Telegram Web Link
قراءة في رواية (دفاتر فارهو) للروائية العمانية ليلى عبدالله.
يخطُّ فارهو سيرة جمعية على دفاتره لمن هم على هامش الوجود.

الناقد العراقي علاء شاكر

الكاتبة الشابة ليلى العبدالله قد ملكت ذاكرة فائقة القدرة لتدوين وقائع حياة المهاجرين من جنسيات مختلفة ظروفهم وعاداتهم وحكاياتهم وتفاصيلهم الدقيقة التي تتمازج عبر أزمان تتلاعب بها الروائية وهي تسحبنا معها الى منطقة نائية لجغرافية تختلف عن جغرافية المدن بشاهقات بناياتها البرجية العالية النظيفة والغنية عبر راويها فارهو الذي يودع السجن بعد اشتراكه بالعمل مع عصابة تتاجر في بيع الأعضاء بقيادة خاله (مغنستو) منصور وكان فارهو ضحية البلد الذي هاجر منه والبلد الذي هاجر اليه وخاله الذي فقد كل مقومات الانسانية.
لاقت هذه الرواية اهتماماً إعلاميا كبيراً ولقد قُدم لها من القراءات القيمة لكتاب استطاعوا أنْ يضيئوا مساحة النص ويعرجوا على مادتها السردية أو فكرة الرواية التي تتمحور حول قضية المهاجرين من البلدان الفقيرة والتي تكثر فيها الحروب والمجاعات بلدان تتصارع فيها السلطات الفاسدة والقوى المسلحة والعصابات على المال والسلطة والجاه بينما أبناؤها يُضطهدون ويُسحقون ويُستغلون فيهاجرون من أجل النجاة من الجوع والعوز والفقر فيفقدون كرامتهم وشرفهم فكل منهم يبحث عن هويته التي فقدها ويظل يبحث عنها باللجوء الى بلدان عربية لكنه بالآخر يخسر كل شيء حتى حريته.
الرواية تنفتح بسردها على عائلة واحدة يرويها الطفل الذي ترعرع داخل هذه الأمكنة الطفل فارح وكان يطلق عليه صديقه فاره الذي يكبر ويودع السجن بعدها يدون في دفاتره ما مر عليه هو وأُخته وأمه ولا يكتفي بذلك بل يسرد ما مر به كل من حوله أصدقاءه في المدرسة المهاجرين من الصومال والسودان وباكستان ولكل منهم حكاية وتاريخ ومصير استدعى فاره بدفاتره ماضيه وحاضره ومستقبله وكذلك من حوله بين ماضي مؤلم وحاضر أكثر ايلاما ومستقبل مدمر.
الرواية تسجّل وتوثق لقضية خطيرة وكبيرة وهي سحق الانسان أو اقتلاعه من جذوره لينقل الى أرض أخرى لا تمتد داخلها جذوره تبقى مقطوعة لا تنتمي الى هذه الأرض ولا تلك فيبقى بلا هوية حقيقية فهو يحصل على لقب بدون ويبقى يعيش عمره بدون مقطوع الجذور بدون هوية بدون أي انتماء حقيقي لمكان او جغرافية تشعره بوجوده الحقيقي والمسلوب.
تبدأ الرواية في اللحظة التي تتمخض فيها ذاكرة فاره عندما كان مع أمه وأخته في مخيم اللاجئين وحديث المهربين عن تهريبهم مقابل مبلغ من المال وان ما أجبرهم على الموافقة هو عزم الهجرة الدولية بإعادة خمسة الاف مهاجر الى بلدهم اثيوبيا، فاره في الاربعين من عمره وهو في السجن يسلم الى كارل دفاتره لتكون فيلما وثائقيا يحكي قصة حياة اكتوت بنيران الهجرة وما تضمنته من أحداث مؤلمة جدا اطاحت به الى عالم الجريمة وأمه الى الموت واخته في كنف رجل خليجي يا ترى هل كان الهروب من بلدانهم المليئة بالحروب والجوع والعوز الى بلدان مرفهة وغنية دولة تعيش على ابار البترول لتحقق لهم الحياة الكريمة التي حلموا بها أم كانت أكثر ذلاً ودماراً. اي خيبة يمكن ان يصاب بها الانسان عندما يهرب من الموت الى مكان ولكنه يفاجأ بموت آخر.
ما جعل الرواية على الرغم من طولها ممتعة هي غناها بالحكايات، حكايات تكشف عن عمق المآسي التي تعرض لها جميع المهاجرون، لقد نجحت ليلى في تتبع حكاياتهم وزخها بالتفاصيل الغير مملة على لسان راويها فاره، كانت الرواية ممتلئة بكل حكاياتهم وأسرارهم، عائشة التي باعت جسدها من أجل الغذاء، وفاره الذي شارك بالجريمة من أجل تحصيل العلاج لامه، خاله منصور الذي يشترك مع مهاجرين مثله في جرائم بيع الاعضاء، وحكايات كثيرة لأصحابه قاسم وعبد الصمد وكل من عاش معهم في المخيمات والمدرسة.
للرواية خطان سرديان الاول تبتدأ به الرواية لفارح وهو يشتغل مع العصابة بعد ان أجبره خاله منصور (منغستو) السكير والفاسد ان يعمل معهم من أجل علاج امه وعمله هو استدراج الضحايا الى وكر العصابة وكان آخر من استدرجه صديقه الغني سيف والذي كان يعاني من مرض الصرع، والسرد هنا مكتوب بخط أسود ثقيل، والخط السردي الثاني يحكي عن حياته وهو خارج العصابة وهو لازال طفلا بريئا تحذره أخته عائشة من خاله منصور التي كانت تعرف بحكم خبرتها في الحياة نوايا الخال في الاستفادة منهم فقد جعل الام تشتغل وتحصل على المساعدات من الجمعيات الخيرية ولكنه كان يستغلهم وحاول استغلال جسد عائشة في العمل وقد أفلح في تزويجها من صاحبه الخليجي الغني مقابل المال.
الرواية جريئة وملغومة بالتفاصيل الدقيقة لحياة اللاجئين وما تعرضوا له من ظلم وقسوة وأحداث مرة يسردها فاره عن نفسه وما كابده وعاناه ومرة عن أخته عائشة وكيف تعرضت للاستغلال البشع بجسدها والذي تعودت عليه وصار جزء من حياتها وكان السرد يتصاعد بلغة جميلة بعيدة كل البعد عن التقريرية والكتابة الصحفية لغة قريبة من الشعر وكان مشوقاً وغزيراً بالصور الجميلة والوصف المكاني.
استطاعت أن تنقل لنا هذه العوالم بفطنة ومعرفة وكات تمتلك الكاتبة ذاكرة قوية لنبش حياة الهامش والعالم السفلي وكأنها عاشت معاناتهم وهي تصف وتؤثث عالمهم المسحوق المكان الجغرافي وتفاصيل اليومي والبحث عن لقمة العيش وتصف دواخلهم النفسية ورغبتهم بالحياة النظيفة ولكنهم يبقون في الهامش مكانا وزمانا لا حياة لهم تشبه حياة البشر.
كان السرد ينتقل عبر لعبة الزمن بخفة من حكاية في الحاضر الى حكاية في الماضي لتنساب من ضمن الحكاية الكلية، وهي قدرة تمتعت بها ليلى في سبر أغوار الشخصيات العديدة في الرواية وكشف سير الجميع كأنها سيرة جمعية لجميع من هاجروا من أرضهم.
يحسب للروائية فخامة البناء للأحداث وعدم تشابكها وكذلك لا تجعل القارئ يمل من التفاصيل فهي تضفي التشويق في بنية الرواية. كما تناولت طرح مفهوم الهويات المختلفة وتعايشها تحت خط الفقر كونها عمالة مهمتها الاعمال الدونية التي يتعالى عنها ابن البلد فهم خدام ومنظفين وحاملي قمامة ويأكلون ما تبقى من موائد الاغنياء ويلبسون أيضا ويعيشون في أماكن لا تصلح حتى للبهائم والرواية كانت وثيقة دامغة لتكشف الهوة بين ابن البلد الغني الذي يعيش رفاهية القصور وبين المهاجر البدون والمهمش الذي يعيش العوز والحرمان، وكان هذا سببا في خلق عالم الجريمة والفساد.
Forwarded from صَـفـا
"‏لطالما علمت أن داخلي امرأتين
-على الأقل-
الأولى يائسة وحائرة
وتشعر بأنها تغرق دومًا..

والثانية بإمكانها أن تقفز
إلى أي مشهدٍ تريده
وتقدم للعالم ابتسامتها فقط."

- أناييس نن
"يفتقدون قُمْريّة في المطبخ، وعلى طست الغسيل وفي الغبار الذي لم يعدْ يُنفَضُ في مقعد أبيها. كلما بحثوا عنها وجدوها على"المنوَر" عند كوّة السلالم تلك، أو خلف نوافذ الأسطح المخرّمة، تجلّط الكاز المُشَرّب لخلاياها، فلا تقدحه نار ولا ضحكة. صار باب الطريق مُحرّمًا عليها مثلها مثل أخواتها المؤصّلات".
Forwarded from سمـــاء 𓃠
لا أحد يستطيع الاحساس بألم شخص آخر إلا إذا استطاع أن يكون في مكانه. والحب مهما كان قريبًا فإنه يمسك باليد ولا يتقاسم الألم.

‏- دافيد لوبروتون
- ترجمة.

"عندما تُسقط كوبًا أو صحنًا على الأرض، يصدر صوتُ تهشمٍ عالٍ، عندما تتحطم نافذة، أو تنكسر رجل طاولة، أو عندما تقع لوحةٌ من أعلى جدار، تُصدر صوتًا، ولكن حينما يتعلق الأمر بقلبك، عندما ينكسر، فإنه صامتٌ تمامًا. تعتقد أن شيئًا كهذا بهذه الأهمية سيُصدر أصخب صوتٍ في العالم بأسره، أو حتى صوتًا مراسميًا، كَطرقة ناقوسٍ أو دق جرس، ولكنه صامت، وحينها، تكاد تتمنى أن هنالك صوتًا يشتتك عن الألم."

- سيسيليا أهرن، إن كنت تراني الآن.
تقول حورية لسكّرية: "بختك يذكرني بقول عاشر جدّاتنا خديجة، كانت تقول إن الله لما يخلق الأرواح الكبيرة يحجبها، يغطّي عليها غطاء من الصعب تكشفه عيونُ العامة، حتى تعمل إعجازها في خَلقه بسرّ، يخفيها بفقر أو مرض أو وحدة أو غربة!".
إنه يفكر فيها كمكان انتظار، أو كمشهد ريفي يتأمله من خلال نافذة قطار يمضي بطيئاً.

• أليخاندرو سامبرا | الحياة السريّة للأشجار
عن ظهور التنوير الأوروبي وتداعي الحضارة الإسلامية في العصور الوسطى

ليلى عبدالله

الحرية التي تتمتع بها القارة الأوروبية اليوم تبعد عنها الصراعات المربكة التي عاشتها في القرون الوسطى. تلك العصور التي عرفت بأنها عصور الظلام. لم يكن الإنسان الأوروبي سوى كائن مسكين، هش، ضعيف ومكسور، جل أمنياته في الحياة التي يراها فانية أن يخلّص جسده وروحه من عذاب الآخرة.

ساهمت سيطرة العقلية الدينية الكنسية في تضخيم هذه الصورة. صورة الخوف وهواجس العذاب، ما جعل المرء عاجزًا وزاهدًا في آن. فكيف تحرر الإنسان الأوروبي من قبضة الظلام ليكون منصة عظيمة للانفتاح الإنساني وللحريات الفردية؟ كيف كان طريق التنوير الأوروبي ؟ هذا ما تناوله كتاب "مدخل إلى التنوير الأوروبي" للباحث والكاتب "هاشم صالح" الصادر عن دار الطليعة.

يتوسع الكاتب في تناول الرؤية التنويرية التي سيطرت في العصور الوسطى التي استمرت منذ سقوط الحضارة الرومانية في الغرب عام 476م، إلى سقوط الحضارة البيزنطية في الشرق على يد الأتراك 1435م، أي أنها استمرت نحو ألف عام.

كاشفًا عن نفسية الإنسان في العصور الوسطى؛ فقد كان ميالا للتشاؤم والضعف، انطلاقًا من خوفه من ارتكاب المعاصي والذنوب التي من شأنها أن تجعل الجحيم من نصيبه؛ لذا سعى إلى حرمان نفسه من ملذات الدنيا كي ينفذ بجلده ويفوز بالجنة. هذه التركيبة خلقت شخصية خاضعة تماما لسلطة الكنيسة ولتعليمات البابا الذي كان ذا حظوة عالية حتى أنه رفع بمنزلة الإله والتقديس. ما جعله يميل إلى تصديق الحكايات الخيالية، التي تشي بالمبالغات وتحتفي بالأساطير وتحمل في طيّاتها معجزات، فكل ما هو خارق للعادة ينم عن القدرات الخارقة لرب الكون، لذا كان من المستعبد أن يخالفوا تعاليم رب قادر على كل شيء، كما يقول المؤلف:" العقلية القروسطية هي عقلية رمزية، بمعنى أنها ترى الرموز والآيات في كل مكان. فكل شيء في الطبيعة أو في الإنسان دليل أو رمز على بديع حسن الخلق، وكل شيء رمز عن شيء آخر يقبع خلفه أو يتجاوزه".

هذه العقلية نفسها جعلتهم يأخذون الفهم من بطون الكتب ويدرسون النصوص كما هي دون ميل إلى طرح تأويلات، فالمعلومات عن البيئة الزراعية أو الحيوانية يقتبسونها فحسب من الكتب لا من التأمل في الطبيعة، لم يكن ثمة اجتهاد ولو قليل للتأمل أو توسيع العقل لطرح تساؤلات خارج النصوص المنبثقة من الكتب؛ وكل ما هو خارج سيطرة الكنيسة يعدّ من المحرمات والموبقات؛ فالمتعلمون الوحيدون هم رجال الدين، دون أن يجدوا غضاضة في ذلك؛ فهوسهم بالتهذيب الأخلاقي غلب على هوسهم بالتعليم.

كما أدى انعدام الشعور بالأمن والأمان على كافة المستويات المادية والمعنوية إلى تشبث هذا الإنسان بالدين والخضوع لتعاليم الكنيسة، ناهيك عن سيطرة النظام الإقطاعي والكوارث الطبيعية كلها تكالبت عليهم، وصار الناس البسطاء يزدادون فقرًا بينما الكهان يغتنون بثروات هؤلاء الفقراء.

بعد أن طرح الكاتب الجو النفسي السائد في العصور الوسطى في أوروبا، انتقل إلى طرح الطريق الذي سلكته أوروبا لنفض نفسها من عصور الظلام والانحطاط، وتم ذلك بفضل العرب والحضارة العربية الإسلامية التي كانت في قمة اشتغالها العلمي عن طريق ترجمة كتب أرسطو عن اليونانية. كان من الصعب منع تأثير فلسفة أرسطو في ذلك الوقت، لاسيما وأن المسيحيين كانوا يصطدمون بالإسلام وانتصاراته في كل مكان، ففي الغرب كما يرى الباحث كانوا واقعين في مواجهات عسكرية مع الموحدين على أرض الأندلس، وفي الشرق كانوا يواجهون جيش الأيوبيين بقيادة صلاح الدين الأيوبي..:" الواقع أن الثقافة الأوروبية لم تكن تعرف في ذلك الوقت إلا شيئا يسيرا من فكر أرسطو وأفلاطون. كان عليهم أن ينتظروا سقوط طليطلة في يد الإسبان عام 1085م لكي تبتدئ بعده بخمسين سنة أكبر حركة ترجمة وتثاقف في تاريخ أوروبا".

حيث تلقفهما المجتمع الأوروبي في البدء بتحفظ وحذر كبيرين، فالسلطة الدينية كانت لا تزال مسيطرة على عقول وأعناق الناس، ويمكن القول إن العقلية الأوروبية في القرون الوسطى بدت تتغير بفعل الثورة العلمية التي كانت بفضل العرب، ومن هنا تحديدًا انطلق الصراع بين الإيمان المسيحي والمعرفة العقلانية؛ صار الإنسان الذي يتناول النصوص بسطحية بلا تأويل سابقا هو نفسه يسعى إلى توسيع مداركه الفكرية لينهل من مختلف العلوم والمعارف، ويستقي من الطبيعة متفحصًا ومفكرًا ومتدبرًا وتم ذلك بفعل أرسطو تحديدًا الذي قلب الموازين لصالح ميزان العقل، فقد كان يسعى إلى تفسير الظواهر بطريقة علمية دقيقة مانحًا العقل سلطة لا محدودة للتأمل وتناول النصوص وتأويلها. ليغدو بفكره وفلسفته تهديدًا ومنافسًا شرسًا لعقلية ومكانة السلطة اللاهوتية المسيحية، ما جعل الناس ينشطرون بينهما إلى فريقين، فريق معجب جدا بفلسفة أرسطو ومستعد لتبنيها كليّا حتى لو أدى ذلك إلى طمس التراث المسيحي أو النيل منه، وفريق آخر متشبث بالتراث المسيحي وعلى استعداد لمقاومة هذه الفلسفة الوثنية.
سرعان ما حل أرسطو محل البابا ونال استحقاقَا وقداسة وأصبحت فلسفته عقيدة مقدسة على يد السكولاستيكا، أي المدرسة اليونانية، لدرجة أنه صار محاطا بهالة لا يجوز لأحد أن ينتقده أو ينال من آرائه، بل كل من يجرؤ على مخالفة آرائه أو الانتقاص من مكانته معرض للعقاب الأعظم وهو قطع الرأس!

يخبرنا الباحث كيف أن الآراء البشرية تخضع وفقا لظروف عصرها وطبيعته، فبعد سيطرة البابوات والكهنة صار الفلاسفة في عصور التنوير هم المتحكمون بعقول الناس وفرضوا بدورهم تعاليمهم عليهم، لكن العقول التي وجدت ثقبا نحو التنوير هي نفسها ثارت على كل الفلسفات التي من شأنها تقييد فكرهم وتؤخرهم عن مواكبة ركب الحضارة، وصار من الصعب كبت ثورتهم؛ ليكون الطريق ممهدًا نحو آفاق الحرية الفكرية ونهاية لعصور الظلام في منتصف القرن الثاني عشر، حيث خطت أوروبا أولى خطواتها نحو التنوير الفكري والفلسفي، ففي هذا القرن تحديدًا حدثت نهضتان، كانت الأولى على الصعيد المحلي، والثانية خارجية عن طريق العرب.

بينما الإنجازات الفكرية والفلسفية للعرب في تلك الحقبة لم تمر مرور الكرام في صلب المجتمع الأوروبي الذي كان ينفتح رويدا رويدا وبفضول مشوب بحذر؛ فالسلطات اللاهوتية المسيحية لم تقف صامتة بل لجأت إلى تدابير عديدة لوقف هذا الغزو الفكري المنطلق بشدة من العرب، ففي فرنسا صدر قرار لاهوتي بمنع قراءة كتب أرسطو وكتب شراحه سواء في حلقات عامة أو خاصة، هذا القرار كما يرى الباحث كان ذا فاعلية إلى حد ما في ذلك الوقت، لكن التعطش الأوروبي للعلم والفلسفة كان كبيرا بحيث خلع اللامبالاة لقرارات الكنيسة بالمنع ليدخل هذا الجمهور المتعطش في مناخ العصور الحديثة، في هذا التوقيت نفسه كانت الحضارة العربية التي ظلت شامخة في القرون السالفة تتداعى في نهاية القرن الثاني عشر لتدخل بدورها عصور الظلام والانحطاط الفكري والفلسفي، كأن أوروبا نفضت آخر ما تبقى من تخلفها في جهة الشرق، لتغرق بدورها في دوامة من التأخر العلمي والفكري في القرون القادمة، ليكون التاريخ العربي مجرد إرث منسي بعد حقب من الازدهار، كما يذهب المؤلف بقوله:" اختفت الفلسفة من أرض الإسلام بعد القرن الثاني عشر الميلادي أي بعد موت "ابن رشد بالذات" ويمكن القول إن نهاية العصور الوسطى المسيحية قد تزامنت مع بداية العصور الوسطى الإسلامية أو عصور الانحطاط".

ولابن رشد تحديدًا دور عظيم في رفد أوروبا بالتنوير إلى جانب أرسطو بنفس القدر من التأثير، على الرغم من التشويه الذي تعرض له لاحقا على يد الأوروبيين، الذين كانوا يرونه ملحدًا في وقت كان فيه رجل مسلم يؤدي فرائضه الخمس في أحد مساجد قرطبة. المسجد نفسه الذي طرد منه على يد المسلمين في أواخر حياته!

لقد ظل الفيلسوف ابن رشد بجلال قدره لغزًا كبيرًا في التاريخ الإسلامي والأوروبي، مطاردًا بسوء الظن والتشويه، فالأوروبيون أخذوا من كتبه المترجمة ما تبرزه بصورة غير التي كانت على حقيقتها، بينما لم يعِ معظم المسلمين حقيقة فلسفته.

عُرف ابن رشد بآرائه الفلسفية المتباينة، فقد كان يرى من الحماقة أن يجرف أولئك الفلاسفة عامة الناس في حلقاتهم الخاصة وجعلها منابر عامة. فابن رشد وفق الباحث قسم الناس لثلاث مراتب إزاء الشرع أو الشريعة الإلهية، فهناك أولا طبقة غير قادرة على أي تأويل للنص المقدس وهم أصحاب الأقاويل الخطابية الذين يفهمون لا المواعظ والخطب الشعبية، هذه الطبقة تمثل الجمهور الأعظم من المسلمين، أما الطبقة الثانية فهي على نقيض الطبقة الأولى؛ فهي تصدق بالأقاويل الجدلية وهي من جماعة التأويل، أما الطبقة الثالثة فهي الأرفع شأنا لأنها طبقة التأويل اليقيني، رغم هذه التقسيمات كان يود ابن رشد لو أن هناك طبقتين فحسب، طبقة العامة من الناس والفلاسفة. مبررًا وجهة نظره بقوله:" لأننا إذا ما عرضنا التأويلات على من هم ليسوا بقادرين على فهمها، فإننا ندمر المعنى الظاهري في نفوسهم في حين أنهم غير قادرين على فهم أي شيء آخر غيره، وهكذا بحجة تعليمهم نؤدي بهم إلى الكفر".

وبموت ابن رشد ماتت الفلسفة في الديار العربية الإسلامية كما حدد الباحث؛ والذي جاء جنبا إلى جنب مع سقوط غرناطة عام 1492م والتي كانت علامة بارزة على القطيعة بين أوروبا والعالم الإسلامي، هذه القطيعة التي شكلت صدمة للعرب، فقد حملت في طيّاتها قطيعة مع ماضيهم الكلاسيكي المبدع من ناحية، وقطيعة مع الحداثة الأوروبية التي تفوقت على الحضارة الإسلامية وحققت نجاحات ساحقة في كافة مجالات العلوم والمعارف والفلسفة.

يفسر الباحث هذا الانحطاط العربي مقابل التنوير الأوروبي بقوله:" لقد خرج العرب من التاريخ عندما كفوا عن التثاقف مع الآخرين عندما كفوا عن الترجمة. إن سر النهضة الأوروبية التي حصلت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر هو نفسه سر نهضة القرن الثاني عشر، أي سر جميع النهضات: إنه الترجمة والانفتاح على الآخرين".
بعد أن نفضت أوروبا عنها مخلفات العصور الوسطى واشتد عودها صارت تنظر للتاريخ العربي الإسلامي على أنه تاريخ متخلف، متناسية تماما دورها في رفد حضارتهم وانتشالهم من عصور الانحطاط، فبعد أن كان ذكر مناقب العرب من قبلهم يعد مفخرة صار بعد بلوغهم مراتب عالية من العلم والثقافة نقيصة وعارًا؛ فهؤلاء العرب يذكرونهم بتاريخ سعوا إلى طمسه من مخطوطاتهم!

مرحلة اندفع الأوروبيون بشدّة لمحوها من هامش تاريخهم السالف، بعد أن سبقوهم بمراحل ضوئية شاسعة من الصعب ردمها أو حتى محاولة مواكبتها بسهولة.
" عندما تتغيّر القراءة، تتغيّر الكتابة لا محالة".

الأدب والغرابة| عبدالفتاح كيليطو
《‏إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا》
‏" كل نوع أدبي يفتح " أفق انتظار" خاصا به. كيف يتكون أفق الانتظار؟ عندما يطّلع القارئ على مجموعة من المآسي، فإنه ينتبه إلى العناصر التي تجمع بينها. وعندما يطلع على مأساة جديدة فإنه ينتظر أن يجد فيها العناصر نفسها التي سبق له أن فرزها عادة بصفة ضمنية".

الأدب والغرابة| عبدالفتاح كيليطو
2024/09/29 07:18:36
Back to Top
HTML Embed Code: