| حادي الرَّكب | 2375

«رفيقَ خُطاي، وباكورةَ هَواي، وأعزَّ مُناي، مرحبًا بك..
أكتبُ إليك الآن من قلبِ اللّيالي المباركة، على أريكةِ التأمّل في ذاتي، وذاتك، والدُّنيا، رفقةَ اللّيلِ والسّماءِ والنّجومِ والنيلِ ونسماتِ رمضانَ العَبِقَةِ الميمونةِ، حيث أشرفُ زمان، وأطهرُ هواء، وأنقى جوٍّ، وأصفى خاطرٍ، وأنت.. بمكانك الخالي في جواري، الممتلئِ الغامرِ في فؤادي، بالسكينة الّتي يُشعُّها وجودُك، والأُنسِ الّذي أتلمّسُهُ ولو على البُعد، والحزنِ الّذي لا يفارقُني إذ تفارقُني..
هذا أنا كما عهدتَني، لكنّي لا أكادُ أعرفُ مني هذا الّذي عهدتَه مُذْ بِنتَ، فقدتُ بفقدِك شيئًا لا كِفاءَ له، ولا عِوَضَ منه، ولا غناءَ عنه، وما أفعلُ بالدُّنيا جميعًا ولستَ معي؟!
كلّما مرَّت اللّيالي عليَّ، سكتَ بنفسي بعضُ بيانِها، وخَبَت بعضُ أضوائِها، وخفتت أصواتُ ضميري، وفقدتُ شيئًا غيرَ هيّنٍ من أفانينِ فؤادي وأزاهيرِ وجداني، واستحالت ألوانُ نفسي كلُّها ضَربًا مشتبهًا باهتًا، لا تكادُ تَمِيزُ منه إلّا سوادًا في بياضٍ أو بياضًا في سواد!
لا أكتمُك، لستَ وحدَك السبب، بل إن أولَ أسباب ذلك، هذا الموتُ الّذي نموتُه كلَّ يومٍ ذلةً وهوانًا وحسرةً وهلاكًا على إخواننا المفجوعين المنكوبين المَكروبين، ونحن على الفُرُشِ الوثيرةِ نتنعّم آمنين إذ يقاسونَ -وحدَهم- العذاب، وبينَ أيدينا -وهم يتضورون جوعًا- ألوانٌ من الطعام والشراب، يكفي منهم فئامًا، بل يفيض، وبين جنوبنا ذلٌّ مقيمٌ لا يبرح، وجرحٌ نازفٌ لا يرقأُ، ونفسٌ تَسَّاقَطُ أنفسًا، تموتُ فينا -أسفًا عليهم وعلينا- شيئًا فشيئًا!
فأيّ حياةٍ! وأيّ شعورٍ! وأيّ قلبٍ! وأيّ حديثٍ! وأيّ كلامٍ يُقالُ!
رُفِعَت الأقلامُ، ما رُفِعَت إلّا لتوضَعَ السيوفُ على مفارق يهود، فأين هي؟! وأين نحن؟! وأين هم؟!
لله الأمر، الحديثُ ذو شجون، وفي خاطري تُولَدُ الكلماتُ ثُمَّ تموتُ في مُهودِها، لا أكادُ أُطيقُ أن أستتمَّ فكرةً ولا حديثًا ولا بيانًا إلّا بجهدٍ بالغ، كأنّما أنقلُ جبالًا لا أكتبُ كلامًا، أو كأنّما أستفُّ المَلَّ!
رأفَ الله بي وبكَ ولطفَ ورحِمَ، وبهذه الأمّة المسكينة المُمَزَّقةِ الّتي تَدَاعى عليها كلابُ الأرضِ مِن كُلّ جانب.
وسلامٌ عليك ما رُدَّت المظالم، وانتصرَ المظلومُ مِن الظالم.»

- محمّد أحمد.

1.1K views18:47