهم رتبة عند ربه ( ).
والوصفان الثَّاني والثَّالث {ذي قوةٍ عند ذي العرش مكين}.
فقوله تعالى: {ذي قوة} أي قدرة على ما أمر به؛ ومن قوته أنَّه قلب ديار قوم لوط بهم فأهلكم ( ).
وقوله تعالى: {عند ذي العرش} أي: أنَّه مقرَّب عند الله تعالى و له منزلة رفيعة وخصيصة من الله اختصه بها؛ وعليه يأتي قوله تعالى: {مكين} أي: له مكانة ومنزلة فوق منازل الملائكة كلهم ( ).
والمكين: فعيل، صفة مشبَّهة باسم الفاعل من مكُن إذا علت رتبته عند غيره قال تعالى في قصَّة "يوسف" -عليه السَّلام- مع الملك: {فلمَّا كلمه قال إنَّك اليوم لدينا مكين أمين} [يوسف:54].
ويستوقفنا للتأمل العدول عن اسم الجلالة إلى قوله تعالى: {ذي العرش} قيل: لتمثيل حال جبريل- عليه السَّلام- ومكانته عند ربِّه -عزَّ وجلَّ - بحال الأمير الماضي في تنفيذ أمر الملك، وهو محل الكرامة لديه، وإذا قُصد بالرَّسول "محمد" -صلى الله عليه وسلم- فنكتة العدول: إشارة إلى عظيم مكانته إذ كان ذا قوة عند أعظم موجود شأناً ( ) - جل جلاله وتقدس-
وفي توسط قوله تعالى: {عند ذي العرش} بين {ذي قوة} و {مكين} يقول ابن عاشور: وذلك ليتنازعه كلا الوصفين على وجه الإيجاز؛ أي: هو ذو قوة عند الله تعالى، أي: جعل الله تعالى مقدرة جبريل تخوِّله أن يقوم لعظيم ما يوكله الله به مما يحتاج إلى قوة القدرة وقوَّة التَّدبير، وهو ذو مكانة عند الله وزلفى ( ).
وعليه يأتي الوصف الرَّابع والخامس بقوله تعالى: {مُطاعٍ ثَمَّ أمين} يشمل هذا الوصف جبريل عليه والسَّلام و"محمد" -صلى الله عليه وسلم-
وقوله: {مُطَاعٍ} أي: يطيعه من معه من الملائكة، أو النَّبي -صلى الله عليه وسلم- مُطَاع أي: مأمور النَّاس بطاعة ما أمرهم به.
وكلمة: {ثَمَّ} بفتح الثَّاء اسم إشارة إلى المكان، والمشار إليه هو المكان الَّذي دلَّ عليه قوله: {عند ذي العرش}.
وقد خصصه السَّعدي بجبريل بقوله: أي جبريل مُطاع في الملأ الأعلى؛ لأنَّ من الملائكة المقربين جنوده نافذ فيهم أمره، مطاع رأيه.
و: {أمين} أي: ذو أمانة وقيام لما أمر به، لا يزيد ولا ينقص، ولا يتعدى ما حُدَّ له وهذا كُلُّه يدلُّ على شرف القرآن عند الله تعالى، فإنَّه بعث به هذا الملك الكريم الموصوف بتلك الصَّفات الكاملة، والعادة أنَّ الملوك لا ترسل الكريم عليها إلا في أهم المهمات، وأشرف الرسائل ( ). و المثل الأعلى لله تبارك وتعالى.
ولما ذكر فضل الرَّسول المَلَكِي الَّذي جاء بالقرآن، ذكر فضل الرَّسول البشري الَّذي نزل عليه القرآن، ودعا إليه النَّاس فقال تعالى: {وما صاحبكم بمجنون} كما يقول أعداؤه المكذبين برسالته؛ بل هو أكمل النَّاس عقلاً وأجزلهم رأياً وأصدقهم لهجة ( ).
وذكره - صلى الله عليه وسلم- هنا بقوله {صاحبكم} هو من قبيل الإظهار في مقام الإضمار لِمَا في وصفه بـ{صاحبكم} من تبكيت للمكذبين به؛ لأنَّهم صاحبوه ردحاً من الزَّمان فما شهدوا عليه إلا أنَّه الصَّادق الأمين. وما دفعهم لتكذيبه إلا الاستكبار والجحود. ولِذا التَّعرض لعنوان الصُّحوبيَّة كناية عن علمهم بنزاهته مما نسبوه إليه بالكليَّة ( ).
وحرف العطف (و) الَّذي ربط الجملة بما قبلها أدخلها في حيِّز القسم – حيث عطفت على جوابه ( ) وعليه فقد أُكدت بعِدَّة مؤكدات.
وجاء العطف عليه أيضاً بقوله تعالى: {ولقد رءاه بالأفق المبين} والمناسبة بين الجملتين أنَّ المشركين كانوا إذا بلغهم أنَّ الرَّسول – صلى الله عليه وسلم- يخبر أنَّه نَزل عليه جبريل بالوحي من وقت غار حراء فما بعد استهزأوا وقالوا: إن ذلك الَّذي يتراءى له هو جنِّي؛ فكذبهم الله تعالى بنفي الجنون عنه ثمَّ بتحقيق أنَّه رأى جبريل القوي الأمين ( ). وعليه جاءت الجملة مسبقة بـ(قد) حرف التَّحقيق والتَّأكيد المتصلة بلام القسم.
والأفق: الفضاء َّ يبدو للعين، و{المبين} أي الواضح البيِّن فلا تشتبه فيه المرئيات ولا يتخيل فيه الخيال، وعليه فالمرئي ملك وليس خيال، وقد أكدت هذا آيات سورة النَّجم [12- 15]. والقرآن يؤكد ويفسر بعضُه بعضاً.
ويأتي قوله تعالى: {وما هو على الغيب بضنين} دفاعاً عن رسول الله "محمد" -صلى الله عليه وسلم- فليس هو بالبخيل الَّذي لا يعطي ما عنده من الوحي الَّذي ائتمنه عليه ربُّه -عزَّ وجل- وأمره بتبليغه.
وجاء الاستطراد من خلال الثَّناء على القرآن الكريم بالثَّناء على الملك المرسل به تنويهاً بالقرآن الكريم وتنويهاً بالملك المرسل به، وللكناية على أنَّ ما نزل به صدق فكمال القائل يدُّل على صدق القول ( ). وعليه وصف {ّرسول} بخمسة صفات: أولها كريم: يعني النَّفيس في نوعه ( ).
ويقول السِّعدي: وصفه الله بالكريم لكرم أخلاقه، وكثرة خصاله الحميدة، فإنَّه أفضل الملائكة وأعظمهم رتبة عند ربه ( ).
والوصفان الثَّاني والثَّالث {ذي قوةٍ عند ذي العرش مكين}.
فقوله تعالى: {ذي قوة} أي قدرة على ما أمر به؛ ومن قوته أنَّه قلب ديار قوم لوط بهم فأهلكم ( ).
وقوله تعالى: {عند ذي العرش} أي: أنَّه مقرَّب عند الله تعالى و له منزلة رفيعة وخصيصة من الله اختصه بها؛ وعليه يأتي قوله تعالى: {مكين} أي: له مكانة ومنزلة فوق منازل الملائكة كلهم ( ).
والمكين: فعيل، صفة مشبَّهة باسم الفاعل من مكُن إذا علت رتبته عند غيره قال تعالى في قصَّة "يوسف" -عليه السَّلام- مع الملك: {فلمَّا كلمه قال إنَّك اليوم لدينا مكين أمين} [يوسف:54].
ويستوقفنا للتأمل العدول عن اسم الجلالة إلى قوله تعالى: {ذي العرش} قيل: لتمثيل حال جبريل- عليه السَّلام- ومكانته عند ربِّه -عزَّ وجلَّ - بحال الأمير الماضي في تنفيذ أمر الملك، وهو محل الكرامة لديه، وإذا قُصد بالرَّسول "محمد" -صلى الله عليه وسلم- فنكتة العدول: إشارة إلى عظيم مكانته إذ كان ذا قوة عند أعظم موجود شأناً ( ) - جل جلاله وتقدس-
وفي توسط قوله تعالى: {عند ذي العرش} بين {ذي قوة} و {مكين} يقول ابن عاشور: وذلك ليتنازعه كلا الوصفين على وجه الإيجاز؛ أي: هو ذو قوة عند الله تعالى، أي: جعل الله تعالى مقدرة جبريل تخوِّله أن يقوم لعظيم ما يوكله الله به مما يحتاج إلى قوة القدرة وقوَّة التَّدبير، وهو ذو مكانة عند الله وزلفى ( ).
وعليه يأتي الوصف الرَّابع والخامس بقوله تعالى: {مُطاعٍ ثَمَّ أمين} يشمل هذا الوصف جبريل عليه والسَّلام و"محمد" -صلى الله عليه وسلم-
وقوله: {مُطَاعٍ} أي: يطيعه من معه من الملائكة، أو النَّبي -صلى الله عليه وسلم- مُطَاع أي: مأمور النَّاس بطاعة ما أمرهم به.
وكلمة: {ثَمَّ} بفتح الثَّاء اسم إشارة إلى المكان، والمشار إليه هو المكان الَّذي دلَّ عليه قوله: {عند ذي العرش}.
وقد خصصه السَّعدي بجبريل بقوله: أي جبريل مُطاع في الملأ الأعلى؛ لأنَّ من الملائكة المقربين جنوده نافذ فيهم أمره، مطاع رأيه.
و: {أمين} أي: ذو أمانة وقيام لما أمر به، لا يزيد ولا ينقص، ولا يتعدى ما حُدَّ له وهذا كُلُّه يدلُّ على شرف القرآن عند الله تعالى، فإنَّه بعث به هذا الملك الكريم الموصوف بتلك الصَّفات الكاملة، والعادة أنَّ الملوك لا ترسل الكريم عليها إلا في أهم المهمات، وأشرف الرسائل ( ). و المثل الأعلى لله تبارك وتعالى.
ولما ذكر فضل الرَّسول المَلَكِي الَّذي جاء بالقرآن، ذكر فضل الرَّسول البشري الَّذي نزل عليه القرآن، ودعا إليه النَّاس فقال تعالى: {وما صاحبكم بمجنون} كما يقول أعداؤه المكذبين برسالته؛ بل هو أكمل النَّاس عقلاً وأجزلهم رأياً وأصدقهم لهجة ( ).
وذكره - صلى الله عليه وسلم- هنا بقوله {صاحبكم} هو من قبيل الإظهار في مقام الإضمار لِمَا في وصفه بـ{صاحبكم} من تبكيت للمكذبين به؛ لأنَّهم صاحبوه ردحاً من الزَّمان فما شهدوا عليه إلا أنَّه الصَّادق الأمين. وما دفعهم لتكذيبه إلا الاستكبار والجحود. ولِذا التَّعرض لعنوان الصُّحوبيَّة كناية عن علمهم بنزاهته مما نسبوه إليه بالكليَّة ( ).
وحرف العطف (و) الَّذي ربط الجملة بما قبلها أدخلها في حيِّز القسم – حيث عطفت على جوابه ( ) وعليه فقد أُكدت بعِدَّة مؤكدات.
وجاء العطف عليه أيضاً بقوله تعالى: {ولقد رءاه بالأفق المبين} والمناسبة بين الجملتين أنَّ المشركين كانوا إذا بلغهم أنَّ الرَّسول – صلى الله عليه وسلم- يخبر أنَّه نَزل عليه جبريل بالوحي من وقت غار حراء فما بعد استهزأوا وقالوا: إن ذلك الَّذي يتراءى له هو جنِّي؛ فكذبهم الله تعالى بنفي الجنون عنه ثمَّ بتحقيق أنَّه رأى جبريل القوي الأمين ( ). وعليه جاءت الجملة مسبقة بـ(قد) حرف التَّحقيق والتَّأكيد المتصلة بلام القسم.
والأفق: الفضاء َّ يبدو للعين، و{المبين} أي الواضح البيِّن فلا تشتبه فيه المرئيات ولا يتخيل فيه الخيال، وعليه فالمرئي ملك وليس خيال، وقد أكدت هذا آيات سورة النَّجم [12- 15]. والقرآن يؤكد ويفسر بعضُه بعضاً.
ويأتي قوله تعالى: {وما هو على الغيب بضنين} دفاعاً عن رسول الله "محمد" -صلى الله عليه وسلم- فليس هو بالبخيل الَّذي لا يعطي ما عنده من الوحي الَّذي ائتمنه عليه ربُّه -عزَّ وجل- وأمره بتبليغه.
ثمَّ يأتي الدِّفاع عن الوحي بقوله تعالى: {وما هو بقول شيطانٍ رجيمٍ} أي: إنَّ الشَّيطان في غاية البعد عن الله وعن قربه ( ) وفي ذلك نفيٌ قاطعٌ أن يكون القرآن الكريم من كلام الشَّيطان؛ وقد تكفل المولى بحفظه - سبحانه وتعالى-
ثمَّ يأتي التَّوبيخ والتَّحدي بجملة معترضة بقوله تعالى: {فأين تذهبون} يقول الشِّنقيطي: بمثابة من يسُدُّ عليهم الطَّريق إلا له؛ لأنَّه - أي القرآن- ليس في نُزُوله من الله تعالى على رسوله -صلى الله عليه وسلم – أي شُبهة ولا تُهمة، فليس للعاقل أن يحيد عنه، وكُلُّ ذهابٍ إلى غَيره فطريقٌ مسدود وضلالٌ وهلاكٌ ( ) موعود.
وجاء قوله تعالى: {إن هو ذكرٌ للعامين. لمن شاء منكم أن يستقيم} يقول فيه ابن عاشور ( ): بعد أن أفاقهم من ضلالتهم أرشدهم إلى حقيقة القرآن بقوله تعالى: {إن هو إلا ذكرٌ للعالمين} هذه الجملة تتنزل منزلة المؤكدة لجملة [وما هو بقول شيطان رجيم} ولذلك جُرِّدَتْ عن العطف؛ لأنَّ القصر المستفاد من النَّفي والاستثناء في قوله تعالى: {إن هو إلا ذكر للعالمين} يفيد قصر القرآن على صفة الذِّكر، وهو قصر إضافي قصد من إبطال أن يكون قول شاعر، أو كاهن، أو مجنون، ومن جملته نفي أن يكون قول شيطان رجيم؛ وبذلك كان تأكيد لجملة: {وما هو بقول شيطان رجيم}
وقد قصره - سبحانه وتعالى - على أنَه {ذكر} لكونه اسم جامع لمعاني كثيرة منها الدُّعاء والوعظ والزجر وأمور أخرى كثيرة، أي: ما القرآن إلا تذكير لجميع النَّاس ينتفعون به في صلاح اعتقادهم وطاعة ربِّهم وتهذيب أخلاقهم والسَّعادة الشَّاملة للدارين.
ويستوقفنا عموم نفعه بقوله تعالى: {للعالمين} وما أبدل منه بقوله {لمن شاء منكم أن يستقيم}، وفائدة هذا الإبدال التَّنبيه على أن الَّذين تذكروا بالقرآن وهم المسلمون قد شاءوا الاستقامة لأنفسهم فنصحوا أنفسهم وهو ثناء عليهم ( ).
هذه الآية الكريمة صريحة في إثبات المشيئة للإنسان العاقل فيما يأتي ويدع، ولأنَّه لا عذر له إذا قال: هذا أمرٌ قُدِّر، وهذا مكتوب عند الله ( ). أي بعد هذا البيان وقوة هذا السَّند، وإظهار ثبوت الرِّسالة فقد أعذر من أنذر ( ).
وتذيَّل السُّورة المباركة بقوله تعالى: {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ربُّ العالمين}
في هذه الآية يقول صاحب أضواء البيان ( ): إذا كان الكثيرون يستدلون في قضيَّة القضاء والقدر بهذه الآية؛ فإنَّه ينبغي ألَّا نغفل أهميتُها في جانب الضراعة إلى الله دائماً بطلب التَّفضل من الله تعالى علينا بالمشيئة بالاستقامة فضلاً من عنده، كما أمرنا في الصَّلاة في كُلِّ ركعة منها أن نطلبه هذا الطلب: {اهدنا الصِّراط المستقيم}.
ولا شك في أنَّ الإقبال على مرضاة الله للتوسل برضاه إلى تيسير سلوك سبيل الخير هو الطريق الصحيح للحصول على لطف الله وتيسير سبل سلوك الخير والبعد عن سلوك الشَّر.
وفي هذه الآية، وآية سورة الإنسان إفصاحٌ عن شرف أهل الاستقامة بكونهم بمحل العناية من ربِّهم إذا شاء لهم الاستقامة وهيأهم لها، وهذه العناية معنى عظيم تحيَّر أهل العلم في الكشف عنه ( ).
والله أعلم وأحكم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ثمَّ يأتي التَّوبيخ والتَّحدي بجملة معترضة بقوله تعالى: {فأين تذهبون} يقول الشِّنقيطي: بمثابة من يسُدُّ عليهم الطَّريق إلا له؛ لأنَّه - أي القرآن- ليس في نُزُوله من الله تعالى على رسوله -صلى الله عليه وسلم – أي شُبهة ولا تُهمة، فليس للعاقل أن يحيد عنه، وكُلُّ ذهابٍ إلى غَيره فطريقٌ مسدود وضلالٌ وهلاكٌ ( ) موعود.
وجاء قوله تعالى: {إن هو ذكرٌ للعامين. لمن شاء منكم أن يستقيم} يقول فيه ابن عاشور ( ): بعد أن أفاقهم من ضلالتهم أرشدهم إلى حقيقة القرآن بقوله تعالى: {إن هو إلا ذكرٌ للعالمين} هذه الجملة تتنزل منزلة المؤكدة لجملة [وما هو بقول شيطان رجيم} ولذلك جُرِّدَتْ عن العطف؛ لأنَّ القصر المستفاد من النَّفي والاستثناء في قوله تعالى: {إن هو إلا ذكر للعالمين} يفيد قصر القرآن على صفة الذِّكر، وهو قصر إضافي قصد من إبطال أن يكون قول شاعر، أو كاهن، أو مجنون، ومن جملته نفي أن يكون قول شيطان رجيم؛ وبذلك كان تأكيد لجملة: {وما هو بقول شيطان رجيم}
وقد قصره - سبحانه وتعالى - على أنَه {ذكر} لكونه اسم جامع لمعاني كثيرة منها الدُّعاء والوعظ والزجر وأمور أخرى كثيرة، أي: ما القرآن إلا تذكير لجميع النَّاس ينتفعون به في صلاح اعتقادهم وطاعة ربِّهم وتهذيب أخلاقهم والسَّعادة الشَّاملة للدارين.
ويستوقفنا عموم نفعه بقوله تعالى: {للعالمين} وما أبدل منه بقوله {لمن شاء منكم أن يستقيم}، وفائدة هذا الإبدال التَّنبيه على أن الَّذين تذكروا بالقرآن وهم المسلمون قد شاءوا الاستقامة لأنفسهم فنصحوا أنفسهم وهو ثناء عليهم ( ).
هذه الآية الكريمة صريحة في إثبات المشيئة للإنسان العاقل فيما يأتي ويدع، ولأنَّه لا عذر له إذا قال: هذا أمرٌ قُدِّر، وهذا مكتوب عند الله ( ). أي بعد هذا البيان وقوة هذا السَّند، وإظهار ثبوت الرِّسالة فقد أعذر من أنذر ( ).
وتذيَّل السُّورة المباركة بقوله تعالى: {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ربُّ العالمين}
في هذه الآية يقول صاحب أضواء البيان ( ): إذا كان الكثيرون يستدلون في قضيَّة القضاء والقدر بهذه الآية؛ فإنَّه ينبغي ألَّا نغفل أهميتُها في جانب الضراعة إلى الله دائماً بطلب التَّفضل من الله تعالى علينا بالمشيئة بالاستقامة فضلاً من عنده، كما أمرنا في الصَّلاة في كُلِّ ركعة منها أن نطلبه هذا الطلب: {اهدنا الصِّراط المستقيم}.
ولا شك في أنَّ الإقبال على مرضاة الله للتوسل برضاه إلى تيسير سلوك سبيل الخير هو الطريق الصحيح للحصول على لطف الله وتيسير سبل سلوك الخير والبعد عن سلوك الشَّر.
وفي هذه الآية، وآية سورة الإنسان إفصاحٌ عن شرف أهل الاستقامة بكونهم بمحل العناية من ربِّهم إذا شاء لهم الاستقامة وهيأهم لها، وهذه العناية معنى عظيم تحيَّر أهل العلم في الكشف عنه ( ).
والله أعلم وأحكم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بسم الله و الحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ربي يسر وأعن:
سميت هذه السُّورة المباركة في المصاحف وكتب التَّفسير وكتب السُّنَّة "سورة عبس".
ومن أغراضها: تعليم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الموازنة بين مراتب المصالح ووجوب الاستقراء لخفياتها ( ). ومن بعده كافة الأمَّة.
قال تعالى: {عبس وتولى. أن جاءه الأعمى. وما يُدربك لعله يزكى. أو يذَّكر فتنفعه الذِّكرى}.
افتتاح هذه السُّورة المباركة بفعلين لم يذكر فاعلهما: {عبس وتولى} ذلك مما يزيد التَّشويق لما سيرد بعدهما، كما يشعران بأنَّ المحكي حادث عظيم يجب التَّنبه إليه، ويأتي تبين الضمائر السَّابقة في الآية السَّادسة بقوله تعالى: {فأنت له صدى} وأمَّا الحادث فيتبين من ذكر: {أن جاءك الأعمى} وذكر: {أمَّا مَن استغنى} ( ).
وعن السيدة "عائشة" أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: (أنزلت: {عبس وتولى} في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى النَّبي – صلى الله عليه وسلم- فجعل يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله رجلٌ من عظماء المشركين، فجعل النَّبي -صلى الله عليه وسلم- يُعرض عنه، ويُقبل على الآخر..) ( )
ويستوقفنا للتأمل ما تصوره أول كلمة في هذه السُّورة المباركة الفعل: {عبس} الَّذي مادته تدور حول: العُبُوس وهو: تقطيب ما بين العينين ( ).
فقد صوَّرت لنا هذه الكلمة حالة النَّبي- صلى الله عليه وسلم – عندما شغله طلب الأعمى عمَّا كان مهتماً به لدعوة أحد صناديد المشركين. حرصاً على جذب أكبر عدد منهم بواسطته للدخول في الإسلام.
و(المراد من عَبسه – صلى الله عليه وسلم- في وجه الأعمى قبضه لوجهه تكرُّهاً) ( ).
وهذه الحالة إن لم يرها الأعمى لكنَّ الله يراها وقد خلدها قرآناً يتلى على مر الزَّمان عتاباً للنَّبي – صلى الله عليه وسلم مع شدَّة حرصه على تقوية الدَّعوة بما ينفع الإسلام، كما إنَّها موعظة لأمَّته.
ويزيد الصُّورة حياة وحركة عطفه لقوله تعالى: {وتولى} قال ابن منظور: (ولَّى الشَّيء وتولَّى: أدبر عنه وولَّى عنه: أعرض عنه ونأى) ( ).
وقد ذكر- سبحانه وتعالى- ذكر ابن أم مكتوم بـ{الأعمى} ترقيقاً للنَّبي - صلى الله عليه وسلم- ليكون العتاب ملحوظاً فيه أنَّه كان صاحب ضَرارة؛ فهو أجدر بالعناية به؛ لأنَّ مثله يكون سريعاً إلى انكسار خاطره ( ).
وقد روي أنَّه صلى الله عليه وسلم ما عبس بعد ذلك في وجه ضعيف ولا تصدَّى لغني ( ).
ثمَّ نجد الخطاب توجه إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: {وما يُدريك لعله يزَّكى} بعد أن كان ذكره بأسلوب الغائب؛ وذلك زيادة في الإنكار عليه ( ). وهذا على أسلوب الالتفات؛ قيل: فيه إيناس بعد إيحاش، وإعراض ( ).
والاستفهام في قوله تعالى: {وما يدريك لعله يَزَّكَّى} مراد منه التَّنبيه قيل: المعنى انظر فقد يكون تزكِّيهِ مرجواً إذا أقبلت عليه بالإرشاد، والمراد تزكية زائدة على تزكية الإيمان ( ).
ويأتي العطف عليه بقوله تعالى: {أو يذَّكر فتنفعه الذِّكرى} أي: ما يدريك أن يحصل أحد الأمرين وكلاهما مهم، أي تحصل الذِّكرى في نفسه بالإرشاد لِمَا لم يكن يعلمه أو تذكُّر لِما كان في غفلة عنه، وقد اكتفي بقوله تعالى: {فتنفعه الذِّكرى} عن أن يقول: فينفعه التَّزكي، وتنفعه الذِّكرى إيجازاً لظهور أنَّ كليهما نفع له ( ).
وقد قُدِّم التَّزكي على التَّذكر؛ لتقديم التَّخلية على التحلية ( ) فلولا التَّزكي لما حدثت الذِّكرى
ونجد في قوله تعالى: {فتنفعه} تعريضاً وإشعاراً بأنَّ من تصدى – صلى الله عليه وسلم – لتزكيتهم وتذكرهم من الكفرة لا يرجى منهم تذكُّر أو تزكِّ ( ).
ثمَّ أُكدت معاتبته ( ) – صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى: {أمَّا من استغنى. فأنت له تصدى}.
الاستغناء: أن يَعُدُّ الشخص نفسه غنياً في أمر يدلُّ عليه السِّياق، أو فعل أو علم فـ(السِّين والتَّاء) في:{استغنى} للحسبان، أي: حسب نفسه غنياً، وأكثر ما يستعمل الاستغناء في التَّكبر والاعتزاز بالقوَّة، والمراد به -هنا- من عَدَّ نفسه غيناً عن هديك ( ).
كما يستوقفنا للتأمل الإتيان بضمير الخطاب {أنت} مظهراً في جملة {أنت له تصدى} دون استتاره في الفعل {تصدى}، قيل: لتقوية حكم الإسناد، فقد ذكر الفاعل مرتين: مرة في أو الجملة {أنت} كمبتدأ، ومرة ضمير مستتر بعد الفعل؛ كأنَّه قيل تتصدى له تصدياً، أو للاختصاص؛ أي أنت لا غيرك تتصدى له ( ). ولا يخفى أنَّ تقديم الضمير {أنت} في أول الجملة جعلها جملة اسميَّة مما يزيد تأكيد الحدث الَّذي تحمله.
ونجد تقديم الضَّمير في: {له} على متعلقه الفعل: {تَصدَّى} جاء للحصر مع مراعاة الفاصلة القرآنيَّة ( ).
والتَّصدي: التَّعرُّض، وأطلق – هنا- على الإقبال الشَّديد مجازاً ( ). وفي هذا الأسلوب مزيد إنكار له – صلى الله عليه وسلم- عن الإقبال عليهم والتَّصدي لهم ( ).
سميت هذه السُّورة المباركة في المصاحف وكتب التَّفسير وكتب السُّنَّة "سورة عبس".
ومن أغراضها: تعليم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الموازنة بين مراتب المصالح ووجوب الاستقراء لخفياتها ( ). ومن بعده كافة الأمَّة.
قال تعالى: {عبس وتولى. أن جاءه الأعمى. وما يُدربك لعله يزكى. أو يذَّكر فتنفعه الذِّكرى}.
افتتاح هذه السُّورة المباركة بفعلين لم يذكر فاعلهما: {عبس وتولى} ذلك مما يزيد التَّشويق لما سيرد بعدهما، كما يشعران بأنَّ المحكي حادث عظيم يجب التَّنبه إليه، ويأتي تبين الضمائر السَّابقة في الآية السَّادسة بقوله تعالى: {فأنت له صدى} وأمَّا الحادث فيتبين من ذكر: {أن جاءك الأعمى} وذكر: {أمَّا مَن استغنى} ( ).
وعن السيدة "عائشة" أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: (أنزلت: {عبس وتولى} في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى النَّبي – صلى الله عليه وسلم- فجعل يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله رجلٌ من عظماء المشركين، فجعل النَّبي -صلى الله عليه وسلم- يُعرض عنه، ويُقبل على الآخر..) ( )
ويستوقفنا للتأمل ما تصوره أول كلمة في هذه السُّورة المباركة الفعل: {عبس} الَّذي مادته تدور حول: العُبُوس وهو: تقطيب ما بين العينين ( ).
فقد صوَّرت لنا هذه الكلمة حالة النَّبي- صلى الله عليه وسلم – عندما شغله طلب الأعمى عمَّا كان مهتماً به لدعوة أحد صناديد المشركين. حرصاً على جذب أكبر عدد منهم بواسطته للدخول في الإسلام.
و(المراد من عَبسه – صلى الله عليه وسلم- في وجه الأعمى قبضه لوجهه تكرُّهاً) ( ).
وهذه الحالة إن لم يرها الأعمى لكنَّ الله يراها وقد خلدها قرآناً يتلى على مر الزَّمان عتاباً للنَّبي – صلى الله عليه وسلم مع شدَّة حرصه على تقوية الدَّعوة بما ينفع الإسلام، كما إنَّها موعظة لأمَّته.
ويزيد الصُّورة حياة وحركة عطفه لقوله تعالى: {وتولى} قال ابن منظور: (ولَّى الشَّيء وتولَّى: أدبر عنه وولَّى عنه: أعرض عنه ونأى) ( ).
وقد ذكر- سبحانه وتعالى- ذكر ابن أم مكتوم بـ{الأعمى} ترقيقاً للنَّبي - صلى الله عليه وسلم- ليكون العتاب ملحوظاً فيه أنَّه كان صاحب ضَرارة؛ فهو أجدر بالعناية به؛ لأنَّ مثله يكون سريعاً إلى انكسار خاطره ( ).
وقد روي أنَّه صلى الله عليه وسلم ما عبس بعد ذلك في وجه ضعيف ولا تصدَّى لغني ( ).
ثمَّ نجد الخطاب توجه إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: {وما يُدريك لعله يزَّكى} بعد أن كان ذكره بأسلوب الغائب؛ وذلك زيادة في الإنكار عليه ( ). وهذا على أسلوب الالتفات؛ قيل: فيه إيناس بعد إيحاش، وإعراض ( ).
والاستفهام في قوله تعالى: {وما يدريك لعله يَزَّكَّى} مراد منه التَّنبيه قيل: المعنى انظر فقد يكون تزكِّيهِ مرجواً إذا أقبلت عليه بالإرشاد، والمراد تزكية زائدة على تزكية الإيمان ( ).
ويأتي العطف عليه بقوله تعالى: {أو يذَّكر فتنفعه الذِّكرى} أي: ما يدريك أن يحصل أحد الأمرين وكلاهما مهم، أي تحصل الذِّكرى في نفسه بالإرشاد لِمَا لم يكن يعلمه أو تذكُّر لِما كان في غفلة عنه، وقد اكتفي بقوله تعالى: {فتنفعه الذِّكرى} عن أن يقول: فينفعه التَّزكي، وتنفعه الذِّكرى إيجازاً لظهور أنَّ كليهما نفع له ( ).
وقد قُدِّم التَّزكي على التَّذكر؛ لتقديم التَّخلية على التحلية ( ) فلولا التَّزكي لما حدثت الذِّكرى
ونجد في قوله تعالى: {فتنفعه} تعريضاً وإشعاراً بأنَّ من تصدى – صلى الله عليه وسلم – لتزكيتهم وتذكرهم من الكفرة لا يرجى منهم تذكُّر أو تزكِّ ( ).
ثمَّ أُكدت معاتبته ( ) – صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى: {أمَّا من استغنى. فأنت له تصدى}.
الاستغناء: أن يَعُدُّ الشخص نفسه غنياً في أمر يدلُّ عليه السِّياق، أو فعل أو علم فـ(السِّين والتَّاء) في:{استغنى} للحسبان، أي: حسب نفسه غنياً، وأكثر ما يستعمل الاستغناء في التَّكبر والاعتزاز بالقوَّة، والمراد به -هنا- من عَدَّ نفسه غيناً عن هديك ( ).
كما يستوقفنا للتأمل الإتيان بضمير الخطاب {أنت} مظهراً في جملة {أنت له تصدى} دون استتاره في الفعل {تصدى}، قيل: لتقوية حكم الإسناد، فقد ذكر الفاعل مرتين: مرة في أو الجملة {أنت} كمبتدأ، ومرة ضمير مستتر بعد الفعل؛ كأنَّه قيل تتصدى له تصدياً، أو للاختصاص؛ أي أنت لا غيرك تتصدى له ( ). ولا يخفى أنَّ تقديم الضمير {أنت} في أول الجملة جعلها جملة اسميَّة مما يزيد تأكيد الحدث الَّذي تحمله.
ونجد تقديم الضَّمير في: {له} على متعلقه الفعل: {تَصدَّى} جاء للحصر مع مراعاة الفاصلة القرآنيَّة ( ).
والتَّصدي: التَّعرُّض، وأطلق – هنا- على الإقبال الشَّديد مجازاً ( ). وفي هذا الأسلوب مزيد إنكار له – صلى الله عليه وسلم- عن الإقبال عليهم والتَّصدي لهم ( ).
ثمَّ جاءت الصُّورة الثَّانية المكملة للعتب ( ). في قوله تعالى: {وأمَّا من جاءك يسعى. وهو يخشى. فأنت عنه تلهى}. لقد كَنى – سبحانه وتعالى- بالسَّعي عن شِدة حرص ابن أم مكتوم للقاء النَّبي – صلى الله عليه وسلم- وتلك صورة حيَّة تجذب الانتباه وتحث على الجد في طلب العلم النَّافع خاصة عندما يتعلق بأمور الدِّين الحنيف. وهو مقابل لحال من استغنى ليظهر بذلك التَّقابل الاختلاف الكبير بين صورة المؤمن الموحد لربه تعالى، وصورة الكافر الجاحد لربه تعالى وتقدس.
وجاء حذف مفعول الفعل {يخشى} لظهوره فالخشية في لسان الشَّرع لا تنصرف إلا لله تعالى ( ).
والله أعلم وأحكم وصلى الله على نبينا وقائدنا وشفيعنا "محمد بن عبد الله" وعلى آله وصحبه ومن والاه وسلم تسليماً كثيراً.
نلقاكم بحول الله وقوته في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى.
وجاء حذف مفعول الفعل {يخشى} لظهوره فالخشية في لسان الشَّرع لا تنصرف إلا لله تعالى ( ).
والله أعلم وأحكم وصلى الله على نبينا وقائدنا وشفيعنا "محمد بن عبد الله" وعلى آله وصحبه ومن والاه وسلم تسليماً كثيراً.
نلقاكم بحول الله وقوته في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى.
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
عليه نتوكل وبه نستعين
تكملة القسم الثَّاني من تدارس "سورة عبس"
لقد افتتح هذا القسم من السُّورة بقوله تعلى: {كَلَّا إنَّها تَذْكِرَةٌ} فبدأ المقطع بـ{كلا} حرف الردع والزجر، يقول الشنقيطي: معلوم أنَّ كلمة: {كلا}: ردع عمَّا سبق، وهو في جملته منصب على التَّصدي لمن استغنى والإلحاح عليهم والحرص على سماعهم منه، ولكنَّ منزلة القرآن والوحي والدِّين أعلى منزلة من أن تُبذَل لقوم هذه حالتهم، فهي على ما هي عليه من تكريم ورفعة أحرى بأن يُسعى إليها، والخير لمن أتاها يطلبها ( ).
وعليه يأتي بقوله تعالى: {إنَّها تَذْكِرَةٌ} جملة مؤكَّدة بأقوى أدوات التَّوكيد، {إنَّ}. واسمها الضَّمير المتَّصل وهو عائد إلى الدَّعوة الَّتي تضمنها قوله تعالى: {وأنت له تصدى}. أو عائد على الآيات، وزاد في تأكيد الكلام تنكير الخبر {تذكرةٌ} فساهم هذا التَّأكيد والتَّنكير في الدَّلالة على تعظيم شأن القرآن الكريم ( )، فليس شرف القرآن في قبول صناديد المشركين له؛ بل العكس ( )
حقاً إنَّ هذه الموعظة تذكرة من الله لمن أراد أن يتذكر، ويؤكده قوله تعالى: {فمن شاء ذكره} الَّذي جاء للتَّهديد لا للتَّخيير بدليل ما بعده ( ). ولا بد أنَّ تذكُّره يقتضي العمل به ( ). بإخلاص ومحبَّة، فالكلام معرضاً بنفع موعظة القرآن لكُلِّ من تجرَّد عن العناد والمكابرة ( ).
ثمَّ ذكر محل هذه التَّذكرة وعظمتها ورفع قدرها بقوله تعالى: {في صحفٍ مكرمةٍ. مرفوعة مُطهرةٍ} ثلاث صفات بيَّنت منزلة هذه الآيات عند الله -جل جلاله- فأفادت التَّعظيم خاصة مع تنكيرها، فهي رفيعة القدر والرتبة، مطهرة من أن تنالها أيدي الشَّياطين أو يسترقوها؛ بل هي {بأيدي سفرةٍ. كرامٍ بررة} وهم الملائكة الَّذين هم السَّفرة بين الله وبين عباده، فهم كرام أي: كثيروا الخير والبركة {بررة} موصوفون بكثرة البُرُور لصفاء قلوبهم.
ثمَّ توجه الدَّعاء على الإنسان في قوله تعالى: {قٌتل الإنسان...} وهو من أشنع الدُّعاء؛ إذ القتل قصارى شدائد الدُّنيا وفظائعها ( ). وقد جاء هذا الأسلوب على كلام العرب، ولا يمكن أن يُحمل في حقِّه تعالى إلَّا على إرادة إيصال العقاب الشَّديد ( ). أو أن يُحمل على معنى الذَّم ( ). والتَّحقير والتَّهديد منه تعالى وتقدس لعباده ( ).
ثمَّ يأتي سبب الدُّعاء في قوله تعالى: {...ما أكفره} قد يُحمل هذا الأسلوب البلاغي على التَّعجب من جنس الإنسان، وإن كان القليل منه غير كافر ( ).
أو يكون هذا الأسلوب استفهام محمول على التَّوبيخ، أو التَّقريع لكفر الإنسان بخالقه والمنعم عليه ( )
يقول الزمخشري معلقاً على هذه الآية الكريمة: (ولا ترى أسلوب أغلظ منه، ولا أخشن مسَّاً، ولا أدلَّ على السَّخط، ولا أبعد شوطاً في المذمَّة مع تقارب طرفيه، ولا أجمع للَّائمة على قِصر متنه ( ).
ولذا عُدَّت هذه الجملة من جوامع الكلم، ولا أدلَّ على ذلك من حذف متعلِّق الفعل (أكفره)، إذ التَّقدير ما أكفره بالله ذلك الحذف لظهور المراد ( ).
وعليه يأتي وصف حال الإنسان من ابتداء حدوثه إلى أن ينتهي وما هو مغمور فيه من أصول النِّعم وفروعها ( ).
ويبدأ ذلك بسؤال يثير العقل في قوله تعالى: {من أي شيء خلقه} هذا الاستفهام إمَّا يراد به التَّقرير ( ). أو التَّحقير ( )، أو كلاهما معاً ( ) وقد يحمل في طياته التَّعجب من حالهم.
ويأتي ذلك لفتاً لانتباه المشركين إلى إمكانيَّة البعث، فيجيء بهذا الاستدلال بطريق السُّؤال والجواب تشويقاً لمضمونه ( ). وبيان لجملة {قُتل الإنسانُ ما أكفره}؛ لأنَّ مفاد هذه الجملة الاستدلال على إبطال إنكارهم البعث، وذلك من أكبر أصول كفرهم ( ).
ثمَّ يأتي تفصيل ما أُجمل في السُؤال بقوله تعالى: {من نُطفةٍ خلقه فقدَّره} ويستوقفنا هنا تقديم الجار والمجرور: {من نطفة} على متعلقه: الفعل {خلقه} محاكاة لتقديمه في السُؤال، مع الاهتمام بتقديم ما منه الخلق، وأعيد ذكر فعل: {خلقه} دون الاستغناء عنه بما ورد في السُّؤال زيادة في التَّنبيه على دقَّة ذلك الخلق البديع، وهذا الأسلوب من المساواة الَّتي ليست بإيجاز ولا بإطناب ( ).
ونجده سبحانه وتعالى قد فرَّع على فعل: {خلقه} الفعل {فقدره} بـ(فاء) التَّفريع؛ لأنَّ التَّقدير هنا إيجاد الشَّيء على مقدار منظَّم كقوله تعالى: {وخلق كُلَّ شيءٍ فقدَّره تقديراَ} [الفرقان:2]. أي: جعل التَّقدير من آثار الخلق؛ لأنَّه خلقه متهيئاً للنماء وما يلابسه من العقل والتَّصرف وتمكينه من النَّظر بعقله، والأعمال الَّتي يريد إتيانها وذلك حاصلٌ مع خلقه مدرَّجاً مفرعاً. وهذا التَّفريع وما عطف عليه إدماج للامتنان في خلال الاستدلال ( ).
ويأتي العطف بحرف {ثمَّ} لقوله تعلى: {ثمَّ السَّبيل يسره} للدلالة على التَّراخي الرُّتبي وذلك لأنَّ تيسير سبيل العمل الإنساني أعجب في الدلالة على بديع صنع الله؛ لأنَّه أثرُ العقل وهو أعظم ما في خلق الإنسان؛ فيكون أقوى في المنَّه.
عليه نتوكل وبه نستعين
تكملة القسم الثَّاني من تدارس "سورة عبس"
لقد افتتح هذا القسم من السُّورة بقوله تعلى: {كَلَّا إنَّها تَذْكِرَةٌ} فبدأ المقطع بـ{كلا} حرف الردع والزجر، يقول الشنقيطي: معلوم أنَّ كلمة: {كلا}: ردع عمَّا سبق، وهو في جملته منصب على التَّصدي لمن استغنى والإلحاح عليهم والحرص على سماعهم منه، ولكنَّ منزلة القرآن والوحي والدِّين أعلى منزلة من أن تُبذَل لقوم هذه حالتهم، فهي على ما هي عليه من تكريم ورفعة أحرى بأن يُسعى إليها، والخير لمن أتاها يطلبها ( ).
وعليه يأتي بقوله تعالى: {إنَّها تَذْكِرَةٌ} جملة مؤكَّدة بأقوى أدوات التَّوكيد، {إنَّ}. واسمها الضَّمير المتَّصل وهو عائد إلى الدَّعوة الَّتي تضمنها قوله تعالى: {وأنت له تصدى}. أو عائد على الآيات، وزاد في تأكيد الكلام تنكير الخبر {تذكرةٌ} فساهم هذا التَّأكيد والتَّنكير في الدَّلالة على تعظيم شأن القرآن الكريم ( )، فليس شرف القرآن في قبول صناديد المشركين له؛ بل العكس ( )
حقاً إنَّ هذه الموعظة تذكرة من الله لمن أراد أن يتذكر، ويؤكده قوله تعالى: {فمن شاء ذكره} الَّذي جاء للتَّهديد لا للتَّخيير بدليل ما بعده ( ). ولا بد أنَّ تذكُّره يقتضي العمل به ( ). بإخلاص ومحبَّة، فالكلام معرضاً بنفع موعظة القرآن لكُلِّ من تجرَّد عن العناد والمكابرة ( ).
ثمَّ ذكر محل هذه التَّذكرة وعظمتها ورفع قدرها بقوله تعالى: {في صحفٍ مكرمةٍ. مرفوعة مُطهرةٍ} ثلاث صفات بيَّنت منزلة هذه الآيات عند الله -جل جلاله- فأفادت التَّعظيم خاصة مع تنكيرها، فهي رفيعة القدر والرتبة، مطهرة من أن تنالها أيدي الشَّياطين أو يسترقوها؛ بل هي {بأيدي سفرةٍ. كرامٍ بررة} وهم الملائكة الَّذين هم السَّفرة بين الله وبين عباده، فهم كرام أي: كثيروا الخير والبركة {بررة} موصوفون بكثرة البُرُور لصفاء قلوبهم.
ثمَّ توجه الدَّعاء على الإنسان في قوله تعالى: {قٌتل الإنسان...} وهو من أشنع الدُّعاء؛ إذ القتل قصارى شدائد الدُّنيا وفظائعها ( ). وقد جاء هذا الأسلوب على كلام العرب، ولا يمكن أن يُحمل في حقِّه تعالى إلَّا على إرادة إيصال العقاب الشَّديد ( ). أو أن يُحمل على معنى الذَّم ( ). والتَّحقير والتَّهديد منه تعالى وتقدس لعباده ( ).
ثمَّ يأتي سبب الدُّعاء في قوله تعالى: {...ما أكفره} قد يُحمل هذا الأسلوب البلاغي على التَّعجب من جنس الإنسان، وإن كان القليل منه غير كافر ( ).
أو يكون هذا الأسلوب استفهام محمول على التَّوبيخ، أو التَّقريع لكفر الإنسان بخالقه والمنعم عليه ( )
يقول الزمخشري معلقاً على هذه الآية الكريمة: (ولا ترى أسلوب أغلظ منه، ولا أخشن مسَّاً، ولا أدلَّ على السَّخط، ولا أبعد شوطاً في المذمَّة مع تقارب طرفيه، ولا أجمع للَّائمة على قِصر متنه ( ).
ولذا عُدَّت هذه الجملة من جوامع الكلم، ولا أدلَّ على ذلك من حذف متعلِّق الفعل (أكفره)، إذ التَّقدير ما أكفره بالله ذلك الحذف لظهور المراد ( ).
وعليه يأتي وصف حال الإنسان من ابتداء حدوثه إلى أن ينتهي وما هو مغمور فيه من أصول النِّعم وفروعها ( ).
ويبدأ ذلك بسؤال يثير العقل في قوله تعالى: {من أي شيء خلقه} هذا الاستفهام إمَّا يراد به التَّقرير ( ). أو التَّحقير ( )، أو كلاهما معاً ( ) وقد يحمل في طياته التَّعجب من حالهم.
ويأتي ذلك لفتاً لانتباه المشركين إلى إمكانيَّة البعث، فيجيء بهذا الاستدلال بطريق السُّؤال والجواب تشويقاً لمضمونه ( ). وبيان لجملة {قُتل الإنسانُ ما أكفره}؛ لأنَّ مفاد هذه الجملة الاستدلال على إبطال إنكارهم البعث، وذلك من أكبر أصول كفرهم ( ).
ثمَّ يأتي تفصيل ما أُجمل في السُؤال بقوله تعالى: {من نُطفةٍ خلقه فقدَّره} ويستوقفنا هنا تقديم الجار والمجرور: {من نطفة} على متعلقه: الفعل {خلقه} محاكاة لتقديمه في السُؤال، مع الاهتمام بتقديم ما منه الخلق، وأعيد ذكر فعل: {خلقه} دون الاستغناء عنه بما ورد في السُّؤال زيادة في التَّنبيه على دقَّة ذلك الخلق البديع، وهذا الأسلوب من المساواة الَّتي ليست بإيجاز ولا بإطناب ( ).
ونجده سبحانه وتعالى قد فرَّع على فعل: {خلقه} الفعل {فقدره} بـ(فاء) التَّفريع؛ لأنَّ التَّقدير هنا إيجاد الشَّيء على مقدار منظَّم كقوله تعالى: {وخلق كُلَّ شيءٍ فقدَّره تقديراَ} [الفرقان:2]. أي: جعل التَّقدير من آثار الخلق؛ لأنَّه خلقه متهيئاً للنماء وما يلابسه من العقل والتَّصرف وتمكينه من النَّظر بعقله، والأعمال الَّتي يريد إتيانها وذلك حاصلٌ مع خلقه مدرَّجاً مفرعاً. وهذا التَّفريع وما عطف عليه إدماج للامتنان في خلال الاستدلال ( ).
ويأتي العطف بحرف {ثمَّ} لقوله تعلى: {ثمَّ السَّبيل يسره} للدلالة على التَّراخي الرُّتبي وذلك لأنَّ تيسير سبيل العمل الإنساني أعجب في الدلالة على بديع صنع الله؛ لأنَّه أثرُ العقل وهو أعظم ما في خلق الإنسان؛ فيكون أقوى في المنَّه.
و{السَّبيل}: الطريق وهو هنا مستعار لما يفعله الإنسان من أعماله وتصرفاته تشبيهاً للأعمال بطريق يمشي فيه الماشي فهو تشبيه المحسوس بالمعقول، وموقعه في الجملة مفعولٌ به ولأهميته قُدم على فعله {يسره} ( )
وعليه قيل: {السَّبيل} الدِّين في وضوحه ويُسر العمل به كقوله تعالى: {إنَّا هديناه السَّبيل إمَّا شاكراً وإمَّا كفوراً} [الإنسان:3] وهو مروي عن الحسن وابن زيد، ورجَّحه ابن كثير ( ).
وبعد هذا التَّيسير تأتي النِّهاية الحتميَّة لكُلِّ إنسان بقوله تعالى: {ثمَّ أماته فأقبره} معطوفة بحرف التَّراخي: {ثم} الَّذي يمثل تلك المهلة الممتدَّة بين خلقه وموته.
يقول ابن عاشور: جاء العطف بحرف التَّراخي وهو لتراخي الرُّتبة فإنَّ انقراض تلك القُوى العقليَّة والحسيَّة بالموت، بعد أن كانت راسخة زمناً ما، انقراض عجيب دون تدرج ولا انتظار زمان يساوي مدَّة بقائها، وهذا إدماج للدلالة على عظيم القدرة ( ).
ويستوقفنا للتأمل إسناد الإقبار له -جل جلاله- في قوله {فأقبره} قيل: إسناد الإقبار إلى الله تعالى مجاز عقلي؛ لأن الله تعالى ألهم النَّاس الدَّفن منذ أول الخليقة في حادثة هابيل وقابيل. ( ).
ويقول السَّعدي: أي أكرمه بالدَّفن ولم يجعله كسائر الحيوانات الَّتي تكون جيفها على وجه الأرض ( ). فمحل المنَّة في قوله: {أماته} هو فيما فُرِّع عليه بـ(الفاء) بقوله: {فأقبره} وليست الإماتة وحدها منَّة ( ).
ويأتي الرُّجوع على إثبات البعث بقوله تعالى: {ثمَّ إذا شاء أنشره} على تقدير: ثمَّ إذا شاء تعالى إنشاره أنشره؛ للإيذان بأنَّ وقته غير متعين أصلاً للخلائق؛ بل هو تابع لمشيئته تعالى ( ).
وجاء ذلك رداً لشبهتهم إذ كانوا يطلبون تعجيل البعث تحدياً وتهكماً، فأعلمهم الله أنَّه يقع عندما يشاء هو - سبحانه- وقوعه؛ لأنَّه موكول لحكمة الله، واُستفيد منه إبطال قولهم من طريق الكناية ( ).
ثمَّ تكرر زجر الإنسان عمَّا هو عليه في قوله تعالى: {كلا لَمَّا يقض ما أمره} ( ).
يقول السَّعدي فيه: فالله هو المنفرد بتدبير الإنسان وتصريفه بهذه التَّصاريف لم يشاركه فيه مشارك، والإنسان مع هذا لا يقوم بما أمره الله، ولم يقض ما فرضه عليه؛ بل لا يزال مقصراً تحت الطلب ( ).
وتأتي الآيات الكريمات [24 – 32] من قوله تعالى: {فلينظر الإنسانُ إلى طعام....} إمَّا مفرَّعة على قوله تعالى: {لَمَّا يقضي ما أمر} [عبس:23] فيكون مما أمره الله به من النَّظر، وإمَّا على قوله {ما أكفره} [عبس:17] فيكون هذا النَّظر مما يبطل شِدة كفر الإنسان. والـ(فاء) مع كونها للتَّفريع تفيد معنى الفصيحة، إذ التَّقدير: إن أراد أن يقضي ما أمره فلينظر إلى طعامه، أو إن أراد نقض كفره فلينظر إلى طعامه ليهتدي بالنَّظر فيؤمن فينجو ( ).
وعليه يبتدئ بتعداد نعم الله على الإنسان المتعلِّق ببقائه بعد تفصيل النَّعم المتعلِّقة بحدوثه ( ).
فأبتدئ – سبحانه- بذكر دلائل الآفاق بعد الفراغ من ذكر دلائل الأنفس ( )، قال تعالى: {فلينظر الإنسانُ إلى طعامه} معبراً بالاسم الظَّاهر (الإنسان) دون الضمير زيادة في الإيضاح، مبتدئ بذكر نعمة الغذاء الضروري لحياة الإنسان مع أنَّ الاستدلال هو أحوال تكوين الطعام، لإجراء الكلام على الإيجاز ( ).
ويأتي التَّفصيل بصور حيَّة متلاحقة تدلُّ على قدرته – سبحانه - ومنَّته على عباده مبتدئاً بقوله تعالى: {أنَّا صببنا الماءَ صباً} هذه الجملة المعجزة الَّتي بدأت بحرف التأكيد "أنَّ" وجاء اسمها نون العظمة المتصلة الدَّالة عليه -سبحانه- وجاء خبرها جملة فعليَّة فعلها ماضي زيادة في تأكيد حكم الإسناد، ومفعول الجملة {الماء} ثمَّ أّكِدَتْ مرةً ثالثة بالمصدر {صباً} تحمل الشَّيء الكثير من قدرة الله الَّتي لا تضاهيها قدرة.
وتتوالى النِّعم لتكتمل صورة القدرة الإلهية فيها بقوله تعالى: {ثمَّ شققنا الأرض شقاً. فأنبتنا فيها حباً. وعنباً وقضباً. وزيتوناً ونخلاً. وحدائق غُلباً. وفاكهة وأباً}. كُلُّ آية منها تحتاج إلى وقفة يطول فيها التَّأمل؛ ولكن لا يسعف المقام إلا للإشارات الطفيفة.
فنجده -سبحانه وتعالى- قدَّم ذكر الحَبِّ في الآية [27] على جميع النَّباتات الأخرى؛ التَّالية الذِّكر؛ لأنَّه قد يكون الأصل في الأغذية عامَّة ( ).
ثمَّ عطف عليه قوله تعالى: {وعنباً وقضاً} العنب: ثمرة الكرم ويؤكل رطباً، ويتخذ منه الزَّبيب، وكلاهما له منافع صحيَّة كثيرة
والقضب: الفصْفصة الرَّطبة، سميت قضباً؛ لأنَّها تعلف للدَّواب رطبة فتقضب، أي تقطع مرة بعد أخرى، ولا تزال تُخلف ما دام الماء ينزل عليها، وتسمى القَت.
والزيتون: الثَّمر الَّذي يعصر منه الزَّيت المعروف وهي شجرة مباركة ( ).
وخص في ذكر أنواع النَّبات ذكر النَّخيل دون ثمره؛ لأنَّ منافع شجر النَّخيل لا تقتصر على ثمره؛ بل ذكر اسم هذه الشَّجرة أجمع في الاستدلال بمختلف الأحوال، وإدماج للامتنان بوفرة النِّعم ( )، وخص هذه الأربعة لكثرة فوائدها ومنافعها ( ).
وعليه قيل: {السَّبيل} الدِّين في وضوحه ويُسر العمل به كقوله تعالى: {إنَّا هديناه السَّبيل إمَّا شاكراً وإمَّا كفوراً} [الإنسان:3] وهو مروي عن الحسن وابن زيد، ورجَّحه ابن كثير ( ).
وبعد هذا التَّيسير تأتي النِّهاية الحتميَّة لكُلِّ إنسان بقوله تعالى: {ثمَّ أماته فأقبره} معطوفة بحرف التَّراخي: {ثم} الَّذي يمثل تلك المهلة الممتدَّة بين خلقه وموته.
يقول ابن عاشور: جاء العطف بحرف التَّراخي وهو لتراخي الرُّتبة فإنَّ انقراض تلك القُوى العقليَّة والحسيَّة بالموت، بعد أن كانت راسخة زمناً ما، انقراض عجيب دون تدرج ولا انتظار زمان يساوي مدَّة بقائها، وهذا إدماج للدلالة على عظيم القدرة ( ).
ويستوقفنا للتأمل إسناد الإقبار له -جل جلاله- في قوله {فأقبره} قيل: إسناد الإقبار إلى الله تعالى مجاز عقلي؛ لأن الله تعالى ألهم النَّاس الدَّفن منذ أول الخليقة في حادثة هابيل وقابيل. ( ).
ويقول السَّعدي: أي أكرمه بالدَّفن ولم يجعله كسائر الحيوانات الَّتي تكون جيفها على وجه الأرض ( ). فمحل المنَّة في قوله: {أماته} هو فيما فُرِّع عليه بـ(الفاء) بقوله: {فأقبره} وليست الإماتة وحدها منَّة ( ).
ويأتي الرُّجوع على إثبات البعث بقوله تعالى: {ثمَّ إذا شاء أنشره} على تقدير: ثمَّ إذا شاء تعالى إنشاره أنشره؛ للإيذان بأنَّ وقته غير متعين أصلاً للخلائق؛ بل هو تابع لمشيئته تعالى ( ).
وجاء ذلك رداً لشبهتهم إذ كانوا يطلبون تعجيل البعث تحدياً وتهكماً، فأعلمهم الله أنَّه يقع عندما يشاء هو - سبحانه- وقوعه؛ لأنَّه موكول لحكمة الله، واُستفيد منه إبطال قولهم من طريق الكناية ( ).
ثمَّ تكرر زجر الإنسان عمَّا هو عليه في قوله تعالى: {كلا لَمَّا يقض ما أمره} ( ).
يقول السَّعدي فيه: فالله هو المنفرد بتدبير الإنسان وتصريفه بهذه التَّصاريف لم يشاركه فيه مشارك، والإنسان مع هذا لا يقوم بما أمره الله، ولم يقض ما فرضه عليه؛ بل لا يزال مقصراً تحت الطلب ( ).
وتأتي الآيات الكريمات [24 – 32] من قوله تعالى: {فلينظر الإنسانُ إلى طعام....} إمَّا مفرَّعة على قوله تعالى: {لَمَّا يقضي ما أمر} [عبس:23] فيكون مما أمره الله به من النَّظر، وإمَّا على قوله {ما أكفره} [عبس:17] فيكون هذا النَّظر مما يبطل شِدة كفر الإنسان. والـ(فاء) مع كونها للتَّفريع تفيد معنى الفصيحة، إذ التَّقدير: إن أراد أن يقضي ما أمره فلينظر إلى طعامه، أو إن أراد نقض كفره فلينظر إلى طعامه ليهتدي بالنَّظر فيؤمن فينجو ( ).
وعليه يبتدئ بتعداد نعم الله على الإنسان المتعلِّق ببقائه بعد تفصيل النَّعم المتعلِّقة بحدوثه ( ).
فأبتدئ – سبحانه- بذكر دلائل الآفاق بعد الفراغ من ذكر دلائل الأنفس ( )، قال تعالى: {فلينظر الإنسانُ إلى طعامه} معبراً بالاسم الظَّاهر (الإنسان) دون الضمير زيادة في الإيضاح، مبتدئ بذكر نعمة الغذاء الضروري لحياة الإنسان مع أنَّ الاستدلال هو أحوال تكوين الطعام، لإجراء الكلام على الإيجاز ( ).
ويأتي التَّفصيل بصور حيَّة متلاحقة تدلُّ على قدرته – سبحانه - ومنَّته على عباده مبتدئاً بقوله تعالى: {أنَّا صببنا الماءَ صباً} هذه الجملة المعجزة الَّتي بدأت بحرف التأكيد "أنَّ" وجاء اسمها نون العظمة المتصلة الدَّالة عليه -سبحانه- وجاء خبرها جملة فعليَّة فعلها ماضي زيادة في تأكيد حكم الإسناد، ومفعول الجملة {الماء} ثمَّ أّكِدَتْ مرةً ثالثة بالمصدر {صباً} تحمل الشَّيء الكثير من قدرة الله الَّتي لا تضاهيها قدرة.
وتتوالى النِّعم لتكتمل صورة القدرة الإلهية فيها بقوله تعالى: {ثمَّ شققنا الأرض شقاً. فأنبتنا فيها حباً. وعنباً وقضباً. وزيتوناً ونخلاً. وحدائق غُلباً. وفاكهة وأباً}. كُلُّ آية منها تحتاج إلى وقفة يطول فيها التَّأمل؛ ولكن لا يسعف المقام إلا للإشارات الطفيفة.
فنجده -سبحانه وتعالى- قدَّم ذكر الحَبِّ في الآية [27] على جميع النَّباتات الأخرى؛ التَّالية الذِّكر؛ لأنَّه قد يكون الأصل في الأغذية عامَّة ( ).
ثمَّ عطف عليه قوله تعالى: {وعنباً وقضاً} العنب: ثمرة الكرم ويؤكل رطباً، ويتخذ منه الزَّبيب، وكلاهما له منافع صحيَّة كثيرة
والقضب: الفصْفصة الرَّطبة، سميت قضباً؛ لأنَّها تعلف للدَّواب رطبة فتقضب، أي تقطع مرة بعد أخرى، ولا تزال تُخلف ما دام الماء ينزل عليها، وتسمى القَت.
والزيتون: الثَّمر الَّذي يعصر منه الزَّيت المعروف وهي شجرة مباركة ( ).
وخص في ذكر أنواع النَّبات ذكر النَّخيل دون ثمره؛ لأنَّ منافع شجر النَّخيل لا تقتصر على ثمره؛ بل ذكر اسم هذه الشَّجرة أجمع في الاستدلال بمختلف الأحوال، وإدماج للامتنان بوفرة النِّعم ( )، وخص هذه الأربعة لكثرة فوائدها ومنافعها ( ).
ثمَّ عمم بعد التَّخصيص بقوله تعالى: {وحدائق غلباً} ( ). والأصل في الوصف بالغُلب الرِّقاب الغليظة؛ فجاء هنا على سبيل الاستعارة المكنيَّة، أو على سبيل المجاز المرسل، كما أنَّ في الإسناد نفسه تجوزاً، فالحدائق ليست غليظة؛ بل الغليظ أشجارها ( ) لكن إسناد الغلظ للحديقة صوَّر كثرة تلك الأشجار حتَّى استحوذت على نظر الرائي لها. فعمت الصِّفة الحديقة برمتها.
وأجمل -سبحانه- أيضاً في قوله تعالى: {وفاكهة وأبَّاً} حيث ذكر ما يدخل فيها أولاً للاعتناء بشأنه ( ).
والفاكهة ما يتفكَّه فيه الإنسان من تين وعنب وخوخ ورمان وغير ذلك كثير.
والأب: ما تأكله البهائم والأنعام ( )؛ ولهذا جاء الالتفات إلى الإنسان بالخطاب في قوله تعالى: {متاعاً لكم ولأنعامكم} فقد خلقها الله وسخَّرها لكم، فمن نظر في هذه النِّعم، أوجب له ذلك شكر ربه، وبذل الجهد في الإنابة إليه، والإقبال على طاعته، والتَّصديق بأخباره ( )
والله أعلم وأحكم اللهم صل على نبينا "محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم.
ونلتقي بحول الله وقوته في الأسبوع القادم لتكملة دراسة سُّورة "عبس" المباركة
وأجمل -سبحانه- أيضاً في قوله تعالى: {وفاكهة وأبَّاً} حيث ذكر ما يدخل فيها أولاً للاعتناء بشأنه ( ).
والفاكهة ما يتفكَّه فيه الإنسان من تين وعنب وخوخ ورمان وغير ذلك كثير.
والأب: ما تأكله البهائم والأنعام ( )؛ ولهذا جاء الالتفات إلى الإنسان بالخطاب في قوله تعالى: {متاعاً لكم ولأنعامكم} فقد خلقها الله وسخَّرها لكم، فمن نظر في هذه النِّعم، أوجب له ذلك شكر ربه، وبذل الجهد في الإنابة إليه، والإقبال على طاعته، والتَّصديق بأخباره ( )
والله أعلم وأحكم اللهم صل على نبينا "محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم.
ونلتقي بحول الله وقوته في الأسبوع القادم لتكملة دراسة سُّورة "عبس" المباركة
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله رب العالمين عليه نتوكل وبه نستعين.
تكملة الجزء الأخير من "سورة عبس" المباركة
[33- 42]
بدأ المقطع الَّذي يحمل وصفاً لأهوال يوم القيامة بقوله تعالى: {فإذا جاءت الصَّاخة} فهو شروع في بيان أحوال معادهم إثر بيان مبدأ خلقهم ومعاشهم ( ).
هكذا نجد أن َّ هذه السُّورة المباركة استغرقت كُلَّ مراحل حياة الإنسان وما أنعم عليه ربُّه من نعم إلى أن وصل إلى يوم المعاد يوم {لا ينفع مالٌ ولا بينون إلا من أتى الله بقلب سليم}.
وعليه بدأ هذا المقطع بالـ(فاء) للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها من فنون النِّعم الَّتي مرت من قريب ( ).
وكان للفعل: {جاءت} المسند للصَّاخة أثرٌ بالغٌ في التَّنويه بقرب هذا الحدث؛ لأنَّ الفعل: "جاء" يدلُّ على القرب والتَّمكين والمسارعة. لذا قيل: المجيء يستعمل في الحصول مجازاً، شُبه حصول يوم الجزاء بشخص جاء من مكان آخر ( ).
يقول ابن عاشور: ففرَّع على ذلك إنذاراً بيوم الجزاء، مع مناسبة وقوع هذا الإنذار عقب التَّعريض والتَّصريح بالامتنان فيما سبق ( ).
و: {الصَّاخة} كلمة تدور مادتها حول: الصَّوت القوي ( )، والصَّاخة: اسم من أسماء القيامة، وذهب العكبري إلى أنَّها مأخوذة من قولهم: صاخَ فلان لصوت فلان: إذا استمع له، ولعل الصَّوت هو الصَّخ، فإن كان كذلك، فينبغي أن يكون ذلك لنَفخة الصُّور ( ).
وقال الزَّجاج: (تصخُّ الأسماع، أي: تصمَّها، فلا يسمع إلَّا ما يدعى فيه، لإحيائها) ( ).
ويقول ابن عطيَّة: {الصَّاخة}: اسم من أسماء القيامة، واللفظة في حقيقتها إنَّما هي لنفخة الصُّور الَّتي تصخ الآذان أي تصمها. ويستعمل هذا اللفظ في الدَّاهية الَّتي يصم نبؤها الآذان لصعوبته، وهذه استعارة، كذلك في الصَّيحة المفرطة الَّتي يصعب وقعها على الأذن ( ).
ويأتي قوله تعالى: {يوم يفر المرء من أخيه} بدل مطابق من قوله تعالى: {إذا جاءت الصَّاخة}، والفرار: الهروب للتخلص من مُخيف ( ).
هذه الجملة تصور مشهداً عظيماً من مشاهد يوم القيامة ويساعد على إحضار هذا المشهد في الذِّهن زمن الفعل المضارع: {يفر} بما فيه من قدرة على إحضار المشهد مع تكراره ليدل على اشتغال كُلِّ إنسان بنفسه ( ). يخبرنا المولى -جلَّ جلاله- بتخلي كُلِّ امرئٍ عن أقرب المقربين له لهول ما هو فيه ( ). فكُلٌّ يقول: نفسي نفسي مهما كانت صلته بالمستغيث.
وقد ذكر- سبحانه وتعالى- فرار المرء من القوم الَّذين معهودهم ألَّا يفر عنهم في الشَّدائد، ثمَّ رتبهم الأول فالأول محبة وحنو ( ). كذلك رتبها ابن عطيَّة.
ولابن عاشور رأي آخر في هذا التَّرتيب يقول: وبدأ -سبحانه- بالأخ ثمَّ بالأبوين؛ لقربهما منه، ثمَّ بالصَّاحبة والبنين؛ لأنهما أقرب وأحب ( ).
ويستوقفنا للتأمل ذكر المرأة بوصف الصَّاحبة دون وصف الزَّوج في قوله تعالى: {وصاحبته وبنيه}
قيل: ذلك للدلالة على القرب والملازمة، لأنَّ الزَّوجة قد لا تكون حسنة العشرة لزوجها؛ فلا يكون فراره منها كناية عن شِدَّة الهول، أمَّا وصف الصَّاحبة فيشعر بهول فرار الزَّوج منها ( ).
كما أنَّ فراره منها وليس العكس يدلُّ على أنَّه هو المسؤول في الحياة الدُّنيا عن نجاتها وبنيها، وعليه فهم يهرعون إليه عند الشَّدائد؛ لكن في ذلك الموقف العصيب يزهل كلُ واحدٍ عن أي أحد؛ وذلك مما يصور هوله وصعوبته.
ويأتي ذكر فرار المرء من الأقرباء الخمسة ليدل على فراره من كُلِّ قريب وهو دون أولئك في القرابة والصُّحبة ( ).
يشرح ذلك قوله تعالى: {لكُلِّ امرئٍ منهم يومئذ شأنٌ يُغنيه} فقد جاء بياناً واضحاً لسبب الفرار. فقد أشغلته نفسه واهتم لفكاكها، ولم يكن له التفات إلى غيرها ( ).
يؤكده تقديم الخبر {لكل امرئٍ} على المبتدأ {شأنٌ} ليتأتى تنكير المبتدأ: {شأنٌ} وفي تنكيره دلالة على تعظيم ذلك الشأن.
فحينئذ ينقسم الخلق إلى فريقين: سعداء، وأشقياء، لقوله تعالى: {وجوهٌ يومئذٍ مسفرة ضاحكة مستبشرة. ووجوهٌ يومئذٍ عليها غبرة ...} وهذا هو جواب الشَّرط "إذا" في قوله تعالى: {إذا جاءت الصَّاخة} أي: إذا جاءت الصَّاخة كان النَّاس صنفين صنف وجوههم مسفرة، وصنف وجوههم مغبرَّة.
ومن رحمته – سبحانه - قدَّم الحديث عن السُّعداء تكريماً لمقامهم واستعجالاً لبشرى المؤمنين؛ فجاء قوله تعالى: {وجُوُهٌ يومئذٍ مسفرة. ضاحكة مستبشرة}
صورة مفرحة مطمئنة تظهر فيها وجوه السُّعداء (قد ظهر فيها السُّرور والبهجة ممَّا عرفوا من نجاتهم وفوزهم بالنَّعيم المقيم) ( ).
ثمَّ عطف عليه قوله تعالى: {ووجوه يومئذٍ عليها غبرة. ترهقها قَتَرة} لتُظهر هذه المقابلة البون الشَّاسع بين هذين الفريقين؛ لما للمقابلة من قدرة على إيضاح تفاصيل الصُّورتين بشكل دقيق.
ونلحظ تنكير كلمة: {وجوه} الأول والثَّاني للتنويع وذلك مسوغ وقوعهما مبتدأ.
الحمد لله رب العالمين عليه نتوكل وبه نستعين.
تكملة الجزء الأخير من "سورة عبس" المباركة
[33- 42]
بدأ المقطع الَّذي يحمل وصفاً لأهوال يوم القيامة بقوله تعالى: {فإذا جاءت الصَّاخة} فهو شروع في بيان أحوال معادهم إثر بيان مبدأ خلقهم ومعاشهم ( ).
هكذا نجد أن َّ هذه السُّورة المباركة استغرقت كُلَّ مراحل حياة الإنسان وما أنعم عليه ربُّه من نعم إلى أن وصل إلى يوم المعاد يوم {لا ينفع مالٌ ولا بينون إلا من أتى الله بقلب سليم}.
وعليه بدأ هذا المقطع بالـ(فاء) للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها من فنون النِّعم الَّتي مرت من قريب ( ).
وكان للفعل: {جاءت} المسند للصَّاخة أثرٌ بالغٌ في التَّنويه بقرب هذا الحدث؛ لأنَّ الفعل: "جاء" يدلُّ على القرب والتَّمكين والمسارعة. لذا قيل: المجيء يستعمل في الحصول مجازاً، شُبه حصول يوم الجزاء بشخص جاء من مكان آخر ( ).
يقول ابن عاشور: ففرَّع على ذلك إنذاراً بيوم الجزاء، مع مناسبة وقوع هذا الإنذار عقب التَّعريض والتَّصريح بالامتنان فيما سبق ( ).
و: {الصَّاخة} كلمة تدور مادتها حول: الصَّوت القوي ( )، والصَّاخة: اسم من أسماء القيامة، وذهب العكبري إلى أنَّها مأخوذة من قولهم: صاخَ فلان لصوت فلان: إذا استمع له، ولعل الصَّوت هو الصَّخ، فإن كان كذلك، فينبغي أن يكون ذلك لنَفخة الصُّور ( ).
وقال الزَّجاج: (تصخُّ الأسماع، أي: تصمَّها، فلا يسمع إلَّا ما يدعى فيه، لإحيائها) ( ).
ويقول ابن عطيَّة: {الصَّاخة}: اسم من أسماء القيامة، واللفظة في حقيقتها إنَّما هي لنفخة الصُّور الَّتي تصخ الآذان أي تصمها. ويستعمل هذا اللفظ في الدَّاهية الَّتي يصم نبؤها الآذان لصعوبته، وهذه استعارة، كذلك في الصَّيحة المفرطة الَّتي يصعب وقعها على الأذن ( ).
ويأتي قوله تعالى: {يوم يفر المرء من أخيه} بدل مطابق من قوله تعالى: {إذا جاءت الصَّاخة}، والفرار: الهروب للتخلص من مُخيف ( ).
هذه الجملة تصور مشهداً عظيماً من مشاهد يوم القيامة ويساعد على إحضار هذا المشهد في الذِّهن زمن الفعل المضارع: {يفر} بما فيه من قدرة على إحضار المشهد مع تكراره ليدل على اشتغال كُلِّ إنسان بنفسه ( ). يخبرنا المولى -جلَّ جلاله- بتخلي كُلِّ امرئٍ عن أقرب المقربين له لهول ما هو فيه ( ). فكُلٌّ يقول: نفسي نفسي مهما كانت صلته بالمستغيث.
وقد ذكر- سبحانه وتعالى- فرار المرء من القوم الَّذين معهودهم ألَّا يفر عنهم في الشَّدائد، ثمَّ رتبهم الأول فالأول محبة وحنو ( ). كذلك رتبها ابن عطيَّة.
ولابن عاشور رأي آخر في هذا التَّرتيب يقول: وبدأ -سبحانه- بالأخ ثمَّ بالأبوين؛ لقربهما منه، ثمَّ بالصَّاحبة والبنين؛ لأنهما أقرب وأحب ( ).
ويستوقفنا للتأمل ذكر المرأة بوصف الصَّاحبة دون وصف الزَّوج في قوله تعالى: {وصاحبته وبنيه}
قيل: ذلك للدلالة على القرب والملازمة، لأنَّ الزَّوجة قد لا تكون حسنة العشرة لزوجها؛ فلا يكون فراره منها كناية عن شِدَّة الهول، أمَّا وصف الصَّاحبة فيشعر بهول فرار الزَّوج منها ( ).
كما أنَّ فراره منها وليس العكس يدلُّ على أنَّه هو المسؤول في الحياة الدُّنيا عن نجاتها وبنيها، وعليه فهم يهرعون إليه عند الشَّدائد؛ لكن في ذلك الموقف العصيب يزهل كلُ واحدٍ عن أي أحد؛ وذلك مما يصور هوله وصعوبته.
ويأتي ذكر فرار المرء من الأقرباء الخمسة ليدل على فراره من كُلِّ قريب وهو دون أولئك في القرابة والصُّحبة ( ).
يشرح ذلك قوله تعالى: {لكُلِّ امرئٍ منهم يومئذ شأنٌ يُغنيه} فقد جاء بياناً واضحاً لسبب الفرار. فقد أشغلته نفسه واهتم لفكاكها، ولم يكن له التفات إلى غيرها ( ).
يؤكده تقديم الخبر {لكل امرئٍ} على المبتدأ {شأنٌ} ليتأتى تنكير المبتدأ: {شأنٌ} وفي تنكيره دلالة على تعظيم ذلك الشأن.
فحينئذ ينقسم الخلق إلى فريقين: سعداء، وأشقياء، لقوله تعالى: {وجوهٌ يومئذٍ مسفرة ضاحكة مستبشرة. ووجوهٌ يومئذٍ عليها غبرة ...} وهذا هو جواب الشَّرط "إذا" في قوله تعالى: {إذا جاءت الصَّاخة} أي: إذا جاءت الصَّاخة كان النَّاس صنفين صنف وجوههم مسفرة، وصنف وجوههم مغبرَّة.
ومن رحمته – سبحانه - قدَّم الحديث عن السُّعداء تكريماً لمقامهم واستعجالاً لبشرى المؤمنين؛ فجاء قوله تعالى: {وجُوُهٌ يومئذٍ مسفرة. ضاحكة مستبشرة}
صورة مفرحة مطمئنة تظهر فيها وجوه السُّعداء (قد ظهر فيها السُّرور والبهجة ممَّا عرفوا من نجاتهم وفوزهم بالنَّعيم المقيم) ( ).
ثمَّ عطف عليه قوله تعالى: {ووجوه يومئذٍ عليها غبرة. ترهقها قَتَرة} لتُظهر هذه المقابلة البون الشَّاسع بين هذين الفريقين؛ لما للمقابلة من قدرة على إيضاح تفاصيل الصُّورتين بشكل دقيق.
ونلحظ تنكير كلمة: {وجوه} الأول والثَّاني للتنويع وذلك مسوغ وقوعهما مبتدأ.
وإعادة {يومئذٍ} لتأكيد الرَّبط بالشَّرط وجوابه، ولطول الفصل بينهما والتَّقدير وجوه مسفرة يوم يفرُّ المرء من أخيه إلى آخره؛ وعليه فقد أغنت إعادة {يومئذٍ} عن ربط الجواب بالـ(فاء) ( ).
وإخباره -عزَّ وجل- عن وجوه المؤمنين السُّعداء بأنَّها مسفرة أي: ذات إسفار، والإسفار النَّور والضياء، يقال: أسفر الصُّبحُ، إذا ظهر ضوء الشَّمس في أفق الفجر، أي وجوه متهللة فرحاً وعليها أثر النَّعيم ( ).
ويزيد تصوير سعاتهم وصفها بقوله تعالى: {ضاحكةٌ} كناية عن السُّرور.
وقوله تعالى: {مستبشرة} الَّذي يصور فَرحة الأمل فيما عند الله من نعيم.
قيل: "السِّين والتاء" فيه للمبالغة في الوصف مثل: استجاب، ويقال: بَشَر، أي فَرِحَ وسُرَّ، وهذه هي وجوه أهل الجنَّة المطمئنين بالاً المكرمين عَرْضاً وحُضوراً ( ). اللهم إنَّا نسألك من فضلك يا كريم.
وأمَّا أهل الشَّقاء الأخروي - أعاذنا الله من ذلك والمسلمين أجمعين- فوجوههم في ذلك اليوم على النَّقيض: {عليها غبرة. ترهقها قترة}.
قيل الغَبَرة: الغبار كُلُّه، والمراد هنا أنَّها معفرَّة بالغبار إهانة لهم وقيل ذلك من أثر الكَبوات، وعليه يقول تعالى: {ترهقها} أي: تغالبها وتتعبها.
فما هي القترة؟ قيل القَتَرة: بفتحتين شِبه دخان يغشى الوجه من الكرب والغم ( ).
ويقول السَّعدي: فهي سوداء مظلمة مدلهمَّة قد أيست من كُلِّ خير، وعرفت شقاءها وهلاكها ( ). نسأل الله اللطف والسَّلامة من سوء المصير.
وقد خُصتْ هذه الوجوه بأنَّها وجوه الكفرة الفجرة في قوله تعالى: {أولئك هُمُ الكفرةُ الفجرةُ} زيادة في تشهير حالهم الفظيع للسامعين.
فجيء باسم الإشارة {أُولئك} في مطلع الآية لزيادة الإيضاح مع تصوير بعدهم في الغي بما دلت عليه صيغة البعد فيه.
ووقع ضمير الفصل: {هم} لإفادة تَّقوي إسناد الحكم لهم. فهم خاصة لا غيرهم
وقد أُتبع وصف (الكفرة) بوصف (الفجرة) مع أنَّ الأول أفظع من الثَّاني؛ لأنَّ الكفر يدلُّ على فساد الاعتقاد، والفجور يدلُّ على فساد العمل وعلى خساسته، وهؤلاء قد جمعوا هذين الوصفين بدلالة ترك العطف بينهما ( ).
لكنَّ كفرهم وإن عظم وباله عليهم لا يتعدهم؛ أمَّا فسادهم فقد يتعدى ضرره الأرض ومن فيها وعليه جاء بعد الكفر.
والله أعلم وأحكم
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا
وإخباره -عزَّ وجل- عن وجوه المؤمنين السُّعداء بأنَّها مسفرة أي: ذات إسفار، والإسفار النَّور والضياء، يقال: أسفر الصُّبحُ، إذا ظهر ضوء الشَّمس في أفق الفجر، أي وجوه متهللة فرحاً وعليها أثر النَّعيم ( ).
ويزيد تصوير سعاتهم وصفها بقوله تعالى: {ضاحكةٌ} كناية عن السُّرور.
وقوله تعالى: {مستبشرة} الَّذي يصور فَرحة الأمل فيما عند الله من نعيم.
قيل: "السِّين والتاء" فيه للمبالغة في الوصف مثل: استجاب، ويقال: بَشَر، أي فَرِحَ وسُرَّ، وهذه هي وجوه أهل الجنَّة المطمئنين بالاً المكرمين عَرْضاً وحُضوراً ( ). اللهم إنَّا نسألك من فضلك يا كريم.
وأمَّا أهل الشَّقاء الأخروي - أعاذنا الله من ذلك والمسلمين أجمعين- فوجوههم في ذلك اليوم على النَّقيض: {عليها غبرة. ترهقها قترة}.
قيل الغَبَرة: الغبار كُلُّه، والمراد هنا أنَّها معفرَّة بالغبار إهانة لهم وقيل ذلك من أثر الكَبوات، وعليه يقول تعالى: {ترهقها} أي: تغالبها وتتعبها.
فما هي القترة؟ قيل القَتَرة: بفتحتين شِبه دخان يغشى الوجه من الكرب والغم ( ).
ويقول السَّعدي: فهي سوداء مظلمة مدلهمَّة قد أيست من كُلِّ خير، وعرفت شقاءها وهلاكها ( ). نسأل الله اللطف والسَّلامة من سوء المصير.
وقد خُصتْ هذه الوجوه بأنَّها وجوه الكفرة الفجرة في قوله تعالى: {أولئك هُمُ الكفرةُ الفجرةُ} زيادة في تشهير حالهم الفظيع للسامعين.
فجيء باسم الإشارة {أُولئك} في مطلع الآية لزيادة الإيضاح مع تصوير بعدهم في الغي بما دلت عليه صيغة البعد فيه.
ووقع ضمير الفصل: {هم} لإفادة تَّقوي إسناد الحكم لهم. فهم خاصة لا غيرهم
وقد أُتبع وصف (الكفرة) بوصف (الفجرة) مع أنَّ الأول أفظع من الثَّاني؛ لأنَّ الكفر يدلُّ على فساد الاعتقاد، والفجور يدلُّ على فساد العمل وعلى خساسته، وهؤلاء قد جمعوا هذين الوصفين بدلالة ترك العطف بينهما ( ).
لكنَّ كفرهم وإن عظم وباله عليهم لا يتعدهم؛ أمَّا فسادهم فقد يتعدى ضرره الأرض ومن فيها وعليه جاء بعد الكفر.
والله أعلم وأحكم
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله رب العالمين عليه نتوكل وبه نستعين
سورة النَّازعات
سُمِّيتْ هذه السُّورة المباركة في المصاحف وأكثر التَّفاسير "سورة النَّازعات"، واشتملت على إثبات البعث والجزاء، وإبطال إحالة المشركين وقوعه، وتهويل يومه وما يعتري النَّاس حينئذ من الوهل ( ).
ابتدأت بالقسم بمخلوقات ذات صفات عظيمة، وهو قسمٌ مراد منه تحقيق ما بعده من الخبر، وفي هذا القسم تهويل المقسم به ( ).
يقول السَّعدي: هذه الإقسامات بالملائكة الكرام، وأفعالهم الدَّالة على كمال انقيادهم لأمر الله، وإسراعهم في تنفيذ أمره ( ).
وهذه الأمور الخمسة المقسم بها جُموع جرى لفظها على صيغة الجمع بألف وتاء، لأنَّها في تأويل جَماعات تتحقق فيه الصِّفات المجموعة، فهي جماعات، نازعات، ناشطات، سابحات، سابقات، مدبرات، فتلك صفات لموصوفات محذوفة تدلُّ عليها الأوصاف الصَّالحة لها، والَّذي يقتضيه غالب الاستعمال أنَّ المتعاطفات بـ(الواو) صفات مستقلَّة مستعملة لموصوفات مختلفة أنواع أو أصناف، أو لموصوف واحد له أحوال متعددة ( ).
وعيله قيل في قوله تعالى: {والنَّازعات غرقاً}: هم الملائكة الَّتي تنزع الأرواح بقوة، وتغرق في نزعها حتَّى تخرج الرُّوح، فتجازى بعملها ( ).
ويؤكده اسم المصدر: {غرقا} وهو هنا مفعول مطلق للنازعات، أي: (نزعاً غرقاً) أي: نزعاً مغرقاً؛ لأنَّه نزعٌ للأرواح من أقاصي الأجساد، وعليه سُميت لحظات الموت بالنِّزاع. أو النَّزع الأخير.
فالقسم على هذا الوجه مناسب للغرض الأهم من السُّورة؛ وهو إثبات البعث؛ لأنَّ الموت أول منازل الآخرة؛ فهذا من براعة الاستهلال ( ).
ويأتي العطف عليه بقوله تعالى: {والنَّاشطات نشطاً} جاء عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما-: {النَّاشطات} الملائكة تُنشط نفوس المؤمنين، وعنه أيضاً هي: نفوس المؤمنين تَنشط للخروج ( ).
يقول السَّعدي: أو أنَّ النَّزع يكون لأرواح المؤمنين، والنَّشط لأرواح الكفار ( ). والأول أولى لدلالة السِّياق عليه فهما وصفان متقابلان الأول: نزع بشِدَّة والآخر: نشاط بخفة، فيكون النَّزع غرقاً لأرواح الكُفَّار، والنَّشط بخفة لأرواح المؤمنين، وقد جاء ذلك مفسراً في كثير من الآيات ( ).
ويعطف عليه قوله تعالى: {والسَّابحات سبحاً} أرجح ما قيل: أنَّ: {السَّابحات} الملائكة المترددات في الهواء صعوداً ونزولاً ( ).
فالآية الكريمة ترسم جزءاً من صُّورة النِّهاية الحتميَّة لكُلِّ البشر؛ فبعد نزع الرُّوح إمَّا نزعاً لأرواح الكفرة، أو نشطاً لأرواح المؤمنين، يسبح بها الملائكة في الهواء إلى ما أمرت به.
وبما أنَّ السَّبح: العوم في الماء، أُعتُبر أنَّ هذه الصُّورة مبنيَّة على الاستعارة التبعيَّة حيث أطلق المشبه به "السَّبح" على المشبه، وهو صعود الملائكة في الهواء، واستعير منه لفظ: {السَّابحات} تقريباً لهذا الحدث الَّذي يحكي جانباً من عالم الغيب.
وجاء قوله تعالى: {فالسَّابقات سبقاً} كناية عن الإسراع، وقد قيل: إنَّه لا يستدعي مسبوقاً ( ).
يقول السَّعدي: {فالسَّابقات} لغيرها {سبقاً} فتبادر لأمر الله، وتسبق الشَّياطين في إيصال الوحي إلى رُسل الله حتَّى لا تسترقه. فخصصه – رحمه الله- بحملة الوحي.
لكنَّ الأول أنسب للسياق، وذلك لعطف الآية بحرف الـ(فاء) الَّذي يؤذن بأنَّ هذه الصِّفة متفرعة عمَّا قبلها - والله أعلم وأحكم-.
كما يأتي العطف بحرف الـ(فاء) لقوله تعالى: {فالمدبرات أمراً} أسند التَّدبرُ إلى الملائكة -عليهم سلام الله- على سبيل المجاز؛ وذلك لأنَّ الله -عزَّ وجلَّ-هو المدبِّر لكُلِّ أمر، فهو المدبِّر للعقاب والثَّواب ولجميع الأشياء وليس الملائكة ( ). فيكون ذلك من إسناد الشَّيء إلى سببه ( ). ويكون إسناد التَّدبير للملائكة بمعنى تدبيرها تنفيذ ما نيط بعهدتها على أكمل ما أُذنت به؛ فيشبه فعل المدبر المتثبِّت ( ).
يؤيد ذلك السِّعدي بقوله: الملائكة الَّذين وكَّلَهم الله أن يدبروا كثيراً من أمور العالم العلوي والسُّفلي، من الأمطار، والنَّباتات، والأشجار، والرِّياح، والسَّحاب، والأجنَّة والحيوانات، والجنَّة والنَّار وغير ذك ( ).
وبما أنَّ لكُلِّ قسم جواباً جاءت جملة: {يوم ترجف الرَّاجفة} جواباً لكُلِ تلك الأقسام الخمسة -على رأي بعض المفسرين- وفي ذلك تهويل ليوم البعث، وفي طيَّاتها تحقيق لوقوعه، وبذلك يحصل في الكلام إيجاز جامع بين الإنذار بوقوعه والتَّحذير مما يجري فيه ( ). ولكنَّ بعض المفسرين أعتبرها جملة مقرر لمضمون الجواب المضمر ( ). المحذوف الَّذي تقديره: لتُبعثنَّ ( ).
وقُدِّم في جملة: {يوم تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} الظرف: {يوم} على متعلقه الفعل: {تَرْجُفُ}؛ لأنه هو الأهم في جواب القسم؛ فهو المقصود إثبات وقوعه؛ فقدم للاهتمام والعناية به ( ).
الحمد لله رب العالمين عليه نتوكل وبه نستعين
سورة النَّازعات
سُمِّيتْ هذه السُّورة المباركة في المصاحف وأكثر التَّفاسير "سورة النَّازعات"، واشتملت على إثبات البعث والجزاء، وإبطال إحالة المشركين وقوعه، وتهويل يومه وما يعتري النَّاس حينئذ من الوهل ( ).
ابتدأت بالقسم بمخلوقات ذات صفات عظيمة، وهو قسمٌ مراد منه تحقيق ما بعده من الخبر، وفي هذا القسم تهويل المقسم به ( ).
يقول السَّعدي: هذه الإقسامات بالملائكة الكرام، وأفعالهم الدَّالة على كمال انقيادهم لأمر الله، وإسراعهم في تنفيذ أمره ( ).
وهذه الأمور الخمسة المقسم بها جُموع جرى لفظها على صيغة الجمع بألف وتاء، لأنَّها في تأويل جَماعات تتحقق فيه الصِّفات المجموعة، فهي جماعات، نازعات، ناشطات، سابحات، سابقات، مدبرات، فتلك صفات لموصوفات محذوفة تدلُّ عليها الأوصاف الصَّالحة لها، والَّذي يقتضيه غالب الاستعمال أنَّ المتعاطفات بـ(الواو) صفات مستقلَّة مستعملة لموصوفات مختلفة أنواع أو أصناف، أو لموصوف واحد له أحوال متعددة ( ).
وعيله قيل في قوله تعالى: {والنَّازعات غرقاً}: هم الملائكة الَّتي تنزع الأرواح بقوة، وتغرق في نزعها حتَّى تخرج الرُّوح، فتجازى بعملها ( ).
ويؤكده اسم المصدر: {غرقا} وهو هنا مفعول مطلق للنازعات، أي: (نزعاً غرقاً) أي: نزعاً مغرقاً؛ لأنَّه نزعٌ للأرواح من أقاصي الأجساد، وعليه سُميت لحظات الموت بالنِّزاع. أو النَّزع الأخير.
فالقسم على هذا الوجه مناسب للغرض الأهم من السُّورة؛ وهو إثبات البعث؛ لأنَّ الموت أول منازل الآخرة؛ فهذا من براعة الاستهلال ( ).
ويأتي العطف عليه بقوله تعالى: {والنَّاشطات نشطاً} جاء عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما-: {النَّاشطات} الملائكة تُنشط نفوس المؤمنين، وعنه أيضاً هي: نفوس المؤمنين تَنشط للخروج ( ).
يقول السَّعدي: أو أنَّ النَّزع يكون لأرواح المؤمنين، والنَّشط لأرواح الكفار ( ). والأول أولى لدلالة السِّياق عليه فهما وصفان متقابلان الأول: نزع بشِدَّة والآخر: نشاط بخفة، فيكون النَّزع غرقاً لأرواح الكُفَّار، والنَّشط بخفة لأرواح المؤمنين، وقد جاء ذلك مفسراً في كثير من الآيات ( ).
ويعطف عليه قوله تعالى: {والسَّابحات سبحاً} أرجح ما قيل: أنَّ: {السَّابحات} الملائكة المترددات في الهواء صعوداً ونزولاً ( ).
فالآية الكريمة ترسم جزءاً من صُّورة النِّهاية الحتميَّة لكُلِّ البشر؛ فبعد نزع الرُّوح إمَّا نزعاً لأرواح الكفرة، أو نشطاً لأرواح المؤمنين، يسبح بها الملائكة في الهواء إلى ما أمرت به.
وبما أنَّ السَّبح: العوم في الماء، أُعتُبر أنَّ هذه الصُّورة مبنيَّة على الاستعارة التبعيَّة حيث أطلق المشبه به "السَّبح" على المشبه، وهو صعود الملائكة في الهواء، واستعير منه لفظ: {السَّابحات} تقريباً لهذا الحدث الَّذي يحكي جانباً من عالم الغيب.
وجاء قوله تعالى: {فالسَّابقات سبقاً} كناية عن الإسراع، وقد قيل: إنَّه لا يستدعي مسبوقاً ( ).
يقول السَّعدي: {فالسَّابقات} لغيرها {سبقاً} فتبادر لأمر الله، وتسبق الشَّياطين في إيصال الوحي إلى رُسل الله حتَّى لا تسترقه. فخصصه – رحمه الله- بحملة الوحي.
لكنَّ الأول أنسب للسياق، وذلك لعطف الآية بحرف الـ(فاء) الَّذي يؤذن بأنَّ هذه الصِّفة متفرعة عمَّا قبلها - والله أعلم وأحكم-.
كما يأتي العطف بحرف الـ(فاء) لقوله تعالى: {فالمدبرات أمراً} أسند التَّدبرُ إلى الملائكة -عليهم سلام الله- على سبيل المجاز؛ وذلك لأنَّ الله -عزَّ وجلَّ-هو المدبِّر لكُلِّ أمر، فهو المدبِّر للعقاب والثَّواب ولجميع الأشياء وليس الملائكة ( ). فيكون ذلك من إسناد الشَّيء إلى سببه ( ). ويكون إسناد التَّدبير للملائكة بمعنى تدبيرها تنفيذ ما نيط بعهدتها على أكمل ما أُذنت به؛ فيشبه فعل المدبر المتثبِّت ( ).
يؤيد ذلك السِّعدي بقوله: الملائكة الَّذين وكَّلَهم الله أن يدبروا كثيراً من أمور العالم العلوي والسُّفلي، من الأمطار، والنَّباتات، والأشجار، والرِّياح، والسَّحاب، والأجنَّة والحيوانات، والجنَّة والنَّار وغير ذك ( ).
وبما أنَّ لكُلِّ قسم جواباً جاءت جملة: {يوم ترجف الرَّاجفة} جواباً لكُلِ تلك الأقسام الخمسة -على رأي بعض المفسرين- وفي ذلك تهويل ليوم البعث، وفي طيَّاتها تحقيق لوقوعه، وبذلك يحصل في الكلام إيجاز جامع بين الإنذار بوقوعه والتَّحذير مما يجري فيه ( ). ولكنَّ بعض المفسرين أعتبرها جملة مقرر لمضمون الجواب المضمر ( ). المحذوف الَّذي تقديره: لتُبعثنَّ ( ).
وقُدِّم في جملة: {يوم تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} الظرف: {يوم} على متعلقه الفعل: {تَرْجُفُ}؛ لأنه هو الأهم في جواب القسم؛ فهو المقصود إثبات وقوعه؛ فقدم للاهتمام والعناية به ( ).
قيل: الرَّاجفة: هي النَّفخة الأولى – على أحد وجوه تفسيرها- على المجاز ( ) المرسل؛ لأنَّها سبب الرَّجف ( ). وقد زاد من هول الرَّجف الجِّناس الاشتقاقي البارز بين قوله تعالى: {ترجف} و{الرَّاجفَة} ( ).
والرَّجف: الاضطراب والاهتزاز، ويجوز أن يكون إسناد: {ترجف} إلى :{الرَّاجفة} حقيقياً فالمراد بـ{الرَّاجفة}: الأرض؛ لأنَّها تضطرب وتهتز بالزلازل الَّتي تحصل عند فناء العالم الدُّنيوي، والمصير إلى العالم الأخروي؛ قال تعالى في سورة [المزمل:14] {يوم ترجف الأرض والجبال}، وقال في سورة الواقعة: {إذا رجت الأرض رجاً}. والمراد بها – والله أعلم- الصَّيحة والزلزلة الَّتي ترجف الأرض بسببها جعلت هي الرَّاجفة مبالغة كقولهم: عيشة راضية ( ). أي: عيشة مرضيَّة. أو مرضيٌ عنها
وحينئذ: {تتبعُها الرَّادفة} وهي: رجفة أخرى تتبع الرَّجفة السَّابقة، فجملة: {تتبعها الرَّادفة} حال من: {الرَّاجفة}
ثمَّ جاء الآيات التَّالية لتفصِّل بعض أحوال الإنسان في ذلك اليوم العصيب، ويبدأها المولى -عزَّ وجل- بأحوال القلوب؛ لأنها ملاك الإنسان ولبِّه، ومقر صلاحه وفساده.
قال تعالى: {قلوبٌ يومئذٍ واجفة} كُلُّ كلمة في هذه الآية تستحق وقفة تأمل طويلة لو كان في المقام سَعة؛ ولكن نختصر بقولنا إن هذه الجملة اسميَّة تحمل التَّأكيد، وتنكير المبتدأ: {قلوبٌ} للتَّكثير، أي: قلوبٌ كثيرةٌ، وجاء وقوعه نكرة لإرادة النوعيَّة. وقد أُكِّدَ ذلك بالظرف {يومئذٍ} أي: {يوم ترجف الرَّاجفة} فحصلت عناية عظيمة بهذا الخبر ( ).
ويأتي خبر الجملة بقوله تعالى: {واجفةٌ} أي: مضطربة من شِدَّة الخوف، وكيف لا، وكُلُّ ما في تلك الأحداث مما يستوجب الخوف الشَّديد.
والخوف يومئذٍ وإن كان لا يخلو منه أحد إلا أنَّ أشِدَّه خوفُ الَّذين يوقنون بسوء المصير، ويعلمون أنَّهم كانوا ضالين مضلين في الحياة الدُّنيا.
ويُظهر ما هو مخبأ في القلوب عياناً الخبر الثَّاني عن القلوب بقوله تعالى: {أبصارُها خاشعة} فقد زاد الوجيف بياناً. فالمعنى: أبصار أصحاب القلوب الواجفة.
والخشوع حقيقته: الخضوع والتَّذلل؛ وهو هيئة للإنسان، ووصف الأبصار به صوَّر شِدة الهلع والخوف من فظيع ما تشاهده من سوء المصير ( ).
وقد أضيفت الأبصار لضمير القلوب مع أنَّ القلوب لا أبصار لها وذلك على تقدير مضاف هو: أبصار أصحابها، بدليل قوله تعالى: {يقولون...}؛ وذلك لأنَّها محل الخوف وهو من أحوالها وخواصِّها ( ).
ويأتي الاستئناف البياني بقوله تعالى: {يقولون أءنا لمردودون في الحافرة} رداً على سؤال أثاره القسم وما بعده في نفس السَّامع عن الدَّاعي لهذا القسم فأوجب الإجابة بـ{يقولون أئنا لمردودون في الحافرة. أءذا كنا عظاماً نخره}. وذلك حكاية عمَّا كانوا ينكرونه في حياتهم الدَّنيا على جهة الاستخفاف والتَّعجل والتَّكذيب ( ).
وقد جعل استفهامهم {أإنا...} داخلاَ على جملة اسميَّة مؤكدة، مما يعكس قوة تعجب المشركين وإنكارهم؛ وذلك لما للجملة الاسميَّة من قوة في التَّأكيد.
ويستوقفنا للتأمل أن تأتي هذه الحاكية على لسانهم بزمن المضارع في قوله تعالى: {يقولون ...}، وذلك - والله أعلم- لإفادة أنَّهم مستمرون عليه، وأنَّه متجدد فيهم، وكذا للإشعار بما في المضارع من استحضار حالهم بتكرار هذا القول ليكون ذلك كناية عن التَّعجب ( ).
والحافرة هي: الحياة، وأصلها: من رجع فلان في حافرته، أي: طريقه الَّتي جاء فيها، والطَّريق في الحقيقة محفورة؛ إلَّا أنَّها سميت حافرة على الإسناد المجازي، أو على النِّسبة أي: ذات حفر ( ). أو على الاستعارة المكنيَّة بتشبيه القابل للحفر فاعلاً، وجعل الحافرة تخييلاً ( ).
ويزداد الإنكار مع الاستفهام الثَّاني في قوله تعالى: {أءذا كنا عظاماً نخرة} هذه الآية دلَّت على أنَّ المراد بالحافرة: العودة إلى الحياة مرة أخرى.
والعظام النَّخرة: البالية، الَّتي تخللها الرِّيح، ونخر الرِّيح شِدَّة صوتها، ومن ذلك المنخرُ؛ لأخذ الهواء منه ( ).
ويتضح مزيد سخريتهم واستهزائهم في قوله تعالى: {قالوا تلك إذاً كرَّةٌ خاسرةٌ} هذه الجملة بدل الاشتمال من جملة ( ): {يقولون أءنا لمردودون في الحافرة}.
فجاء ت: {قالوا تلك إذن كرَّةٌ خاسرة} حكاية لكفر آخر منهم متفرِّع على كفرهم السَّابق، ولعل توسط: {قالوا} بينهما للإيذان بأنَّ صدور هذا الكفر عنهم ليس بطريق الاطراد والاستمرار مثل كفرهم السَّابق المستمر صدوره عنهم في كافة أوقاتهم حسبما ينبئ عنه حكايته بصيغة المضارع ( ). في قولهم السَّابق [الآية:10].
و {تلك} اسم إشارة إلى الرَّدة في قولهم: {مردودون}، والحرف: {إذن} جواب للكلام المتقدم، والتَّقدير: إذن تلك كرَّة خاسرة فقدم {تلك} على حرف الجواب للعناية بالإشارة.
والرَّجف: الاضطراب والاهتزاز، ويجوز أن يكون إسناد: {ترجف} إلى :{الرَّاجفة} حقيقياً فالمراد بـ{الرَّاجفة}: الأرض؛ لأنَّها تضطرب وتهتز بالزلازل الَّتي تحصل عند فناء العالم الدُّنيوي، والمصير إلى العالم الأخروي؛ قال تعالى في سورة [المزمل:14] {يوم ترجف الأرض والجبال}، وقال في سورة الواقعة: {إذا رجت الأرض رجاً}. والمراد بها – والله أعلم- الصَّيحة والزلزلة الَّتي ترجف الأرض بسببها جعلت هي الرَّاجفة مبالغة كقولهم: عيشة راضية ( ). أي: عيشة مرضيَّة. أو مرضيٌ عنها
وحينئذ: {تتبعُها الرَّادفة} وهي: رجفة أخرى تتبع الرَّجفة السَّابقة، فجملة: {تتبعها الرَّادفة} حال من: {الرَّاجفة}
ثمَّ جاء الآيات التَّالية لتفصِّل بعض أحوال الإنسان في ذلك اليوم العصيب، ويبدأها المولى -عزَّ وجل- بأحوال القلوب؛ لأنها ملاك الإنسان ولبِّه، ومقر صلاحه وفساده.
قال تعالى: {قلوبٌ يومئذٍ واجفة} كُلُّ كلمة في هذه الآية تستحق وقفة تأمل طويلة لو كان في المقام سَعة؛ ولكن نختصر بقولنا إن هذه الجملة اسميَّة تحمل التَّأكيد، وتنكير المبتدأ: {قلوبٌ} للتَّكثير، أي: قلوبٌ كثيرةٌ، وجاء وقوعه نكرة لإرادة النوعيَّة. وقد أُكِّدَ ذلك بالظرف {يومئذٍ} أي: {يوم ترجف الرَّاجفة} فحصلت عناية عظيمة بهذا الخبر ( ).
ويأتي خبر الجملة بقوله تعالى: {واجفةٌ} أي: مضطربة من شِدَّة الخوف، وكيف لا، وكُلُّ ما في تلك الأحداث مما يستوجب الخوف الشَّديد.
والخوف يومئذٍ وإن كان لا يخلو منه أحد إلا أنَّ أشِدَّه خوفُ الَّذين يوقنون بسوء المصير، ويعلمون أنَّهم كانوا ضالين مضلين في الحياة الدُّنيا.
ويُظهر ما هو مخبأ في القلوب عياناً الخبر الثَّاني عن القلوب بقوله تعالى: {أبصارُها خاشعة} فقد زاد الوجيف بياناً. فالمعنى: أبصار أصحاب القلوب الواجفة.
والخشوع حقيقته: الخضوع والتَّذلل؛ وهو هيئة للإنسان، ووصف الأبصار به صوَّر شِدة الهلع والخوف من فظيع ما تشاهده من سوء المصير ( ).
وقد أضيفت الأبصار لضمير القلوب مع أنَّ القلوب لا أبصار لها وذلك على تقدير مضاف هو: أبصار أصحابها، بدليل قوله تعالى: {يقولون...}؛ وذلك لأنَّها محل الخوف وهو من أحوالها وخواصِّها ( ).
ويأتي الاستئناف البياني بقوله تعالى: {يقولون أءنا لمردودون في الحافرة} رداً على سؤال أثاره القسم وما بعده في نفس السَّامع عن الدَّاعي لهذا القسم فأوجب الإجابة بـ{يقولون أئنا لمردودون في الحافرة. أءذا كنا عظاماً نخره}. وذلك حكاية عمَّا كانوا ينكرونه في حياتهم الدَّنيا على جهة الاستخفاف والتَّعجل والتَّكذيب ( ).
وقد جعل استفهامهم {أإنا...} داخلاَ على جملة اسميَّة مؤكدة، مما يعكس قوة تعجب المشركين وإنكارهم؛ وذلك لما للجملة الاسميَّة من قوة في التَّأكيد.
ويستوقفنا للتأمل أن تأتي هذه الحاكية على لسانهم بزمن المضارع في قوله تعالى: {يقولون ...}، وذلك - والله أعلم- لإفادة أنَّهم مستمرون عليه، وأنَّه متجدد فيهم، وكذا للإشعار بما في المضارع من استحضار حالهم بتكرار هذا القول ليكون ذلك كناية عن التَّعجب ( ).
والحافرة هي: الحياة، وأصلها: من رجع فلان في حافرته، أي: طريقه الَّتي جاء فيها، والطَّريق في الحقيقة محفورة؛ إلَّا أنَّها سميت حافرة على الإسناد المجازي، أو على النِّسبة أي: ذات حفر ( ). أو على الاستعارة المكنيَّة بتشبيه القابل للحفر فاعلاً، وجعل الحافرة تخييلاً ( ).
ويزداد الإنكار مع الاستفهام الثَّاني في قوله تعالى: {أءذا كنا عظاماً نخرة} هذه الآية دلَّت على أنَّ المراد بالحافرة: العودة إلى الحياة مرة أخرى.
والعظام النَّخرة: البالية، الَّتي تخللها الرِّيح، ونخر الرِّيح شِدَّة صوتها، ومن ذلك المنخرُ؛ لأخذ الهواء منه ( ).
ويتضح مزيد سخريتهم واستهزائهم في قوله تعالى: {قالوا تلك إذاً كرَّةٌ خاسرةٌ} هذه الجملة بدل الاشتمال من جملة ( ): {يقولون أءنا لمردودون في الحافرة}.
فجاء ت: {قالوا تلك إذن كرَّةٌ خاسرة} حكاية لكفر آخر منهم متفرِّع على كفرهم السَّابق، ولعل توسط: {قالوا} بينهما للإيذان بأنَّ صدور هذا الكفر عنهم ليس بطريق الاطراد والاستمرار مثل كفرهم السَّابق المستمر صدوره عنهم في كافة أوقاتهم حسبما ينبئ عنه حكايته بصيغة المضارع ( ). في قولهم السَّابق [الآية:10].
و {تلك} اسم إشارة إلى الرَّدة في قولهم: {مردودون}، والحرف: {إذن} جواب للكلام المتقدم، والتَّقدير: إذن تلك كرَّة خاسرة فقدم {تلك} على حرف الجواب للعناية بالإشارة.
والكرَّة: الواحدة من الكرِّ، وهو الرُّجوع بعد الذَّهاب، أي رجْعة. ووصفها بـ(الخاسرة) مجاز عقلي؛ للمبالغة؛ لأنَّ الخاسر أصحابها، والمعنى: إنَّا إذن خاسرون لتكذيبنا وتبيُّن صدق الَّذي أنذرنا بتلك الرَّجعة ( ).
يقول السِّعدي: أي استبعدوا أن يبعثهم الله ويعيدهم بعدما كانوا عظاماً نخرة جهلاً منهم بقدرة الله - تعالى وتقدس- وتجرُّءً عليه ( ).
فقال تعالى في بيان سهولة هذا الأمر عليه وتفريع للقولين السَّابقين: {فإنَّما هي زجرةٌ واحدة}، بنيت هذه الجملة على القصر لتدل على قوة تأكيد الحدث، وجاء القصر فيها حقيقي، مقصود منه تأكيد الخبر بتنزيل السَّامعين منزلة من يعتقدون أنَّ زجرة واحدة غير كافية لإحيائهم ( ). وذلك مما دلَّ عليه أداة القصر "إنَّما"
ثمَّ فرَّع عليه قوله تعالى: {فإذا هم بالسَّاهرة} تصدرت هذه الجملة فاء التَّفريع ، و "إذا" الفجائيَّة وذلك لتصوير حالتهم النَّفسيَّة عندما سُقِطَ في أيديهم وشاهدوا بأم عينهم حقيقة ما كانوا مستبعدين حصوله، (فكان الجمع بين المفاجأة والتَّفريع أشدَّ ما يعبر به عن السُّرعة مع إيجاز اللفظ) ( ).
و{السَّاهرة}: هي الأرض المستوية البيضاء، الَّتي لا نبات فيها يُختار مثلُها لاجتماع الجموع ووضع المغانم. وأريد بها أرض يجعلها الله تعالى لجمع النَّاس للحشر ( ).
وقد قيل: إنَّ إسناد السَّهر للأرض مجاز عقلي؛ لأنَّ السَّائر فيها لا ينام خوف الهلكة ( ).
وقيل: مجاز مرسل علاقته المكانيَّة؛ لأنَّ الأرض لا تسهر وإنَّما يسهر النَّاس عليها ( ).
والله أعلم وأحكم وصلى الله على نبينا "محمد" وعلى آله وصحبه وسلم.
ونلتقي بإذن الله في الأسبوع القادم
يقول السِّعدي: أي استبعدوا أن يبعثهم الله ويعيدهم بعدما كانوا عظاماً نخرة جهلاً منهم بقدرة الله - تعالى وتقدس- وتجرُّءً عليه ( ).
فقال تعالى في بيان سهولة هذا الأمر عليه وتفريع للقولين السَّابقين: {فإنَّما هي زجرةٌ واحدة}، بنيت هذه الجملة على القصر لتدل على قوة تأكيد الحدث، وجاء القصر فيها حقيقي، مقصود منه تأكيد الخبر بتنزيل السَّامعين منزلة من يعتقدون أنَّ زجرة واحدة غير كافية لإحيائهم ( ). وذلك مما دلَّ عليه أداة القصر "إنَّما"
ثمَّ فرَّع عليه قوله تعالى: {فإذا هم بالسَّاهرة} تصدرت هذه الجملة فاء التَّفريع ، و "إذا" الفجائيَّة وذلك لتصوير حالتهم النَّفسيَّة عندما سُقِطَ في أيديهم وشاهدوا بأم عينهم حقيقة ما كانوا مستبعدين حصوله، (فكان الجمع بين المفاجأة والتَّفريع أشدَّ ما يعبر به عن السُّرعة مع إيجاز اللفظ) ( ).
و{السَّاهرة}: هي الأرض المستوية البيضاء، الَّتي لا نبات فيها يُختار مثلُها لاجتماع الجموع ووضع المغانم. وأريد بها أرض يجعلها الله تعالى لجمع النَّاس للحشر ( ).
وقد قيل: إنَّ إسناد السَّهر للأرض مجاز عقلي؛ لأنَّ السَّائر فيها لا ينام خوف الهلكة ( ).
وقيل: مجاز مرسل علاقته المكانيَّة؛ لأنَّ الأرض لا تسهر وإنَّما يسهر النَّاس عليها ( ).
والله أعلم وأحكم وصلى الله على نبينا "محمد" وعلى آله وصحبه وسلم.
ونلتقي بإذن الله في الأسبوع القادم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين
عليه نتوكل وبه نستعين
"سورة النَّزعات" من الآية 15ـ 26.
تأتي الآية الكريمة الأولى في هذا القسم من السُّورة المباركة بقوله تعالى: {هل أتاك حديث موسى} استئناف ابتدائي ابتدئ فيه بقصة نبي الله "موسى" – عليه وعلى نبينا أفضل الصَّلاة وأتم التَّسليم- وفي إيرادها تسليةٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- وموعظة للمشركين ( ). وتعريضٌ بهم ( ). وبشارةٌ للمسلمين بالنَّصر على أعدائهم ( ).
والاستفهام بالحرف (هل) إمَّا يكون للتَّقرير؛ إذا كان الخبر قد أتى رسول الله من قبل ( ). أو على بابه، فيكون للعبرة والتَّرغيب ( )، والتَّنبيه إلى هذا الحديث الَّذي هو مما ينبغي الالتفات إليه ( ).
وقد استعير الإتيان في قوله تعالى: {هل أتاك} لحصول العلم تشبيهاً للمعقول بالمحسوس على سبيل الاستعارة التَّصريحيَّة، أو المكنيَّة ( ).
وبيَّن - سبحانه وتعالى- هذا الحديث وموضوعه ومكانه ( ) بقوله تعالى: {إذ ناداه ربُّه بالوادِ المقدس طوى} إلى قوله تعالى: {فقال أنا ربكم الأعلى}.
اُبتدأت القصَّة من وقت ندائه - تعالى- لنبيَّه "موسى" في قوله تعالى: {إذ ناداه ربُّه بالوادي المقدَّس طوى} الظرف {إذ} للحديث لا للإتيان لاختلاف وقتهما ( ).
وقوله تعالى: {ناداه} دلالة تكريم لنبي الله "موسى" لأنَّ الـ(هاء) ضمير الغائب يعود على "موسى" ويعزز تكريمه قوله تعالى: {ربُّه} بما تحمل كلمة "رب" من معاني جمَّة من ألصقها للمقام هنا أنَّه المنعم عليه فقد خصصه -سبحانه وتعالى- بكرامة تكليمه بهذا النِّداء. حتَّى أنَّ مكان هذا النِّداء قد قُدِّس لقوله تعالى: {بالوادي المقدس طوى}
قيل: طوى: اسم مكان وهو وادي في جانب جبل الطُّور في بريَّة سيناء في جانبه الغربي ( ).
ويأتي بيان هذا النِّداء بقوله تعالى: {اذهب إلى فرعون} هذه الجملة بيان لجملة: {ناداه ربه} أمره – سبحانه- أن يذهب إلى فرعون وعلل ذلك الأمر بقوله تعالى: {إنَّه طغى} مع عدم تحديد حيثيات هذا الطغيان؛ وذلك لإرادة العموم ( ). فقد عمَّ طغيانه البلاد والعباد.
وعليه افتتح قوله تعالى: {إنَّه طغى} بحرف (إنَّ) الَّذي هو للاهتمام ويفيد مُفاد التَّعليل أيضاً ( ).
وقد لقًّنه – سبحانه وتعالى- ما يقول لفرعون الطَّاغية بقوله تعالى: {فقل هل لك إلى أن تزكى. وأهديك إلى ربك فتخشى}.
يستوقفنا للتأمل في هذا القول لُطف الاستدعاء؛ لأنَّ كُلَ عاقل يجيب عن هذا السُّؤال أو مثله بالإيجاب ( ).
فقول: {هل لك} تركيب جرى مجرى المثل، وهو كلام يقصد منه العرض على سبيل الإيجاز ( ).
والزَّكاة: الزِّيادة، وتطلق على الخير النَّفساني، وهو مجاز شائع ساوى الحقيقة؛ لذاك لا يحتاج إلى قرينة ( ). وهكذا عُرض على هذا الطَّاغية سبيل الخير بألطف أسلوب لعله يرشد، ويزكي نفسه ويطهِّرها من دنس كفره وطغيانه.
ويؤكد ذلك ما عطف عليه من قوله تعالى: {وأهديك إلى ربك فتخشى}، الهداية الدَّلالة على الطَّريق الموصل إلى المطلوب إذا قَبِلَها المَهدي.
وتفرُّع عنها: {فتخشى} إشارة إلى أنَّ خشية الله لا تكون إلا بالمعرفة، قال تعالى: {إنَّما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ} [فاطر:28]. أي العلماء به ( ).
هكذا فرِّعت الخشية على الهداية للإشارة إلى أنَّ أفضل التَّزكِّي هو الهداية ( ). وفي الاقتصار عليها أيضاً إيجاز بليغ؛ لأنَّ الخشية ملاك كُلِّ خير( ).
ويستوقفنا أن ذُكِرَ له الإله الحق بوصف {ربِّك} دون أن يذكر اسم الله العلم، أو غيره من الأسماء المقدَّسة؛ وذلك إلطافٌ في الدَّعوة إلى التَّوحيد؛ وفيه أيضاً إطماعٌّ له أن يرشد ( )؛ لأنَّ كلمة "رب" تذكر في مقام البِّر والرَّحمة لما تحمل من معاني الخير بعامة.
وينتقل السِّياق المعجز إلى مجلس فرعون مباشرةً ليذكر لنا ما دار فيه من حوار وأحداث، وليصوِّر سرعة استجابة نبي الله "موسى" وسرعة تنفيذ ما أمره الله به، وهو المشهد الأهم في هذه القصة.
فقال تعالى: {فأراه الآية الكبرى}؛ حتماً هذا المشهد وقع بعد ما قال له ما أمره -الله تعالى- بقوله مما سبق؛ ولكن وقع التَّكذيب والعصيان مباشرة عقب ذلك، ويؤكده قوله تعالى: {فكذَّب وعصى} للدَّلالة على ِشِدَّة كفره ومكابرته ( ). حتَّى بعد ذلك التلطف في الدَّعوة والتَّحذير برؤية الآية الكبرى.
وهل اكتفَى فرعون بذلك لا؛ بل أخبر عنه -سبحانه وتعالى- بقوله: {ثمَّ أدبر يسعى} عطف هاتين الجملتين بحرف العطف {ثمَّ} دلَّ على أنَّ إدباره عن الهدي وسعيه الجاد لدحض حُجَّة نبي الله "موسى" هما ما استحوذا عليه، ودفعاه لذلك الإدبار والسَّعي، وهذان الفعلان يصوِّران شِدَّةَ غيظه ومكره وكرهه للحق وأهله. فالفعل: {أدبر} يرسم في الذِّهن حركة العنف والجفاء، والمباغضة.
والفعل: {يسعى} يرسم استمرار جهده المضني الحثيث لتحقيق ما تغالبه نفسه المريضة على تحقيقه، كما يكشفان عن الحالة النَّفسيَّة التَّي كانت مسيطرة عليه آن ذاك.
عليه نتوكل وبه نستعين
"سورة النَّزعات" من الآية 15ـ 26.
تأتي الآية الكريمة الأولى في هذا القسم من السُّورة المباركة بقوله تعالى: {هل أتاك حديث موسى} استئناف ابتدائي ابتدئ فيه بقصة نبي الله "موسى" – عليه وعلى نبينا أفضل الصَّلاة وأتم التَّسليم- وفي إيرادها تسليةٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم- وموعظة للمشركين ( ). وتعريضٌ بهم ( ). وبشارةٌ للمسلمين بالنَّصر على أعدائهم ( ).
والاستفهام بالحرف (هل) إمَّا يكون للتَّقرير؛ إذا كان الخبر قد أتى رسول الله من قبل ( ). أو على بابه، فيكون للعبرة والتَّرغيب ( )، والتَّنبيه إلى هذا الحديث الَّذي هو مما ينبغي الالتفات إليه ( ).
وقد استعير الإتيان في قوله تعالى: {هل أتاك} لحصول العلم تشبيهاً للمعقول بالمحسوس على سبيل الاستعارة التَّصريحيَّة، أو المكنيَّة ( ).
وبيَّن - سبحانه وتعالى- هذا الحديث وموضوعه ومكانه ( ) بقوله تعالى: {إذ ناداه ربُّه بالوادِ المقدس طوى} إلى قوله تعالى: {فقال أنا ربكم الأعلى}.
اُبتدأت القصَّة من وقت ندائه - تعالى- لنبيَّه "موسى" في قوله تعالى: {إذ ناداه ربُّه بالوادي المقدَّس طوى} الظرف {إذ} للحديث لا للإتيان لاختلاف وقتهما ( ).
وقوله تعالى: {ناداه} دلالة تكريم لنبي الله "موسى" لأنَّ الـ(هاء) ضمير الغائب يعود على "موسى" ويعزز تكريمه قوله تعالى: {ربُّه} بما تحمل كلمة "رب" من معاني جمَّة من ألصقها للمقام هنا أنَّه المنعم عليه فقد خصصه -سبحانه وتعالى- بكرامة تكليمه بهذا النِّداء. حتَّى أنَّ مكان هذا النِّداء قد قُدِّس لقوله تعالى: {بالوادي المقدس طوى}
قيل: طوى: اسم مكان وهو وادي في جانب جبل الطُّور في بريَّة سيناء في جانبه الغربي ( ).
ويأتي بيان هذا النِّداء بقوله تعالى: {اذهب إلى فرعون} هذه الجملة بيان لجملة: {ناداه ربه} أمره – سبحانه- أن يذهب إلى فرعون وعلل ذلك الأمر بقوله تعالى: {إنَّه طغى} مع عدم تحديد حيثيات هذا الطغيان؛ وذلك لإرادة العموم ( ). فقد عمَّ طغيانه البلاد والعباد.
وعليه افتتح قوله تعالى: {إنَّه طغى} بحرف (إنَّ) الَّذي هو للاهتمام ويفيد مُفاد التَّعليل أيضاً ( ).
وقد لقًّنه – سبحانه وتعالى- ما يقول لفرعون الطَّاغية بقوله تعالى: {فقل هل لك إلى أن تزكى. وأهديك إلى ربك فتخشى}.
يستوقفنا للتأمل في هذا القول لُطف الاستدعاء؛ لأنَّ كُلَ عاقل يجيب عن هذا السُّؤال أو مثله بالإيجاب ( ).
فقول: {هل لك} تركيب جرى مجرى المثل، وهو كلام يقصد منه العرض على سبيل الإيجاز ( ).
والزَّكاة: الزِّيادة، وتطلق على الخير النَّفساني، وهو مجاز شائع ساوى الحقيقة؛ لذاك لا يحتاج إلى قرينة ( ). وهكذا عُرض على هذا الطَّاغية سبيل الخير بألطف أسلوب لعله يرشد، ويزكي نفسه ويطهِّرها من دنس كفره وطغيانه.
ويؤكد ذلك ما عطف عليه من قوله تعالى: {وأهديك إلى ربك فتخشى}، الهداية الدَّلالة على الطَّريق الموصل إلى المطلوب إذا قَبِلَها المَهدي.
وتفرُّع عنها: {فتخشى} إشارة إلى أنَّ خشية الله لا تكون إلا بالمعرفة، قال تعالى: {إنَّما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ} [فاطر:28]. أي العلماء به ( ).
هكذا فرِّعت الخشية على الهداية للإشارة إلى أنَّ أفضل التَّزكِّي هو الهداية ( ). وفي الاقتصار عليها أيضاً إيجاز بليغ؛ لأنَّ الخشية ملاك كُلِّ خير( ).
ويستوقفنا أن ذُكِرَ له الإله الحق بوصف {ربِّك} دون أن يذكر اسم الله العلم، أو غيره من الأسماء المقدَّسة؛ وذلك إلطافٌ في الدَّعوة إلى التَّوحيد؛ وفيه أيضاً إطماعٌّ له أن يرشد ( )؛ لأنَّ كلمة "رب" تذكر في مقام البِّر والرَّحمة لما تحمل من معاني الخير بعامة.
وينتقل السِّياق المعجز إلى مجلس فرعون مباشرةً ليذكر لنا ما دار فيه من حوار وأحداث، وليصوِّر سرعة استجابة نبي الله "موسى" وسرعة تنفيذ ما أمره الله به، وهو المشهد الأهم في هذه القصة.
فقال تعالى: {فأراه الآية الكبرى}؛ حتماً هذا المشهد وقع بعد ما قال له ما أمره -الله تعالى- بقوله مما سبق؛ ولكن وقع التَّكذيب والعصيان مباشرة عقب ذلك، ويؤكده قوله تعالى: {فكذَّب وعصى} للدَّلالة على ِشِدَّة كفره ومكابرته ( ). حتَّى بعد ذلك التلطف في الدَّعوة والتَّحذير برؤية الآية الكبرى.
وهل اكتفَى فرعون بذلك لا؛ بل أخبر عنه -سبحانه وتعالى- بقوله: {ثمَّ أدبر يسعى} عطف هاتين الجملتين بحرف العطف {ثمَّ} دلَّ على أنَّ إدباره عن الهدي وسعيه الجاد لدحض حُجَّة نبي الله "موسى" هما ما استحوذا عليه، ودفعاه لذلك الإدبار والسَّعي، وهذان الفعلان يصوِّران شِدَّةَ غيظه ومكره وكرهه للحق وأهله. فالفعل: {أدبر} يرسم في الذِّهن حركة العنف والجفاء، والمباغضة.
والفعل: {يسعى} يرسم استمرار جهده المضني الحثيث لتحقيق ما تغالبه نفسه المريضة على تحقيقه، كما يكشفان عن الحالة النَّفسيَّة التَّي كانت مسيطرة عليه آن ذاك.
ولذلك قال بعض المفسرين: هذان الفعلان على معنييهما الحقيقين أو المجازيين ( ).
ويأتي العطف عليه بـ(فاء) التَّفريع في قوله تعالى: {فحشر فنادى} أي كان نتيجة ذلك الإدبار والسَّعي الحثيث: {فحشر فنادى}. لتصوير المسارعة الَّتي يدل عليه العطف بحرف الـ(فاء)
كما نلاحظ عدم ذكر مفعول الفعل: {حشر} لدلالة السِّياق عليه ( )، أو لعموم من حشره من طوائف وأماكن متفرقة.
قيل: أو لضيق المقام عن ذكره، ففرعون يتلهف للاقتصاص من النَّبي "موسى" وردِّ دعوته ( ).
ويأتي قوله تعالى: {فنادى} معطوف بحرف الـ(فاء) لإفادة أنَّه أعلن هذا القول لهم بفور حضورهم لفرط حرصه على إبلاغ ذلك إليهم ( ) واستعجاله لسماعهم إياه فعبادتهم له هي أهم قضيَّة لديه؛ وقد فعلوا ذلك ردهاً من الزَّمان.
ونلاحظ أيضاً حذف مفعول: {فنادى} كما حذف مفعول: {حشر} لدلالة العموم في الحشر وفي النِّداء. فكأنَّه حشر كُلَّ ما بوسعه حشره ونادى كُلَّ ما بوسعه نداءه.
ولماذا هذا الحشر الجامع؟ وهذا النداء العام؟ ليقول للجميع ما قاله تعالى على لسانه بقوله تعالى: {فقال أنا ربكم الأعلى} فهل بعد هذا الطغيان طغيان، وهل بعد هذا الكفر كفر ؟؟؟.
دعونا نقف مع هذه الجملة التَّي قالها وقفة تأمل لنجد أنَّها جاءت على صيغة الحصر وسبب الحصر أنَّها معرَّفة الرُّكنين المبتدأ {أنا} وهو ضمير والضمائر من المعارف، وكلمة {ربكم} معرفة أيضاَّ لأن "رب" مضافة إلى كاف الخطاب وهو ضمير أيضاً.
ولم يكفِ بذلك؛ بل وصف نفسه بكلمة: {الأعلى}. وكُلُّ ذلك الحشد الكبير من التَّعريف الَّذي أتى به في هذه الجملة لرد دعوة نبي الله "موسى" عليه السَّلام ( ).
وعليه فقد فُرِّعَ على كُلِّ ما سبق قوله تعالى: {فأخذه اللهُ نكالَ الآخرة والأولى} نجد أنَّه سبحانه صوَّر قوة هذا العقاب وغلبته بقوله تعالى: {فأخذه} فالمأخوذ غالباً يصير إلى القهر والضعف لتمكن الأخذ منه عندما يكون الأخذ نكالاً.
فما هو النَّكال: قيل: اسم مصدر نكَّل به تنكيلاً وهو إيقاع أذى شديد على الغير مع التَّشهير، بحيث يُنكَّل، أي يَرُد ويصرف من يشاهده عن أن يأتي بمثل ما عومل به المنكَّل به ( ).
وعليه استعملت كلمة {نكالَ} في معنييه الحقيقي والمجازي، فما وقع لعدو الله فرعون في الدُّنيا نكال حقيقي، وما سيقع له في الآخرة من عذاب يشبه النَّكال في شِدَّة التَّعذيب ( ).
ونلاحظ هنا تقديم الآخرة على الأولى، على خلاف الظاهر قيل: لتقديم الأهم والأعظم في نكال فرعون ( ). فنكال الآخرة دائمٌ، ونكال الأولى مهما طال فهو منقطع بانتهاء الدُّنيا.
ونلاحظ أيضاً الطباق الَّذي جاء بين الآخرة والأولى ليحُثَ المتأمل على المقارنة بينهما ويهتدي لما هو أنفع وأبقى.
ولهذا ذُيِّلتْ القصةُ بقوله تعالى: {إنَّ في ذلك لعبرة لمن يخشى} الإشارة بـ{ذلك} إلى حديث "موسى". والعبرة: الحالة الَّتي ينتقل الذِّهن من معرفتها إلى معرفة عاقبتها أو عاقبة أمثالها، والمراد بها هنا الموعظة، وجاء تنوين كلمة {لعبرةً} للتعظيم؛ أي: عبرة عظيمة النفع. وجعلت لمن يخشى أي: من تخالط نفسه خشيَّة الله - جل جلاله وتقدس-
وفيه تعريض بالمشركين بأنَّهم ليسوا بأهل للانتفاع بمثل هذا كما لم ينتفع بمثله فرعون وقومه ( ).
يقول السَّعدي: فإنَّ من يخشى الله هو الَّذي ينتفع بالآيات والعبر، فإذا رأى عقوبة فرعون عرف أنَّ كُلَّ من تكبَّرَ وعصى وبارز الملك الأعلى عاقبه في الدَّنيا والآخرة؛ ولكن من ترحلَّتْ خشية الله من قلبه، فلو جاءته كُلُّ آية لا يؤمن بها ( ). نسأل الله السَّلامة والعافية.
والله أعلم وأحكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ولنا لقاء بإذن الله في الأسبوع القادم لدراسة ما تبقى من السُّورة المباركة
ويأتي العطف عليه بـ(فاء) التَّفريع في قوله تعالى: {فحشر فنادى} أي كان نتيجة ذلك الإدبار والسَّعي الحثيث: {فحشر فنادى}. لتصوير المسارعة الَّتي يدل عليه العطف بحرف الـ(فاء)
كما نلاحظ عدم ذكر مفعول الفعل: {حشر} لدلالة السِّياق عليه ( )، أو لعموم من حشره من طوائف وأماكن متفرقة.
قيل: أو لضيق المقام عن ذكره، ففرعون يتلهف للاقتصاص من النَّبي "موسى" وردِّ دعوته ( ).
ويأتي قوله تعالى: {فنادى} معطوف بحرف الـ(فاء) لإفادة أنَّه أعلن هذا القول لهم بفور حضورهم لفرط حرصه على إبلاغ ذلك إليهم ( ) واستعجاله لسماعهم إياه فعبادتهم له هي أهم قضيَّة لديه؛ وقد فعلوا ذلك ردهاً من الزَّمان.
ونلاحظ أيضاً حذف مفعول: {فنادى} كما حذف مفعول: {حشر} لدلالة العموم في الحشر وفي النِّداء. فكأنَّه حشر كُلَّ ما بوسعه حشره ونادى كُلَّ ما بوسعه نداءه.
ولماذا هذا الحشر الجامع؟ وهذا النداء العام؟ ليقول للجميع ما قاله تعالى على لسانه بقوله تعالى: {فقال أنا ربكم الأعلى} فهل بعد هذا الطغيان طغيان، وهل بعد هذا الكفر كفر ؟؟؟.
دعونا نقف مع هذه الجملة التَّي قالها وقفة تأمل لنجد أنَّها جاءت على صيغة الحصر وسبب الحصر أنَّها معرَّفة الرُّكنين المبتدأ {أنا} وهو ضمير والضمائر من المعارف، وكلمة {ربكم} معرفة أيضاَّ لأن "رب" مضافة إلى كاف الخطاب وهو ضمير أيضاً.
ولم يكفِ بذلك؛ بل وصف نفسه بكلمة: {الأعلى}. وكُلُّ ذلك الحشد الكبير من التَّعريف الَّذي أتى به في هذه الجملة لرد دعوة نبي الله "موسى" عليه السَّلام ( ).
وعليه فقد فُرِّعَ على كُلِّ ما سبق قوله تعالى: {فأخذه اللهُ نكالَ الآخرة والأولى} نجد أنَّه سبحانه صوَّر قوة هذا العقاب وغلبته بقوله تعالى: {فأخذه} فالمأخوذ غالباً يصير إلى القهر والضعف لتمكن الأخذ منه عندما يكون الأخذ نكالاً.
فما هو النَّكال: قيل: اسم مصدر نكَّل به تنكيلاً وهو إيقاع أذى شديد على الغير مع التَّشهير، بحيث يُنكَّل، أي يَرُد ويصرف من يشاهده عن أن يأتي بمثل ما عومل به المنكَّل به ( ).
وعليه استعملت كلمة {نكالَ} في معنييه الحقيقي والمجازي، فما وقع لعدو الله فرعون في الدُّنيا نكال حقيقي، وما سيقع له في الآخرة من عذاب يشبه النَّكال في شِدَّة التَّعذيب ( ).
ونلاحظ هنا تقديم الآخرة على الأولى، على خلاف الظاهر قيل: لتقديم الأهم والأعظم في نكال فرعون ( ). فنكال الآخرة دائمٌ، ونكال الأولى مهما طال فهو منقطع بانتهاء الدُّنيا.
ونلاحظ أيضاً الطباق الَّذي جاء بين الآخرة والأولى ليحُثَ المتأمل على المقارنة بينهما ويهتدي لما هو أنفع وأبقى.
ولهذا ذُيِّلتْ القصةُ بقوله تعالى: {إنَّ في ذلك لعبرة لمن يخشى} الإشارة بـ{ذلك} إلى حديث "موسى". والعبرة: الحالة الَّتي ينتقل الذِّهن من معرفتها إلى معرفة عاقبتها أو عاقبة أمثالها، والمراد بها هنا الموعظة، وجاء تنوين كلمة {لعبرةً} للتعظيم؛ أي: عبرة عظيمة النفع. وجعلت لمن يخشى أي: من تخالط نفسه خشيَّة الله - جل جلاله وتقدس-
وفيه تعريض بالمشركين بأنَّهم ليسوا بأهل للانتفاع بمثل هذا كما لم ينتفع بمثله فرعون وقومه ( ).
يقول السَّعدي: فإنَّ من يخشى الله هو الَّذي ينتفع بالآيات والعبر، فإذا رأى عقوبة فرعون عرف أنَّ كُلَّ من تكبَّرَ وعصى وبارز الملك الأعلى عاقبه في الدَّنيا والآخرة؛ ولكن من ترحلَّتْ خشية الله من قلبه، فلو جاءته كُلُّ آية لا يؤمن بها ( ). نسأل الله السَّلامة والعافية.
والله أعلم وأحكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ولنا لقاء بإذن الله في الأسبوع القادم لدراسة ما تبقى من السُّورة المباركة