الأشجار والفهود والصقور تشرب من الترعة ذاتها: ترعة العدم. كل الكائنات تشرب منها هذه الترعة.
وليس لديّ مشكلة في هذا. المشكلة تكمن في الأبوة والبنوة التي تجعل العدم مرّا. من أجل هذا تمنيتُ لو أن الانسان ينبت كالفطر. أي أن يكون بلا أم وأب. وأن تكون الأرض حقلا كبيرا من رؤوس الفطر، كما هي السماء حقل من نجوم الفطر الأزرق. كل نجمة في السماء يقابلها رأس فطر على الأرض. ويقف ملك الفطر ليقول: هؤلاء شعبي. هؤلاء من لا يعرفون لهم أبا ولا أما. ولا يعرفون سوى الريح التي تبذر اليأس والفطر من كيسها.
الفطر والكمأة هما الوجود الأعلى. وكل واحد منهما خليفة نفسه على الأرض.
أما نحن فأبناء تترحّم على آبائها. وأنا أترحم على أبي. على كفه الترابية، وعلى عينه التي شُقت بسكين الله. أترحم على أمي التي أطفأ الإلزهايمر مصابيح دماغها واحدا بعد الآخر. هكذا هم الأبناء: ماكنات ترحّم على الآباء.
الكائنات كلها تشرب من ترعة واحدة. ترعة كبيرة لا يُعرف من حفرها. لكنها هناك ساحقة وأكيدة.
وحين أسأل يوم القيامة: من أنت؟ ومن أبوك وأمك؟ سأرد: أمي هي الإلزهايمر، وأبي عقدة العصا وبُجرتها. أما أنا فقد تمنيتُ أن أكون رأس فطر، وأن تكون الريح خالتي وعمتي.
آه، يا فرناندو بيسوا. هناك خيط عامي لا أستمرئه في شعرك. هناك ثمرة متفائلة لا أطيق طعمها. أنت لا تعرف أن الزهرة تشرب من ترعة العدم. لا تعرف أن القناديل كلها تطفأ بنفخة واحدة من فم العدم.
زهرتك عدم، وكلماتك عدم. وأنت لست إلا جرعة من ترعة العدم.

27-10-2022 زكريا محمد

اسواق بغداد … كاركتير ضياء الحجاز ٢٠٠٨

الجميعُ هناك
رفاقكَ في الحفلة يرقصون
ترفعهم الموسيقى إلى الأعالي،
ضوءُ العالمِ يغمرهم،
وأنتَ هنا..
وحيدًا في الأسفل
بماذا انشغلتْ؟

_ بالنبتة!
تلك الملقاة هناك
المطفأة مثل كلمة ممحوة
الوحيدة
كما لو أن حِداد َالعالم كله
في جفافها
النبتة التي غطّاها غبارُ الهجران! … زهير كريم

أبحث عن أثاث صالح في ذكرياتنا لأزجه في رسالة
الانتظار هو قطعة الأثاث الكبيرة هناك
مقعد يواصل النمو في غرفة عارية
الحاكي الخشبي في الزاوية البعيدة محاط بأزهار بلاستيكية وهو يدور ويخشخش في الفراغ
البيانو الأسود القديم في القاعة الفارغة، المضروب بضوء العصر، حزمة الضوء أصابت مقعد العازف وأضاءت الغبار على سطح المهجوني
هذا هو الانتظار أيضا.

الانتظار بهيئاته التي تنتظر هو ما أجده كلما ذهبت لأحضر أثاثا للرسالة

المقعد الذي ينمو في غرفة عارية
الحاكي الذي يخشخش
والبيانو الذي يحدق في قاعة فارغة

ليست الرسالة يا سارة سوى انتظار تعلّم المشي
تمارين الذهاب
تذكّر أشياء لم تحدث

ثم ما هو الانتظار سوى غصن جاف نحرك به الذكريات
لتصبح احلاما
الانتظار، يا سارة، حجر بجناحين
،،،،،،،،، غسان زقطان

من "ريشةٍ لطائر منقرض"

رجلٌ تغطيه الأيادي تدثره الظلال

في سوق النظرة أعلن التجارُ عن إفلاسهم
ومن بينهم كنتُ الرابح الوحيد،
فقد تعلمتُ من حُسَّادٍ حدة النظر وقوة التركيز
دربوا عينيَّ وجعلوا منهما حربتين
حربة أطعن بها تفاصيل إمرأة ولا تنزف دماً
بل تختفي وبالحربة الأخرى أطعن إمرأة أخرى
فتختفي وتظهر الأولى،
دائماً ثمة إمرأة تغيب
دائماً ثمة إمرأة تظهر..
تلدُ الحربة أطفالاً
في روح الرجل العاشق
ولكن لا أحد يسمع
ولا أحد يرى
أطفالاً على النافذة
وإمرأتين:
واحدةٌ تشرف على حراسة العدم
وأخرى تنام آمنة فيه
والحربة سلاح الرجل الوحيد
والأطفال عطاشى
ولا أحد يتبرع بقطرة ماء،
بالنظرةِ أربح الخسارات
أربح الحسرة وقلة النوم وسوء التدبير
أربح خيال الشعراء المكاثين
في بركة الأخطاء الشائعة
أربح سعة المكان في الأماكن الضيقة
وضيقه في الأماكن الواسعة
أربح النساء الجميلات
أربح شظايا الماء في أعماق النهر اليابس
بالنظرة أخسر النظرة
وأخسر الروح
وأخسر حياتي..
وأموت من العطش والوحدة
ولا قطرة ماء..
من يعطيني قطرة ماء
قطرة ماء..
قطرة ماء يا حراس الشاطئ السكارى
قطرة ماء لرجل يربح خساراته
قطرة ماء لرجل يعطش في سوق النظرة
قطرة ماء لرجل كان عاملاً في ميناء الوحدة
يحمل حقائب وحيدين معبأة بأشياء وحيدة
قطرة ماء لرجل خذلته الأرضُ المزروعة بالقمحِ
وأعطته السماء الملبدة بالغيوم ظهرها
قطرة ماء لرجل يركض
وراءه عطش الغابة
وهو يجري مثل غزال شارد في الوديان
قطرة ماء للرجل الظمآن النائم في بئر الماضي
قطرة ماء أو قطرة خمر
لرجل تغطيه الأيادي وتدثره الظلال
وتضيعه اليقظة وينفيه الصحو
قطرة ماء أو قطرة خمر
لكي لا يتطلب من المرء
أن يكون عطشاناً على الدوام
ليعيش رابحاً في سوق النظرة !

*
في سوق النظرة أنا رجلٌ أعمى
أرى الناسَ بعينِ طبعي
ولا أريد أن أعرف بماذا يختلفون عني،
هم عميانٌ إن كانوا يرون الأعرجَ أعرجاً
وإن كانوا يرونه في أحسن تقويمٍ: عميانٌ أيضاً
أنا بالإصبعِ الزائدِ في يد الرجلِ
الذي يسمونه الأصبَعَ
أكتبُ على الترابِ تاريخ أخطاء الخلق
وأدونُ سيرة الشاعر الذي يعيش بلا تجربة بعماه
وبالمسحاةِ أحفر عيوناً
في جسد الأرضِ العمياء
لترى ضمور الله في خلايا الطفل الكسيح
أنا أفعل ما لا يفعله الأعمى
وأحتجُّ على ما لا يحتجُّ عليه المبصر
ولا حيلة بيدي
لستُ قادراً على شيء
جل ما أحتاجه هو أن أرى
ولكنني أعمى يعيش في عالم يكتظُّ بالصورِ والنساء الجميلات،
أعمى تبتلعه العاصفة
وترشده إمرأةٌ إلى بيته
تُدثره بالظلال
وتغطيه بالأيادي..
*
في سوق النظرة رأيت رجلاً أعمى
ولكنه ليس مثلي
هو يطعنُ النساء فتختفي
ويطعن الرجال فيختفون
كانت حربتاه للأسف عمياوتين
سمعته اليومَ يصيح بأعلى صوته
بصعوبة يقول:
اطردوا عني كل الأيادي
اطردوا عن كل الظلال
اطردوا حراس الشاطئ السكارى
واطردوا اليقظة والصحوَ
لستُ بحاجةِ قطرة ماء
أنا رجلٌ أعمى يعيشُ خاسراً في سوق النظرة
ويريدُ أن ينام...... صالح رحيم

_شطرنج _

لأننا كنا صديقان ، حبيبان أحياناً
و ربما لإضافة إهتمام آخر للإهتمامات الكثيرة التي تربطنا
قررنا أن نلعب لعبة تحتاج للذكاء
وضعنا الرقعة بيننا :
نفس عدد القطع.. القيمة.. و إمكانية الحركة
درسنا قواعدها ، أقسمنا على إحترامها

إبتدأت اللعبة..

و هانحن منذ قرن، جالسان ،نجري حسابات شرسة، كيف نأتي بالضربة الحاسمة الغير قابلة للإستئناف التي تقضي على التوازن مرة و الى الأبد!

_روساريو كاستيانوس_

كانت جميلة جداً، بقدر ما أنا قبيح
كانت ثرية جداً، بقدر ما أنا فقير
وكأن هذا ليس كافيا.. كنت أيضا خجول!
لكن
عندما مرّت من أمامي
أحد الأيام
تشجعتُ ...
قلت لها ببطء و بطريقة جبانة تقريباً
"أُحبكِ"
توقّفت،
ثم إلتّفتت إليّ
وقالت
"أنا أيضا أُحبك"
عندئذ...
فقدتُ السيطرة على البالونات التي كنت أبيعها في الساحة؛ طارت من يدي!
و إمتلئت سماء "يوم السبت" بالألوان.

فاكوندو كابرال

القمر

هناك الكثير من الوحدة في هذا الذهب،
قمر الليالي ليس هو نفس القمر الذي رآه آدم الأول
القرون الطويلة من المراقبة الإنسانية ملأته بدمع قديم...
"أنظر له، هو مرآتك".

خورخي لويس بورخيس ترجمة فايزة مصطفى

ـ بيت ـ
لا أحد يهجر أرضه إلا إذا صارت أرضه فك قرش
تركض للحدود فقط عندما ترى أن كل المدينة تفعل ذلك
جيرانك يركضون أسرع منك، ورائحة الدم في حلوقهم
الطفل الذي رافقك طريق المدرسة وقبّلك حتى الدوار خلف المصنع، يحمل سلاح أضخم من جسده

تهجر مكانك فقط عندما لا يسمح لك مكانك بالبقاء
لا أحد يغادر مكانه إلا إذا طارده المكان
نار تحت الأقدام
دماء تغلي في العروق
لم تفكر أبدا في فعل شئ كهذا
حتى شعرت بالحديد الساخن يهدد عنقك
لكن حتى حينئذ حملت ترانميك في أنفاسك
مزقت جواز سفرك في مراحيض المطارات
إنتحبت بينما كل قطعة من أوراقة تخبرك أنك أبدا لن تعود

يجب عليك أن تفهم أن لا أحد يضع أطفاله على القارب إلا إذا كان الماء أكثر أمانا من اليابسة
لا أحد يحتضن باطن كفيه تحت القطارات والمقطورات
لا أحد يمضي أيام وليالي طويلة في بطن شاحنة يقتات أوراق جريدة إلا إذا كانت الكيلوميترات المقطوعة تعني أكثر من مجرد سفر

لا أحد يزحف بإرادته تحت البوابات
لا أحد يرغب في استقبال الضرب و الشفقة
لا أحد يختار معسكرات النازحين
أو وجع مراجعة جسدك العاري
لا أحد يختار السجن؛ لكن السجن أكثر أمانا من مدينة تشتعل
و سجّان في الليل أفضل من شاحنة محملة برجال لهم وجوه بملامح والدك

لا أحد يمكنه تحملها، لا أحد له أحشاء،
لا أحد يملك جلد صلب بصورة كافيه لتحمل عبارات ك :
"عودا الى بيوتكم ياسود"
"نازحين"
"مهاجرين قذرين"
"طالبين لجؤ"
"رائحتهم غريبة"
"بربريين"
"دمّرتم بلادكم والآن تريدون تدمير بلادنا؟ "
"تريدون سرقة ما هو لنا"

كيف يمكنك تحمل الكلمات و النظرات الوسخة؟
ربما تستطيع، لأن هذه الصفعات أكثر نعومة من ألم قطع العضو الذكري
ربما تستطيع، لأن هذه الكلمات أكثر رقة من أربعة عشر رجلا يتناوبون بين فخذيك
ربما لأن الشتائم أسهل في البلع من الأنقاض
أسهل من ان تتحول عظامك و جسدك الصغير الى أشلاء

أريد العودة الى بيتي، لكن بيتي فك قرش
برميل من البارود

لا أحد يغادر بيته إلا إذا طارده البيت حتى الساحل

إلا إذا أمرك بيتك أن توسع خطاك
تترك ورائك ملابسك، أن تزحف خلال الصحراء
أن تبحر عبر المحيطات...
"أبحر! أنجو! تحمل الجوع! تذلل! إنسى الكرامة ؛حياتك أكثر أهمية..."

لا أحد يغادر أرضه حتى تتحول أرضه الى صوت مُتعرّق في أذنك يقول :
"إذهب، أركض بعيدا عني الآن
لا أعرف مالذي أصبحتُ عليه، لكني أعرف أن أي مكان هو أكثر أمانا من هذا المكان"

_للشاعرة الصومالية "وارسن شيري"_

ما سبب ان يكون لدى إل"شي جيفارا" هذة العادة الخطيرة بأن يُولد من جديد باستمرار؟
كلما أكثروا في شتمه،
في التلاعب به،
في خيانته،
يُولد أكثر من جديد؟
هو "الأكثر ولادة" على الإطلاق !
أيكون لان إل"شي" قال ما إعتقد
وفعل ما قال؟
أيكون هذا هو سبب أن يستمر خارق للعادة في عالم الأقوال فيه نادر جداً أن تلتقي بالافعال و عندما يلتقون لا يتبادلون التحايا لانهم لا يتعرفون على بعضهم البعض ؟

إدواردو غاليانو

أمي كانت تقرأ كتب رديئة لكن خيالها فتح لي أبواب أخرى، كانت لدينا لعبة "ننظر للسماء و نتخيل اشكال السحب ثم نؤلف قصصا عظيمة" اصدقائي لم يملكوا مثل هذا الحظ، لم يكن لديهم أمهات ينظرن الى السحاب.

خوليو كورتاثار

أخبروني أنكِ مغرمة بآخر
عندها ذهبت الى غرفتي و كتبت هذة المقالة ضد الحكومة
والتي بسببها أنا في السجن الآن.

ارنيستو كاردينال

_الصمت_

أعطيني يدك
سأخبرك الآن
كيف إقتحمتُ الغير مشروح،
كان بحثي الأعمى والسري دائما،
كيف دخلت مابين العدد واحد والعدد إثنان،
كيف رأيت الشعرة بين الغموض والنار؛ وهي شعرة رقيقة جدا،
داخل كل نوتتان موسيقيتان توجد نوتة،
في كل حدثين يوجد حدث،
بين كل حبتين من الرمل مهما كانتا متقاربتين يوجد فاصل من فراغ،
هناك شعور داخل الشعور

_في فجوات المادة الأولية
توجد الشعرة بين الغموض والنار التي هي أنفاس العالم،
وتنفسه المستمر
هي مانسمعه ونسميه "الصمت".

كلاريس ليسبكتور

لا أخاف على السمك والحيتان
حين ينشف البحر وينقلب إلى بَر جاف
ولا على الأخطبوط الذي سيموت ولن يعرف المشي
لا أخاف على الحبّار الذي لا يكتب أصلًا
ولن أخاف على البحارة والقراصنة
ولتذهب البضائع وسلاسل الإمداد إلى الجحيم
مع البواخر واليخوت
كل ما أخاف عليه هو الفنار
الفنار الوحيد
الفنار الوحيد الذي سيزداد وحدةً بدون البحر
من سيُسليه غير الموج؟
من سيغسل عن قدميه، كزوجة حنونة، تعبَ الوقوف، سوى الملح؟
بلا بحر لن يصير الفنار برجًا ولا قلعةً
لأن الفنار، كالإنسان، ليس البُنيانَ
إنه العَينُ، مثلهُ مثلنا، العينُ التي تغمزُ للبعيد
وتحاول الإبصار في المجهول
كي يصلَ الآخرون!
*فنارات | سلطان محمد

المشي فلسفة