Telegram Web Link
في ذكرى ولادة الطفل الشرعي والابن البار للواقعية السحرية ، هذا المقال الرائع ينشر للمرة الاولى باللغة العربية لماركيز طيب الله ثراه
لقد عثرت على تعريف الجميل – الجميل عندي – إنه شيءٌ ما متأجج وحزين، شيء ما غير محدد، يفسح المجال للتخمين. وسأعمد إذا شئتم إلى تطبيق أفكاري على شكل ملموس، وليكن على سبيل المثال الشيء الأكثر جدارة بالإهتمام في المجتمع، وجه امرأة. إنّ الوجه الفاتن والجميل، أعني وجه المرأة، يجعلنا نحلم بالنشوة والحزن في الوقت نفسه، ولكن دون تمييز. إنه يحتمل فكرة الحنين والإنهاك وحتى الإكتفاء، وفي الوقت نفسه، الفكرة المضادة، أعني حيوية متأججة ورغبة في الحياة، مع مرارة منحسرة وكأنها قادمة من الحرمان أو اليأس. الغموض والندم أيضاً هما من مميزات الجميل.

الوجه الذكوري الجميل لا يحتاج إلا في نظر المرأة ربما – كما يتصورها الرجل بالطبع – إلى فكرة الشهوانيّة، هذه التي تغدو في وجه المرأة استفزازا فاتنا يزداد جاذبية كلما ازداد الوجه كآبة. لكن هذه الوجه سيحتوي أيضا على شيء ما متوهج وحزين – حاجات روحية، طموحات مكبوتة في العتمة، فكرة قدرة هادرة وغير مستعملة، وأحيانا فكرة لا مبالاة انتقامية، ( إذ يجب أن لا ننسى نموذج الداندِي المثالي في هذه الموضوع ) – كما أنه قد يحتوي في أحيان أخرى على الغموض، وهو واحد من أهم شروط الجمال. ولأضيف أخيرا ( كي تعرفوا إلى أي حد أشعر بأني حديث في مسألة الجماليات )، قلت لأضف إلى شروط الجمال، التعاسة. وأنا لا أزعم أن الفرح لا يجتمع مع الجمال، لكني أعتقد أن الفرح حِليةٌ من أكثر حلِي الجمال سُوقية. بينما الكآبة هي اذا صح القول قرينة الجمال الرفيعة، إلى الحدّ الذي لا أتصور معه ( هل أصبح دماغي مرآة مسحورة؟ ) نموذجا للجمال لا تسكنه التعاسة. وانطلاقا من هذه الأفكار – سيقول البعض: انطلاقا من هذه العُقد – يصعب عليّ أن لا أختم بأن أكثر نماذج الجمال الذكوري كمالا، هو إبليس، على طريقة ميلتون.

* من كتاب: اليوميات.

بودلير
الزفير
نجلا ايضا

لم يكن مساء وان كان يتنفس كمساء
لم يكن حتى وقتا، انه هواء مسنون يزداد مضاء مع الوقت ،يضاعف الفضاء وهو ينتشر فيه كالهم
ثمة نصف حياة،حياة مقطوعة،حياة على جرعات
انه الزفير يبقى واحدا ومديدا في سقف المصح وفوق المنتظرين في الردهات
شيئ كالتذكر، كالبقاء على الحافة، كقوة النهاية ، شيئ يزحف كمهل قاطع، كاختناق جزئي، كدوران رتيب حول اسم صغير، حول حياة مضغوطة في الانف
انه جسد يحشد اخر انتفاضاته، جسد لا يعرف كيف يرحل ويستمر طويلا في انتظار ان تحسم الساعة، ان يحسم السرير
انها سكتة واحدة ومن اجلها نشحذ العصر، نشحذ الآلات والأوعية والقفص الصدري
من اجلها يبقى الاسم منصوبا، يبقى حجر تحت الساعة، تبقى استدعاءات بلا عدد معلقة فوق النصب مؤلفة ما لم يعد أكثر من حياة، ما لا نجد له مكانا في الخلف، ما يتعذر أن نحصيه ، أن نبتكر له بداية
إنها بقية لا اكثر، النهار قصير لكنه سيتعذب وهو يتناقص ساعة بعد ساعة، وهو يمرض ويسلم نفسه لسرير فارغ، للعبة على السرير
سنكون توأمين في المكان نفسه، لي زفيركُّ ، ولكٍ خوفي

هكذا وجدتكٍ، هكذا اعطاك لي النهار كنتِّ فقط اخره كنتٍّ فقط بقيتي
النور الذي عزف طوال الوقت نقلها بين الارواح
انها حياتي الاخرى ارسلتها الى الجهة التالية
تركتها لبلدان من حجر ونوم، من ذكريات ووقت ينعس في السقوف
كان يمكن ان تكون لهذا الخروج ساحات، حيث الزفير توقف اخيرا في مدينة من حجرة مفردة
حيث كانت العائلة تجتمع في الخلف وتنقص واحدا كل مرة
حيث كانت الولائم صريحة والخبز يدار من فو ق الاعمار وفوق الموازين
ندفن يوما عندكل موعد ونترك للعراء اقاصيصنا ونمرض ساعة اللقاء
نترك وجوهنا على الاسرٌْة ونقدمها هكذا لزملاء الوحشة
كان الزفير يملأ الخارج ولم نكن وحدنا في السوق
كنا في اجتماع الغريبة ولسنا تماما في وقتنا
نحن الاخوة الأتين من الشمال لم نعرف ان اللقاء التالي سيكون في البرية
لم نعرف ان شيئا يحصل في الاطراف اننا جديرون بهذه الساعة
هناك سنتلقى من المدفن قصاصاتنا و نرحل باسماء أخرى، في حين يوزعنا الزفير في كل مكان ….. عباس بيضون
"لكنني آسف أن تكون كل الروايات تقريباً التي كتبت حتى يومنا هذا خاضعة بشكل مفرط لقاعدة وحدة الحدث. أقصد أن أحداثها ووقائعها جميعاً تقوم على تسلسل سببي واحد. إن هذه الروايات تشبه زقاقا ضيقا نطارد فيه الشخصيات ونحن نجلدها.

إن التوتر الدرامي هو اللعنة الحقيقية التي حلت بالرواية لأنه يحول كل شيء، بما في ذلك أبدع الصفحات، وأكثر المشاهد والملاحظات إدهاشاً، إلى مجرد مرحلة تقود إلى الحل النهائي الذي يتركز فيه معنى كل ما سبقه. هكذا تحترق الرواية بنار توترها الخاص مثل حزمة قش.

هل يعد كل ما ليس سباقا محموما نحو الحل النهائي مملا؟ وأنت تلتذ بلحم فخذ البط الشهي هذا أتشعر بالملل؟ أتستعجل الوصول إلى الغاية؟ بالعكس أنت ترغب في أن تبتلع هذا البط أبطأ ما يمكن وأن تدوم نكهته في فمك إلى الأبد. لا ينبغي أن تشبه الرواية سباق دراجات، بل مأدبة نتذوق فيها ألوانا من الأطباق".

ميلان كونديرا | الخلود
ذات يوم قال فالتر بنيامين إن أول خبرة للطفل بالعالم لا تتمثل في إدراكه «أن الكبار أقوى منه بل بالأحرى في اكتشافه أنه لا يملك قدرات سحرية»
صورة نادرة لرامبو الفن التشكيلي … ايغون شيلي
في فرنسا لديهم تعبير اسمه (فِطنة السلالم، أو الفطنة التي فات أوانها)، ويعني تلك اللحظة التي تجد فيها الإجابة على شيءٍ ما، وإنما بعد فوات الأوان. لنفترِض أنك في حفلٍ ما ويهينك أحدهم على مرأى ومسمعٍ من الجميع. عندها لا بُد أن تقول شيئًا، أن ترد الإهانة، لكنك تحت ضغطٍ والكل ينظر إليك، ترد بشيءٍ سخيف ومثير للشفقة.
لكن لحظة أن تغادر الحفل... بمجرَّد أن تضع قدمك على الدرجة الأولى من السُّلَّم يبدأ السِّحر! فورًا يخطُر لك القول المثالي الذي كان حريًّا بك أن ترد به، الرَّد الذي كان من شأنه أن يُخرِس مهينك تمامًا.
تلك هي روح السلالم، الفكرة العظيمة التي تخطر في بالك وأنت خارج إطار المعركة كلها.

تشاك بولانيك
محاولة وصْل ضفَّتين بصوت
 
كنتَ تريد شيئًا يطير، طلبتَ تبغاً وأضفتَ أخَوات إلى الحمامات في فضاء الغرفة. كنتَ تريد شيئًا يطير شيئًا يخرج من النافذة، فرميتَ نفسك عبر الزجاج. لكنَّ نقطة الدم التي خرجت منك، ظلَّتْ في الداخل.
أنت الذي الآن في مكان آخر وثلاثُ بطَّات تنام أمام بيتك، كنتَ تحدّق طويلاً في الجدران كي تسمع أصوات آبائك المعلَّقين. دعني إذن أتحدَّث إليك، اسمعْ صوتي، صوتي من هذا المكان، الذي هو صوتك من المكان الآخر.
 
ساعةَ عرفوا ناحَ بعضُهم وبعضُهم ظلَّ صامتًا وهم يرافقوننا إلى مكاننا الأخير. أخذونا في صندوق، محمولَين بثماني أيد وبنظرات كثيرة. كنتَ تنظر إليَّ أنا الحيُّ فيك، وأنظر إليك أنت الميت فيَّ. تريد أن تبتسم لي، وأريد أن أبكيك. لكننا صمتنا، وتركناهم يدفنوننا هناك.
نحن اللذين يتكلمان مع نفسيهما الآن، أنت من هناك وأنا من هنا، نحن الواحد: الحيُّ المتحدّث مع ذاته الميتة، ماذا لدينا بَعْدُ غيرُ الذكرى؟
لم يكن عند أهلنا بطّ. غير أننا، من كثرة ما حلمنا به، جاء أخيرًا ونام على بابنا.
لكنك كنت تغادر.
وصلوا ولم يروا دمًا. الدم ظلَّ في الداخل. ليس في الداخل تمامًا وليس في الخارج تمامًا. على حافتهما. على الزجاج. على الحافة التي ما كانت في الخارج ولا كانت في الداخل.
أنت النائم الآن ولا تهتمُّ بدم. النائم بعيدًا وثلاثُ بطَّات تنام أمام بيتك. لا تجزعْ سأطعمها. في الخزانة حبوب. اشتريتها أنت ذات مساء، حين كنتَ تمشي وحيدًا في المدينة حالمًا بها.
وجاءت.
لكنها، هي أيضًا، لم ترَ دمك.
وجاء غيرها. الناس والأشجار والطيور، ولم يروا دمك. أوصلوك إلى قبرك، وعادوا.
حملوك لأنك لا تستطيع أن تصل وحدك.
وأهالوا فوقك التراب لتختفي.
 
بين هذه الجدران أمضيتَ حياتك. وُلدتَ في الزاوية، وأقصى رحلة كانت من الجدار إلى الجدار.
 
كنتَ تريد شيئًا آخر. صراخك لم يكن إلا نداء لهذا الشيء في الخارج. لكي تخرج، ولو نقطة دم واحدة، من النافذة.
لم تكن تنادي منذ ولادتك غير الموت!
اعطني كأس ماء. ظمآن أريد ان أشرب. اعطني فقط شيئًا دليلاً على أنك لا تزال تراني.
عيناك مغمضتان. فوقهما تراب. عيناك فراغان.
تراني بفراغين وتسمعني بفراغين. فراغك سامعي ورائيَّ. المليء لا يعبره صوت ولا ضوء. اسمعني إذن وانظر إليَّ.
تراني بفراغين وتسمعني بفراغين. فراغان ظَلاَّ داخل جدران فارغة. وخروجهما الأول كان إلى الموت.
الموت؟ عرفنا إذن: الخارج، هذا هو الموت!
أين الملائكة؟ قولوا للملائكة أن تأتي ها نحن وصلنا. لا نحبُّ موتًا بلا ملائكة. معنا رماد، نتسلَّى به كلَّ الأبدية. يخفق جناح ملاك فتطير نثرات، تطير أرواحُ حمامات، شقيقاتُ حمامات كانت في تلك الغرفة. ويحطُّ ملاكٌ فنطعمه همسات، نطعمه نظرات، ونتسلّى... فلتأت الملائكة نحن وصلنا.
معنا رماد، نتسلَّى كلَّ الأبدية.
وصَلْنا... لكنَّ الملائكة أيضًا كانت موتى!
 
ثمانية وأربعون عامًا، كان هذا إذًا هو الزمن!
كان هذا عنقَ الأبدية، الذي حسبناه عناقًا طويلاً. الفمَ الذي قبَّلناه تحت غيمة سريعة.
حينَ وُلدنا، انهمر مطرٌ من جلد أمّنا. مطر بقي في الزاوية، قرب العتبة، بقي هو أيضًا في الداخل. لم يره الذين كانوا في الخارج، ولا الذين دخلوا. كان مطرًا يخصُّها وحدها، يروي حقلها الداخلي، الذي لا يراه أحد.
وحين كنا نغادر، انهمر مطرٌ أيضًا. على الناس، على الخشب، على الشجر... لكنه كان مطرًا بعيدًا، بعيدًا جدًا.
كان ينهمر هناك، في البعيد، في المكان الذي يسمُّونه حياة.
هذا هو الزمن إذًا، هذه هي الأبدية: ثمانية وأربعون عامًا!
وقبل ذلك عدم، وبعد ذلك عدم.
ها نحن الآن عدمان يتحدثان. فراغان يحاولان أن يمتلئا بأصوات.
ضُمَّ صوتك إلى صوتي. ضُمَّ صمتك إلى صمتي علَّهما يصيران صوتًا.
العدم هو نحن الآن. إنه نحن. لا شيء آخر.
حدّثني عن صوتك الأول، عن لعبتك الأولى، عن ذراعك الصغيرة حول عنق أمك، عن حذائك في الحقول... تحدَّثْ، اصنعْ أصواتًا، املأ هذا العدم.
تقول أمُّنا كان صوتنا الأول صراخًا. ألقتْ حمْلَ الحطب عن ظهرها أمام باب الفرن، وبعد دقائق سمعتْ أوَّل صوت من أصواتنا.
قال الذين حواليها: مبروك. ووصل إليها كلامهم، من بين رذاذ جسدها، مثل قوس قزح كانت تراه في الشتاء.
وُلدنا في تموز، في عزّ الصيف، ومع ذلك كانت تمطر!
لكنه كان مطرًا يخصُّها وحدها. وكان يَعِدُها بزهور وثمار... أما نحن، فكُنّا نبكي.
وحينذاك نظرتُ إليكَ نظرتي الأولى، كمن ينظر في الصباح إلى مرآة و يمشي.
 
