إلى الأشخاص الذينَ يُغلقون الباب ثمِ يعودون ليتأكدوا من إغلاقه، والذين يضعون الهاتف في جيوبهم ثم يتحسسونه مرة أخرى، الذين يذهبون ويلتفتون وراءهم ليتأكدوا مِن ذلك، الذين يقولون جملة ويُعيدون قولها حتى يشعروا أنه قد تم الإستماع إليها، الذين يبعثون رسالة ثم يعودون لقراءتها ليطمئنوا مِن سلامتها، الذين يضعون شيئاً ما في الحقيبة ثُم يعودون ليتأكدوا من وجوده، الذينَ يُطفئون الأنوار في الغرفة المُجاورة و لكنهم يعودون لإلقاء نظرة والتثبت من إطفائه، إلى أشباهي الكرام أنتم على وشك الجنون .
تستطيع العين أن تجمع كل طاقة القلب في نظرة واحدة، يمكن للعين أن تحمل المرارة فى نظرة، وأن تحمل أسى الأيام في نظرة، ويمكن للعين أن تتكلم بدون ألفاظ ينطق بها اللسان، وأن تقول في لمحة واحدة ما يظل اللسان يرويه في ساعات أو في أيام، إن الإنسان يتركز كله، ويمكن تلخيصه كله في العين، ولذلك فأنا أحب العيون، وأخاف العيون .
أحسست بأن الاشياء الصغيرة التي كانت تملأ حياتي بالتفاصيل قد فقدت أهميتها بالنسبة لي، وان الايام التي سوف تأتي لا تحمل في جوانحها اي خفقة جديدة لهذا القلب المسكين، لقد فشلت في أن أُمثل دور البطل، وكأن كل شيء في الحياة يتحداني، ويمتص صمودي، ويشمخ أمام ضعفي، كسدٍ هائل من اليأس .
في الحياة، نُبحر بين الآلام التي يتسبب بها لنا الآخرون، والتي نتسبب بها لأنفسنا بأنفسنا، و ذات يوم نكتشف بأنهُ لا فرق بينها، وأننا كُنا مسؤولون عن جميع ما حدث لنا .
لا يلتقي الرائعون بالبداية أبداً، الرائعون لا يجمع الزمن بينهم، إلا بعد أن يُصبح لكل واحد منهم ماضٍ وتجارب، يلتقيان بعد رحلة طويلة من التعب واليأس، وهذا سبب تمسكهم الكبير ببعضهما، لو أنهما التقوا في بداية حياتهم لفرقت بينهم مُنعطفات الحياة، لا تُصدق كذبة أن الحب هو الحكاية العاطفية الأولى في حياتك، الحب الحقيقي لا يحدث إلا متأخراً، ليشرح لك خطأك حين اعتقدت أن تلك الحكاية هي الحب الأول، لا أحد سيلتقي بالحب في الطرق السهلة، الحب يعشق العيش في المناطق الصعبة، ليجمع بين اثنين كل النوافذ كانت بينهما مُغلقة، وكان مستحيلاً أن يلتقيا في صدفة، لهذا لا شيء يصف فرحة عثورهما على بعضهما .
لا أُريد أن أشعر حتى بالضيق من ومضات الذكرى، من حقي أن أُدلل نفسي إلى هذا الحد، من حقي أن أتخذ احتياطات مضاعفة جداً ضد وجع ما حتى ولو كان طفيفاً، الوجع هو الوجع، سواءً كان جراء الوهن التام أو الضيق العابر، كلاهما يُلحق بنا الأذى، وأنا أتجنّب الأذى بشكل طبيعي، ولا أعتبر نفسي مُترفاً اذا فعلت ذلك .
ليتني كنتُ بئراً جافة، والناس ترمي بي الحجارة فذلك أهون من أن أكون ينبوع ماء حي والظامئون يجتازوني ولا يستقون، ليتني كنتُ قصبة مرضوضة في أحد الطرقات يلعب بها الأطفال، فذاك خير من أن أكون قيثارة فضية الأوتار في منزلٍ صاحبه مبتور الأصابع وأهلهُ صُمّ لا يسمعون !
هذهِ النرجسية المُلازمة لنا ليست من غير تكلفة علينا، وسواءً كنت ترى نفسك أفضل من في العالم، أو أسوأ من في العالم، فإن هناك شيئًا صحيحًا واحدًا وهو أنك منفصل عن هذا العالم ..
وهذا الإنفصال هو ما يُديم المعاناة التي لا ضرورة لها .
وهذا الإنفصال هو ما يُديم المعاناة التي لا ضرورة لها .
إنني كمن قّد من حجر، إنني أشبه النصب التذكاري لقبري، حيث لا فجوة للشك أو الإيمان، للحب أو الكراهية، للشجاعة أو الخوف، للعام أو الخاص، فهناك أمل غامض، لكنهُ ليس أحسن حالاً من النقوش على النصب التذكارية للأضرحة، إن معظم الكلمات التي أكتبها لا تنسجم مع بعضها بعضاً، إنني أستمع إلى الحروف الصامتة تحتّك ببعضها على نحو صفيحي، وإلى الحروف المُتحركة، وهي تُغني وكأنها آلة موسيقية في معرض، إن شكوكي تُحيط مثل الدائرة بكل كلمة أتفوّه بها، هذهِ الشكوك التي كنت أراها فيما مضى مجرد كلمة، إذ كيف يمكن لي أن أراها الآن في كل شيء؟ إنني لم أرى تلك الكلمة قط، لقد اخترعتها، وقد كادت تكون المصيبة الكبرى، لكن يتوجب عليّ أن أخترع كلمات تكون قادرة على نفخ رائحة الجثث في اتجاه لا يُصيبني مثلما لا يُصيب من حولي مباشرة، فعندما أجلس إلى طاولة الكتابة فإنني لا أشعر بالراحة كمن يقع في ذروة الحركة في الأوبرا فتكسر ساقه، إن الحياة المملوءة تُؤلمني، فهي ليست أكثر من عائق للحركة لكنّ الفراغ لا يقل سوءاً، لأنهُ يجعل ألمي الذاتي بلا معنى .
هل يحدث ذلك معي وحدي؟ كان ينبغي أن يحدث ذلك عشر مرات معي، لأنني لا أندم على الأوقات التعيسة، إنّ حالتي ليست تعيسة، لكنها ليست سعيدة أيضاً، إنها ليست حالة اللامبالاة، أو الضعف أو الإنهاك، وليست هي من ضمن الحالات الأخرى، فماذا تكون؟
إن عدم معرفتي بذلك يرتبط بنقص مقدرتي على الكتابة في الآونة الأخيرة، وهو أمر يمكنني تفهمه، من دون أن أكون قادراً على معرفة بواعثه إنّ كل الأشياء التي تحدث لي لا تبدأ من جذورها مثلما يحدث لبقية الناس، بل من منتصفها، ومحاولة المرء للإمساك بها تُشبه مُحاولات الإمساك بعشب يبدأ نموه من منتصف ساقه، وهذا ما يجعل الإمساك بها ومحاولة فهمها صعبة للغاية .
إن عدم معرفتي بذلك يرتبط بنقص مقدرتي على الكتابة في الآونة الأخيرة، وهو أمر يمكنني تفهمه، من دون أن أكون قادراً على معرفة بواعثه إنّ كل الأشياء التي تحدث لي لا تبدأ من جذورها مثلما يحدث لبقية الناس، بل من منتصفها، ومحاولة المرء للإمساك بها تُشبه مُحاولات الإمساك بعشب يبدأ نموه من منتصف ساقه، وهذا ما يجعل الإمساك بها ومحاولة فهمها صعبة للغاية .
أعود إلى القراءة، أغوص في الأريكة ببطء، كما تتلاشى الصورة في فيلم سينمائي، يبدأ العالم الحقيقي في التبخر من ذهني، أُصبح وحيداً داخل القصة، وهذا هو إحساسي المُفضل .
إنهُ يُفكر أكثر من اللازم، وقد أنضب هذا التفكير دمه، فلم يعُد في استطاعته أن يستمتع بالأشياء استمتاعاً طوعياً .