Telegram Web Link
#ريفيوهات

"فهرس الملوك......مسيرة الساقي والمحبرة "

حين نهم بالاطلاع على شيء له صلة بالتاريخ، تتجلى أمامنا معضلة تدور حول المادة المعتمد عليها. فإنها تصنع بدورها أطرا متقاربة الشكل، فالتاريخ الذي يكتبه المتخصص، يتقارب مع السير المحكية في كونه وسيطا يضع المتلقي بين حاضره وماضيه. يجعلنا بالتبعية نسأل عمن الأقوى أو له سطوة نسبية على عقول المتلقين: التاريخ الموثق أم السير. ولعلنا نجد الإجابة تميل إلى الكفة الثانية، فالتاريخ الموثق بما فيه من لقطات ورموز مرتهنة بزمنها وملتزمة بعين المنطق. بعكس الحكاية المتحررة من ذلك الالتزام. فتقدر على الالتحام بوجدان الناس. وخلق علاقة متبادلة يشعر القارئ فيها بكونه جزءا داخل الحكاية، فيقوم بترميم ما نقص منها، أو على الأقل إسقاطها على واقعه. وعليه فإن تلك المرونة، تمكنها -على الأغلب- من أن تناوش السيرة الأصلية، وتنازعها على مكانتها كمادة يعتمد عليها في التوثيق.

وفي المجموعة القصصية "فهرس الملوك" الصادرة عن دار مرايا للنشر بالعام الماضي، عرضت الكاتبة "ليلى عبدالله" دروبا وأشكالا مختلفة لتلك المناوشات المذكورة، فنرى كبداية من خلال بعض القصص مثل "ذواق الملك، والملك المزيف"، تقديما يقترب من تحليل صورة كلا منهما، فصورت الكاتبة الأصل بكونه صورة مكتملة، يغلب عليها التوجس من كثرة نقدها وتنقيحها، كما أنها موضوعية جافة فتبتعد كثيرا عن الناس وتصير محبوسة بين طيات الكتب. بينما جسدت السيرة المحكية "في رمز بطلي القصة" بكونها شديدة النهم للاكتمال. تستوعب غير آبهة للنقد مساحات من الخيال، وتجارب متفاوتة، ثملة من مزيج مشاعرهم المضطرب، فتوظف تلك الثمالة لتصنع تجربتها التي تجذب متلقيها وتدوخه. وتجعله يظن أنها السيرة الأصلية فيعيش في ظلالها.

ومن ثم تكمل الكاتبة برسم العلاقة بينهما، لنجد فيها رغم الاتفاق في كون الحكاية ولدت من رحم الأصل والتي دلت عليه الكاتبة بولادات ملكة القلوب المتكررة في قصتها، فإنها بعد تلك النقطة تتغير تلك العلاقة، بحسب دور المتلقي في تشكيل درجة الربط وطريقته. فمن خلال قصة "حاملو اللواء" يسمح وعي العامة الفارغ القابل للتأثير في صنع صراع قوي بين كفتي ميزان: الواقع المتبنى من طبقة الكتبة، والحكاية الصافية التي يجسدها الملك ووزيره. فنرى كلاهما يقدم مادته وما يثقلها من رجاحة منطق أو قوة، سعيا لوضع لوائه وفرض سيطرته على أذهان الناس، ومنه يقدر على بث تأثيره في مجرى حياتهم، فنستطيع أن نستشف بوضوح التباين بين انفعالات العامة في بداية القصة "تأثير الكتبة" وبين شكلهم في نهايتها "تأثير الوزير".

أما بقصص "نهاية شعب لا يسمع، لعنة المرايا، ونفايات الشعب" نجد الوعي يتواطئ مع أحد الطرفين لتلاقي هوى أو مصلحة مشتركة على الأغلب. فيتعاون معه في إثبات وجوده على الآخر. ففي قصتي" نهاية شعب لا يسمع، ولعنة المرايا " تتلاقى مصالح العامة في الخوف من المواجهة-سواء برؤية أنفسهم كما بالقصة الأولى أو بالحديث والتجاوب مع الآخرين كما القصة الثانية- مع مصالح تريد التلاعب بالحقيقة وخلق حكايتها الخاصة، فيتعاون العامة معها، ممتزجين فيها رويدا، إلى أن يصنعوا حكاية جديدة لأنفسهم. قوية بما فيه الكفاية لتصنع صلات جديدة بينهم وبين واقعهم، لا تقبل أن تكسر إذا حدث عارض -كما البركان في القصة الأولى، أو الوباء بالقصة الثانية- أو حتى تخلى أحد الطرفين عن تبني الحكاية لانتفاء سببها. فيضطر الواقع وأدواته إلى الإذعان لتلك الحكاية-كما استخدم البطل المتكلم أدوات الإشارة للتحذير -أو إبقاء الوضع على ما كانت سيرته -كما كسر الناس المرايا لاغترابهم عن صورتهم الحقيقية-. لكن في قصتي "نفايات الشعب، وجحافل الشيطان"، فالعامة هنا يميلون لكفة الواقع وفق مؤثر قوي -إما العاطفة كما القصة الأولى وإما الجوع مثل القصة الثانية- مسقطين الحكاية المصنوعة أمامهم. ومن ثم ينزعون عنها بمساعدة المؤثر، كل ما يحوطها من هيبة وخوف سعيا لتفنيدها، فلا يتركوها إلا مجرد شيء مجرد من معناه.

وبتخصيص أشد، تنقلنا الكاتبة في قصص "الكرسي، ليلة سقوط شهريار، الناطق الرسمي، مدونو التاريخ، ووريثة العرش" إلى شكل الحكاية، بوصفها -كما ذكرنا سابقا- قوة خاصة، قادرة في حالة غياب السردية الأصلية "كما بقصة تمثال الملك، أو ضعف ظهورها مثل قصص "ذواق الملك، مدونو التاريخ، ولوحة الملك الفحمية" على التسلل إلى عقول مستمعيها ومن ثم التحكم بهم كما فعلت شهرزاد بقصة "ليلة سقوط شهريار" وجعلهم مخلصين للحكاية كما في قصة "الناطق الرسمي". فنرى بقصة "لوحة الملك الفحمية" تفهم الشخصيات لمرونة القصة في إخفاء أو إظهار التفاصيل"فيكون أقرب وصف السيرة بأنها لوحة من الفحم".
وبقصة "الكرسي" مدى التنافس بين السير "والمستخدم فيه الملكين المتناحرين كرمز" على الصدارة، والمعمي على الأغلب عن مراعاة التحولات المجتمعية -التي جاءت في رمزية الأسد- علاوة على ذلك استيعابهم الكامل -والمتوازي مع القوة- إلى وفائها لصانعها بقيامها بصنع امتدادات لحياته يقاوم بها واقعه الذي حكم بانقطاع صلته عنها كما بقصة ليلة سقوط شهريار. وكذلك لقارئها النابه لقيمتها، فتعطيه-كما بقصة وريثة العرش- بوفرة حكاياتها ما يحجبه عن واقعه المرهق، وتبث فيه النشوة. فيصير حاله إذا اشتد عليه التعب كحال حافظ الشيرازي، حين أنشد:
"ألا أيها الســـاقي، أدر كأسًا وناولــها
فإني هائم وجــدًا، فلا تمسك وعجّلهــا
بدالي العشق ميسورًا، ولكن دارت الدنيــا
فأضحى يسره عسرًا، فلا تبخل وناولهــا"

الناقد المصري محمد أسامة أحمد
2024/11/05 19:02:50
Back to Top
HTML Embed Code: