Telegram Web Link
‎⁨كيف_تكتب_بحثًا_جامعيًا_مميزًا؟⁩.pdf
604 KB
من أحسن ما رأيت في تعليم الطلاب الجامعيين البحث الأكاديمي، اختصارًا ووضوحًا.
ولو أن أستاذ قاعة البحث كلف كل طالب بطباعة الملف والمشي على ضوئه لاستفاد الطالب كثيرًا.
خصوصًا مع كون كثير من الكتب في البحث العلمي طويلة وأكثر ما فيها فوق مستوى الطالب ولا يحتاجه غالبًا.

د. إبراهيم بن ممدوح الشمري
السعادة الخفيّة ومجدُ الاستقامة: "حين يشرق النبل من داخل النفس" 🌧️

إذا أقبلتَ على الحياة بعين طامحة، وقلب يتوق إلى المعالي، فاجعل أول ما تهمس به إلى روحك: أن أقصر الطرق إلى المجد، هو طريق الاستقامة، لا سواها.
فالاستقامة يا صاحبي ليست قيدًا تُكبّل به حريتك، ولا سورًا يحجب عنك النعيم، بل هي النور الذي يهديك في متاهات الحياة، والسُّلَّم الذي يرفعك إلى المقامات الكريمة، وعلى رأسها التقوى، والنزاهة وشرف الضمير، وعفّة اليد وطهارة القلب.

فالنجاح هو الاستقامة بمفهومها الشامل، وهي: أن يكون لك قلب لا يخون، وضمير لا يتكسب، ويد لا تمتد إلى الحرام ولو جاعت، ونَفْس تأبى أن تُذلّ ولو عُلِّقَتْ في السماء مصلوبة.

وعليك يا صاحبي أن لا تدخل في هذه الدنيا إلا كما يدخل المسافر مَحَطَّة طريق، لا ليقيم، بل ليأخذ الزاد ويمضي، فمن فهِم الحياة على هذا الوجه، صغُر في عينه ما يَكبُر في أعين الناس، وعَظُم في قلبه ما لا يشعرون به.

أجل، إن الناس في هذه الحياة يبحثون عن النجاح، ويركضون له، ويتقاتلون عليه، حتى نفشت فيه غنم القوم، ولكن ما أكثر الذين ضلوا السبيل، وهم يظنّون أنهم يحسنون صنعًا؛ لأنهم أرادوا المجد في مظاهره، لا في حقيقته.

فلا تغترَّ بمن علا في الناس وهو عند الله هابط، ولا تعجب بمن جمع المال؛ و قد أفلس من المروءة، وأفسد ليصل، وتزلّف لينال، ولا تمدّن عينيك إلى من صعد على أكتاف غيره، فإنه ما صعد إلا على جنازته هو!
فإنّ وراء كثير من الأبواب اللامعة قلوبًا خاوية، وضمائر ميتة، وسرائر سوداء يكاد يُغشى عليها من شدة الظمأ.

واحذر من مسلك أولئك الذين تاجروا بضمائرهم، وراهنوا على قيمهم في بورصة الكسب الرخيص، فإنهم عمّا قليل سيخصفون على أنفسهم أوراق الخيبة والندم، ويلتحفون بالخسران، وإن ظنّوا أنهم ربحوا!
وكم من شخص جعل ذمّته عملة حسابية وسوقًا يبيع فيها دينه، ومروءته رأس مال يساوم عليه، يرضى بالمهانة إن جاءت له بدرهم، ويستبدل الشرف بكسرة خبز إن طُليت بالذهب.

ولكن قلّ لي بربك، أيّ لذة ستبقى لهؤلاء؟
وإن أردت لذة، ليست في أطباق الذهب ولا في سُرُج الحرير، وإنما لذة تأنس بها الأرواح وتزكو بها النفوس، فاقرأ ما كتبه ابن الجوزي في كلمته التي كأنها مشكاة فيها مصباح لمن أراد اللذة الحقيقية: قال رحمه الله: "غفل طلاب الدنيا عن اللذة فيها، وما اللذة فيها إلا شرف العلم، وزهرة العفة، وأنفة الحميّة، وعز القناعة، وحلاوة الإفضال على الخلق".

نعم، هكذا يتلذذ الشرفاء، لا في الجيوب المليئة، بل في النفوس الممتلئة بالنبل والشرف، ولا في القصور، بل في ضمير لا يبيت فيه الذلّ ولا الهوان. تلك هي السعادة الخفية، التي لا تُعلن في الصحف، ولا تُزَفّ في المواكب، لكنها تبني في القلب عرشها، وفي الضمير مملكتها، وفي الروح شمسها التي لا تغيب.

فالدنيا - وإن زخرفت مظاهرها - خدّاعة الألوان، مراوغة الوعود، زائفة البريق. وأهل البصيرة هم من أُرخي لهم شيءٌ من ستور الغيب، فعاينوا وجه الحقيقة في صمت، واستشعروا لذة الخفاء في زمن الضجيج.

وما أصدق ما قاله الأديب أحمد أمين بقلمه المبلل بالحكمة: "وأسعد الناس من وضع الأمور في مواضعها اللائقة بها، فلا يعلو على غيره من طريق التزلف وأذية الآخرين، ونظر إلى المال على أنه من أسباب السعادة لا السعادة كلها، وحرص على طلبه من طريق العزة والشرف، فإذا تعارضا ضحّى بالمال من أجل الفضيلة".

أجل، إن النجاح بلا ضمير قفزة في فراغ، والثروة بلا كرامة تَرِكةٌ من العار، والسعادة الموهومة لا تلبث أن تنقلب همًّا غليظًا إن لم تُدعّم بعزّة النفس.

فمن أراد توازنًا في مسيرته، وبعدًا في نظره، فليوقن أنه راحل، وأن إلى ربه المنتهى، وأن الدنيا لا تساوي لحظة وقوف بين يدي الجبّار، حيث لا مال، ولا مجد، ولا ألقاب، ولا تزلّف ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ وليحمل بين جنبيه يقينًا بلقاء الله، وتأملاً في فراق هذه الدنيا، وفي سفره إلى الدار التي لا تزول.

هناك فقط يُوزن النجاح بميزانه الحق، وهناك تُكشف الأقنعة، وتزول الرتوش، ويتميز من صدق ومن نافق، ومن ربح بصدق، ومن خسر بتزلّف.
فاجعل هذا المعنى في قلبك، فإنه يخلع عنك زيف المظاهر، ويلبس روحك جلال الحقيقة.

فيا طالب المجد، لا تجعل اللهث خلف الأمجاد المزيفة يحجب عنك السعادة الخفية، التي لا تُرى بالعين، ولكن تُبصر بالبصيرة، فهناك أملاك لا تُشترى، ولا تُباع، ولا تُقايض: وهي شرف الضمير، وراحة القلب، وحسن الصلة بالله، والسكينة والرضا الداخلي.
من شمائل المروءة وسؤدد النفس 🌿

ما يزال النُّبل تاج النفوس العظيمة، وسمة الأرواح الكريمة، وعنوان النفس الذي ارتفعت عن غبار الأرض، وسمت إلى فضاء الحلم والعفو.

ومن أماراته الجليلة ودلائله الساطعة؛ أن يُعرض المرء عن الانتصار لنفسه حين يقدر، ويترفّع عن تصفية الحساب، ويغضّ الطرف عن الزلل، ويمدّ اليد بالإحسان إلى من أساء، إذا وضعه الله في مقام من تُخشى سطوته، ويُرجى وصاله.

فما رأيت في الناس شيئًا أدلّ على نبل النفس ونزاهة الطبع من ذاك الذي إذا قَدِر عفا، وإذا تَمكّن صفح، وإذا أُعطي سُلطان اليد لم يمدّه إلى الانتقام، بل جذب يده إلى صدره، كما تجذب النفس الكبيرة أهواءها إلى موطن النبل فيها.

إن أولئك الكرام إذا مُلّكوا رقاب خصومهم، ملكوا معها نزعات نفوسهم، فهم لا ينتصرون لأنفسهم، بل ينتصرون عليها!
فأما صغير النفس، فيهتبل الفرصة إذا أقبلت، ويراها وقتًا للانتقام، وميدانًا لتصفية الأحقاد، والتشفي ممن ناصبه الخلاف.
وأما الكبير الرفيع، فما وجد فرصة كهذه إلا ورأى فيها اختبارًا لنُبله، وميدانًا لحلمه، ومقامًا للعفو والإكرام.

وقد نقل ابن مفلح في “الآداب الشرعية” عن سعيد بن العاص ـ وكان بينه وبين قوم من أهل المدينة خلاف ـ أنه لمّا ولاه معاوية أمر المدينة، أعرض عن المنازعة، فقيل له: هلا انتصرت وقد قَدِرت؟ فقال كلمته التي تكتب بماء الذهب: " لا أنتصر لنفسي وأنا والٍ عليهم". فعلّق ابن عقيل على ذلك في “الفنون” بقوله: “هذه والله مكارم الأخلاق!” الأداب الشرعية( ٢/٢٠٨).

ويكأنه قُدّ هذا القول من نفس كانت إذا نظرت في الناس، رأتهم بعين الرحمة لا في سيف القصاص، وهكذا يكون الرجال.

إن أهل النفوس الكبيرة يتلذذون بالعفو كما يتلذذ غيرهم بالانتقام، ويفرحون بالإحسان كما يفرح غيرهم بالشماتة، ولله در ابن القيم إذ قال: " وفي الصفح والعفو والحِلم من الحلاوة والطمأنينة، والسكينة وشرف النفس ورفعتها عن تشفّيها بالانتقام، ما ليس في المقابلة والقصاص شيء منه". مدراج السالكين ( ٣/٥٢).

ومن تأمل في الناس علم أن المنتصر لنفسه لا ينتصر إلا قليلاً، ثم يعقبه الندم كثيرًا، فكم من قلب احترق بعد أن انتصر لنفسه، وكم من عينٍ لم تعرف النوم بعد أن شفت غليلها! وقد قالها ابن القيم أيضًا:" فما انتقم أحد لنفسه قط إلا أعقبه ذلك ندامة" مدارج السالكين ( ٣/٥١).

أجل، إنها ساعة اختبار، أن تدور لك الدائرة، وتُنصب لك الراية، وتُعطى مقاليد القدرة، ثم لا تظلم ولا تنتقم ولا تُحاسب من خاصمك أو ظلمك، بل تعفو وتصفح وتكرم! وما أصدق قول ذلك الأعرابي الحكيم:
“أقبح أفعال المقتدرين: الانتقام.”

ومن أقال عثرة الناس، أقال الله عثرته، ومن ستر ذنبًا، ستر الله ذنبه، ومن عفا وهو يقدر، ألبسه الله تاج الهيبة، وأجرى على لسان الناس ذكره الجميل. قال ابن تيمية: "ما انتقم أحد قَطُّ لنفسه إلاّ أورثَه ذلك ذُلاًّ يجده في نفسه، فإذا عَفا أعزَّه الله تعالى" جامع المسائل ( ١/١٧٠).

نعم، هكذا الكبار، إذا آذاهم الصغار، نظروا إليهم كما ينظر الجبل إلى الرياح، تمرّ به وتصيح حوله، ثم لا تُحرّك منه ساكنًا.
فإذا صارت الدنيا إليك، وقدرت على من عاداك، فلا تفرح بالقدرة، بل اجعلها امتحانًا لنفسك: أأنت ممن تملكه القوة، أم ممن يملكونها؟

تالله، ما يُلقّاها إلا ذو حظٍ عظيم، ولا ينالها إلا من سمت نفسه عن حضيض الطبع، وارتفعت إلى ذُرى الفضل والخلق.

فيا أيها النبيل، إذا استطعت أن تُحسن في موضع الأذى، فافعل، فإن الجود يُفقِر، نعم، لكن المروءة تغني، والإقدام قتال، نعم، ولكن الحِلم يُحيي.
وفي نبل النفس رفعةً لا ترفعها المناصب، وإن في عفو القادر نصرًا لا تبلغه السيوف.
فلا يفوتنّك العمل 🌱

من ألطاف الله الخفية، وهداياته العلية، وعنايته الربّانية؛ أن يُهيّئ لعباده في مطالع أعمارهم، وفجر أيامهم، كلماتٍ تسقط على أسماعهم سقوط الغيث على الأرض العطشى، فتحيي من القلوب مواتَها، وتوقظ في النفوس فطرتَها، وتكون لهم سُرجًا تُضِيء عتمات الدروب، ومشاعلَ تهدي في ليالي الحيرة والتردد.

وما أجملَ أن تُروى في هذا المقام حكايةٌ من سير الأعلام، تضوع بالعطر الإيماني، وتتلألأ بالحكمة الربانية، حكايةٌ جرت بين الإمامين: أبي عبيد القاسم بن سلّام، وعبدالله بن إدريس، فكان فيها من النصح ما تقرّ به العين ويطمئن له الفؤاد.
قال أبو عبيد: سمعني عبدالله بن إدريس أتلهف على بعض الشيوخ، فقال لي: "يا أبا عبيد، مهما فاتك من العلم، فلا يفوتنّك من العمل".
السير للذهبي ( ١٠/٤٩٨).
كلمة لو نظرتَ فيها بعين البصيرة، لوجدتَها كأنها قانونٌ إلهيّ، ينطق به لسان الوحي على أفواه العقلاء، لتُبصّر بها القلوب من وراء الحُجب.
فيا لها من كلمة لو نُقشت على صفائح القلوب، لاستقام بها الطالب على الجادة، واستنار بها سبيله ! وكان لها في كل نبضة صدى، وفي كل خفقة رجع!
نعم، إن العلم إن لم يكن له عمل، فهو كالسحاب العقيم، أو كالسراج المنكوس، لا نور فيه ولا دفء.
وكم من متكلم بالعلم، ولسانه أفصح من السحر، وجنانُه أقفرُ من قاعٍ صفصف، فلا هو انتفع، ولا غيره أفاد!

إن العلم والعمل قرينان، إن افترقا خسر السائرُ في طريقه الكمال، لأنهما كالجناحين لطائرٍ يريد أن يرقى في سماء التوفيق والهداية، فإن انكسر أحدُهما هوى على رأسه، وكان من الهالكين.

وكذلك كان أولئك الأوائل من السلف، ما عرفوا العلم رياءً ولا فخرًا، ولا اتخذوه وسيلةً إلى عرض الدنيا، ولكن طلبوه للعمل، وراموا به تزكية النفوس، وصلاح القلوب، واستقامة الحياة، وسلوك السبيل إلى رضوان الله.
وما العلم إلا وسيلة، وغايتُه أن تُعمَر به النفس ويُتقى به الله، وليس العالمُ من حفظ المتون والأقوال فحسب، وإنما من ترجمت جوارحه ذلك العلم عملاً، ونسج من سلوكه أثوابًا من التقوى والاستقامة والورع

نعم، إن في العلم جلالًا، ولكن في العمل به بركةً لا تُدركها الأفهام الكسلى، ولا تنالها النفوس المتوانية، وكم من عاملٍ لا يُشار إليه بالبنان، قد غمره الله بأنوار القَبول، ورفع له ذكرًا لا يُعرف سببه في الأرض، ولكن تعرفه السماء!

قال الحافظ عمرو بن قيس الملائي ـ وما أحكم قوله ـ: "وجدنا أنفع الحديث لنا ما ينفعنا في أمر آخرتنا، من قال كذا فله كذا".
معرفة الثقات للعجلي ( ٢/١٨٣).

كلمةٌ هي الأخرى كأنها من بقايا حكمة الأنبياء، أو صدى من صوت المواعظ الأولى التي كان يربي عليها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه.
فالعبرة بما يقيم لك صرحًا في الآخرة، لا بما يشيّد لك مجدًا في الدنيا.

وقد يتحسر المرءُ ـ وهو في مضمار الطلب ـ على شيوخ لم يلقهم، أو علوم لم ينلها، أو مراتب لم يبلغها، فيستطير قلبُه شوقًا، وتذهب نفسُه حسرات… فلا عليه!

فيا هذا، دع الحسرة، وانهض لما تملك، فإن الله لا يسألك عما لم تُرزق، ولكن يسألك عما بين يديك، وما هو بمقدورك، واحفظ عن الإمام الخاشع كلمته، فإنها مفتاح من مفاتيح الوصول: "مهما فاتك من العلم، فلا يفوتنّك من العمل".

وما يدريك؟
فلعلّ الله، وهو الكريم، يعطيك في صدق عملك ما يغنيك عن كثير من العلم، ويجعل فيك من النفع والقبول والبركة ما لا تبلغه مدارك العلماء ولا حواشي الكتب.

فإن الله يفتح للعبد من أبواب العمل ما يغنيه، ويمنّ عليه من خفي البركة ما يعجب له الناس، ويبلغه من صلاح الحال وعمق الأثر ما لم يكن له في الحسبان موضع ولا مقدار!
فالأعمال لا توزن عند الله بمقادير العلم، ولكن تُوزن بمقادير الإخلاص والنية والتجرد.

فاجعل ـ أيها الطالب ـ غايتَك اللهَ ورضوانه، وانطلق في كل باب يُقربك إليه، ولا تلتفت كثيرًا إلى أي الأبواب دخلت، فإن الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلق، والمهم أن تبلغ.
فالغاية الله، وما سوى ذلك وسيلة.
فانظر من أين تدخل، ولا تنسَ إلى أين تريد أن تصل.


﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصدُ السَّبيلِ وَمِنها جائِرٌ وَلَو شاءَ لَهَداكُم أَجمَعينَ
مجالسُ الذكر.. أنفاسُ السكينة في أروقة الدور 🌿🌧️

يا صاحِبَ البيتِ، ويا راعيَ الذرية، ويا من تُفتّش عن السكينة بين جدران دارك:
اعلم أنّ من أعظم ما تُزيّن به منزلك، وتُعمّر به دارك، وتستجلب به الخير والبركة، وتدفع به غوائل الشياطين ووساوس الهوى؛ مجالسُ الذكر، ولو قلّت مدّتها، وقصرت أنفاسها، فإن أثرها عظيم، وخيرها موصول.

تلك المجالس اليسيرة، التي تنعقد فيها الأرواح على ذِكر الله، وتسمو فيها القلوب على مشاغل الدنيا، لها في صلاح الأبناء أثرٌ كأثر الغيث في الأرض الميتة، تُحيي ما مات من النفوس، وتُنبت الزرع الطيب في القلوب الغضّة، وتُحبّب إليهم الإيمان، وتُزيّنه في قلوبهم، وتكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وتجعلهم بإذن الله من الراشدين.

هي بذور صلاح تُلقى في قلوب الأبناء، فتورق ـ بإذن الله ـ هدايةً، وتزهرُ استقامة.
نعم، هكذا تُعمَّر البيوت.. وهكذا يُربّى الأبناء في ظلال الذِّكر.. حيث تُولد السكينة وتَغفو الشياطين.

أما سمعت قول المصطفى ﷺ:
"إن لله ملائكةً يطوفون في الطرق، يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله، تنادوا: هلمّوا إلى حاجتكم. فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا"؟
وقال ﷺ: "لا يقعد قومٌ يذكرون الله، إلا حفّتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده".

وهل إذا حضرت الملائكة، إلا حضرت معها البركات؟
وهل إذا حفت البيت إلا ملأته سكينةً ورحمة؟
وهل إذا أقبلت إلا أدبرت الشياطين، وهي جنود الفتنة والتفريق، ومصدر الشر والفوضى؟

وما أكثرَ ما عاثت به الشياطين في البيوت فسادًا! وما أشدّ ما خبّبت بين الأزواج، وفرّقت بين الإخوان، وأغرت القلوب على قطيعة الرحم، وزيّنت المعاصي، وهتكت الحرمات، وأذهبت البركة من المعيشة والعمر!

ومجالس الذكر ـ يا أخا القلب ـ هي تلك اللحظات التي يُتلى فيها القرآن، ولو آياتٍ معدودات، مع تفسير يسير، أو تُقرأ فيها أحاديث المصطفى ﷺ، أو يُتدارس فيها كتاب نافع، أو يُشرك الأبناء في سؤال وجواب من مسائل الدين، تُرفع فيها القلوب إلى السماء، وتتهجد الأرواح في محراب المعرفة، وتغدو البيوت بها أنوارًا في الأرض، تضيء بالملائكة، وتغبطها أرواح المؤمنين.

والله، ثم والله، لو علم الآباء ما في هذه المجالس من التربية، وما فيها من التزكية، وما تُورثه من السكينة، لجعلوها ركناً ركيناً في منازلهم، لا يتزحزح، ولما أفلتت شمس يوم إلا ولهم فيها جلسة، يحيون بها قلوب أبنائهم، ويطبعون فيها محبة الذكر في نفوسهم، ويعوّدونهم الحديث عن الله ورسوله ﷺ، ليأنسوا بذلك كما يأنسون بالماء والهواء، بدلًا من لهو الأجهزة، ولغو الشاشات، وضياع الأعمار في الفارغ.

ويا أيها الحبيب، إن أردت لأبنائك الثبات على الدين، وإن رغبت في صلاح الذرية؛ فالزم مجالس الذكر، واجعل بيتك بيتَ قرآن وبيتَ دعاء وبيتَ علم، فإن الشيطان يفر من بيت يُذكر فيه الله، وتأنس فيه الملائكة.

ولكن، إيّاك وما يمنع من دخول ملائكة البركة والرحمة، فإن النبي ﷺ قد قال:
"لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة".
وقال الإمام السفاريني في غذاء الألباب (٢٤٥/١): "المراد بالملائكة الذين لا يدخلون بيتًا فيه كلب ولا صورة: ملائكة الرحمة والبركة".

فيا من يريد زراعة الخير في أبنائه: اطرد الصور، وأبعد الكلاب، وطهّر بيتك من كل مانع، ثم أقم مجلسك، واخلص نيتك، وادعُ الله في ختام مجلسك بدعاء عباد الرحمن المحبين الصادقين: ﴿رَبَّنا هَب لَنا مِن أَزواجِنا وَذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أَعيُنٍ وَاجعَلنا لِلمُتَّقينَ إِمامًا﴾.

فإن صدقت النية، وداومت على مجالس الذكر، ورفعت يديك إلى السماء؛ بورك لك في أهلك، وجعل الله بيتك مأوى سكينة، ومهبط رحمة، محفوفًا بالملائكة ومصنعًا يُصاغ فيه الصلاح جيلاً بعد جيل.
قناة طلال الحسّان.
مجالسُ الذكر.. أنفاسُ السكينة في أروقة الدور 🌿🌧️ يا صاحِبَ البيتِ، ويا راعيَ الذرية، ويا من تُفتّش عن السكينة بين جدران دارك: اعلم أنّ من أعظم ما تُزيّن به منزلك، وتُعمّر به دارك، وتستجلب به الخير والبركة، وتدفع به غوائل الشياطين ووساوس الهوى؛ مجالسُ الذكر،…
وهذه بعض الكتب المناسبة أراد كتب مناسبة لعقد مجالس الذكر :


◉ التفسير الميسر أو المختصر في التفسير.
◉ رياض الصالحين أو معالم السنة النبوية للشيخ صالح الشامي.
◉ فقه الأسماء الحسنى للدكتور عبدالرزاق البدر.
◉ فقه الأدعية والأذكار عبدالرزاق البدر.
◉المنح العلية في بيان السنن اليومية للدكتور عبدالله الفريح.
◉ أربعون مجلسًا في التربية الإيمانية، وهذا الكتاب مؤلف خصيصًا لهذا الهدف، وأنصح به جدًا.
جوامع الأدعية النبوية: نفحات النور، ومراقي الأرواح 🌧️

إنّ خيرَ ما يلوذُ به العبدُ في ليله إذا أظلم، ونهاره إذا اضطرب، هو الدعاءُ الصادق، المستمدّ من مشكاة الوحي، المورود من حياض الكتاب والسنة؛ حيث النورُ الطاهر، والموردُ العذب، والكلمةُ الطيبة التي تصعد إلى السماء فتُفتح لها الأبواب، وتُهيَّأ لها الإجابة.

نعم؛ إنّ في أدعية النبي ﷺ سرًّا من أسرار الهداية، وضياءً من أضواء القبول، وحلاوةً لا يذوقها إلا من أخلص في دعائه لله، عارفًا بما يقول، حاضر القلب بما يسأل، مُستبصرًا بمعاني ما يتلفّظ، وكفى بكلام الإمام ابن تيمية نبراسًا في هذا الباب، إذ يقول: "وينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة، فإن ذلك لا ريب في فضله وحسنه، وأنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا" مجموع الفتاوى (٣٤٦/١)

وإنّ من حرمان القلب، أن يردّد العبدُ كلماتٍ لا يعي معناها، ولا يفقه مدلولها، فيفقد بذلك استشعار معاني الدعاء العظيمة ولذة المناجاة وأنس القرب، وشفافية الاتصال بين العبد وربه.
أما إذا أقبل على الدعاء بقلبه، وعلِم ما يقول؛ فهناك تذوق الأرواح حلاوة الابتهال، وتتنزل عليها سكينة الرضا، ويتدفق من بين جنباتها برد اليقين.

ولأجل هذا، كان من خير ما يُتحف به القارئ، ويُهدى إلى المتعبّد، ما جمعه الشيخ العالم الدكتور عبدالرزاق البدر ـ حفظه الله ـ من أدعية النبي ﷺ واستعاذاته المباركة، مع شرح لطيف واضح، يُعين على تدبرها، ويكشف عن جواهرها، ويهيئ السالك ليفهم ما يدعو به.

فدونك هذه الكنوز النبوية، التقط منها لآلئ الدعاء، وتفيّأ ظلال الرحمة، وتزوّد بها في سيرك إلى الله، فما سلك عبدٌ درب الدعاء إلا قاده إلى باب العطاء، وفُتح له باب التوفيق على مصراعيه، وملأ يديه من الخيرات والبركات.
وهجُ العقل من زيت عقول الرجال🌱💡


ما أشبه العقل في حياة الإنسان بمصباح الزيت! لا يضيء إلا بقدر ما يُملأ، ولا يكون له نور على الناس إلا بقدر ما أُشعل فيه من معارف العلماء وتجارب العقول.

وما أضيقَ عمرَ الإنسانِ إذا لم تُزهر فيه الأفكار الطيبة، ولم تثمر فيه العلوم النافعة ! وما أضيعَ سنيَّ الحياةِ إذا مضت في لَغْوِ الحديثِ وزينة الحياة الدنيا، ولم تُغرسْ في أرضها بذور العلم والمعرفة من نبعِ التأمل والتعلّم والتجربة.

ألا وإنّ من بليغ الحكمة أن تدرك أن أعمار العلماء ليست لهم وحدهم، بل هي لمن عقل عنهم، وأحسن الانتفاع بهم، واستثمر عقولهم وما كتبوه من علوم ومعارف سلخوا فيها أعمارهم ليضيفها إلى عقله، ويزيد بها عمره العلمي، فإنك أيها الطالب، قد تقرأ في يومٍ ما خطّه مؤلفٌ في سنوات، فتنقلب هذه الدقائق التي قرأت فيها، إلى سنين تضاف إلى عمرك العقلي، وتُحسب لك في ميزان الحياة، وتختصر بهذه الكتب مسافات العمر.

وما أكثر ما يمضي العالم أو المؤلّف دهرًا من عمره، يقرأ المؤلفات ويستقرئ المطولات، ويغوص في لجج الفكر، ثم يخرج لك بلُبابٍ صافٍ، وشهد مصفّى، يضعه بين يديك كأنما يضع كنزًا على مائدة من ذهب. فهل من العقل أن تترك هذا الكنز وتفرّط به؟

نعم، ففي كتبِ العلماء وأسفار المؤلفين ونتاج الباحثين أعمار مبذولة، وأقدام مشققة، وساعات وُصِل فيها سواد الليل ببياض النهار، وأيام من السفرِ نُسجت على نَولِ الصبر والمشقة، ثم ها هي ذي بين يديك، قد نُسجت خلاصاتُها في سطورٍ، فهلّا ضممتَها إلى عقلك، وجعلتَها مِفتاحًا يفتح لك أبوابًا لم تكن لتُفتح بعُمرك وحده.

فاحرص -رحمك الله- أن تُضاعف عمرك العلمي بعلم العلماء، وأن تزيد على عقلك عقولهم، فزادُ العقول من تجارب الرجال، والعمر وإن طال؛ أقصر من أن يجرب كل شيء بنفسه، فالعمرُ لا يكفي، ولكن القراءة تَكفيه.
فمن تمام العقل أن تقرأ، لا لتزيد علمك فحسب، بل لتختصر على نفسك المسافات، وتُبصر المواضع التي سلكها غيرك وتسلكها بأقدامهم، فاعقل هذا، تكن ممن عمره يَسَعُ عمرَ أمة، وعقله يسير بأقدام العلماء، فبمثل هذه القراءات يطول العمر من غير زيادة في السنين.

أجل، إن الحصيفَ اللبيب لا يمرُّ بعقلٍ إلا استوقفه، ولا يقرأ كتابًا إلا سأل نفسَه: كيف أُضيف هذا إلى عقلي؟ فالعمرُ مهما امتدّ، أقصرُ من أن تُجْرِب فيه كلَّ ما جُرّب، وتجوس فيه خلال الديار، ومن قرأ بعقل غيره؛ فاز بضعف عمره، واستنار عقله بخلاصات العلماء.

فاجعل أيها القارئ، من كل ساعة علمٍ تسرقها من لهوك، عُمْرًا مضافًا إلى عمرك، ومن كل كتابٍ تقرؤه، عقلًا آخر يُضاف إلى عقلك، فإنما أنت بجمعك للعقول، تُوسّع مداركك، وتُضاعف أنفاسك في ميدان المعرفة.
ويا لها من ساعات من ذهب، وأعمار تُشترى بلا ثمن. ولقد أعجبني مارون عبود، وهو ينثر الحكمة بين سطور بيانه، حين قال: “إن ساعةً تنتزع كلَّ يومٍ من ساعاتِ اللهو، وتُستعمل بما يفيد، تُمكِّن كلَّ امرئٍ ذي مقدرةٍ عقلية أن يتضلع من علمٍ بتمامه".
حين تُجهضُ الأضواءُ مسيرةَ النبوغ 🌿

نرى بين آنٍ وآن طيفًا من الأشبال الغِرّ، قد أشرقت عليهم أنوار الحفظ، ورفرفت على جباههم ألوية الفهم والذكاء، فيُطرب الناس لهم، وتتهلل الوجوه لرؤيتهم، ويتسابق ذوو الهيئات إلى تقديمهم، فتُفسَح لهم المجالس، وتُعقَد لأجلهم المحافل، ويُقال فيهم وعنهم، حتى كأنّ الدنيا لم تُرزق قبلهم نابغًا، ولن تُنجب بعدهم مثيلًا!

أصدقك القول أني لا أُسَرّ برؤية طفلٍ يُقدَّم في المجالس، ويُصنَع له من الشهرة ما لم يُصنع للكبار، بل أجزع له وأخاف عليه، كأنّي أراه في مَهبّ ريح عاصف، قد أخذته يد الإعجاب من حيث لا يشعر، فألقته في تيار لا ينجو منه إلا من عصمه الله!
ويا لله، كم أَشفق على هؤلاء البراعم إذا سُلِّطت عليهم أضواء لم تألفها أعينهم، ونُزِعت عنهم براءة الطفولة نزْعًا باسم التميّز والتفوق والنجابة.

وإني وإن كنت والله أفرح بموهبة تُفتَح أو حافظٍ متقن، إلا أنّ الفرح سرعان ما يخبو، ويقوم في قلبي مقامَه وجَلٌ من العاقبة، وخوفٌ من مكر الدهر وتقلب الأحوال إذا رُفِعوا على منابر لم تتهيأ لها أقدامهم.

يا سادة، ليس كلُّ من أضاء مبكرًا دام نوره، ولا كلُّ من أُبرز صغيرًا سَلِم من داء الغرور وفتنة التصدير ودخان الأضواء.

فليست الشهرة في هذا السن إلا كالسُّمّ في الشراب، ينساب في العروق مسرورًا به، ثم لا تلبث أن تظهر تبعاته في العقل والدين والخلق.

ألا ما أتعس الطفل إذا عَلِم أنّ له مقامًا بين الكبار، وأحسَّ أنّ له في المجالس صدارة، وفي الألسنة ذِكرًا، وفي القلوب تعظيمًا! فإنّ قلبه الطري لا يحتمل ذلك، وعقله الغضّ لا يميّز بين المدح الذي يُنمّي، والمدح الذي يُردي.

أيّها الأب، أيّها المربي، إنّك إن كنت محبًّا لولدك أو تلميذك فاستره حتى يشتدّ، وغطّه حتى يكتمل، وألقِ به في حجر العلماء لا في حُضن الكاميرات، واسقه من ماء الحكمة لا من خمر المديح؛ فإنّ أخطر ما يكون على قلب الطفل أن يُقال له: "ما أذكاك! ما أنجبك! ما أعجبك! ".

فكم من موهبة كُفِنت في ثياب الظهور المبكر، وكم من غلامٍ أجهزت عليه فلاشات المصوّرين، واحتراقات التصفيق، قبل أن يتهيأ للمسير في مدارج الرجولة وأخلاق العلماء ومنازل التواضع!

إنّ التربية الحقّة، أيها المربّي النبيل، لا تكون على منصّة، ولا تُغرس في ضوء الكاميرا، ولا تُسقى في زحام التصفيق، بل تُرَبَّى النفوس في الظلّ، ويُنضَج العقل في صمت، وتُزكّى الروح في خفاء، ويُحفَظ من أعين الناس حتى إذا اكتمل بناؤه قيل له: تقدم، فإنّك إن قدّمتَ الطفل قبل أوانه؛ هدمتَ ما بنيت، وأفسدتَ عليه ما أردت إصلاحه.

ولستُ أعني أن يُهمَل الغلام إذا نَبغ، بل أقول: ليُربَّ التربية الصحيحة، تلك التي تكون في ظلّ التزكية، لا في وهج الثناء!

فاتركوا لأبنائكم الطفولة بما فيها من براءة وسذاجة، وغذّوهم بمعاني الخير والفضيلة، ودعوا عنكم لهاث التفاخر بأعمارهم الصغيرة، وقراءاتِهم الطويلة، فكم في هذه المفاخرة من خيانة، وإن غلّفها القائل بنيّةٍ حسنة! وكم من غلامٍ اشتُهر فخمد، ومُدح ففَسَد، واعتُلي المنابر فزلّت به القدم، وما كان ذنبه إلا أنه صدّقهم حين قالوا له: "أنت شيء" قبل أن يُصبح شيئًا!

واحذروا أن تزرعوا في قلوبهم شجرة العُجْب، فإنها إذا نمت اقتلعت معها كل نبتة طيبة.

فيا من أُوتي ولدُك فهْمًا، أو بُورِكَ له في الحفظ، خذه من يده إلى ساحات العلماء، وأغلق دونه أبواب الظهور، حتى يكتمل بناؤه، ويشتد عوده،
فإنّ من طاش في صغره برُفعةٍ لم يستحقها، عاش في كِبَرِه يلهث خلف بريقٍ زائل، ورضًا لا يُنال، وتقديرٍ لا يُعطى إلا للراسخين.

فدعوا الطفولة تكتمل، ودعوا العقول تُستكمَل، واتركوا للمستقبل جَمالَه، وكفوا عنهم ضوضاء الشهرة، واصرفوا عنهم ضجيج الظهور، ودعوهم ينضجون كما تنضج الثمار في أغصانها، بعيدًا عن لَغَط الناس وضجيج الدنيا.
المتأخر الذي سبق الجميع 🌧️

إذا سبقك الناس إلى المجد، فلا تظننّ أنهم بسبقهم ظفروا بكل غنيمة، وأنك بتأخّرك فاتك ركب المعالي، وتجاوزتك فُرص النجاح، فإن هذا ظن من لم يعرف حقيقة الحياة وطبيعة النجاح فيها.

إن السبق يا صاحبي أن تعرف موضع خطواتك، وأن تتّخذ من التأخُّر عزيمة، ومن قِلّة الزاد قوة، ومن ضيق الطريق سعةً في الهمّة وامتدادًا في الأمل.

فكم من سابقٍ إنما يركض على غير هدى، وما يسابق إلا ظِلّه، ويمشي في الأرض مكبًا على وجهه، ولا يدري أين المستقر، وكم من متأخّرٍ قد وَقَفَ ليحسن التأمُّل، فخرج من وقفته تلك إلى غايةٍ لا يبلغها السابقون، وهكذا النفوس الكبيرة لا تعكف على أطلالٍ ذابلة، ولا تندب حظها على أمجاد لم تُدرِكها، بل تنهض بما أوتيت من العزيمة، وتستثمر ما في يدها من إمكانات متاحة، فيحول الله تأخّرها إلى ريادة، ويجعل خُطاها البطيئة سبْقًا في المدى.

ولستُ أجد لذلك شاهدًا أبلغ، ولا دليلاً أوضح، من الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه، جاء متأخّرًا بعد أن مضت الهجرة وطُويت صفحات بدر وأُحد والخندق، وبعد أن سبق إلى الإسلام السابقون الأولون، وثبتت أقدامهم فيه، وأخذوا من الفضل ما شاء الله لهم أن يأخذوا؛ فما اهتزّت له قناة، ولا وهنت له إرادة، وما نظر إلى ما فاته من الفضل، ولم يتحسّر على ما سبق، بل نظر إلى ما بين يديه من الممكن والمتاح، و أقبل بكليّته على جمع الحديث، وجدّ في الطلب، واحتقب عزيمته، واستمسك بالحفظ كأنه يستمسك بطرف النور، فلا يُفلت منه حرف ولا معنى، واستفرغ جهده في استيعاب ما فاته من الوحي، فجعل الحفظَ سلاحَه والنيةَ مركبَه، فصار مَن تأخّر عن القافلة؛ رأسَها وسَنامها!

أجل، تأخّر في الزمان، لكنه تقدّم في الميدان والمكانة، حتى غدا محدّث الإسلام الأول، وراوية السنّة، ووعاء الوحي في الأمة، وتلك وربي منزلة لا يرقى إليها إلا من وهبه الله نفسًا لا تُصاب بالفتور، وعزيمة لا تنكسر أمام سُرعة الآخرين، فانظر كيف جعل الله لمتأخّرٍ في الزمان، سَبقًا في العلم، وخلودًا في الذكر، ورفعةً في الدين، وادّخر له هذا الفضل.
نعم، حينما تأتي متأخرًا وتكون الأول، لأن مجيئك هذا جاء بعد أن نضج وعيك، واشتد عزمك، واستقامت رؤيتك، فتكون خطوتك المتأخرة أثبتَ، ونفَسك الممتدّ أطول، وقلبك المتيقّظ أصفى.

فيا من ظن أن الأيام قد أضاعته في مساربها، وأبطأ به الزمان عن سابقيه؛ وظنّ أن فواتَ البدايات فواتٌ للغايات أقول لك:
لا تيأس ولا تأسَ ولا تبتئس، فإن الشمسَ وإن أبطأت في الشروق؛ فهي إذا طلعت ملأت الوجود نورًا، وإذا أشرقت أحرقت العتمة وأحيت الذبول!

فالعبرةُ ليست بالبدايات وحدها، بل بالنيّة الصادقة، والعمل الدؤوب، والانبعاث من مرقد الغفلة إلى رحاب الجدّ والعطاء، واستثمار الممكن والمتاح.
فانهض من حيث أنت، وابدأ من حيث بلغت، فإنما المرء بعزمه لا بعمره، وبقلبه لا بزمنه، وإن العبرة ليست بمن بدأ، ولكن بمن أتمّ، وليست بمن سبق، ولكن بمن ثبت وصدق.

فالهمّة العالية تصنع للمرء مبدأه، وإن جاء في آخر الركب، وتجعله إذا همّ أن يكون، كان!
فالحق بركب المجتهدين، وإن تأخّرتَ، فربّ متأخّرٍ بلغ القمّة، وربّ مُبكّرٍ تاه في السفح!
عظمة التدبير بين موعد الفرج وروعة اللطف 🌱🌧️

قد يتأخر عنك الفرجُ يا صاحبي، فلا يأتيك حين تشتد قبضتك في الطّلب، ولا حين تُلحّ على الأبواب بدمعك وندائك، بل يأتيك إذا شاء الله أن يأتي، في ساعةٍ لا تنبئ عنها الساعات، ولا يسبقها نذير، ولا تتقدّمها علامة، حين يأذن الله، وفي وقتٍ يختاره بحكمته، لا بهواك ولا بانتظارك، فالله سبحانه لا يعجل لعجلة عباده.

فهو الذي رتّب شؤونك من قبل أن تُخلَق، وأدار دقائق قدرك وأنت لا تشعر، فإذا آن أوان الفرج، أقبل عليك من كل صوبٍ بالعون والتسخير، وجاءتك الأسباب تمشي إليك كما لم تحتسب، بعضها تعرفه، وبعضها ينهمر عليك كالوحي، لا تدري من أين أتى ولا كيف ساقه الله إليك. فهو سبحانه، إن أذن للرحمة أن تمشي إليك، مشت، وإن أذن للكرب أن يُجلى عنك، انجلى، ولو كانت الجبال عليه مطبقة، والأبواب دونه مؤصدة، حتى لكأنها لم تُخلق بمفتاح.

وإذا شاء الله أن يُفرّج عنك، ساق إليك من الأسباب ما لا يخطر ببالك، وسخّر لك من جنوده من لم ترَهم، وجعل من عسرك يسراً، ومن دمعك ضياء، ومن ظنّك القاطع أملًا نابضًا، فإذا بملامح المشقّة تنقلب نعيمًا، وتُبصر أن ما كنت تراه بالأمس حاجزًا؛ أصبح اليوم أعظم ما يُعينك، وربّ أمرٍ كنت تراه سدًّا من حديد، فإذا هو بوابة الفرج، وربّ شيءٍ كنت تُبغضه بالأمس، فإذا هو اليوم عصاك التي تتكئ عليها، وتهش بها على ألمك، فلا تملك حينها إلا أن تخرّ ساجدًا لعظمة التدبير، وتشهَد في قلبك روعة اللطف وعجائب الرحمة التي سبقت كل شيء.
هنالك تعلم – لا باللسان بل بالوجدان – أنّ لله ساعةً إذا جاءت، انحلّت بها عُقد الدهر، وتفتّحت بها مغاليق الأرض والسماء، وأنّ رحمته لا تُدرك بالعقل، بل تُلمَح بالبصيرة، وتُرتَشف بالرضا، وبوابتها التضرع والدعاء، ومفتاحها الصبر واليقين.

﴿وَلا تَيأَسوا مِن رَوحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيأَسُ مِن رَوحِ اللَّهِ إِلَّا القَومُ الكافِرونَ﴾.
📖 كتبٌ مهمةٌ لطالب العلم  تُعينه على ضبط مسائل توحيد العبادة:
١. الرَّد على البكري (الاستغاثة).
٢. الرَّد على الإخنائي.
٣. التَّوسل والوسيلة.
⏎ ثلاثتها لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
اقرأها بتأنٍ.

📖 كتب يُنصح بها، تجمع بين الإفادة العلمية وتهذيب السُّلوك:
• قاعدة في المحبَّة ⇦ لابن تيمية رحمه الله.
• طريق الهجرتين.
• أوائل الوابل الصَّيب.
• الرِّسالة التَّبوكيَّة.
⏎ لابن القيم رحمه الله.

📖 ثلاثة كتب:
١. التَّنبيهات السَّنية على العقيدة الواسطية⇦ ﻻبن رشيد.
٢. تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التَّوحيد.
٣. شرح العقيدة الطَّحاوية⇦ ﻻبن أبي العز .
اقرأها قراءة جادة، وأبشر بفائدة كبيرة في العقيدة.

📖 ثلاثة كتب ﻻ يستغني عنها طالب علم متأهل في تأصيل العقيدة والرًّد على المخالفين:
١. نقض الدَّارمي على بِشر.
٢. ورده على الجهميَّة.
٣. التَّوحيد⇦ﻻبن خزيمة.

📖 يسأل بعض الإخوة عن شرح مختصر متميز لكتاب التَّوحيد
وأرى أن (حاشية كتاب التَّوحيد ) لابن قاسم رحمه الله جدير بالعناية؛ فهو من أفضل الشُّروح المختصرة.

📖 يسأل بعض الإخوة -غير المتخصِّصين- عن كتاب في العقيدة جامع يُكتَفى به.
لعل كتاب: (معارج القبول) للحكمي هو المناسب، كتاب نافع جدًا
أوصي بالعناية به، يتميَّز بالجمع والجودة والسُّهولة: يجمع معاقد مسائل الاعتقاد بأدلَّتها بأسلوب سهل.
وكونه بعد دراسة الواسطية: أمرٌ جيد.

📖 تفسير: (أضواء البيان) للشَّنقيطي
يندر أن يُؤلف في عصرنا كتاب يضارعه في قوَّة لغته وجودة تحقيقاته وكثرة فوائده، فلا غنى لطالب العلم عنه.

📖 كتاب: (اقتضاء الصِّراط المستقيم) ﻻبن تيمية
كتاب جليل، عظيم النَّفع، كثير الفائدة، حريٌّ بالقراءة والتَّأمل
والحاجة إليه -في هذا العصر- ماسة.

📖 كتاب: (طريق الهجرتين) ﻻبن القيم .. كتاب عظيمٌ نافع، ﻻ يستغني عنه طالب العلم.
فاقرأه؛ وستجد -بتوفيق الله- فائدة كبيرة.

📖 إذا أردت كتابًا مليئًا بالفوائد .. أشبه ببستان فيه من كلِّ الثَّمرات تروم في قراءته المتعة وزيادة اﻹيمان
فعليك بــ: (مفتاح دار السَّعادة) ﻻبن القيم.

📖 إذا أردت كتابًا نافعًا جامعًا؛ يطوّف بك في بساتين العلم المختلفة
فعليك بـ: جامع العلوم والحِكم (شرح الأحاديث الأربعين النوويَّة وزيادتها) لابن رجب.

📖 أنصح أن يجمع طالب العلم في مكتبته -ما استطاع-: كتب ابن تيمية، وابن القيم، وأئمة الدعوة، والعثيمين.

📖 كتب المعلمي رحمه الله نفيسة مفيدة؛ تتميَّز بحسن الاستقراء وجودة الاستنباط، سيما مؤلفاته في علوم الحديث، وقد طبعت مؤخرًا مجموعة مؤلفاته.

💡 "احرص على جمع الكتب؛ فلا يخلو كتاب من فائدة"
[صيد الخاطر ٣١١]
وراع في اقتناء الكتاب ثلاثة أمور: قيمته العلميَّة، حالته(تحقيقه، طباعته)، حاجتك إليه.

🔹| ️تغريدات متفرقة للشيخ أ.د. ‎
#صالح_سندي حفظه الله.
عظمة التدبير بين موعد الفرَج وروعة اللطف 🌧️🌱
المناجاة وسمو الروح في خلواتها 🌧️


من العبادات التي غفلت عنها القلوب ونُسيت في زحمةِ الأيّام، وضاعت بين أروقةِ السعي وراء المعيشة؛ عبادةٌ جليلة، لا يُحسنها إلا من زكت نفسه، ولان قلبه، وتألّقت روحه، وآنسته الخلوات..إنها عبادة المناجاة

تلك المناجاة العذبة، التي تنعش القلب وتحمل في طيّاتها من السكون ما يُنسيك ضجيج العالم من حولك.

هناك حين يُرخي الليل سدوله، وينسحب النهار بصوضائه، ويخلو القلب من غوائل الأشغال ومشاغل الأنام، يفتح العبد بابه على الله؛ يشكو إليه ما ضاق به صدره من الزمان، ويبثه ما لا يحتمله الجَنان، ويودعه حديثًا يطول ويطول حتى لا يشعر صاحبه بالليل إذا أدبر، ولا بالصبح ١إذا إذا أسفر.

فإذا صفا القلبُ من كدرِ الحياة، وانسلخ عن شواغلِ الوقت، وانكفأ على ربِّه خاشعًا؛ فُتح له باب السماء، فدخل منه متخففًا من الأثقال، يهمس إلى مولاه بأوجاعه، وينثر بين يديه حوائجه، يشكو ويرجو، ويبكي ويبث، لا يملّ ولا يكلّ، لأنّه في حضرةِ من لا تملُّ حضرته، ولا ينفد عطاءه، ولا منتهى لكرمه وجوده.

عجيب أمر هذه المناجاة!!
هي مرتبة المحسنين، وحقيقة العارفين، فيها يتهجّى القلب أبجديات الحب والرجاء، ويسكب دموع قلبه على عتبات أبواب ربّه، ويناجيه بأسلوبه، لا يتكلّف فيه ولا يتصنّع، بل بعفوية رقيقة تسري في النفس سريان الندى على زهور الفجر.

هي ليست حديثًا عابرًا يمرُّ على الشفتين، ولا أدعية تُقال بقلب غافل، بل هي سرُّ القرب ووسيلة الأنس وذِروة سنام العبودية!
هي أن تُناجي ربك كأنّه تراه، وتأنس به كأنّك جالس بين يديه، تُحدّثه بلهجتك، وتُبثّه شكواك بعفويتك،وتفيض له بسرّك كما يفيض الصديق الوفيّ لصاحبه الأمين.

في المناجاة لذّة لا يعرفها إلّا من ذاق، وسكينةٌ يفيضها الله على من أخلص..

ويا لله! كم من قلبٍ تَفتّق في ساعة مناجاةٍ عن نور لم يجده في صلواتٍ طويلة، وكم من روحٍ أشرقت بعد ليلٍ من البكاء الطويل، وكم من نفسٍ آنست في بُثّها لربها من الحلاوة ما يُنسيها الأرض ومن عليها! حتى لكأن الأرضَ غابت، والزمانَ ذاب، وما بقي في الوجودِ إلا صوتُ العبد، وهمسُ الرجاء، وحنانُ الرب!

هنالك، يُصبح القلب لسانًا، ويغدو السرّ صلاة، وتذوب اللحظات فلا يعود الزمن زمنًا، بل يصبح كل شيء سكونًا وطمأنينة.

فلا تُضيّع نصيبك من هذا الفيض الرّباني، ولا تبخل على روحك بهذه النعمة، واجعل لك في كل ليل خلوة، وفي كل سكون نجوى، تتخفّف فيها من ضجيجِ الدنيا، وتنطرح على باب الكريم تناجيه، وتُخبره بما لم تُخبر به أحدًا، فإذا فعلت ذلك؛ فحدّثني عن قلبك بعدها كيف رقّ؟
وعن روحك كيف سمت؟
وعن دمعتك كيف أزهرت لك السكينة؟
وعن زمانك، كيف امتلأ بأنس لا مثيل له، ونعيم لا يزاحمه نعيم؟
2025/09/14 03:29:42
Back to Top
HTML Embed Code: