Telegram Web Link
- ترجمة.

"عندما تُسقط كوبًا أو صحنًا على الأرض، يصدر صوتُ تهشمٍ عالٍ، عندما تتحطم نافذة، أو تنكسر رجل طاولة، أو عندما تقع لوحةٌ من أعلى جدار، تُصدر صوتًا، ولكن حينما يتعلق الأمر بقلبك، عندما ينكسر، فإنه صامتٌ تمامًا. تعتقد أن شيئًا كهذا بهذه الأهمية سيُصدر أصخب صوتٍ في العالم بأسره، أو حتى صوتًا مراسميًا، كَطرقة ناقوسٍ أو دق جرس، ولكنه صامت، وحينها، تكاد تتمنى أن هنالك صوتًا يشتتك عن الألم."

- سيسيليا أهرن، إن كنت تراني الآن.
تقول حورية لسكّرية: "بختك يذكرني بقول عاشر جدّاتنا خديجة، كانت تقول إن الله لما يخلق الأرواح الكبيرة يحجبها، يغطّي عليها غطاء من الصعب تكشفه عيونُ العامة، حتى تعمل إعجازها في خَلقه بسرّ، يخفيها بفقر أو مرض أو وحدة أو غربة!".
إنه يفكر فيها كمكان انتظار، أو كمشهد ريفي يتأمله من خلال نافذة قطار يمضي بطيئاً.

• أليخاندرو سامبرا | الحياة السريّة للأشجار
عن ظهور التنوير الأوروبي وتداعي الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى

ليلى عبدالله

الحرية التي تتمتع بها القارة الأوروبية اليوم تبعد عنها الصراعات المربكة التي عاشتها في القرون الوسطى. تلك العصور التي عرفت بأنها عصور الظلام. لم يكن الإنسان الأوروبي سوى كائن مسكين، هش، ضعيف ومكسور، جل أمنياته في الحياة التي يراها فانية أن يخلّص جسده وروحه من عذاب الآخرة.

ساهمت سيطرة العقلية الدينية الكنسية في تضخيم هذه الصورة. صورة الخوف وهواجس العذاب، ما جعل المرء عاجزًا وزاهدًا في آن. فكيف تحرر الإنسان الأوروبي من قبضة الظلام ليكون منصة عظيمة للانفتاح الإنساني وللحريات الفردية؟ كيف كان طريق التنوير الأوروبي ؟ هذا ما تناوله كتاب "مدخل إلى التنوير الأوروبي" للباحث والكاتب "هاشم صالح" الصادر عن دار الطليعة.

يتوسع الكاتب في تناول الرؤية التنويرية التي سيطرت في العصور الوسطى التي استمرت منذ سقوط الحضارة الرومانية في الغرب عام 476م، إلى سقوط الحضارة البيزنطية في الشرق على يد الأتراك 1435م، أي أنها استمرت نحو ألف عام.

كاشفًا عن نفسية الإنسان في العصور الوسطى؛ فقد كان ميالا للتشاؤم والضعف، انطلاقًا من خوفه من ارتكاب المعاصي والذنوب التي من شأنها أن تجعل الجحيم من نصيبه؛ لذا سعى إلى حرمان نفسه من ملذات الدنيا كي ينفذ بجلده ويفوز بالجنة. هذه التركيبة خلقت شخصية خاضعة تماما لسلطة الكنيسة ولتعليمات البابا الذي كان ذا حظوة عالية حتى أنه رفع بمنزلة الإله والتقديس. ما جعله يميل إلى تصديق الحكايات الخيالية، التي تشي بالمبالغات وتحتفي بالأساطير وتحمل في طيّاتها معجزات، فكل ما هو خارق للعادة ينم عن القدرات الخارقة لرب الكون، لذا كان من المستعبد أن يخالفوا تعاليم رب قادر على كل شيء، كما يقول المؤلف:" العقلية القروسطية هي عقلية رمزية، بمعنى أنها ترى الرموز والآيات في كل مكان. فكل شيء في الطبيعة أو في الإنسان دليل أو رمز على بديع حسن الخلق، وكل شيء رمز عن شيء آخر يقبع خلفه أو يتجاوزه".

هذه العقلية نفسها جعلتهم يأخذون الفهم من بطون الكتب ويدرسون النصوص كما هي دون ميل إلى طرح تأويلات، فالمعلومات عن البيئة الزراعية أو الحيوانية يقتبسونها فحسب من الكتب لا من التأمل في الطبيعة، لم يكن ثمة اجتهاد ولو قليل للتأمل أو توسيع العقل لطرح تساؤلات خارج النصوص المنبثقة من الكتب؛ وكل ما هو خارج سيطرة الكنيسة يعدّ من المحرمات والموبقات؛ فالمتعلمون الوحيدون هم رجال الدين، دون أن يجدوا غضاضة في ذلك؛ فهوسهم بالتهذيب الأخلاقي غلب على هوسهم بالتعليم.

كما أدى انعدام الشعور بالأمن والأمان على كافة المستويات المادية والمعنوية إلى تشبث هذا الإنسان بالدين والخضوع لتعاليم الكنيسة، ناهيك عن سيطرة النظام الإقطاعي والكوارث الطبيعية كلها تكالبت عليهم، وصار الناس البسطاء يزدادون فقرًا بينما الكهان يغتنون بثروات هؤلاء الفقراء.

بعد أن طرح الكاتب الجو النفسي السائد في العصور الوسطى في أوروبا، انتقل إلى طرح الطريق الذي سلكته أوروبا لنفض نفسها من عصور الظلام والانحطاط، وتم ذلك بفضل العرب والحضارة العربية الإسلامية التي كانت في قمة اشتغالها العلمي عن طريق ترجمة كتب أرسطو عن اليونانية. كان من الصعب منع تأثير فلسفة أرسطو في ذلك الوقت، لاسيما وأن المسيحيين كانوا يصطدمون بالإسلام وانتصاراته في كل مكان، ففي الغرب كما يرى الباحث كانوا واقعين في مواجهات عسكرية مع الموحدين على أرض الأندلس، وفي الشرق كانوا يواجهون جيش الأيوبيين بقيادة صلاح الدين الأيوبي..:" الواقع أن الثقافة الأوروبية لم تكن تعرف في ذلك الوقت إلا شيئا يسيرا من فكر أرسطو وأفلاطون. كان عليهم أن ينتظروا سقوط طليطلة في يد الإسبان عام 1085م لكي تبتدئ بعده بخمسين سنة أكبر حركة ترجمة وتثاقف في تاريخ أوروبا".

حيث تلقفهما المجتمع الأوروبي في البدء بتحفظ وحذر كبيرين، فالسلطة الدينية كانت لا تزال مسيطرة على عقول وأعناق الناس، ويمكن القول إن العقلية الأوروبية في القرون الوسطى بدت تتغير بفعل الثورة العلمية التي كانت بفضل العرب، ومن هنا تحديدًا انطلق الصراع بين الإيمان المسيحي والمعرفة العقلانية؛ صار الإنسان الذي يتناول النصوص بسطحية بلا تأويل سابقا هو نفسه يسعى إلى توسيع مداركه الفكرية لينهل من مختلف العلوم والمعارف، ويستقي من الطبيعة متفحصًا ومفكرًا ومتدبرًا وتم ذلك بفعل أرسطو تحديدًا الذي قلب الموازين لصالح ميزان العقل، فقد كان يسعى إلى تفسير الظواهر بطريقة علمية دقيقة مانحًا العقل سلطة لا محدودة للتأمل وتناول النصوص وتأويلها. ليغدو بفكره وفلسفته تهديدًا ومنافسًا شرسًا لعقلية ومكانة السلطة اللاهوتية المسيحية، ما جعل الناس ينشطرون بينهما إلى فريقين، فريق معجب جدا بفلسفة أرسطو ومستعد لتبنيها كليّا حتى لو أدى ذلك إلى طمس التراث المسيحي أو النيل منه، وفريق آخر متشبث بالتراث المسيحي وعلى استعداد لمقاومة هذه الفلسفة الوثنية.
سرعان ما حل أرسطو محل البابا ونال استحقاقَا وقداسة وأصبحت فلسفته عقيدة مقدسة على يد السكولاستيكا، أي المدرسة اليونانية، لدرجة أنه صار محاطا بهالة لا يجوز لأحد أن ينتقده أو ينال من آرائه، بل كل من يجرؤ على مخالفة آرائه أو الانتقاص من مكانته معرض للعقاب الأعظم وهو قطع الرأس!

يخبرنا الباحث كيف أن الآراء البشرية تخضع وفقا لظروف عصرها وطبيعته، فبعد سيطرة البابوات والكهنة صار الفلاسفة في عصور التنوير هم المتحكمون بعقول الناس وفرضوا بدورهم تعاليمهم عليهم، لكن العقول التي وجدت ثقبا نحو التنوير هي نفسها ثارت على كل الفلسفات التي من شأنها تقييد فكرهم وتؤخرهم عن مواكبة ركب الحضارة، وصار من الصعب كبت ثورتهم؛ ليكون الطريق ممهدًا نحو آفاق الحرية الفكرية ونهاية لعصور الظلام في منتصف القرن الثاني عشر، حيث خطت أوروبا أولى خطواتها نحو التنوير الفكري والفلسفي، ففي هذا القرن تحديدًا حدثت نهضتان، كانت الأولى على الصعيد المحلي، والثانية خارجية عن طريق العرب.

بينما الإنجازات الفكرية والفلسفية للعرب في تلك الحقبة لم تمر مرور الكرام في صلب المجتمع الأوروبي الذي كان ينفتح رويدا رويدا وبفضول مشوب بحذر؛ فالسلطات اللاهوتية المسيحية لم تقف صامتة بل لجأت إلى تدابير عديدة لوقف هذا الغزو الفكري المنطلق بشدة من العرب، ففي فرنسا صدر قرار لاهوتي بمنع قراءة كتب أرسطو وكتب شراحه سواء في حلقات عامة أو خاصة، هذا القرار كما يرى الباحث كان ذا فاعلية إلى حد ما في ذلك الوقت، لكن التعطش الأوروبي للعلم والفلسفة كان كبيرا بحيث خلع اللامبالاة لقرارات الكنيسة بالمنع ليدخل هذا الجمهور المتعطش في مناخ العصور الحديثة، في هذا التوقيت نفسه كانت الحضارة العربية التي ظلت شامخة في القرون السالفة تتداعى في نهاية القرن الثاني عشر لتدخل بدورها عصور الظلام والانحطاط الفكري والفلسفي، كأن أوروبا نفضت آخر ما تبقى من تخلفها في جهة الشرق، لتغرق بدورها في دوامة من التأخر العلمي والفكري في القرون القادمة، ليكون التاريخ العربي مجرد إرث منسي بعد حقب من الازدهار، كما يذهب المؤلف بقوله:" اختفت الفلسفة من أرض الإسلام بعد القرن الثاني عشر الميلادي أي بعد موت "ابن رشد بالذات" ويمكن القول إن نهاية العصور الوسطى المسيحية قد تزامنت مع بداية العصور الوسطى الإسلامية أو عصور الانحطاط".

ولابن رشد تحديدًا دور عظيم في رفد أوروبا بالتنوير إلى جانب أرسطو بنفس القدر من التأثير، على الرغم من التشويه الذي تعرض له لاحقا على يد الأوروبيين، الذين كانوا يرونه ملحدًا في وقت كان فيه رجل مسلم يؤدي فرائضه الخمس في أحد مساجد قرطبة. المسجد نفسه الذي طرد منه على يد المسلمين في أواخر حياته!

لقد ظل الفيلسوف ابن رشد بجلال قدره لغزًا كبيرًا في التاريخ الإسلامي والأوروبي، مطاردًا بسوء الظن والتشويه، فالأوروبيون أخذوا من كتبه المترجمة ما تبرزه بصورة غير التي كانت على حقيقتها، بينما لم يعِ معظم المسلمين حقيقة فلسفته.

عُرف ابن رشد بآرائه الفلسفية المتباينة، فقد كان يرى من الحماقة أن يجرف أولئك الفلاسفة عامة الناس في حلقاتهم الخاصة وجعلها منابر عامة. فابن رشد وفق الباحث قسم الناس لثلاث مراتب إزاء الشرع أو الشريعة الإلهية، فهناك أولا طبقة غير قادرة على أي تأويل للنص المقدس وهم أصحاب الأقاويل الخطابية الذين يفهمون لا المواعظ والخطب الشعبية، هذه الطبقة تمثل الجمهور الأعظم من المسلمين، أما الطبقة الثانية فهي على نقيض الطبقة الأولى؛ فهي تصدق بالأقاويل الجدلية وهي من جماعة التأويل، أما الطبقة الثالثة فهي الأرفع شأنا لأنها طبقة التأويل اليقيني، رغم هذه التقسيمات كان يود ابن رشد لو أن هناك طبقتين فحسب، طبقة العامة من الناس والفلاسفة. مبررًا وجهة نظره بقوله:" لأننا إذا ما عرضنا التأويلات على من هم ليسوا بقادرين على فهمها، فإننا ندمر المعنى الظاهري في نفوسهم في حين أنهم غير قادرين على فهم أي شيء آخر غيره، وهكذا بحجة تعليمهم نؤدي بهم إلى الكفر".

وبموت ابن رشد ماتت الفلسفة في الديار العربية الإسلامية كما حدد الباحث؛ والذي جاء جنبا إلى جنب مع سقوط غرناطة عام 1492م والتي كانت علامة بارزة على القطيعة بين أوروبا والعالم الإسلامي، هذه القطيعة التي شكلت صدمة للعرب، فقد حملت في طيّاتها قطيعة مع ماضيهم الكلاسيكي المبدع من ناحية، وقطيعة مع الحداثة الأوروبية التي تفوقت على الحضارة الإسلامية وحققت نجاحات ساحقة في كافة مجالات العلوم والمعارف والفلسفة.

يفسر الباحث هذا الانحطاط العربي مقابل التنوير الأوروبي بقوله:" لقد خرج العرب من التاريخ عندما كفوا عن التثاقف مع الآخرين عندما كفوا عن الترجمة. إن سر النهضة الأوروبية التي حصلت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر هو نفسه سر نهضة القرن الثاني عشر، أي سر جميع النهضات: إنه الترجمة والانفتاح على الآخرين".
بعد أن نفضت أوروبا عنها مخلفات العصور الوسطى واشتد عودها صارت تنظر للتاريخ العربي الإسلامي على أنه تاريخ متخلف، متناسية تماما دورها في رفد حضارتهم وانتشالهم من عصور الانحطاط، فبعد أن كان ذكر مناقب العرب من قبلهم يعد مفخرة صار بعد بلوغهم مراتب عالية من العلم والثقافة نقيصة وعارًا؛ فهؤلاء العرب يذكرونهم بتاريخ سعوا إلى طمسه من مخطوطاتهم!

مرحلة اندفع الأوروبيون بشدّة لمحوها من هامش تاريخهم السالف، بعد أن سبقوهم بمراحل ضوئية شاسعة من الصعب ردمها أو حتى محاولة مواكبتها بسهولة.
" عندما تتغيّر القراءة، تتغيّر الكتابة لا محالة".

الأدب والغرابة| عبدالفتاح كيليطو
《‏إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا》
‏" كل نوع أدبي يفتح " أفق انتظار" خاصا به. كيف يتكون أفق الانتظار؟ عندما يطّلع القارئ على مجموعة من المآسي، فإنه ينتبه إلى العناصر التي تجمع بينها. وعندما يطلع على مأساة جديدة فإنه ينتظر أن يجد فيها العناصر نفسها التي سبق له أن فرزها عادة بصفة ضمنية".

الأدب والغرابة| عبدالفتاح كيليطو
تسألون لماذا شِعره
‏لا يتحدّث عن الأحلام
‏عن أوراق الأشجار
‏عن البراكين العظيمة في وطنهِ الأم
‏تعالوا وانظروا الدّم في الشوارع!

‏-بابلوا نيرودا
"يثورون في الميدان الكبير كلما غضبوا
وعندما يرون صورهم في الشاشات
يكتشفون أنهم لم يغادروا البيت".

طارق إمام

Tareq Imam
" رأى القدماء: إذا تعرّى السرد من الحكمة ومن العبرة ومن البديع، فإنه يُرفضُ باحتقار. لهذا السبب أهملت حكايات ألف ليلة وليلة في الثقافة الكلاسيكية. أي فائدة تُجنَى من حكاية تقول إن فتى دخل بستانا ورأى فتاة جميلة وجرى له معها ما جرى؟".

الأدب والغرابة| عبدالفتاح كيليطو
‏"تجعلنا القراءة مهاجرين، تأخذنا بعيدًا عن المنزل، ولكنها تمنحنا منازل في كل مكان، وهذا أهم ما في الأمر".

آنا كويندلين
نسكن في اليد الملوّحة للبعيد، في الشَعر المتطاير، في العين اللانهائية الامتداد.‏
حينذاك نكون في القلب. القلب الأبيض، النسيميّ، السابح في الهواء.‏
في نقاء الفراغ.‏

• وديع سعادة | غُبار
العيش مع الكتب
عندما تنقذنا القراءة دائما من اليأس

علي حسين

عندما يسألني احد الشباب وانا اتجول في شارع المتنبي عن افضل الكتب التي عليه أن يقرأها . وهل هناك طريقة مفضلة للقراءة ؟ ، اردد العبارة التي قراأتها في كتاب دانيال بناك "متعة القراءة " والتي يمنح فيها القارئ حقوقا غير قابلة للمساومة أبرزها :" الحق في قراءة أي شيء .الحق في القراءة في أي مكان . الحق في القراءة بصوت مرتفع . الحق في اعادة القراءة . الحق في عدم انتهاء الكتاب . كان بورخس يردد : " فليفخر الآخرون بالصفحات التي كتبوا، اما اأنا فأفخر بتلك التي قرأت " . لكن هل القراءة الزامية؟ . اعتقد ان مثل هذه العبارة ستكون قاتلة لمتعة القراءة ، فالقراءة لا يمكن أن تكون الزامية .. فهل نتكلم عن السعادة الإلزامية . فالقراءة يجب ان تكون شكل من اشكال السعادة الشخصية ..إنها الطريقة الوحيدة للقراءة .
اختارت وهي في العشرين من عمرها طريقا اتضح لها باطراد أنه سيجلب لها الوحدة .. تعرف أنها أتت من عالم كانت النساء فيه مقيدة . كان الرجال والنساء يقطنون عالمين منفصلين بحدة . تصورت نفسها ذات يوم مثل بطلة فلوبير " مدام بوفاري " التي اصرت أن تتمتع بكل ذرة من حياتها .عندما بلغت العشرين من عمرها ، قررت أن تستقل بحياتها . استاجرت غرفة من جدتها التي عاملتها مثل المستاجرين الآخرين . اشترت سيمون دي بوفوار بعض الاثاث الرخيص . طاولة وكرسيين ورفوف للكتب . ساعدتها اختها في ترتيب المكان ، وضعت على الطاولة بعض الكتب وقلم حبر ، فيما امتلأت الرفوف بالكتب التي كانت قد خزنتها في صناديق . نظرت بنشوة إلى المكان تفحصت الكتب جيدا ثم قالت لشقيقتها :" اخيراً بدأت حياتي الجديدة " .
في بداية رواية دون كيشوت يصف سيرفانتس بطله بأنه شخص يقرأ حتى الاوراق الممزقة المرمية في الشارع ، هكذا فعلت سيمون دي بوفوار مع الكتب ، انها تقرأ كل شيء . في مذكراتها " وانتهى كل شيء " – ترجمة محمد فطومي – تقول ان القراءة لم تكن بالنسبة لها ترويحا عن النفس بل " النافذة التي كنت من خلالها أرى العالم " . قالت لسارتر ذات يوم أن الكتب تضيء لها مستقبلها . في مراهقتها كانت تتعرف على نفسها من خلال الروايات . في مذكراتها تنبهنا الى الكيفية التي تستطيع بها الكتب ان تنمي ارادتنا الواضحة والصريحة ، فهذه الفتاة التي اطلقت عليها في مذكراتها وصف " الرصينة " تُوضح لقراء سيرتها كيف اكتشفت استقلالها الذاتي بفضل االكتب .كانت دائما على وعي بقدرتها على تأكيد ذاتها . الفتاة التي تنتمي الى البرجوازية الصغيرة ظلت تسعى الى الانفصال عن طبقتها الاجتماعية ، كانت تدرك انها اصبحت بلا مكان في هذا المجتمع ولهذا فقد " قررت بفرح ألا اتوقف بأي مكان " .. وقد ساعدها هذا الموقف ان تكون دائما على استعداد للاحتجاج وفي تكوين وعيها الاجتماعي وان حياتها تكونت : " عبر الإرادة الدائمة لاثراء المعرفة " .. لكن هذه المعرفة لم تكن متاحة دون الآخرين ، وهي بذلك تقف على النقيض من سارتر الذي اطلق عبارته الشهيرة " الآخرون هم الجحيم " ، حيت تعترف :" كنت قد اكتسبت المعرفة بوجود الآخرين عتدما شعرت بانقباض التاريخ علينا ، فانفجرت واصبحت اشعر اني ارتبط بكل كياني بالجميع وبكل فرد " – قوة العمر - . وبسبب هذا الموقف سعت طوال حياتها ان تعبر عن رغبة عميقة في البحث عن الاتصال الانساني ، رغم الصراعات والتقاليد الاجتماعية المحافظة التي كانت تحيط بها ، ولعل هذا الانفتاح على الآخر هو الذي قادها لان تكتب كتابها المهم " الجنس الآخر" والذي سمي اثناء صوره بـ " الكتاب الفضيحة " .، وأثار عاصفة من الاحتجاجات، وبسببه انهالت على سيمون دي بوفوار كتابات تصفها بأبشع الأوصاف، ووضع الفاتيكان الكتاب ضمن قائمة الكتب المحرمة، وكتب ألبير كامو مقالاً اعتبر فيه الكتاب رسالة سخرية صوّرت الرجل الفرنسي بشكل سيئ، وقال الكاتب الشهير فرانسوا مورياك :"لقد وصلنا فعلاً الى حدود الوضاعة"، كما هاجمه الحزب الشيوعي الفرنسي الذي اعتبره"إهانة للمرأة العاملة"،وكانت الاتهامات تلاحقها وستتنافس الصحف المحافظة على تحقيرها حيث وصفوها بانها " فتاة مسكينة ، عصابية ، مكبوتة ، مسترجلة ، محشوة بعقد ازاء الرجال والنساء ، وكتب احد النقاد :" لقد اذلها ان تكون امرأة " وقد صرح البعض بانه لم يكن يحفق لها الحديث عن النساء لانها ليست امرأة . في حين وصفت فرانسو ساغان الكتاب الذي قرأته عندما كان عمرها 15 عاماً، بأنه واحداً من الكتب العظيمة القليلة في زمننا،، وفي عرضها للكتاب ذكرت المجلة الشهيرة اتلانتيك، إن الكتاب يتلاءم جداً مع الوجودية المثيرة للاشمئزاز، إلا أن الكتاب حقق نجاحاً هائلاً في الأسبوع الأول لصدوره حيث نفذت جميع النسخ المطبوعة والتي تجاوزت الثلاثين ألف نسخة، وعندما صدرت ترجمته الانكليزية بيعت منها مليونا نسخة، كما تصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في اليابان لمدة سنة كاملة، وأصبح الكتاب المرجع الأساسي لرائدات تحرير المرأة في أوروبا
وأميركا .
تعترف بأن القراءة منحت معنى لعملها ككاتبة ، فرغم الشهرة التي حصدتها والمكانة التي وجدت نفسها فيها كواحدة من ابرز فلاسفةة الوجودية إلا انها لم تتخل عن عاداتها اليومية في القراءة :" استمر في القراءة كثيراً ، في الصباح ، في الظهيرة ، قبل الشروع في العمل أو عندما اكون مرهقة من الكتابة . اقرأ ساعات باكملها . ما من انشغال يبدو لي طبيعيا اكثر " – وانتهى كل شيء ترجمة محمد فطومي - .
في حوارها مع فرانسيس جانسون وهو يسألها عن الكتب المتناثرة في كل مكان وهل استطاعت أن تغير مصيرها ؟ قالت :" دائما ما اسأل نفسي :لماذا التعلق باقراءة ؟ .. متعة القراءة لم تُمحَ ، مازلت اندهش لتحول الرموز السوداء الى كلمة تقذف بي في قلب العالم " .
كانت كتابات سيمون دي بوفوار تثير السخط ختى بين اصدقائها ، قال انها تعلمت من المركيز دي ساد كيف تجعل الآخرين يرمون بكتابها الى الجهة الاخرى " ليس امام القارئ التقليدي سوى النفور من كتبي " قالت لجان جينيه يوما أنها تمنت لو كانت قد كتبت كتابا مثل كتابه " يوميات لص " اخبرت سارتر ان كتاب جينيه " واحد من اجمل الكتب " .
ولدت سيمون دي بوفوار في التاسع من كانون الثاني عام 1908، :" كان ابي في الثلاثين من عمره ، وامي في الحادية والعشرين " ، كانت إبنة لعائلة ميسورة الحال، والدها حسب تعبيرها في وضع وسط بين الارستقراطية والبرجوازية، اما والدتها فامرأة كاثوليكية متدينة، أعطت لابنتها تربية جادة وصارمة وثقافة دينية وشعوراً حاداً بالواجب، لا يعرف المماطلات والتنازلات، كانت لها شقيقة واحدة، وصديقة واحدة ايضا، في البيت لم تجد حولها سوى الملل، فاشتد احساسها بالوحدة وذات يوم قالت لأمها : " هل يمكن ان تسير الحياة كما تسير الآن، ملل وراءه ملل "، بعد سنوات تقرأ الجملة المثيرة لفيلسوف الوجودية الاول كيركجارد :" علينا ان نعيش حياتنا مهما كانت تعيسة او مفرحة، لانها محسوبة علينا "، منذ تلك اللحظة قررت ان تعيش حياتها، لانها " لن تعيش سواها "، واكتشفت انها تستطيع ايضا ان تصنع حياتها بنفسها، " ان تجرب الحياة كما تنسج اي امرأة شالاً من الحرير ".
دارت اعمال سيمون دي بوفوار حول مغضلة العثور على اخلاقية وجودية ايجابية " بعيدا عن الزيف والاستسلام " . وفي القراءة حاولت أن تطبق هذا المنهج :" :" انا لا اقرأ أي كتاب ، إلا إذا كان لا بد من دراسة نص اجتماعي " . في حوارها مع سارتر قالت انها كانت تقرأ منذ أن كانت في التاسعة من عمرها ، قصص مغامرات وكانت تسأل نفسها احيانا هل هذه القصص متخيلة ام حقيقية :" لم تكن لدي بعد فكرة الخيال المحض التي امتلكتها لا حقا بشكل سريع " .
حينما كانت سيمون دي بوفوار فتاة صغيرة لم تشرك المعرفة بالدراسة او التربية العائلية ، بل قارنتها بالتهام الطعام . بالتهامها الكتب فانها تستحوذ على العالم وتجعله عالمها الخاص . في الوجود والعدم يكتب جان بول سارتر ان :" المعرفة يعني أن تأكل بعينيك " . في فترة المراهقة ، اصبحت العلاقة بين سيمون ووالديها اكثر حدة ، فقد شعرت وهي تنتهي من قراءة مؤلفات نيتشه بانها فتاة منفية في عالم من القيم المزيفة التي سعت للهروب منها قالت :" كانوا يحبسونني في هذا العالم الذي كلفني الهروب منه سنوات من عمري ، عالم لكل شيء فيه اسمه ، ومكانه ، ووظيفته ، عالم كل شيء فيه مصنف ، ومحكوم عليه قطعيا " – مذكرات فتاة رصينة –
ظلت المقاهي بؤرة الحياة والقراءة بالنسبة لسيمون دي بوفوار .كانت افضل الاماكن بالنسبة اليها ولسارتر فيها تشعر بلذة الدفء ، وبلذة القراءة او الكتابة ، وغدت المقاهي ايضا اماكن للحديث والجدال الفلسفي " ولابقاء الذهن حيا منتعشا " على حد تعبير بوفوار في كتابها " المثقفون " . هكذا بدأعالم الوجودية المفعم بالاعاجيب والتجريب واعلاء سلطة حرية الفرد .تكتب بوفوار في أول مقال لها نشر في مجلة الازمنة الحديثة عام 1945 :" أن البشر احرار ، وأنا ملقى بي في هذا العالم بين هذه الحريات . أنني بحاجة اليها " – مغامرة الانسان ترجمة جورج طرابيشي - . كانت الوجودية بالنسبة لسيمون دي بوفار طريقة لتصور العالم ، وجدت ان افكار سارتر تتفق مع رغبتها في التخلص من عالم عائلتها الخانق ، واخيرا وجدت فلسفة تشجعها على المضي قدما في مشروعها الثقافي – قراءة وكتابة – اصبح سارتر مصدر الهام اساسي في حياتها ، وهو تأكيد سيتكرر في الكتب التي كتبتها عن سيرتها الذاتية :" لقد تبنيت صداقة سارتر ودخلت في عالمه ، ليس لأنني كما يزعم البعض امراة ، بل لأنه العالم الذي تطلعت اليه منذ رمن بعيد " – قوة العمر ترجمة محمد فطومي –
كان والدها جورج دي بوفوار يكره اختيار ابنته مهنة التعليم ، وذلك لأن من شأن هذه المهنة ادخالها في فئة اجتماعية يحتقر قيمها " كان ينظر إلى الاساتذة بوصفهم متحذلقين ، انهم ينتمون الى تلك الطائفة الخطيرة ، المثقفين " . لم يطل العمر باأب ليرى اول رواية تنشرها ابنته ، كان قد فقد أي أمل برؤيتها " متزنة " .
2024/11/06 01:58:44
Back to Top
HTML Embed Code: