Telegram Web Link
حب الدنيا: خروجٌ من ولاية الله إلى ولاية الشيطان.

في مقام الحديث عن قتل الإمام الكاظم (عليه السلام) ينبغي أن يُشار أيضاً إلى دور بعض محبي الدنيا في تلك الجريمة، والعجيب في الأمر أن بعضهم كانوا من أقربائه، فأحدُ المشاركين الأساسيين في التحريض ضد الإمام لسجنه هو ابن أخيه (محمد بن إسماعيل بن الإمام جعفر الصادق)، حيث ودّع الإمامَ وهو يبدي له العاطفة والمحبة ويخفي عنه الحقد والحسد وحب الدنيا - وليس يخفى على ولي الله شيء بإذنه تبارك وتعالى-، وانطلق إلى بغداد، فدخل على هارون العباسي، وابتدره قائلاً: «ما ظننتُ أن في الأرض خليفتين حتى رأيت عمي موسى بن جعفر يُسَلَّمُ عليه بالخلافة»، فأرسل هارون إليه بمائة ألف درهم!
نعم؛ مع غياب تهذيب النفس وتزكيتها، من الممكن أن يُقدِمَ الإنسانُ على التضحية بإيمانه وآخرته في سبيل تحقيق رغبات النفس المتلطخة بحب الدنيا وشهواتها، وقد رأينا ورأيتم من يطعن - كل يومٍ - بسهمٍ في قلب إمامه؛ لأنّ أمر دنياه لا يتم إلا بذلك، وشهوات نفسه أيضاً لا تنقضي إلا بذلك!
إن النفسَ إذا التهبتْ بنيران الشغف بالدنيا فإنها سوف تخلع لباس التقوى والدين وتلبس لباس الشيطنة والسوء، لينتهي الحال بالانصراف عن ولاية الله إلى ولاية الشيطان، وهذا هو الانحطاط العظيم، نعوذ بالله منه.
[وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا]

قال السيد المحقق آية الله أبو القاسم الدهكردي:
«فقد حصل لي التجربة بذلك في النجف الغريّ حين اشتغالي ببعض أسمائه [تعالى] كذلك، وقد اشتغلتُ برهةً من الزمان بذكر «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ» بآدابه فرأيتُ منه آثاراً عظيمةً غريبةً، وحصل لي ببركة المداومة عليهما فيوضات كثيرة، وهما الاسمان العظيمان، لهما تأثيران غريبان في حياة القلب وقوّة النفس والقيام بالأمور التي من شأن الأولياء القيام بها».

📚لمعات در شرح دعاى سمات، ص٥١-٥٢.

#روضة_المؤمن
التديّن الرحماني!

ربما يطرقُ سمعَك في هذه الأيام مصطلح «التديّن الرحماني»، والذي يهيمن على خطابه النظر إلى جانب الرّحمة في الذات الإلهية والسلوك الإنساني، ولا يُلحَظ عليه الاعتدال في طرح هذا المفهوم مقابل المفاهيم الأخرى كالغضب الإلهي وفلسفة الثواب والعقاب بطرحها الديني والعقلائيّ.
وهذه الرؤية بحسب تنظيراتها المُفرطة المغيّبة للجانب الآخر لا تختلف عن «التديّن المتوحّش»، فكلاهما يغيّب ويُقصي جزءاً كبيراً من الرؤية الدينية حول هذا الموضوع.
وهذا الإقصاء يضادّ الدلالة القرآنية والروائيّة التي يتبنّاها الأكثرية الغالبة من علماء الإسلام، حيث تقوم رؤيتهم على إثبات الخوف والرجاء، الخوف من العقاب ورجاء الثواب والعفو، وهذا لا يقتصرُ في النظر إلى الله تعالى، بل يسري إلى كافة أنحاء الحياة حيث يعتقدون بإثابة المُحسن ومعاقبة المسيء، وهذا منهج العقلاء لا أهل الأديان فقط.
ربما تجدُ تنظيراتٍ جذّابة حين ترى الكاتبَ يسرد عليك آيات الرحمة في كتاب الله، ويحصي لك عدد الكلمات التي وردت فيها مادّة (رَحَمَ)، ويمعن في تقصّي تلك الآيات والشواهد، ولكن هذا الأمر ليس إلّا مقدّمة لتغييب النصف الآخر من كتاب الله، بل هذا في الحقيقة مصداقٌ واضحٌ للازدواجيّة في التعامل مع القرآن.
إنّ الاستناد إلى القرآن يوجِبُ النَّظر في كافّة آياته وعدم الإعراض عن بعضها لأجل تمرير بعض الأفكار التي توظّف كتاب الله في جزءٍ دون آخر، والقفزُ عن هذا الأمر مع شدّة وضوحه لا يخلو من استغفالٍ لعقول الناس.

مثل هذا الأمر ينبغي التنبّه إليه، وأن لا يسري إلى قلوبنا، وللأسف قد ابتلي بعض الدعاة والوعّاظ بهذا الحال من حيث لا يشعرون، حيث تجد أحدهم يسهب في ذكر مواعظ الرحمة والعفو بشكل مفرط، وينسى أو يتناسى جانب الوعيد الإلهيّ، وزاد الطين بلة أنّ إفراط البعض في ذلك سهّل لجملة من عوام الناس تكوين تصورات ساذجة عن الله تبارك وتعالى، فربما خاطبه البعض بأنّه (صديقه)، و(عزيزه)، غافلاً عن مقام الألوهية الذي يقتضي الأدب في الخطاب بنحو مغاير لما هو في الخطابات العرفية الممزوجة برفع الكلفة والعناية.

الإقبال الحقيقي على القرآن يكونُ بمخالطة مفاهيمه ومقاصده بلحمنا ودمنا، بحيث يكون القرآن بصورته الإلهية المتكاملة حاضراً في قلوبنا، وننساق مع معانيه حيثما أراد، لا أن نسوقَ بعضه حيثما نريد، ونهمل جزءاً عظيماً منه.

رُوي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (ألا إن الفقيه كل الفقيه هو الذي لم يقنِّط الناس من رحمة الله تعالى، ولا يؤمِّنهم من عذابه، ولا يرخِّص لهم في معصيته، ولا يدع القرآن رغبة في غيره، ولا خير في عبادة لا علم فيها، ولا خير في قراءة لا تدبر فيها). [بحار الأنوار، ج75، ص74-75].
◾️وفاة الشيخ المفيد (رحمه الله)

في مثل هذا اليوم، الثالث من شهر رمضان، سنة ٤١٣ هجريّة، انتقل إلى رحمة الله تعالى الشيخ محمد بن محمد بن النعمان التلعكبري البغداديّ المعروف بالمفيد، وقبره في حرم الإمام الكاظم عليه السلام.
وقد كان عالماً عاملاً مجاهداً، ذبّ عن أصول المذهب وفروعه، وبيّنها بالبيان المفيد والبرهان العتيد، في وقتٍ تكالبت الجموع لإفناء التشيع والتشكيك فيه، فأسأل الله أن يجزل له الثواب، ويحشره مع أئمة الهدى.

• قال ابن أبي طيء في وصفه: «وكان قوي النفس، كثير البر، عظيم الخشوع، كثير الصلاة والصوم، يلبس الخشن من الثياب، وكان مديماً للمطالعة والتعليم، ومن أحفظ الناس، قيل: إنه ما ترك للمخالفين كتاباً إلا وحفظه، وبهذا قدر على حل شبه القوم».
• وروي عن عبيد الله بن عبد الله الخفاف المعروف بابن النقيب أنّه لما بلغه موت الشيخ المفيد سجد لله شكراً، وعقد مجلساً للتهنئة، وقال: «ما أبالي أي وقت مُتُّ بعد أن شاهدتُ موتَ ابن المعلّم».. فانظر إلى السلف الماضين من علمائنا كيف كان وجودهم قرة عينه لأولياء آل محمد عليهم السلام وموتهم راحة لأولياء الشيطان، واعرف بذلك قدرهم.
تراثنا؛ إرث المجتبى عليه السلام ..

من الإنصاف أن يقرّ بالتقصير تجاه الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، ولكن لكي لا نبالغ، ولتتضح الصورة ينبغي أن نفهمَ طبيعة الوضع الذي عاشه بعض الأئمة عليهم السلام ونتعقّل طبيعة الظرف الذي أدّى إلى غياب حضور بعضهم بيننا بشكل أكبر من غيره.
ومن المؤلم أن نقول إن الشيعة لم تحظَ بأنفاس الإمامة بشكل واسع إلا في زمن خمسة من المعصومين عليهم السلام، وهم: جزء من حياة أمير المؤمنين، والباقر والصادق وجزء من حياة الكاظم ثم الرضا (صلوات الله عليهم)، أما في فترة ما قبل الباقر (عليه السلام) فلم يكن الالتفاف الشعبي واسعاً حول الحسنين وزين العابدين بل وأمير المؤمنين في فترة طويلة من حياته إلى حين قتل عثمان، مضافاً إلى الضغط الشديد على الشيعة الذي أدى إلى تشتتهم وصعوبة حضورهم حول الأئمة، أما في الفترة السامرائية فقد كانت سجناً كبيراً للأئمة من بعد الرضا عليه السلام، حيث قضوا حياتهم بين السجن الفعلي أو الإقامة الجبريّة أو المراقبة الشديدة، ولم يكن المجال متاحاً لإدامة النشاط العلمي الذي بزغت شمسه على يد حجة الله وزين الأوصياء أبي جعفر الباقر عليه السلام.
إذا راجعنا فهرست الشيخ الطوسي وعددنا أصحاب الحسن والحسين وزين العابدين والجواد والهادي والعسكري (عليهم السلام) فربما لن يشكّلوا نصفَ أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)، وهذا يشير إلى أحد أمرين وربما اجتمعا معاً: تشتت الشيعة وصعوبة تواصلهم، وكثرة الخذلان الشعبي في أوساط المجتمع الإسلامي الذي مورست عليه دعاية أموية شديدة.
لقد شكّلت نهضة الإمام الباقر والصادق عليهما السلام قلقاً شديداً بالنسبة إلى الأمويين والعباسيين معاً؛ لأن الأئمة أعادوا حضور القرآن والحديث النبوي الشريف بعد أن حوربا بشدّة في زمن عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان على وجه الخصوص حيث كان لتقنين الرواية وفق المزاج السياسي أثر سلبي على اختفاء جزء من السنة النبوية وحلول أكاذيب أبي هريرة وكعب الأحبار ومن على شاكلتهم.
كما أن ما أظهره الأئمة عليهم السلام من معارف نبوية كان لافتاً لنظر المسلمين ومعرّفاً لهم بمكانة أهل البيت عليهم السلام وموقعهم من إرث رسول الله صلى الله عليه وآله، فإن المسك إذا فاحَ دلّ على نفسه بنفسه، ولهذا كانوا يحثون على بثّ محاسن كلامهم، فإن على كل حقيقة نوراً كما عبّروا، وهذا ما لم يكن يرغب به الأمويون ومن تلاهم.
ولهذا ينبغي علينا أن نتلقّى إرث الأئمة (عليهم السلام) باهتمام وجديّة، وأن نجعل من هذا الإرث نظاماً لحياتنا على مستوى المعرفة الدينية والسلوك الأخلاقي والاجتماعي، فالأجيال القادمة سوف تتطلع إلى ما استنبطناه من معارف وفوائد من كنوزهم الإلهية. هذه مسؤولية يتحمّلها الجميع بلا فرق بين طلاب العلوم الدينية أو غيرهم، المهم أن يكون التعامل مع هذه المعارف على وجه الحكمة والنباهة والدقّة في وضع كل شيء في موضعه.
إذا شعرنا بالتقصير تجاه الإمام الحسن عليه السلام فإنّ لسان الباقر والصادق وسائر الأئمة لسانه، وما نقلوه إلينا هو إرثه، وأي تقصير أو إساءة بحق هذه المواريث الإلهية ستكون طعنة في قلب المجتبى عليه السلام، وربما تكون بمثابة مقولة: «يا مذل المؤمنين» التي شكّلت سهماً أصاب قلبه صلوات الله عليه، فعلينا أن نتيقظ ونتبصّر وأن نكون في ركاب الحسن عليه السلام، لا في الجبهة الأخرى، .. جبهة معاوية وسائر الذين جاهدوا لإخفاء معارف أهل البيت عليهم السلام من الانتشار.

رسالة الحسن المجتبى عليه السلام بين أيدينا؛ فلا نعيد الخذلان والتقصير.
📜 أفضل طرق السلوك إلى الله

«يروي الأستاذ حسين أنصاريان (الخطيب المعروف) واحدةً من ذكرياته عن العلّامة الراحل، يقول: رأيتُه ذات مرة في طريق الحرم المطهر للسيد فاطمة المعصومة عليها السلام، وقد لحق به شخص واستوقفه فوقف إلى جانب الرصيف، وكنتُ قريباً فتقدمت أسمع تحاورهما، كان العلامة مطرقاً كعادته ينظر إلى الأرض، ويُصغي إلى سؤال الرجل الذي قال له في بعض أسئلته: كيف وصلت إلى هذا المقام؟ فلعلنا نوفق للاقتداء بك.
العلّامة وبكل تواضع - ومع أن السؤال لم يكن مناسباً زماناً ومكاناً - قال له: إن الطرق كثيرة، ولكن من بينها طريقان يحظيان بأهمية بالغة، وأنا أفتخر بهما، وأعدهما من أفضل الطرق، أحدهما أداء صلاة الليل بإخلاص وباستمرار، والطريق الآخر البكاء على الإمام الحسين عليه السلام».

📝محمد تقي أنصاريان الخوانساري؛
📚معروف في السماء وكفى بذلك مجداً [ذكريات ووثائق تنشر لأول مرة حول سيرة العلامة الطباطبائي]، ص١٥٧-١٥٨.
|| أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ||
• وفاة العلّامة محمد باقر المجلسي (رضوان الله عليه).

في السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة (١١١٠) هجرية، ارتحل إلى رحمة ربّه (تبارك وتعالى) وجوار أئمته (عليهم السلام) الفاضل العلّامة، المحدّث المحقّق، الشيخ محمد باقر المجلسي (رضوان الله عليه).
لقد كان نموذجاً عظيماً للإنسان المجاهد، المؤمن إيماناً عميقاً برسالته، الجادّ في خدمة أهل بيت النبوّة، فقد بذل شطراً كبيراً من عمره في جمع أحاديثهم ونشرها وشرحها، وتربية العلماء الوارثين، وتبليغ أحكام الدّين، وترسيخ الإيمان في قلوب أيتام آل محمد عليهم السلام، وإحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقضاء حوائج المؤمنين، والذبّ عن حرمات الله.
يعتبر عمل الشيخ (رحمه الله) من أهم الدعامات الأساسية التي ساهمت في تثبيت التشيّع في إيران، حيث أفنى حياته مجاهداً في سبيل الله، مُسخّراً لسانه وقلمه وعمله في هذه الغاية العظيمة، أسألُ الله تعالى له علوّ الدرجات، وأن يحشره مع أئمة الهدى صلوات الله عليهم.
.
.
.
[من خطاب السيد الخامنئي دام ظله في لقاء مسؤولي دار التبليغ الإسلامي بتاريخ ٠٥/١٢/١٣٧٠] :
(في سالف الأيام، قام المرحوم المجلسي رضوان الله عليه في كتابيه «حق اليقين» و«عين الحياة» ببيان الأخلاق والعقائد الدينيّة بلسان عصره، وقرَّبَ عامة الناس إلى الفكر الاعتقاديّ الشيعيّ. لا تتوهموا أنّ المجلسي كتب هذه الكتب هباءً بدون فائدة، كلا؛ بل إنّه ثبّت قواعد التشيع بهذه الكتب، وفي ذلك الوقت كان التشيع في بلادنا حديث العهد. لا تنظروا إلى «حياة القلوب» و«حق اليقين» و«عين الحياة» بعين الاستخفاف، وتقولوا: هذه الكتب أي أثر لها؟! كلا، لقد كان لها في وقتها أثراً كبيراً).
.
.
.
وفي هذا المقطع الصوتي خلال لقاء آخر يشير إلى جهوده العلمية التي ساهمت في خدمة تراث أهل البيت عليهم السلام:
(إنني أعتقدُ أنّ العلامةَ المجلسي من عُلماءِ الطراز الأول في طول تاريخ علماء التشيع، لقد كان ذا شخصيةٍ عظيمةٍ. لم يكن عمله مجرد جمعٍ للأحاديث في كتابه «بحار الأنوار»، بل إن بياناته في ذيل الأحاديث والآيات تشيرُ إلى أن هذا الرجل فقيهٌ محقّقٌ وواردٌ في مجال العلوم العقليّة، لقد كان رجلاً عظيماً. ومن توفيقه العظيمة في نشر الدّين أنه ألَّفَ هذه الكتب الخالدة، أتظنون أن كتاباً ك«بحار الأنوار» هو مجرد دعابة؟! أو «ملاذ الأخيار» الذي هو شرحٌ للتهذيب، أو «مرآة العقول» الذي هو شرح للكافي..).
Audio
حديث السيّد الخامنئي (دام ظله) حول آثار العلامة المجلسي (ره) ودوره العلمي في خدمة التشيع.
📜 لوعةٌ وحسرةٌ من قلبِ الشّهيد الثاني (رضي اللهُ عنه) إلى طُلّاب العلمِ.

مما أعتقدهُ بقوّة وإصرار: أنّ طالبَ العلمِ إمّا أنْ يتبحّر في علوم أهل البيت (عليهم السلام) الواصلة إلينا ويعطي النّاس منها، وهذا سبيله عبر الاطّلاع على الكتب المعتبرة التي نقلت أحاديثهم الشّريفة والعمل على الاستئناس بلحنها، ومعرفة دقائقها وأسرارها، واستنباط معارفها، وإنْ لم يفعل فهو حتماً سيعطي النّاس من (كيسه)؛ لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه، ولطالما رأينا من يرتقي المنابر، ويخاطب النّاس عبر القنوات الفضائيّة، ويعطي الناس من كيسه الخاصّ مخالفاً بديهيّات وضرورات ما قاله الأئمة (عليهم السلام)، وليس هذا إلا لعلّة الفراغ، وعدم التوجّه الحقيقي للارتواء من معين أهل البيت (عليهم السلام)، وبسبب هذا الفراغ، يضطرّ لملئهِ باختراعات من نفسه.
فالسيرُ الحقيقيّ إلى طريق الفقاهة والتحصيل العلميّ الجادّ لا يمرُّ إلا عبر معرفةِ ما نصّ عليه أئمة الهدى (عليهم السلام)، وإلا فسوف يعيشُ الناس في غربةٍ عنهم، تبعاً لغربة بعض أهل العلم عن منابع المعرفة بكلام أهل البيت (عليهم السلام).

وقد كانت هذه البليّة أصابت بعض أهل العلم والمنتسبين إليه منذ قرونٍ طويلةٍ؛ فبثّت في قلب الشيخ الفقيه الشّهيد الثاني حسرةً وغمّاً، وتأسفاً ولوعةً، على ما وصلَ إليه حالُ بعض هؤلاء، فسطّر هذه الحسرات في بعض رسائله.

يَقولُ العالمُ الفقيه، فخر جبل عامل، الشّهيد الثاني (رضي الله عنه):

«والموجِبُ لهذِهِ الحَيرةِ ونزولِ هذه البليّةِ إنّما هو تقاعُدُهم عن تحصيلِ الحقّ، وفُتورُ عزيمتِهِم، وانحطاطُ نفوسِهِم عن الغيرةِ على صلاحِ الدين وتحصيلِ مداركِ اليقين، حتّى آلَ الحالُ إلى انتقاضِ هذا البِناء، وفَسادِ هذه الطريقةِ السواءِ، واندَرَسَتْ معالمُ هذا الشأنِ بينَ أهل الإيمان، وقَلَّتْ أو عَدِمَتْ كُتبُ الرجالِ والحديثِ التي هي أُصولُ الشريعةِ الغَرّاء، وشرطُ التوصّلِ إلى تلك المرتَبةِ الزهراء، حتّى أنّ الرجلَ من فُضَلاء هذا العصرِ ربما انْقضى زمانُهُ، وفَنِيَ عمرُهُ، ومَضى دهرُهُ، وهو لم يَنْظُرْ في كتابٍ من كُتُبِ الحديثِ مثلِ الكافي والتهذيب والفقيه وغيرها، ولا سعى على تملَّكِهِ مع قدرته عليه، ولا رآه، بل كثيراً ما يكون شيخُه وشيخُ شيخِه بهذه المثابة وعلى هذه الصفة، فلو أرادَ الرجلُ المُسْتَيْقِظُ الآن أنْ يَتَوَصّلَ إلى تحصيل هذه الأُصول لم يَكَدْ يَقْدِرُ عليها، مع الإجماع على أنّ كتابةَ هذه الأُصول ونظائرِها وحفظِها ومقابلتِها وتصحيحِها وضبطِها ونقلِها من الواجبات الكفائيّة لتوقّف الواجب وهو التفقُّهُ عليها، ومِن المعلوم أنّ الواجب الكفائي إذا لم يَقُمْ به أحد، تَوَجّهَ العِقابُ على جميع المكلَّفين، وكان في ذلك كالواجب العيني.
فأينَ القلوبُ المستَيْقِظةُ؟! وأينَ الألبابُ المتَنَبّهةُ؟! وأينَ النفوسُ المتوجّهةُ؟! وأيْنَ الهِمَمُ العالِيةُ؟! لِتَنوحَ على هذه البليّةِ، وتُكْثِرَ العويلَ على هذه الرَّزيّة، التي لا يَلْحَظُها إلا المتّقون، فإِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ.
ومن هذا التقصيرِ نَشَأ هذا القُصُورُ، ومن هذِهِ الغَفلةِ حَدَثَ هذا الفتورُ، وانْدَرَسَتْ مَعالِمُ الشريعة في سائر الجِهات، وصارتِ الملَّةُ المصطفويّةُ في حَيّز الشتات، وصار الأمرُ كما تَراه، يروي إنسانُ هذا الزمانِ ما لا يَدْري معناه، ولا يَعْرِفُ مَن رَواه على نفسه، فليَبْكِ مَنْ ضاع عُمرُه، وليس له إلا النَّدامةُ والحَسْرةُ).

📚 موسوعة الشّهيد الثاني (الرسائل - رسالة في تقليد الميت)، ج٣، ص ٤٨-٤٩.
صدر حديثاً؛
كتاب «غاية المراد في شرح تجريد الاعتقاد» لشيخنا الأستاذ حسن فواز (حفظه الله تعالى).
صدر حديثاً:
كتاب «الاستبصار في النصّ على الأئمة الأطهار».
تأليف: الشيخ الفقيه المتكلم محمد بن علي الكراجكي.
تحقيق: إبراهيم جواد.
الناشر: دار زين العابدين - قم المقدسة.
العنوان: قم، خيابان معلم، مجتمع ناشران، محل رقم (١٢٥).
نحنُ نعلم أنّ الموتَ قادمٌ لا محالة، ومع ذلك نتغافل عنه بكلّ صلافةٍ وغرور، ولذلك أشيرَ إليه في الرواية بأنّه «يقينٌ أشبه بالشكّ»، حيثُ إنّه في واقع الأمرِ يقينٌ لا يعتريه ريبٌ، ولكن بلحاظ المعاملة مع هذه الحقيقة الراسخة فإننا نتعامل معه كما لو أنّه من المشكوكات التي يُشكّ في وجودها أو حضورها، ومن هنا يتغايرُ العلم عن العمل.
لو أننا نرتّب آثاراً حقيقيّةً على معرفتنا بالموت، فإن كثيراً من التصرفات غير المنطقيّة سوف تزول من سلوكنا، من طمعٍ وجشعٍ وحسدٍ وحرصٍ على الدنيا، وسوف نلتفتُ بمقدارٍ أكبر إلى أهميّة إصلاح الدّار الآخرة قبل الحلول فيها.

النّاس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا.
💡حضور أئمة الهدى (ع) في الحياة العلمية والعملية

البراعةُ في العلوم الآلية أمرٌ مغايرٌ للعلاقة الروحيّة مع أهل البيت (عليهم السلام) ورواياتهم، ومهما كان المتعلّم أو العالم بارعاً في العلوم الآلية عليه أن لا يغفل عن مسألة ارتباطه المعنويّ بأهل البيت عليهم السلام وبكلامهم النورانيّ، وإلا فسوف تميل به نفسه يميناً ويساراً ولو في حينٍ من الأحيان. جرى كلام مع أحد الإخوة الأصدقاء في هذا الموضوع قبل أيامٍ، ثم عرضتُ له شاهداً من كتب أحد أهل العلم المشهود لهم، حيث إنه صنّف كتاباً ذكر فيه شيئاً من العبادات والأذكار المجرّبة، ثم خصّصَ فصلاً لقراءة شعر أحد مشايخ الصوفيّة - [واسمه: أبو سعيد أبو الخير] - بنيّة قضاء الحوائج، فتقرأ هذا البيت سبع مرات بنية الشفاء من المرض، وتقرأ البيت الفلاني كذا مرة لغرض آخر، .. وهكذا، مع أنّه قد ورد في رواياتنا عن الأئمة (عليهم السلام) قراءة سورة الفاتحة سبع مرات بنية شفاء المريض، وقد نُقل عنهم لعموم الحاجات ما يغني عن اللجوء لمثل هذه الترهات السخيفة، وأيّ عاقل يعدل عن قراءة القرآن أو ذكر الله إلى قراءة شعرٍ بنيّة الشفاء أو قضاء الحاجة؟!
نعم؛ بالتفاتنا دوماً إلى حضور أئمتنا عليهم السلام في حياتنا العلميّة والعمليّة سوف نقدر على تجاوز كثيرٍ من حجب الغفلة، نسأل الله أن يبصّرنا بنورهم في الدنيا والآخرة.

• ليس هناك من فائدةٍ في ذكر اسم الكتاب أو مؤلّفه، بل لعله خلاف الحكمة ونقض للغرض، ولكني أشرتُ إلى هذه المسألة لا للحطّ من مقام أحدٍ، بل للعظة والاعتبار والانتباه من الانجرار خلف كل ما يطرق السّمع، وللتحذير من الجري على كل ما نشأ عليه المرء واعتاده، فربما كان مخالفاً لطريقة الأئمة الهادين صلوات الله عليهم، والمثال المذكور للتنبيه وتقريب الصورة للواقع، وإلا فعلينا الالتفات لأساس الفكرة بعمومها، وهي أن نعزّز علاقتنا مع أئمتنا عليهم السلام وحديثهم، وأن لا نعدل بهم أحداً، ولا بقولهم قول أحد.
ينبغي الإشادة بهذه السنّة الطيّبة.

أُعلن اليوم عن كسر ختم آية الله العظمى السيد المرحوم محمد الشاهروديّ بحضور ابنه وجملة من أهل العلم، للدلالة على التوقف عن استلام الحقوق الشرعيّة وانتهاء عمل الوكلاء، وهذه السنة معمول بها من قبل، حيث كان آخرها عند وفاة السيد عبد الكريم الموسوي الأردبيلي (قدس سره) إذ تمّت مراسم كسر الختم بحضور الشيخ جعفر السبحاني (دام ظلّه)، ومن قبل أشرنا إلى تطبيق ذلك ليلة وفاة السيد الإمام الخميني رضوان الله عليه.

إنهاء نظام الوراثة يسدّ الباب أمام الورثة غير المحصّلين، الذين يتكؤون في صناعة تاريخهم على مجد الآباء والأجداد، وبهذا الإنهاء يصبح للعلم قيمته، ويكون هو المعيار المثاليّ لتقييم أيّ شخصيّة دينيّة. كما أنّه يمنعُ من تسنّم الجهلة المناصبَ الحسّاسة في أوساط المجتمع، وإن كان قد ابتلي الشيعة بمثل هذا الأمر ولا زالوا يعانون منه، فلا ينبغي تكرار ذلك.
إذا أصبحت هذه السنّة شائعة ذائعة، فنحنُ في طريقنا إلى تحرير المجتمع من التبعيّة للجهال المستندين إلى تاريخ الأسلاف، وسوف نخطو خطواتٍ أكبر نحو تدمير الأرستقراطيّة الدينيّة التي تعتاشُ عليها بعض الجهات.
💡الحكمة الحقيقيّة

من أعظم مظاهر التحلّي بروح الحكمة أن يرى الإنسان حاجته إلى التدبر في عاقبة أعماله؛ لئلا يخرج عن مسار الحكمة في حياته، وهذا أساس من أسس نظم الأمر الذي أوصى به سيّد الحكماء أمير المؤمنين عليه السلام، كما أنه من مقتضيات النظر العقلائيّ في تدبير الشؤون، ولا يخفى أن إهمال التأمل في عواقب الأعمال ونتائجها مفوِّتٌ للخير في حياة الإنسان وآخرته.
وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: إن رجلاً أتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال له: يا رسول الله، أوصني.
فقال له: «فهل أنت مستوصٍ إن أنا أوصيتك؟»، حتى قال له ذلك ثلاثاً، وفي كلها يقول الرجل: نعم يا رسول الله.
فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): «فإني أوصيك إذا أنت هممتَ بأمرٍ فتدبّر عاقبته، فإنْ يكُ رشداً فأمضه وإنْ يكُ غيّاً فانتهِ عنه».
💡عبادةُ الشيخ العجوز..

ونحن في أوج الشباب، علينا أن لا يستحوذَ علينا الكسل، ولا يستبدّ بأوقاتنا وأحوالنا الضجر، وقد كان الأعاظم في جهاد عظيم رغم الولوج في عالم الشيخوخة والهرم، .. نسأل الله أن نُرزَق مثل همتهم وروحيتهم الشامخة.
من مقطع للشيخ جعفر ناصري - حفظه الله - أترجمُ هذه الحكاية عن والده، قال:
«قال والدي - حفظه الله تعالى -: في أيّام الشباب، ذهبتُ إلى مسجد الكوفة، وكان الهواءُ حارّاً، أدّيتُ عدة ركعات، وفي تلك الأثناء لاقيتُ شيخاً عجوزاً، رأيتُ أنه وضع عمامته على يده، ومنديلاً مُبلّلاً على رأسه، وكان يصلي في كل مقام.
جعلتُ أنظر إليه لمدة من الوقت، وتعجّبتُ من نشاط هذا العجوز في العبادة والارتباط بالله تعالى.
سألتُ: من هذا؟
فقيل لي: «هذا الحاج آقا بزرگ الطهراني».
🇮🇷روحُ الله في «خليج فارس»..

نسمعُ أحياناً من يقول إنّ هذه الوقفةَ في وجهِ قوى الاستكبار ليست أمراً ممكناً بلحاظ القدرات الماديّة (لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ)، فأمريكا هي أقوى دولةٍ في العالم، وحلفاؤها من أقوى الدول، وهم يتوهمون الضعف أمامهم؛ لأنّهم فاقدون للإحساس بيد القدرة الإلهيّة التي تنصرُ المجاهدين الذين حملوا أداء التكليف على عاتقهم. إنّنا نواجه الصعوبات حقّاً، ولكنّ اليد الغيبية حاضرة، وتمسحُ على الرؤوس لتُشعرهم بالمعيّة الإلهيّة (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)، وكما أنني أؤمنُ بأنّ الله لا يرفعُ كافّة العقبات أمامنا لأن في ذلك انتفاء التكليف الذي نُمتحن به، أؤمن أيضاً بالكرامة، وخيط النور الذي ينفذُ في قلب الظلام والمشقّة ليأخذ بالقلوب نحو وليّ الله الأعظم صلوات الله عليه. أؤمن أنّ هذه الثورة مظهرٌ من مظاهر القدرة الإلهية لتأديب الطاغوت وردعه، وما يجري - هذه الأيام - في خليج فارس هو جزءٌ من سلسلة الانتصارات والكرامات الباهرة التي انهمرت على يد السيّد الإمام الخميني رضوان الله عليه، ومن باب التذكير ببعض البطولات والكرامات التي شهدها الخليج في زمن الحرب بين حزب البعث والجمهورية الإسلاميّة، أحببتُ أن أترجمَ هذه القصّة عن آية الله الشيخ مبشّر كاشاني (أحد أساتذة بحث الخارج في قم، ومن أهم تلامذة السيد شهاب الدين المرعشي النجفيّ، وهو أحد العلماء الذين شاركوا في مواجهة نظام الشاه) وقد نقلها عن بعض مهندسي الحرس الثوريّ العاملين في القوّة البحريّة في خليج فارس.

قال سماحة الشيخ مبشر كاشاني (حفظه الله):
(تقريباً، في فترة عمليّات «مرصاد»، جاءني أحد أفراد الحرس المتديّنين «السيّد نجفيّ»، وقد كان من مريدي آية الله بهاءالدينيّ، وقد طلب منّي أن ألقي خطاباً في قاعدة «رمضان» في كرمانشاه للإخوة الحرس والجنود، وقد قبلتُ ذلك، فأخذوني إلى هناك. وفي كل ليلةٍ، بعد الصلاة والخطاب كنا نذهب مع مسؤولي تلك القاعدة إلى مكانٍ ما للاستراحة، وبعد العشاء كنتُ أقوم بالإجابة على أسئلتهم المعرفيّة.
في إحدى اللياليّ، نقل لي بعض الأشخاص من مهندسي الحرس الثوريّ حكايةً تحكي عن عظمة وكرامة شخصيتين علميتين وروحيّتين: السيد الإمام الخميني رحمه الله، وآية الله السيد المرعشيّ النجفيّ رحمه الله، وحيثُ إنّ هذا الأمر قد مضى عليه ثلاثون عاماً فإنني لن أورد بعض الجزئيات، ولكن بنحو الإجمال أذكر القصة بهذا النحو:
تعرّضت إحدى آبار النفط في خليج فارس لمشكلةٍ ما، وقد سبب خروج النفط تلوّثاً وعوارض أخرى، ولأجل ذلك طلبت الحكومة الإيرانية من بعض الدول الأوروبيّة المساعدةَ لإصلاح بئر النفط، ولكن استجابهم كانت مقرونةً بالابتزاز، فرفضت الجمهورية الإسلاميّة ذلك. ومن جهةٍ أخرى، كان البعض داخل البلاد يقول إنّ حلّ هذه المشكلة وإصلاح بئر النفط بلحاظ الأمور الفنيّة والإمكانات المتوفرة أمرٌ ليس بمقدور القوى الداخليّة. في النهاية، مع إصرار مهندسي الحرس الثوريّ تم تفويض الأمر إلينا، وحيثُ إنّ هذا المشروع قد استغرق أكثر من شهرٍ فقد كان محفوفاً بالأخطار. جئنا إلى «قم»، وتشرّفنا بمحضر آية الله السيّد المرعشيّ النجفيّ، وقد نقلنا إليه تفاصيل القضيّة، وقلنا له إنّنا نواجه خطريْن في المسألة: الأول أنّنا في معرض الانكشاف من قبل قوى العدوّ، ومن الممكن قبل أن ينتهي العمل أن نتعرّض لغاراتٍ من القوات الجويّة العراقيّة، والثاني: أنّ الغوّاصين لا بد أن يغوصوا إلى مدىً عميق، ومن الممكن بسبب ضغط الماء أن يتعرّضوا للأذى، وأنهم مهددون بتقطع أوصال البدن خلال الرجوع إلى سطح الماء، فأمر السيد المرعشيّ النجفيّ أن تهيّأ خواتم بعدد الغوّاصين، وأن تُنقش على الخواتم آية قرآنية حدّدها السيد، وأمر أيضاً أن تُوضع الآية (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) في مقدمة ومؤخرة السفينة بمعيّة ذكر الصلاة على محمدٍ وآل محمدٍ، وقد عملنا بما أمرَنا به، وخلال مدّة العمل بالمشروع كنا آمنين وقد رأينا الألطاف الإلهية الخفيّة والجليّة، مثلاً: كان في تلك المنطقة بعوضٌ يلسعُ ويقضّ المضجع وأحياناً ينقل الأمراض، ولكن بفضل الله أتت بعض الطيور التي كان غذاؤها هذا البعوض، وقد قضت عليه.
والخلاصة: بمدد الألطاف الإلهيّة وُفّقنا لإصلاح بئر النفط، ولم يصبنا خطرٌ، ولكن في آخر مراحل العمل تعرّض أحد المهندسين - وكان قد نسي أن يلبس الخاتم - خلال صعوده إلى سطح الماء إلى حادثةٍ بسبب اجتيازه للسرعة المقررة خلال الصعود، وقد تعرّضت عينه لضررٍ شديدٍ بسبب ضغط الماء، حيث أصيبت زاوية عينه بجروحٍ مزّقتها، وقد قال الأطباء المتخصصون في طهران إنه لا بد أنّ يقوم بعمليّة جراحية خارج البلاد، ولذلك أجريت التنسيقات لإرساله إلى إحدى الدول.

[يتبع]..
[تتمة]

وقد صادف وقتُ رحلته موعد لقاء السيد الإمام الخميني (رحمه الله) مع مهندسي المشروع، ولذلك السبب قام المهندس الجريح بإلغاء رحلته، وقال: (إنّني لستُ حاضراً لتفويت سعادةٍ كهذه)، حضر جميع المهندسين عند السيد الإمام، وقد كان سعيداً لنجاحهم في العمل، وشكر جهود الجميع. خلال توديع الإمام قلنا له إنّ هذا الأخ الذي ضمّدت عينه له قصّة، وهي أنّه قد نسي الخاتم الذي هُيّئ بأمرٍ من السيد المرعشي النجفي، وقد تعرّضت عينه لضرر شديد، ولا بُدّ أن يذهب خارج البلاد لإجراء عمليّة جراحيّة. وضع السيد الإمام يده المباركة على عينه، وقرأ جملة من الأدعية والأذكار، ثم قال: (إن شاء الله ستصبح جيّدة)، وفي اليوم التالي أخذنا [المهندس الجريح] إلى طبيبه المُعالج، وفتح الضمادة التي كانت على عينه، وعاينه، فتعجّب، وقال: (لا أعلم ما الذي حصل، ولكنّه ليس بحاجةٍ إلى عملية جراحية ولا إلى الذهاب خارج البلاد)، فحكينا له قصّة اللقاء بالسيد الإمام، والحمد لله أصبحت عينه بتمام العافية، وقد رأينا هذه الكرامة من السيد الإمام بأعيننا).

📚المصدر: سرّ دلبران [خاطرات عرفانى آيت الله مبشر كاشاني]، ص٩٣-٩٦، جمع وإعداد: وحيد مبشّر كاشاني.
📝ترجمة: إبراهيم جواد.
الحكمة ودورها في تعيين السلوك الأخلاقي

لا شكّ أنّ الإنسان المتديّن يرسمُ مسيره وسياسته العمليّة في أوساط المجتمع وفقاً للخطوط التي ترسمها الشريعة الإسلاميّة، والشريعة قدّمت مسلكها عبر النصوص الدينيّة الشريفة الواردة في القرآن الكريم وحديث أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا المقدار المُقدّم يغطّي نسبةً كبيرة للمساهمة في وضوح الرؤية في العمل، ولكنّ ذلك الأمر يحتاجُ إلى مؤهّلات أخرى يمتلكها المكلّف، ومن أهمّها اتّصافه بالعقل والحكمة وحُسن التدبير والسياسة، وهذا يعني أنّ التعامل مع النصوص الدينيّة فقط غير كافٍ لصنع سياسةٍ حكيمة ومتقنة لإدارة الأمور العمليّة في الواقع، فإذا كان لدينا شخصٌ لا يُحسن التدبير فسوف يعمل بما يراه أمامه، وربما تودي به سذاجته إلى تفويت المصالح المرتقبة، وربما أدّت إلى أضرارٍ أخرى، وذلك لأنّ النصوص حافلةٌ بمعايير متفاوتة في الشأن الواحد، وربما ظنّ كثيرٌ من الناس أنّ هذا اللون من التعامل هو المتعيّن مطلقاً، ولا طريق سواه.
وهذا النوع من التحجّر في فهم نصوص الشريعة قد خلقَ حالةً من الجمودِ عند بعض الشباب المتديّن، ولقد رأينا من له وَلَعٌ بأحاديث أهل البيت (عليهم السلام) ولكنّه أضرّ بنفسه لانعدام بصيرته وقلّة درايته ورداءة سليقته في تذوّق النصوص، وعدم قدرته على فهم جهة كلّ نصّ، وما الذي يمثّل أصلاً، وما الذي يمثّل استثناءً، وهو بهذا المقدار من الجهل يظنّ أنّه يحسن صنعاً، فقد انجرّ بعضهم للتطاول على الفقهاء، وإساءة توظيف النصوص الشريفة، فكانوا كشاربي العسل والسّم، حيث نظروا إلى الروايات الشريفة وضمّوا إليها سموم جهلهم.

ولكي يتّضح المراد مما تقدّم ينبغي أن نذكر أمثلة تطبيقيّة لذلك، ومنها:
1. التعامل مع الفُسّاق والعُصاة: فقد وردت نصوصٌ في معاملتهم بنحوٍ قاسٍ من قبيل لقائهم باكفهرار الوجه والإعراض عنهم وعدم مجالستهم، ولكنّ هذا الأمر ليس على إطلاقه، فربما كان في ذلك تنفيراً لبعضهم عن التّوبة، وربما كان في الامتناع عن مجالستهم تفويتاً لفرصة تغييرهم، ومن هنا فإنّ الأمر بحاجةٍ إلى مُتمّمٍ وهو حكمة المكلّف وحسن تقديره للأمور، فربما كانت الحاجة إلى تقريعهم بقسوة متعيّنة، وربما كانت الحاجة إلى التصرف معهم بلينٍ هو الأنسب، وهذا الأمر لا توفّره النصوص بقدر ما يوفّره حسنُ تقدير المتفقّه في الدين العارف بأصول الحكمة والتدبير.
2. صلة الرّحم: فإنّها من أوكد المستحبات، ولكنّها في بعض الموارد قد تكون محلاً للنظر إذا لزم منها الضرر، فيكون الانصراف عنها لازماً، بل قد يكون قطع الرّحم من البرّ والصلة، ولكن ربما لو قطع الإنسان صلته ببعض أرحامه ظنّ به الآخرون سوءاً وأنّه متديّن متناقض يحثّ على صلة الرحم ولكنها يقطعها، ومن الأمثلة لذلك ما رواه الصّدوق بسندٍ صحيح عن [عمر] بن يزيد، قال: كنت عند أبي الحسن الرضا عليه السلام فذكر محمد بن جعفر بن محمد، فقال: «إنّي جعلت علي نفسي أن لا يظلني وإياه سقف بيت»، فقلت في نفسي: «هذا يأمرنا بالبر والصلة ويقول هذا لعمّه»، فنظر إلي فقال: «هذا من البر والصلة، إنه متى يأتيني ويدخل علي فيقول فيَّ يصدّقُه الناس، وإذا لم يدخل عليّ ولم أدخل عليه لم يُقبَل قوله إذا قال».
3. مجال الدّعوة إلى الله: فإنّها تتفاوت أساليبها بحسب ظروف الحالة المُقابلة، فتارةً تكون بالحُسنى كما أوصى الله تعالى نبيّيه موسى وهارون (عليهما السلام) في دعوة فرعون: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)، وتارةً بالشدّة والعنت كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ)، فمع أنّ فرعون كان كافراً، لم يأمر الله بالغلظة عليه، بل طلب الحديث معه بالقولِ الليّن، بينما في حالةٍ أخرى يطلب الله من نبيّه (صلى الله عليه وآله) أن يغلظ على أهل الكفر والنفاق، وهذا ليس من التناقض أو التعارض بين النصوص - والعياذ بالله -، فهذا التفاوت ليس ناشئاً عن تناقض القائل، بل عن اختلاف الحيثيّة الحاضرة في كل موردٍ، وتقدير الفعل المناسب في كلّ مسألة، ومنها لا تكون الشدّة متعيّنة في التعامل مع الكافر أو المنافق، فلكلّ حالةٍ ولكل صنفٍ تقديرٌ مناسب بحسب ما ورد في النصوص وتساعد حكمة المكلّف على اقتناص ذلك منها، مضافاً إلى قدرته على حسن التدبير بحكمة وعقلانيّة.
4. التعامل مع أهل الضلال: وكذلك نجدُ في النصوص، وفي تاريخ الأئمّة تفاوتاً في المسألة، فتارة نجدُ حثّاً على مداراتهم والتقيّة معهم، وتارةً نجدُ حثّاً على مواجهتهم بقسوة، وتارةً بمجادلتهم بالتي هي أحسن، وقد طُبّق هذا أيضاً في سيرة الأئمة حيث كانت مواجهة الشيعة للواقفة في زمن الإمام الرضا (عليه السلام) في غاية القسوة والشدّة، بينما لم يصدر من الشيعة أو الإمام الكاظم (عليه السلام) أيّ موقف حادّ تجاه الفطحيّة الذين ضلّوا وقالوا بإمامة عبد الله الأفطح، وهذا التفاوت ليس ناشئاً عن تناقضٍ، ..

[يتبع]..
بل كان لكل حالةٍ ظروفها الخاصة، ومن هنا فإنّ أحد الأسلوبين لا يتعيّن دائماً، بل المتعيّن هو ما يناسب ظروف الحالة الحاضرة.
وهكذا في أمور كثيرة نجدُ في سيرة الأئمة (عليهم السلام) لها نظائر متقابلة، فتارة يتصرفون بهذا النحو، وتارة أخرى بنحوٍ آخر، وهذا التغيّر في السلوك ناشئ من تحكيم العقل وحسن التدبير والإلمام بدقائق ظروف الواقع، وإلّا فإنّ السياسة الواحدة لا تثمر في كل وقت وزمان.
إنّ غالبَ البسطاء يفكّرون بأسلوب (اللون الواحد)، ولذلك نرى أنّ بعض الناس قد استنكروا على الإمام الحسن (عليه السلام) صلحه مع معاوية، وقد قاتله أبوه أمير المؤمنين (عليه السلام)، وبعضهم لا زال إلى اليوم يطرح شبهة التناقض بين سياستي الإمام المجتبى وسيد الشهداء (عليهما السلام) من باب أنّ أولهما صالح بني أمية وثانيهما قد قاتلهم، مع جهلهم أو تجاهلهم لظروف الواقع وما تفرضه من تدبير خاصّ لكل مرحلة، وهكذا لا زال الحال، فإذا انتهجَ شخصٌ مسلكاً في موردٍ ما خلاف المتوقّع - وقد جوّزت له الشريعة ذلك في موارد - ظنّوا به الخروج عن جادّة الشريعة، واللطيف في الأمر أنّ هذا من (سوء الظنّ) الذي نُهوا عنه، ولكنهم يستثنون أنفسهم من ذلك ويستسيغون بذلكَ الطّعن والبهتان.

وبكل صدق أقول: للأسف، لا تزال معرفة البعض بالأحكام الأخلاقيّة في مستوى وعظيّات المنابر، فإنّها ترى العفو - مثلاً - متعيّناً بنسبة (100%)، ولا شكّ في أنّ العفوَ خصلة أخلاقيّة حسنة، إلّا أنّها لا تتعيّن مطلقاً، وهكذا بالنسبة إلى سائر المفردات الأخلاقيّة، التي وإن كانت أصلاً أصيلاً في السلوك الأخلاقيّ إلا أنها قد تزول في موارد استثنائيّة، ولهذا ربما إن لم يعفُ أحدٌ ما اتّهموه بالانحراف عن جادّة الأخلاق الإسلاميّة، بعد غيبوبتهم عن تلك النكات المهمة في هذا الباب.
وهكذا بالنسبة لردّ مقولات الباطل؛ فقد نرى عالماً يستعمل الأسلوب الهادئ كما هو الحال عند جملة من أهل العلم وهم في ذلك مصيبون موفّقون، وتارةً نجدُ فقيهاً كبيراً كالإمام الخمينيّ (رضوان الله عليه) يستعملُ أسلوباً قاسياً في ردّ شبهات الباطل كما فعل في ردّ شبهات الوهابيّة التي روّج لها بعض المنحرفين في زمانه، ويمكن استطلاع ذلك عن قربٍ في كتابه «كشف الأسرار»، وليس هذا من التناقض أبداً، وإنّما تقديرُ الفقيه وحسن تدبيره هو الذي يضبط معايير التصرّف في كل حالةٍ بحسبها.

ومن هنا: ينكشف أنّ مجرّد استعمال أسلوبٍ في موردٍ وأسلوب مغايرٍ في آخر لا يعني أنّ المكلّف قد خرج عن مذاق الشريعة في التصرّف مع قضايا واقعه، وجلّ الاستنكار الواقع على مثل تلك الحالات ناشئ عن عدم القدرة على توجيه النصوص الشرعيّة ووضع كلّ قسم منها في موضعه وإعطائه حجمه المناسب ومدى نسبة حضوره في السّلوك العام.
2025/07/06 21:58:49
Back to Top
HTML Embed Code: