*بمناسبة نزول الموسم الثاني من المسلسل الكوري الجنوبي المثير للجدل" لعبة الحبار" أعيد نشر هذه المقالة التي سبق ونشرتها منذ عامين في جريدة النهار العربي..
"لعبة الحبّار"... والتطهير الاجتماعي لشعوب شرق آسيا!
ليلى عبدالله
شاهدتُ قبل شهور مسلسلاً كوريَّا جنوبيًّا أحدث لحظة بثّه ضجة هائلة لدى رواد منصة نتفليكس وعنوانه "لعبة الحبّار".
يستعرض المسلسل مشاهد عنيفة ودموية، ضحاياها مجموعة من الناس تقلّبوا في حالات العوز والاستغلال وملاحقة الدائنين ما جعلهم طريدة سهلة من قبل جهة غامضة تغريهم بمبالغ ضخمة من الأموال ليكونوا جزءًا من لعبة تعتمد على ألغاز متوارية، يكونون بمثابة طرائد يستهدفهم قنّاصين منزوعي الرحمة يستهويهم رؤية دماء تطيش في كل الجهات.
خلفت كل مرحلة من مراحل هذه اللعبة- التي استمدت فكرتها من ألعابٍ كان يلعبها الصغار في كوريا الجنوبية- حشودًا من الجثث. تستشعر من هذا الاستدعاء لماضي الطفولة وكأنه يخبر الإنسان بأن حياته الفعلية تبدأ من تلك النطفة العتيقة المبثوثة في رحم الولادة مستطيلاً بعدها كنبتة طيبة أو ضارّة. الطفولة المشدوهة أبدًا بالطهر الخام وربق الاختلال في آن!
تلك الطفولة التي تتلاعب بخططه شاء أم أبى، يمنح الطفل كله لألعاب الطفولة، وحين يكبر تتفاوت قوانين اللعبة، ليكون هو نفسه ملعوبًا به من قبل الحياة.
في لعبة الحبار تجري القوانين على هذا النحو، تجعل الإنسان في مواجهة مع فرص عديدة، كأنّ هناك دائما فرصة ثانية، أو بمعنى أدق الفرصة النهائية. فكلّ جولة هي خوض حقيقي في معركة الموت، الحياة هنا تلاعب ولكن ألعابها جدية وصارمة ولا تقبل بأن تمنح الفرصة لأي انسان راضخ أو مستسلم، الفرص هنا مكلّفة!
فلحت "لعبة الحبار" في إقناع الجميع بوجود فرصة ثانية لتصحيح المسار إن أجاد تفعيلها بذكاء وسط منافسة شرسة بين أفراد لا يحاولون النجاة بأرواحهم المستهلكة سلفًا بكل متاعب الوجود فحسب بل في كسب الجائزة الكبرى التي تقدر بملايين الدولارات؛ حيث المال هو الحل لكل معضلات الحياة ومنتهى السعادة.
هذا المشهد يستدعي عبارة من عبارات الفيلسوف الفرنسي سارتر: "إن المغزى بوضوح هو المغزى في حياته، هذه الحياة التي باتت إلى الجميع سيئة البناء، سيئة العيشة، مستلبة، منهوبة، مخدوعة، مزيفة، لكن، حول هذه الحياة، في الوقت ذاته، يعرف من يعيشها جيّدًا أن ثمة شيء آخر" .
ماذا لو كانت حياتنا نحن البشر عبارة عن أحجيات علينا حلّها كي نضمن نجاتنا واستحقاقنا للعيش على سطح هذه الكرة الأرضية؟ هل كنا سنتلاعب منذ البدء بحيواتنا؟ هل كنا سنراهن بأنفسنا؟ أم أننا سنظل يقظين على الدوام ونحن نضع خططًا مُحكمة؟
في ما مضى كانت أحلام معظم الناس البسطاء تُختصر في أهداف محددة، أهمّها الحصول على وظيفة تدرّ دخلاً مشبّعًا، الوظيفة نفسها تكون كفيلة بتوفير متطلبات الحياة المألوفة كتكوين أسرة ومسكن وسيارة ومصاريف الأبناء، ومن كان يحقق هذه الأهداف المنشودة كانت حياته تمضي على وتيرة من الرضى والقناعة. ولكن هناك من كانت هذه الغايات المحددة في الحياة لا ترضيه، بل كان يطمح إلى التمتع بالرفاهية، فيسعى إلى تحقيق ذلك من خلال خوض تجارب عدة يحصل من خلالها على دخل أعلى.
فمنهم من يقترض أموالاً من البنوك، ويعيش على هذه الوتيرة طوال حياته، لتغدو حياته عبارة عن ماكنة تلفظ المال وتلتهمه في الوقت عينه، ومنهم من يخوض تجارب تشعره بأنه رجل أعمال، فيغامر برأس ماله في أسهم البورصة، وقد تحفل خطوته الجريئة بالنجاح أو يسقط مغشيًّا عليه بسكتة قلبية على خسارة فادحة. ومنهم من يخوض غمار القمار، فيجدها وسيلة مربحة تعتمد على الحظ، تجعله ثريًّا في لحظة أو مفلسًا في لحظات أخرى.
ومهما تباينت وسائل الحصول على دخل إضافي، فإنها في النهاية تظل غير مضمونة النتائج؛ كالحياة نفسها، مثل "لعبة الحبار". فأفرادها في كل مرحلة من مراحل اللعبة الخطرة يُستدرجون إلى دواخلهم، إلى اختبار مشاعرهم، في سبيل النجاة يبدون على تمام الاستعداد للقضاء على كل من يقف في طريقهم، يستحيلون إلى وحوش، كما ذهب " نيتشه" تماما في باب التحدث عن صراع المرء مع طواحينه "من يقاتل الوحوش عليه أن يحذر كي لا يتحول إلى واحد منهم" وهكذا دواليك تدفع الحياة بكل من يخوض في غمارها بلا استثناء إلى الهاوية!
تشويه المُثُل
ولأن المسلسل ذات خلفية آسيوية، كان لدى هذه الشعوب تحديدًا ما يسمى بتأنيب الذات، أو السعي الحثيث للخضوع إلى عمليات تطهير الاجتماعي كاليابان والصين وكوريا .
ولكن يبدو أنّ وتيرة الحياة المستهلكة المادية طعنت عاداتهم وشوهت حتى مُثلهم المقدسة، جعلت مشاعرهم متصلبة جلّ همّها هو نشل الذات من مستنقع الإفلاس والإنهاك حتى لو استدعى ذلك إلى طمس كل من ينذره بالخسارة.
"لعبة الحبّار"... والتطهير الاجتماعي لشعوب شرق آسيا!
ليلى عبدالله
شاهدتُ قبل شهور مسلسلاً كوريَّا جنوبيًّا أحدث لحظة بثّه ضجة هائلة لدى رواد منصة نتفليكس وعنوانه "لعبة الحبّار".
يستعرض المسلسل مشاهد عنيفة ودموية، ضحاياها مجموعة من الناس تقلّبوا في حالات العوز والاستغلال وملاحقة الدائنين ما جعلهم طريدة سهلة من قبل جهة غامضة تغريهم بمبالغ ضخمة من الأموال ليكونوا جزءًا من لعبة تعتمد على ألغاز متوارية، يكونون بمثابة طرائد يستهدفهم قنّاصين منزوعي الرحمة يستهويهم رؤية دماء تطيش في كل الجهات.
خلفت كل مرحلة من مراحل هذه اللعبة- التي استمدت فكرتها من ألعابٍ كان يلعبها الصغار في كوريا الجنوبية- حشودًا من الجثث. تستشعر من هذا الاستدعاء لماضي الطفولة وكأنه يخبر الإنسان بأن حياته الفعلية تبدأ من تلك النطفة العتيقة المبثوثة في رحم الولادة مستطيلاً بعدها كنبتة طيبة أو ضارّة. الطفولة المشدوهة أبدًا بالطهر الخام وربق الاختلال في آن!
تلك الطفولة التي تتلاعب بخططه شاء أم أبى، يمنح الطفل كله لألعاب الطفولة، وحين يكبر تتفاوت قوانين اللعبة، ليكون هو نفسه ملعوبًا به من قبل الحياة.
في لعبة الحبار تجري القوانين على هذا النحو، تجعل الإنسان في مواجهة مع فرص عديدة، كأنّ هناك دائما فرصة ثانية، أو بمعنى أدق الفرصة النهائية. فكلّ جولة هي خوض حقيقي في معركة الموت، الحياة هنا تلاعب ولكن ألعابها جدية وصارمة ولا تقبل بأن تمنح الفرصة لأي انسان راضخ أو مستسلم، الفرص هنا مكلّفة!
فلحت "لعبة الحبار" في إقناع الجميع بوجود فرصة ثانية لتصحيح المسار إن أجاد تفعيلها بذكاء وسط منافسة شرسة بين أفراد لا يحاولون النجاة بأرواحهم المستهلكة سلفًا بكل متاعب الوجود فحسب بل في كسب الجائزة الكبرى التي تقدر بملايين الدولارات؛ حيث المال هو الحل لكل معضلات الحياة ومنتهى السعادة.
هذا المشهد يستدعي عبارة من عبارات الفيلسوف الفرنسي سارتر: "إن المغزى بوضوح هو المغزى في حياته، هذه الحياة التي باتت إلى الجميع سيئة البناء، سيئة العيشة، مستلبة، منهوبة، مخدوعة، مزيفة، لكن، حول هذه الحياة، في الوقت ذاته، يعرف من يعيشها جيّدًا أن ثمة شيء آخر" .
ماذا لو كانت حياتنا نحن البشر عبارة عن أحجيات علينا حلّها كي نضمن نجاتنا واستحقاقنا للعيش على سطح هذه الكرة الأرضية؟ هل كنا سنتلاعب منذ البدء بحيواتنا؟ هل كنا سنراهن بأنفسنا؟ أم أننا سنظل يقظين على الدوام ونحن نضع خططًا مُحكمة؟
في ما مضى كانت أحلام معظم الناس البسطاء تُختصر في أهداف محددة، أهمّها الحصول على وظيفة تدرّ دخلاً مشبّعًا، الوظيفة نفسها تكون كفيلة بتوفير متطلبات الحياة المألوفة كتكوين أسرة ومسكن وسيارة ومصاريف الأبناء، ومن كان يحقق هذه الأهداف المنشودة كانت حياته تمضي على وتيرة من الرضى والقناعة. ولكن هناك من كانت هذه الغايات المحددة في الحياة لا ترضيه، بل كان يطمح إلى التمتع بالرفاهية، فيسعى إلى تحقيق ذلك من خلال خوض تجارب عدة يحصل من خلالها على دخل أعلى.
فمنهم من يقترض أموالاً من البنوك، ويعيش على هذه الوتيرة طوال حياته، لتغدو حياته عبارة عن ماكنة تلفظ المال وتلتهمه في الوقت عينه، ومنهم من يخوض تجارب تشعره بأنه رجل أعمال، فيغامر برأس ماله في أسهم البورصة، وقد تحفل خطوته الجريئة بالنجاح أو يسقط مغشيًّا عليه بسكتة قلبية على خسارة فادحة. ومنهم من يخوض غمار القمار، فيجدها وسيلة مربحة تعتمد على الحظ، تجعله ثريًّا في لحظة أو مفلسًا في لحظات أخرى.
ومهما تباينت وسائل الحصول على دخل إضافي، فإنها في النهاية تظل غير مضمونة النتائج؛ كالحياة نفسها، مثل "لعبة الحبار". فأفرادها في كل مرحلة من مراحل اللعبة الخطرة يُستدرجون إلى دواخلهم، إلى اختبار مشاعرهم، في سبيل النجاة يبدون على تمام الاستعداد للقضاء على كل من يقف في طريقهم، يستحيلون إلى وحوش، كما ذهب " نيتشه" تماما في باب التحدث عن صراع المرء مع طواحينه "من يقاتل الوحوش عليه أن يحذر كي لا يتحول إلى واحد منهم" وهكذا دواليك تدفع الحياة بكل من يخوض في غمارها بلا استثناء إلى الهاوية!
تشويه المُثُل
ولأن المسلسل ذات خلفية آسيوية، كان لدى هذه الشعوب تحديدًا ما يسمى بتأنيب الذات، أو السعي الحثيث للخضوع إلى عمليات تطهير الاجتماعي كاليابان والصين وكوريا .
ولكن يبدو أنّ وتيرة الحياة المستهلكة المادية طعنت عاداتهم وشوهت حتى مُثلهم المقدسة، جعلت مشاعرهم متصلبة جلّ همّها هو نشل الذات من مستنقع الإفلاس والإنهاك حتى لو استدعى ذلك إلى طمس كل من ينذره بالخسارة.
شعوب شرق آسيا عبر تاريخهم العتيد نحت إلى التكفير عن آثامها تجاه كل ما يمت لها بصلة بطرق غاية في تجويف الذات لا سيما في أحلك فترات الصراعات السياسية؛ فاليابانيون كان لديهم ثقافة تأنيب النفس؛ نتيجة لخسارتهم الفادحة في الحرب العالمية الثانية، جعلهم شعوبًا أكثر سعيًا لبناء أنفسهم وقد تمكنوا من تجاوز خساراتهم الباهظة ببناء مجتمع معاصر
على درجة عالية من التطور والتكنولوجيا، شعب يتمتع برفاهية ونظام معيشي صارم، لوم الذات بمنزلة تحمل مسؤولية التقصير تجاه أمر ما، سواء على صعيد شخصي أو عام، فالرجل الذي يجرّ أسرته إلى حافة الإفلاس يكون الانتحار سبيلاً وحيدًا للخلاص من هذا العار.
كذلك صاحب منصب كوزير ونحو ذلك، حين يفشل في مهامه أو يعرض حكومته لأزمة ما اقتصادية أو سياسية، فإنّه لا يستقيل فحسب بل يزهق روحه، وليس ذلك بغريب على الثقافة اليابانية فهم سليل ثقافة الساموراي الذي يقتل نفسه بالسيف وفق أصول طقس هارا كيري أو ما يسمى أيضًا بالسيبوكو، وهو عمل يقدم خلاله المقاتل على قتل نفسه عن طريق نزع أحشائه فهم كانوا يعتقدون بأن معدة الشخص هي مبعث الروح البشرية؛ لذا يخلص روحه من تلطيخ الشرف والعار بأكثر وسائل الموت وحشية وعذابا، قبل أن يقوم أحد المقربين له، يسمى "الكايشاكونين" بضرب عنق مقاتل الساموراي، وهي الطريقة نفسها التي اتبعها الروائي الياباني الشهير يوكيو ميشيما، معترضا على انغماس اليابان واليابانيين في أمركة الحياة ما جعلها تخسر مجدها العريق وعاداتها الأصيلة.
الصين وكوريا أيضًا فرضا نظام التطهير الاجتماعي، فالصين في عهد الزعيم ماو، خضعت شعبها، عن طريق إرسال المتعلمين إلى مجتمعات الفلاحين في الريف، ليقوموا بأعمال الفلاحة، وهي من مخزون ذاكرة الثورة الثقافية...
الثورة العظمى
في إبان الثورة الثقافية تغيرت أحوال الصين تغييرًا جذريًّا، هذه الثورة التي تعرف رسميا بالثورة البروليتارية العظمى، وهي الحركة الاجتماعية والسياسية العنيفة التي سادت في الصين خلال عامي 1966 و1967، وخلالها تعرض الكثيرون من الأبرياء للملاحقة العنيفة، أطلق الزعيم ماو هذه الثورة للتخلص في الغالب من التأثيرات المعادية للشيوعية، وقد طرحت كثير من الروايات الصينية تلك الفترة القاتمة من تاريخهم، كرواية " بلزاك والخياطة الصينية الصغيرة " للكاتب داي سيجي والكاتبة آنتشي مين في روايتها "الأزاليا الحمراء" هذه الرواية كان لها نصيب الأسد، في تبئير ظاهرة الثورة الثقافية في عهد الزعيم ماو؛ لكونها مبنية على سرد سيرة حياة كاتبة عاصرت وهي ما تزال تلميذة صغيرة في الثانية عشرة من عمرها، التاريخ التفصيلي لكل ما مرت به الصين في تلك الحقبة من محن انطلاقًا من تجربتها الشخصية.
الثقافة نفسها سادت في كوريا الجنوبية، في تلك العقود، وهذا ما كشفته رواية "فتاة كتبت العزلة" للروائية الكورية الجنوبية كيونغ سوك شين (دار التنوير، ترجمة محمد نجيب).
تسرد الروائية تفاصيل سيرتها الذاتية في ستينات القرن الماضي حين كانت طالبة في السادسة عشر من عمرها، غادرت منزل أسرتها في إحدى القرى الريفية مع ابنة خالتها؛ لتلتحق بأخيها الأكبر والذي كان طالبًا جامعيًّا يدرس المحاماة في إحدى الجامعات في سول، في تلك الفترة حيث كانت الأجواء السياسية مضطربة في كوريا الجنوبية، اضطرت الكاتبة أن تلتحق للعمل في المصانع كي يسمح لها باستكمال دراستها في المدرسة، تحكي عن تلك السنوات، عن الذل والانتهاك النفسي الذي تعرض له أبناء جيلها على يد أصحاب المصانع، من الأجور الزهيدة وسوء المعاملة والاستغلال، ناهيك عن محاربة كل من كان ينادي بتأسيس اتحاد للعمال يحفظ حقوقهم كمواطنين، وعن كيفية ملاحقة الدولة لكل من كان يسعى إلى تقويض سياساتها المجحفة، بإرسالهم إلى أماكن نائية، ومجهولة ليمارسوا عليهم ما يسمى بالتطهير الاجتماعي.
المصلحة العامة
طقس التطهير جعلت أفراد هذه الشعوب يستقدمون مصلحة الوطن، الأمة على أي شيء آخر، ليبدو الأمر كما لو أنهم يغدون أشخاصا أنانيين حين ترتبط غايات الحياة بمصالح شخصية.
في رواية الكاتب الكوري لي غوانغ سو وعنوانها "رسائل إلى صديق شاب"، يتمسك الراوي بالحياة رغم الحمى الشديدة التي أصابته من أجل العمل لأمته، فيقول: "وما أنقذ حياتي هو اعتزامي أن أبذل كل ما لدي من أجل الشعب الكوري. وقررت أن أكرس حياتي لتنوير شعبنا مثلما يكرس خائبو الأمل الآخرون حياتهم في الأعمال الخيرية. ونتيجة لذلك، استطعت أن أجد أملاً وطاقة جديدة".
ومثل بقية الثقافات اليابانية والصينية؛ فإن الكوريين أيضًا لديهم في تاريخهم ذاك الارتباط الوثيق ما بين الشعور بالواجب الوطني ومُثل الفضيلة.
وحتى في صلات الحب يكون مرادفًا لمفاهيم الوفاء وتحسين الذات والتضحية والتعاطف، فالعواطف تدخل ضمن إطار الواجب الوطني وخدمة المجتمع.
على درجة عالية من التطور والتكنولوجيا، شعب يتمتع برفاهية ونظام معيشي صارم، لوم الذات بمنزلة تحمل مسؤولية التقصير تجاه أمر ما، سواء على صعيد شخصي أو عام، فالرجل الذي يجرّ أسرته إلى حافة الإفلاس يكون الانتحار سبيلاً وحيدًا للخلاص من هذا العار.
كذلك صاحب منصب كوزير ونحو ذلك، حين يفشل في مهامه أو يعرض حكومته لأزمة ما اقتصادية أو سياسية، فإنّه لا يستقيل فحسب بل يزهق روحه، وليس ذلك بغريب على الثقافة اليابانية فهم سليل ثقافة الساموراي الذي يقتل نفسه بالسيف وفق أصول طقس هارا كيري أو ما يسمى أيضًا بالسيبوكو، وهو عمل يقدم خلاله المقاتل على قتل نفسه عن طريق نزع أحشائه فهم كانوا يعتقدون بأن معدة الشخص هي مبعث الروح البشرية؛ لذا يخلص روحه من تلطيخ الشرف والعار بأكثر وسائل الموت وحشية وعذابا، قبل أن يقوم أحد المقربين له، يسمى "الكايشاكونين" بضرب عنق مقاتل الساموراي، وهي الطريقة نفسها التي اتبعها الروائي الياباني الشهير يوكيو ميشيما، معترضا على انغماس اليابان واليابانيين في أمركة الحياة ما جعلها تخسر مجدها العريق وعاداتها الأصيلة.
الصين وكوريا أيضًا فرضا نظام التطهير الاجتماعي، فالصين في عهد الزعيم ماو، خضعت شعبها، عن طريق إرسال المتعلمين إلى مجتمعات الفلاحين في الريف، ليقوموا بأعمال الفلاحة، وهي من مخزون ذاكرة الثورة الثقافية...
الثورة العظمى
في إبان الثورة الثقافية تغيرت أحوال الصين تغييرًا جذريًّا، هذه الثورة التي تعرف رسميا بالثورة البروليتارية العظمى، وهي الحركة الاجتماعية والسياسية العنيفة التي سادت في الصين خلال عامي 1966 و1967، وخلالها تعرض الكثيرون من الأبرياء للملاحقة العنيفة، أطلق الزعيم ماو هذه الثورة للتخلص في الغالب من التأثيرات المعادية للشيوعية، وقد طرحت كثير من الروايات الصينية تلك الفترة القاتمة من تاريخهم، كرواية " بلزاك والخياطة الصينية الصغيرة " للكاتب داي سيجي والكاتبة آنتشي مين في روايتها "الأزاليا الحمراء" هذه الرواية كان لها نصيب الأسد، في تبئير ظاهرة الثورة الثقافية في عهد الزعيم ماو؛ لكونها مبنية على سرد سيرة حياة كاتبة عاصرت وهي ما تزال تلميذة صغيرة في الثانية عشرة من عمرها، التاريخ التفصيلي لكل ما مرت به الصين في تلك الحقبة من محن انطلاقًا من تجربتها الشخصية.
الثقافة نفسها سادت في كوريا الجنوبية، في تلك العقود، وهذا ما كشفته رواية "فتاة كتبت العزلة" للروائية الكورية الجنوبية كيونغ سوك شين (دار التنوير، ترجمة محمد نجيب).
تسرد الروائية تفاصيل سيرتها الذاتية في ستينات القرن الماضي حين كانت طالبة في السادسة عشر من عمرها، غادرت منزل أسرتها في إحدى القرى الريفية مع ابنة خالتها؛ لتلتحق بأخيها الأكبر والذي كان طالبًا جامعيًّا يدرس المحاماة في إحدى الجامعات في سول، في تلك الفترة حيث كانت الأجواء السياسية مضطربة في كوريا الجنوبية، اضطرت الكاتبة أن تلتحق للعمل في المصانع كي يسمح لها باستكمال دراستها في المدرسة، تحكي عن تلك السنوات، عن الذل والانتهاك النفسي الذي تعرض له أبناء جيلها على يد أصحاب المصانع، من الأجور الزهيدة وسوء المعاملة والاستغلال، ناهيك عن محاربة كل من كان ينادي بتأسيس اتحاد للعمال يحفظ حقوقهم كمواطنين، وعن كيفية ملاحقة الدولة لكل من كان يسعى إلى تقويض سياساتها المجحفة، بإرسالهم إلى أماكن نائية، ومجهولة ليمارسوا عليهم ما يسمى بالتطهير الاجتماعي.
المصلحة العامة
طقس التطهير جعلت أفراد هذه الشعوب يستقدمون مصلحة الوطن، الأمة على أي شيء آخر، ليبدو الأمر كما لو أنهم يغدون أشخاصا أنانيين حين ترتبط غايات الحياة بمصالح شخصية.
في رواية الكاتب الكوري لي غوانغ سو وعنوانها "رسائل إلى صديق شاب"، يتمسك الراوي بالحياة رغم الحمى الشديدة التي أصابته من أجل العمل لأمته، فيقول: "وما أنقذ حياتي هو اعتزامي أن أبذل كل ما لدي من أجل الشعب الكوري. وقررت أن أكرس حياتي لتنوير شعبنا مثلما يكرس خائبو الأمل الآخرون حياتهم في الأعمال الخيرية. ونتيجة لذلك، استطعت أن أجد أملاً وطاقة جديدة".
ومثل بقية الثقافات اليابانية والصينية؛ فإن الكوريين أيضًا لديهم في تاريخهم ذاك الارتباط الوثيق ما بين الشعور بالواجب الوطني ومُثل الفضيلة.
وحتى في صلات الحب يكون مرادفًا لمفاهيم الوفاء وتحسين الذات والتضحية والتعاطف، فالعواطف تدخل ضمن إطار الواجب الوطني وخدمة المجتمع.
ولكن على ما يبدو أن الأفراد لا في شرق آسيا فحسب بل في العالم الأجمع غدوا يسعون حثيثا وبمشاعر متصلبة نحو رفاهية الحياة المادية ومتطلباتها دون أي اعتبارات أخرى.
كم يبهجني أن تُختار قصتي " الملك المزيف" وهي قصة من قصص مجموعتي " فهرس الملوك " للنشر في مجلة عالمية تعنى بالأدب وتصدر بشكل مستمر بخمس لغات: العربية والفرنسية والإنكليزية والألمانية والإسبانية. المجلة
Literatur Review عائلتها التحريرية في هامبورغ ألمانيا.
كل الشكر والتقدير العالي لسفيرتنا الأدبية الروائية الكبيرة إيمان حميدان Iman Humaydan التي مهدت لذلك🌱🌱🌱
Literatur Review عائلتها التحريرية في هامبورغ ألمانيا.
كل الشكر والتقدير العالي لسفيرتنا الأدبية الروائية الكبيرة إيمان حميدان Iman Humaydan التي مهدت لذلك🌱🌱🌱
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
صباح الكيكة المالحة 🌱