ليس عندي ما أقوله. فقط أريد أن أتكلم، أن أصنعَ جسرًا من الأصوات يوصلني بنفسي. ضفَّتان متباعدتان أحاول وصْلَهما بصوت.
الكلمات أصوات. أصواتٌ لا غير. هكذا هي الآن، هكذا كانت دائمًا. أصواتٌ لا نوجّهها إلى أحد. نحن لا نكلّم الآخرين. نكلّم فقط أنفسنا. الآخرون شيء بعيد وغريب، لا نراه ولا نعرفه، وتقريبًا ليس موجودًا.
لم يكن الكلام غير عزلة، لم يكن غير صمت.
مع ذلك أريد أن أتكلَّم الآن، أريد أن أكرِّر عزلتي...
ولكن، ماذا يقول لنفسه من هو ميت؟!
إنهما الآن هنا، الذاكرة التي أوصدت وراءها الباب، والنسيان الواقف على العتبة. هنا يتحلَّقان حول طيف روح، سقط الروح من النافذة ولاقاه طيفه إلى الباب. وأكتبُ كي أتذكَّر جسد هذا الروح. كي أتذكَّر أنْ كان لي جسد. أنْ كان لي وبر على جسدي لا أعرف أين صار. كي أتذكَّر بالأحرى أنَّ ما كان لي هو وبرٌ لا جسد، وأني لم أفعل طوال أيامي سوى البحث عن جسدي.
يخالجني أحيانًا شعور بأن البشر يعيشون بلا جسد. يستمرُّون في الحياة ما داموا يبحثون عن جسدهم، وحين ييأسون من العثور عليه يموتون.
أنا، نفسي، عشت بلا جسد. كنت طافحًا بالروح لكني كنت بلا جسد. بَحَثَ روحي عن جسدي طويلاً. مشى أعرج ضالاً مجنونًا. و ظلّ وحيدًا، ظلَّ هباء، روحًا يابسًا يبحث عن قطرة. وحين رمى نفسه من النافذة كان فقط لرؤية قطرة دم. دمٌ يقال إنه يسري في الأجساد! لكنَّ قطرة الدم ظلَّت فوق، على الحافة، بين الداخل و الخارج، على الحدود التي ليست لأحد.
كنت أريد شيئًا يطير، شيئًا يخرج من النافذة.
لم يكن لي جسد. لكنَّ شيئًا غريبًا كان يلتصق بي.
هل كان ذاك الغريب جسدي؟
فلنضحكْ، لنفتحْ عظْمتي فكَّيْنا ونضحك. ضحكتكَ الخارجة من عظمتين فارغتين ستكون أجمل ما في هذا النصّ، صدِّقني.
أنتَ بطل هذا النصّ، وإنك بطل ميّت. لكن حين أريدك حيًّا يجب أن تحيا. الكتَّاب يحرّكون شخوصهم كما يريدون، وعليك أن تتحرَّك كما أريد حتى لو كنت ميتًا. لا تقلْ إن النعش ضيّق وصرتَ ترابًا. على الكتَّاب أن يحرّكوا التراب ويوسعوا النعوش. وعليهم أن يعيدوا الأموات إلى الحياة أيضًا.
كنتَ متمردًا دائمًا. قطعتَ حياتك بعصبية، كمن يقطع غصنًا فوق رأسه بسيف.
وكنا، أنت و أنا، في جبهتين: علينا أن نتقاتل بشراسة، وأن نتفاوض بخداع. ولم نصل إلى سلام، ولا إلى هدنة.
أنت ميت أمامي الآن وأريدك أن تعترف بأنك كنت عدُوِّي، وكان عداؤنا لنفسنا أشرس من عدائنا للآخرين.
الآخرون شيء آخر. يمكنك أن تنساهم إذا عجزتَ عن قتلهم. ولكن كيف تنسى نفسك؟ أمامك حلٌّ وحيد: أن تقتلها!
وقتلتَها.
فلنضحكْ إذن أمام هذا الانتصار. أمام قطرة الدم الخفيَّة.
ولنتذكَّر جسدنا الذي كان ملفوفًا بجلد مقفَل.
جسدُنا، ظلامُنا الداخليُّ المرعب! وأفكّر الآن كيف كان الدم يبصر طريقه في العروق! وكيف عاشت هذه الأحشاء سنوات من دون أن ترى شيئًا!
جسدنا كان قتيلاً. قتيلٌ بعماه، وقتيل برغبة الرؤية. ظلامُه وضوؤه قاتلاه. الظلامُ والضوء اللذان يستدعيان، كلاهما، سكينًا، لفتح كوَّة.
من هذه الكوَّة أراك الآن. الكوّة التي فتحتها أنت بنفسك.
لم تتحمَّل ظلامك الداخلي. كنت تريد للدم ضوءًا وللأحشاء رؤية.... وأشعلت ضوءًا: للجلد، والدم، والأحشاء، وللموت أيضًا.
رفاقنا كانوا يصفون الأمل بالضوء. يقولون "ضوء الأمل". أما أنت فاخترت ضوء الموت.
اخترعوا صفات لكلّ شيء، وأرادوها حلوةً وبليغة، وأن يكون لها صدىً! كمن يصرُّ على اختراع صوت، لخطوات ناسٍ غابوا.
في البدء كانت صفات، وكان علينا نحن أن نخترع أشياء تنطبق عليها.
كان علينا أن نخلق كونًا من مجرَّد نُعوت!
وخلقنا كونًا، ووضعنا فيه حياة. لكن ما جَمَعَنا ليست الحياة بل الموت. الحياة كانت للتفرقة. وتصالحنا لأوَّل مرَّة حين متنا.
لستُ أبحث الآن عن ضوء الحياة. لا. بل عن نار تدفئ.
في السماء أرواح ترتجف من البرد. أريد أن أشعل لها نارًا. أريد أن أبكّل أزرار قمصانها.
كنا نملك صراخًا قليلاً. وبهذا الصراخ قلنا ذات يوم للحياة نحبّك.
مشينا نبحث عن أصدقاء، عن ناس عن نبات عن حجارة، نلهج لهم بحبنا. مشينا حتى تفلَّع قلبنا.
رأينا أمكنة لكل شيء. للنمل للشجر للطير للأرض للنجوم... أين مكان حبّنا؟
أين نَضعُ هذا الحبَّ أين نُسْكن هذا الحيوان؟ تخلَّعَتْ أكتافنا.
مشينا الشوارعَ كلَّها الأمكنةَ كلَّها وكلُّها ملأى. الأرض امتلأت قبل وصولنا وصار ما نحمله بلا مكان. صرنا المكان الوحيد لحمْلنا، صرنا وهمَ مكانه. مكانُهُ وهْمُنا ومكانُنا وهْمُه. صار هو، ونحن، والمكان، وهمًا.
في البدء كان الوهم. والوهم صار أرضًا حَلَلْنا فيها.
وَهْمُ الأرض وَلَدَ وهمَ الرغبة. ووهمُ الرغبة وَلَد وهمَ الحبّ. ووهمُ الحبّ وَلَدَ وهمَ الولادة.
ووهمُ الولادة وَلَدَ وهمَ الحياة. ووهمُ الحياة وَلَدَ وهمَ النسيان. ووهمُ النسيان وَلَدَ العزلة...
ومن وَهْم الأرض إلى وهم الحبّ أربعة عشر وهمًا. ومن وهم الحبّ إلى وهم الحياة أربعة عشر وهمًا. ومن وهم الحياة إلى العزلة أربعة عشر وهمًا...
في البدء كان الوهم. والوهم صار جسدًا وحلَّ فينا.
آه مونيك، يا واهبة الأوهام جسدًا جميلاً. كنت تنامين على الأرض لئلاَّ يقال ارتفعت شبرًا نحو الأوهام، بل لكي تنزل هي إليك.
وكانت تنزل. تغسل عينيك، فمك، عنقك، صدرك، عانتك، ساقيك... فتنامين نظيفة.
يا مونيك التي كانت تنام على الأرض أين أنت الآن؟ أنا تحت مترين عن الأرض، وتحت عظامي حصاةٌ تزعجني. قولي لأحد كي يُزيح هذه الحصاة أريد أن أنام.
مشينا كثيرًا، باحثين عن حُبّ قليل.
مشينا بقامات قصيرة في شوارع طويلة، وكنا بالكاد نُرى.
نريد حُبًّا، صرخنا، الحُبُّ يطيل قاماتنا.
أعطتنا دلالُ قفلها المقدَّس، هدى مفتاحَ بوَّابتها، غادةَ مزلاجَها، وأورورُ أطفالاً.
يا صاحبة القفل المقدَّس يا حارسة البوابة يا امرأة المزلاج يا أمّ الأطفال، نريد حُبًّا، نريد مكانًا.
فلترتفع المياهُ ليضطرب الغَمْرُ ليستبدَّ الهَلَعُ بالأنهار العالية. أريد قليلاً من الماء. فقط لئلاَّ تموت هذه الأسماك في حوضي.
 
إنني ميت كفاية، ومعي الوقت كي أنسج الأحلام. ميت كفاية كي أخترع الحياة التي كنت أريدها.
ليس جميلاً يا وديع أن تستلقي هكذا في الأبدية من دون أن تحلم. ليس جميلاً، في الموت أيضًا، ألاَّ تعيش الحياةَ التي كنت تشتهيها.
الموت فسيح، يتَّسع لكل شيء. انسَ الأرضَ الكوكبَ الضيّق. وتَهادَ في فضائك الواسع، في عدمك. واضحكْ طويلاً.
العدم فسيح. وتستطيع أن تمدَّ فيه ضحكتك إلى الأبد.
 وديع سعادة
استعادة شخص ذائب

هذه البحيرة ليست ماء. كانت شخصًا تحدثتُ إليه طويلاً، ثم ذاب!
ولا أحاول الآن النظرَ إلى ماء بل استعادةَ شخص ذائب.
كيف يصير الناس هكذا بحيرات، يعلوها ورق الشجر والطحلب؟!
قطرةً قطرة ينزل الموتى على بابي
ومركبٌ يتوقف من أجلي تحت الشمس
وجالية فقيرة من الرعشات تعود إلى الرمل.
لم أرتجف. لكني جُننت. الماء بارد لكني لم أرتجف. فقط ارتعشتُ قليلاً. ثم جُننت.
على سطح البحيرة ورقة، كانت عينًا. على الضفَّة غصن، كان ضلعًا بشريًا.
أحاول الآن جَمْعَ الأوراق والغصون. أحاول جمع شخص كنت أحبُّه.
لكن مرَّ كثيرون من هنا، جمعوا ورقًا وحطبًا ليشعلوا مواقدهم.
لن يتمَّ أبدًا جمْعُ شخص. لن يتمَّ جمع أعضاء كاملة. كثير منها احترق.
مع ذلك لا بدَّ من أن أعيد شخصًا كنت أحبّه. على الأحبَّاء أن يعودوا إذا ناديتهم. عليهم أن يعودوا ولو كانوا ماء. لو كانوا أمواتًا. لو كانوا طحلبًا… على الطحلب أن يصير إنسانًا حين تستدعيه. ويأتي لو مبلَّلاً، لو مترهّلاً، لو عفنًا. عليه أن يعود صديقًا ولو مات منذ ألف عام.
يجب أن تكون هناك طريقة ما لجمع الناس عن الضفاف. طريقة لإعادة الأوراق والأغصان الطافية على البحيرات، بشرًا.
لم أرتجف. الأعضاء ارتجفت. وكان عليَّ أن أسدَّ الفراغ بين مفاصلها كي أوقف ارتجافاتها وتهدأ.
ولكن، كم طويلةٌ المسافةُ بين مفصلين! وكم أحتاجُ إلى ردم لسدّ الفراغ بينهما!
كم هي طويلة المسافة بين ضلع وضلع!

أجري بطيئًا، مثل آخر نقطة ماء نزلتْ، وتأخرتْ عن السيل.
أجري بطيئًا زاحفًا للالتحاق بالجريان، وأتبخَّر رويدًا رويدًا.
لن أصل. بعضي سيصير في الفضاء. وبعضي سيغرق في الأرض.
تأخرتُ عن رفاقي ولن أصل. أزحف لكني لن أصل.
قطَعٌ مني أفقدها، وقطعٌ ترافقني منهَكَة، وقطع تصير هباء.
حتى إذا وصلتُ، أيُّ شيء مني سيصل؟!
حولي عشب وحصى وتراب. طيرٌ ينقدُ بعضي. ونملٌ يأكل بعضي. وبعضي للعشب والحصى والتراب.
أجري بطيئًا وفوقي يصعد خيطٌ مني، وتحتي ينزل خيط مني. أجري بطيئًا بين إبرتين، تخيطان عدمي.
نزلتُ آخرَ نقطة. كنتُ في غيمة ونزلتُ. هل أنا الباحث عن شخص ذائب أم أنا الذائب؟ أم أني، من كثرة البحث عن ذوبانه، ذبتُ مثله؟
وصرتُ، عوض أن أبحث عنه، أبحث عني!
أرى على الطريق أشخاصًا عابرين. بعضُ ما بقي مني يرى أشخاصًا. هؤلاء، على الأرجح، لم يفقدوا شخصًا أحبُّوه. أم أنهم فقدوه، ومع ذلك يكملون الطريق؟!
لا أعرف كيف لا تتوقف أرجلنا عن المشي حين نفقد شخصًا نحبُّه. ألم نكن نمشي لا على قدمينا بل على قدميه؟ ألم تكن النزهة كلها من أجله؟ ألم يكن هو النزهة؟
كيف يمشي واحدٌ إذا فقد شخصًا! أنا، حين فقدت شخصًا، توقفت. كان هو الماشي وأنا تابعه. كنت الماشي فيه.و حين توقَّف، لم تعُدْ لي قدمان.

تأخرتُ وزاحفٌ وأتبخَّر. كيف إذن سأُعيد شخصًا ذاب؟ أليس عليَّ بالأحرى أن أعيد أولاً نفسي؟ أن أعود على الأقل قطرةَ ماء كاملة، تنزل على ورقة، على عين، على ضلعٍ على ضفَّة؟
أليس عليَّ، لكي أُخرج من الطحلب شخصًا، أن أكون على الأقل من ماء البحيرة؟
تأخرتُ ولن أصل. كلُّ ما أفعله أني أرى، أرى من بعيد. رؤيةٌ مشوَّشة من عين شيء لا هو غيمة، ولا هو ماء، ولا جماد ولا بخار.
إني، إذن، لا أرى.
كلُّ هذا مجرَّد خيال. عتمةٌ تستجدي عتمة. ولن أرى ولن أصل ولن أستعيد شخصًا ولن أعيده…
إني، فقط، أحاول أن أزحف. أحاول أن ألحق برفاقي.
لكنهم صاروا بعيدين، بعيدين جدًا.

ربما كنتُ في الماضي شخصًا يبحث عن شخص ذابَ أو ربما كنت أنا الذائب. الآن، حتى ولا قطرة. وفي تماهيَّ المرعب بين الماء والبخار والشخص، أبحثُ عن إسمٍ أعرّفُ به نفسي حين ألتقي النمل والعشب والطير. أنت الزاحف مثلي، ستتوقَّف حتمًا على نتوء. ارسلْ لي من هناك نداء، وبه سأسمّي نفسي.
متماه بين ماء وجماد وبخار. مع ذلك لي مفاصل!
ومفاصلي بينها فراغات. ترتطم المياهُ بها، ترتطم الرياح بها، ويرتطم الناس.
ناسٌ كثيرون يعبرون الآن بين مفاصلي. لا أعرف من أين يأتون ولا إلى أين يذهبون. لكنهم يرتطمون بعظامي.
ناسٌ التقيتُهم مرَّة، ناسٌ التقيتُهم مرات، وناس لم ألتقِهم… لكنهم يتدفَّقون الآن، ويدقُّون على عظامي.
عليَّ أن أفتح هذه العظام لكي يدخلوا.
لو كانت هذه العظام بابًا!
من أين جاؤوا؟!
أظنُّ أن الذين ننظر إليهم يدخلون في أجسادنا عَبْرَ عيوننا ويصيرون دمًا و لحمًا.
وبعضهم يصير من المارة التائهين بين مفاصلنا.
… ونستمرُّ، هكذا، نسمع طَرقات على عظامنا.

إني أسمع الآن دقَّات ماء
وعليَّ أن أفتح. ،، وديع سعادة
ازهار الشر
Photo
ثمة لحظاتٌ يُتعبنا فيها كلّ شيء، حتى ذاك الذي يريحنا. ما يُتعبنا يُتعبنا لأنه يُتعبنا؛ ما يريحنا يتعبنا لأنَّ فكرة نيله تُتعبنا. ثمة قنطٌ يسكن الروح تحت مستوى كل قلقٍ وكلّ ألم، قنطٌ لا يعرفه، فيما أعتقد، إلا أولئك الذين يتجنبون أنواع القلق والآلام الإنسانية، ولهم من الديبلوماسية مع أنفسهم ما يتيح لهم تفادي ضجرهم الخاص بدون أن يعني ذلك تحولهم إلى كائناتٍ محصنةٍ ضدّ العالم، إنهم، في لحظةٍ معينةٍ من وعيهم بأنفسهم، لا يعانون من وطأة هذه الحصانة، فالحياة بالنسبة إليهم أصبحت قلقًا معكوسًا، وألمًا مفتقدًا.
أجد نفسي الآن داخل لحظةٍ من تلك اللحظات، وأكتب هذه السطور كمن يريد أن يعرف بالأقل أنه يعيش. لقد اشتغلتُ مثل شخصٍ منوّم، مجريًا حسابات خاصة بإجراءات النوم، مواصلاً الكتابة طوال إغفاءتي. طيلة اليوم شعرتُ بما يثقل العينين والصدغين، شعرتُ بثقل النوم في العينين، بضغطٍ حتى خارج الصدغين، وبوعي هذا كله في المعدة، فيما يشبه الغثيان والخور.
يبدو لي العيش خطأ ميتافيزيقيًا فادحًا في المادة، زلّةً من زلات العماء. لا أنظر إلى النهار، كيما أرى ما يمكن أن يمنحنيه من عزاء، كاتبًا إياه هنا بأسلوبٍ وصفيّ. لأغطي بالكلمات الفنجان الفارغ لعدم رغبتي، لا أبصر النهار، وأجهل بظهري المُنحني، ما إذا كانت الشمس موجودةً في الخارج أم لا، في الشارع الحزين ذاتيًا، في الشارع المقفر… أجهل كلّ شيء والصدر يؤلمني. لقد كففتُ عن العمل ولا أرغب في التحرُّك من هنا. أنظر إلى النشافة البيضاء المُتسخة، التي تتمدَّد ملصقةً من الجهتين فوق المكتب المائل. أنظر بتيقُّظٍ إلى الخطوط الممتصّة الممحوّة فيها… أرقامٌ هنا وهناك. رسوم للاشيء من صنع تسلياتي. أنظر إلى هذا كلّه نظرة قرويٍّ إلى نشافات، بانتباه من يرى أشياء جديدة، بالدماغ الخامد كله من وراء المراكز الدماغية المنتجة للنظر.
لديّ من النوم الباطني ما يفوق طاقة استيعابي. ولا أرغبُ في شيء، لا أفضّل شيئًا، ليس ثمة مهرب.




بيسوا
هذا هو عبدالكريم عبدالقادر..
غريب وشايل جروحه
لم أجد غير هذا العنوان المنزوع من كبد أغنيته "غريب"، تلك الأغنية التي تقاوم الألم، أغنية عاشت معنا كأغنياته الأخرى التي لا تخلو أيضا من هذه الجراح.
نحب عبدالكريم عبدالقادر لحزنه الشفيف، نحبه لأنه يشبهنا، يشبه جرحنا، صوته شجيٍ يسيّل في دمنا، ورغم هذا الحزن فهو ينبوع فرحنا، يجرنا إلى عمق القلب، نتذكر حبيباتنا معه، نسمع صوته ونتذكر كل شيء قدم مرّ، لم يترك أي ذكرى، أو جرح إلا وقدمه لنا، أنه حبيب الأيام وسهرها ووجعها وفرحها وليلها ونهارها، وإن كنا ننام على صوته، فكان بمثابة حبة اسبرين، تخمد ألم القلب.
عبدالكريم عبدالقادر، أو كما يحلو لجيل التسعينيات تسميته ب" أبو خالد" وشخصيا لا أحب هذه التسمية، فهو عبد كريم، كريم لقلوبنا ولقلوب العذارى، طالما أنه جُرح في أيامه الأولى، فصار عبدا للقلب، لقلبه، لأقرب الناس إليه، يروى عنه بأنه ترك حفلاته في البحرين من أجل زوجته الحامل، فضل البقاء بجنبها عن المسرح، وقال لإعلام بلده؛ "لا أصلح في مثل هذه الاحتفالات يمكن افشلكم"، وهو هكذا لا يصلح إلا للحب، بسيط كأغنياته التي لا تخرج عن الجرح.
في مقالة سابقة تحدثت عنه، عن جرحه، عن من أطلق عليه الصوت الجريح، إذ قيل بأن هذا اللقب لصق به في منتصف الثمانينيات، وتحديدا بعد أغنيته "أجرّ الصوت"، وأي صوت هذا الذي يجره عبدالكريم عبدالقادر، أنه يجرّ الأرض بأكملها، كل أغنياته اجترار للحزن الجميل الذي روضّه.
تخيّل نفسك وأنت تنزل مطار الكويت، هذه البلاد الصغيرة لكنها كبيرة في خلف هذا المطار، من هنا مرّت أصوات وأصوات، كأم كلثوم، فيروز، عبدالحليم حافظ، الموجى، بليغ حمدي وغيرها من الأسماء الكبيرة، تخيّل بأنك تنزل هذا المطار من دون ما تسمع عبدالكريم عبدالقادر، فهو أيقونة المكان، ثقله، زهرته، ليله، آه من ليله وهو يتحدث عن أحوال العاشقين، تخيّل إنك في الكويت، ستجد هذا الصوت في كل مكان، في الشارع، في المطعم، في كل البيوت، وفي الحديقة ستسمع أغنيته "انتظرتك"، عبدالكريم عبدالقادر مخزن تفاصيل حياتنا، يقول عنه الشاعر فائق عبدالجليل رفيق دربه :"عندما أكتب أغنية ل" أبو خالد احتاج إلى عدة غوص، أبحث عن كلمة تعادل لؤلؤة نادرة، وأبحث عن بيت شعر صدره يقاوم الألم وعجزه يبعث الأمل من جديد، يوقظ في الناس الإحساس ويعمّق فيهم وبينهم الحب".
لا أدري من الذي أطلق عليه "الصوت الجريح " لكن أظن بأن الكاتب المصري أنيس منصور عندما زار الكويت، سمع صوت عبدالكريم عبدالقادر، سمع هذا الصوت في السيارة التي ستقله إلى الفندق، فقال حينها، "هذا صوته جريح"، ومن يومها عرف بالصوت الجريح، أنه سليل الجرح والأسى والشجن منذ أن عرفناه في وقت مبكر، والصحراء ليس إلا مرثية والبحر أكثر بكاءً ورثاء.
جاء عبدالكريم عبدالقادر من الجرح، وكأن الأيام ذبحت وريد قلبه، وفي كل مرة نسمع جرحه وهو يكبر، وفي عناوين ألبوماته، نجد هذا الجرح يتمدد: "زوار، مركب، تكون ظالم، عاشق، غريب، أعترفلك، تأخرتِ، وين مرساك، باختصار، وداعية، أحوال العاشقين، الله معاي، الجرح الخطير، محال، إلى (م)، الصوت الجريح، يا داعج العين، أنا ويلي، هذا أنا، أحمدك يا رب، أنا من الأيام، أسمع صدى صوتك، ما طاعني، ظماي إنت، بيني وبينك، شفتك، من بعد غربة، ساعة الفرحة، آن الأوان، الحبيبة، راجع، أغني لك، شخبارك، ودعتها، وينك، من بين الناس، رسالة من امرأة، بسيطة، أشتاق لك، ماهمها شيء، انتظرتك، نامت عيوني، خذني الوله، مرايا العيون، أكذب عليك، مالك شبيه"، وغيرها من الأغاني سليلة هذا الجرح الكبير، حتى ملحنيه وقوعوا في فخاخه وفي شِباكه، فمثلا عبدالرب إدريس وهو يلحن تأثر بدم صوته، أنه يعلو على المقام وبحره، لذلك لا يشبه أحد.
جرح عبدالكريم عبدالقادر يطول ويطول، وفي كل مرة تجده مختلفا في طوله، يتعمق فينا، يأسرنا، يدفنا في الليل الطويل، لا ننسى أيام الثمانينيات كيف كنا نتهافت على شراء أشرطته، نستمع إليه كعشاق خدعتهم الأيام، نوصلها إلى حبيباتنا كعطر لليل، ويطول هذا العشق وتطول العلاقة مع عبدالكريم عبدالقادر دون أن تنقطع حتى آخر يوم كان ليل الأمس، لماذا يغيب عنا في الليل هذا سؤال آخر، هل أراد أن يقول لنا بأن العشاق يرحلون ليلا، ألم نقل بأن عبدالكريم لم يترك موضوعا إلا وغناه، حتى في ليلته الأخيرة يذكرنا بالوداعية وهو يقول "وداعية يا آخر ليلة تجمعنا /وداعية يا أعز الناس يودعنا"، كأنه كان يتنبأ بهذا الرحيل الذي سيعذبنا، حتى تخمدت فكرة الرحيل من أوانها، صُدمت بخبر رحيله بعد أن نشرت أغنيته وطمنت قلبي على صحته في أغنية "محال" ليصدمني الصديق سليمان المعمري بقوله "مات يا حمد"، لأقرأ رحيله يطير على رؤوسنا، من كل مكان، سيّل من البكاء على مغن كبر في القلب، لم أكن أصدق، بأن هذا التاريخ من العشق يرحل، وإذا رحل من سيتبقى لنا بعد رحيله ورحيل من سبقوه من أمثال طلال مداح وأبوبكر سالم، وغيرهم من الذين كانوا قرب قلوبنا، شجرات من العشق ترحل عنا وعن قلوبنا، كيف سننجوا من الكارثة، المسماه بالحياة.
عشنا مع عبدالكريم عبدالقادر زمنا، قبل أن يتدفق البترول على الكويت ومحيطه، وتحدث اللعنة، وتجرح أيامنا الحلوة الدافئة، كنا نحترق بالسؤال مع ما يفيض من نهره، ونسأل من أين أتى كل هذا الحزن، حتى يكون عبدالكريم صوت الكويت الجريح؟.
عبدالكريم عبدالقادر، هذا المغني، تجده وكأنه يغني لنفسه، لحبيبته، عاش ورافق العشاق، ثوّر قلوب العذارى، لم يغن على المسرح، فهو العاشق الخجول، تجد هذا على ملامحه، قليل الكلام، كثير الصمت.
فهو "غريب وشايل جروحه". حميد الصبحي في رثاء الغريب الشايل جروحه
المجانين، المهمشين، المتمردين، غير المطابقين، المنشقين , أي شخص يرى الأشياء بشكل مختلف، لا يتبع القواعد. يمكنك الإعجاب بهم أو عدم موافقتهم، تمجيدهم أو تشويه سمعتهم , لكن لا يمكنك تجاهلهم. لأنهم شيء متغير يخترعون، يتخيلون، يستكشفون، يخلقون، يلهمون. إنهم يتقدمون نحو الإنسانية. حيث يرى البعض الجنون فقط، نرى نحن العبقرية. لأن أولئك الذين هم مجانين بما يكفي ليعتقدوا أنهم يستطيعون تغيير العالم يفعلون ذلك في نهاية المطاف
جسدان يثرثران في بطن الليل

تأتين من وراء سنين كثيرة
جسدك ما يزال يوم عطلتي
وانا استعيره من اشخاص لا اعرفهم
انت تعيرينه لهم حين لا يصدقون انه صائم
تحت ثيابك الداكنة
حين يعطونك اصابعهم وعيونهم
وتتركين لهم ان يصنعوا على جلدك
تلك النعومة الخافية
الرقاد الوحيد الذي بيننا
احتاج الى كل هذا الغياب
ليبقى ساريا
مازال يعمل رغم انه لم يترك ذكرى للسرير
الذي لم يعد مائدة للحب
كنا نعرف ان شيئا يتقطع بيننا
وان الاسمال التي لا تزالين فتية فيها
هي ايضا قصتنا
كان شيئا لم يحتج الى أسم
مجرد لمسة لا ترجع ألى الوراء
ذكرى لا تزال في طفولتها
الحب يحتاج الى استعداد اكبر
وربما الى عمر
وانت تعودين الى ذات اللحظة
التي كانت لعبا في السرير
الى الساعة التي لا تزال تتقدم على نفسها
او ترجع كفكرة لم تعد في حينها
كماض واثق من كفايته
ومن عودنه الى الحياة
و قدرته على ان يتنكر في سرير أخر
غير ذلك الذي فرشناه تحت اعين العمياء
الجدة التي بقيت وحدها
قبل ان تعود العائلة
كان هذا اول الاسبوع
بعد ان انتهى الحفل
وبقيت لنا تلك الحجرة التي اخفتنا
أذ الصبح كان كذبة
والجسدان استمرا يثرثران في بطن الليل …….. عباس بيضون
2024/09/22 01:37:01
Back to Top
HTML Embed Code: