Telegram Web Link
أعتقدُ أنَّ الشجرَ كانَ ينمو ويُثْمِرُ، هناك، بفعلِ نظراتهم، والمطرُ ينزلُ استجابةً لهم. كنتُ أراهم يحدِّقونَ في السماءِ ويعرفونَ نوايا الغيوم. والرياحُ تمرُّ بهم أليفةً وواضحةً كأنَّهُمْ أصدقاؤها. كأنَّهم كانوا ذاتَ يومٍ مع الرياحِ رفاقَ طريق، وتبادلوا على الدربِ أسرارَ حياتهم.

• وديع سعادة | بسبب غيمة على الأرجح
‏"-سيدتي، ينقسم الرجلُ إلى جزئين: جسد وروح. الجسد أشبه بالمنزل لا يذهب إلى أيّ مكان. أما الروحُ يا سيدتي فهي كالسيارة تتحرك دائمًا، دائمًا...".

قصة" الحياة التي تنقذها قد تكون حياتك"| مجموعة " يصعب العثور على رجل جيّد".

•فلانري أوكونر
ناسٌ كثيرون يمشون الآنَ في الخارجِ بأعضاءٍ ناقصةٍ، باحثين ليسَ عن أعضائهم المفقودةِ لأنَّهُم على الأرجحِ نسوها، بل عن لقمةِ خبز. وناسٌ كثيرون لم يعودوا بحاجةٍ إلى تلك الأعضاء لأنَّهُمْ تناثروا معها في أمكنةٍ لا يعرفونَها هُمْ ولا أحِبَّاؤهُم.‏

انتشروا في أكثرَ من مكانٍ، نثرةً نثرة، مُتَّحِدين بالغبارِ الذي لا يُرى وبإسمنتِ البناياتِ وبالنسيانِ الرهيب…

• وديع سعادة | بسبب غيمة على الأرجح
أخبروني أنَّ موتًا كثيرًا وبكاءً كثيرًا جرى على الطُّرُقاتِ، حتَّى تفتَّحَ الأسفلتُ عن زهورٍ بشريةٍ يستطيعُ كُلُّ العابرينَ أنْ يَرَوْها، لكنَّ المفجوعينَ وحدَهُمْ يشمُّونَ فيها رائحةَ الزهور.‏

• وديع سعادة | بسبب غيمة على الأرجح
أنتَ في البيت؟
امشِ نحو المطبخ
افتحْ بابَ الثلاجة
لا أريدُ سوى أن تحملَ حبةَ بندورةٍ واحدة
أتراها جيدًا؟
أنا لم أرَها مذ أربع أشهر.

-حيدر الغزالي.
‏في قصتها" اشتباك متأخر مع العدو" تصف الكاتبة الأمريكية "فلانري أوكونر" بطلها العجوز الجنرال في شيخوخته بعذوبة حزينة: كل عام في يوم الذكرى الكونفدرالي، يُحزم ويُعار إلى متحفِ كابيتول المدينة ليُعرض من الواحدة إلى الرابعة في غرفة عفنةٍ مليئة بالصور القديمة والأزياء القديمة..
رمضان كريم
ومبارك عليكم الشهر الفضيل 🌙⭐️
صدرت ترجمة جديدة للرواية عن المسكلياني.
آلموت " الحسن بن الصبّاح "...

ليلى عبدالله

*أعيد نشر هذه المراجعة القرائية التي كتبتها عام 2011م عن رواية " آلموت".

" آلموت " رواية لــــــ" فلاديمير بارتول " ماذا أقول عنها ..؟ سأقف على طلل البدء لأعترف بأن صدفة لم تكن عبثية البتة في معرض أبوظبي للكتاب عند منشورات الجمل .. هناك حيث كنت أربض أمام جموع الكتب المتراصة أنحت ضياعي في محاولة التسلل في قاع أفكار المؤلفين الخبيئة .. لم تكن صدفة عبثية البتة في أن أقابل في ضياعي ذاك أحد الأصدقاء الشعراء وبعد تبادل عناق التحايا ساقني إلى " آلموت " التي كانت ترقد بسلام أبدي بعد أن حملته الأسطورة تحت جناحها في واجهة أحد الرفوف وكان الصديق يبجّل الكتاب دون أن يشير إلى محتوى فكره ؛ ساعيا بذلك إلى تأثيث نهم فضولي في حيزي القرائي .. لم يشبعه سوى في لهفة شرائه والانكباب عليه.

" آلموت " هو حصن قديم فوق صخرة عالية وسط الجبال وبنيت بطريقة لا يكون لها سوى طريق واحد يصل إليها كل من يريد الوصول إليها هذا إن وصل ؛ مما يؤهلها لصفة المنع لتغدو منيعة بالفعل ..! ويقال أن من بناها أحد ملوك الديلم القدماء واسماها " ألوه أموت " ومعناه " عش النسر " .. وبقيت هذه القلعة في يد حاكم علوي قام بتجديدها واتخذها له مذ عام 860 إلى أن جاءت طائفة من الإسماعيلية ويدعون بالباطنية مع أميرهم " الحسن بن الصبّاح " في رجب مذ عام 483/ 1090م وطرد منها الحاكم بالخديعة وبقناع التدين واتخذها منبرا ؛ لبث خططه ودسائسه على السلجوقيين والعباسيين حيث امتد الصراع بينهم ردحا من الزمن إلى أن جاء هولاكو واستولى على القلعة.

ومن يعبر " آلموت " سوف يجد كائنا غير الإنسان وسوف يجد الوحش وسوف سيجد العبد وسوف يجد الذكورة الممنوعة وسوف يجد الأنوثة المباحة والأهم من كل تلك النماذج أنه سوف يصدم بوجود رجل دين وزّن نفسه برتبة " نبيّ " يتأّله بالقدرة والتقديس ..! : " كيف يكون لسيدنا الحق بإباحة الخمر في حين أن النبي حرّمه ..؟ له الحق بذلك .. قلت لك إنه هو الأول بعد الله .. إنه نبي جديد .." متجسّد في شخص " الحسن بن الصبّاح " الذي اشتهر بلقب " شيخ الجبل " وهو مؤسس ما يُعرف بالدعوة الجديدة أو الطائفة الإسماعيلية النزارية أو الباطنية أو الحشاشون .. ولد في قم ثم انتقل لريّ حيث معقل الاسماعيليين.

" الحسن بن الصّباح " هو داهية عرف كيف يختفي خلف ستار الدين لبث أفكاره و أوهامه متخذا من حصن " آلموت " قاعدة عزلته .. وقد أفلح من خلال ذكائه الحاد في التخطيط على تحويل " آلموت " إلى عالم متكامل وشامل يحكي تفاصيلها بصبغة تاريخية مغموسة بالواقع التاريخي والخيالي الروائي السلوفيني " فلاديمير بارتول " الذي عكف على كتابتها لمدة عشر سنوات ( 1927م _ 1937 م ) وقد تأثر " بارتول " بعصابات الحرب العالمية الأولى فعّبر عن رؤاه البشعة وسخطه عن ذلك من خلال هذه الكتابة في وقت كانت الفتن والدسائس والتضارب ما بين المذاهب مشتعلا ، فجاء هنا ليصور حجم الضلال وحجم الدسائس التي يخترعها رجال الدين باسم الدين .. وعن تجاوز البعض لبشريتهم ليحفلوا على أنفسهم سمات النبوة .. بل ليتسلقوا على كتف مهامات إلهية ؛ ليوهموا العامة بمدى قدسيتهم فيمنحون صكوك الغفران ويوجبون العقاب في الجحيم لكل من يخالف آراءهم ويوعدون بجزيل العطاء بجنان الفردوس لكل من ينصاع لهم ؛ لتصل زندقتهم حدها إلى امتلاك مفتاح الفردوس و" الحسن بن الصّباح " هو النموذج البشع الذي لم يكف بالنبوة بل فرط إلى حد التّأليه.

وكان من الطبيعي أن تكون هذه الرواية ملعونة وأن لا يعاد نشرها سوى بعد مغادرة الكاتب للحياة .. ومن الإبداع أن " فلاديمير بارتول " جسّد كل تلك اللعنات ونفخها في روح رجل واحد هو " الحسن بن الصبّاح " الذي روّض الحيوانات المتوحشة في جنته ألموت كما روّض الإنسانية تماما في شخص " الفدائيين " : " لم تستطع أن تستوعب كيف بإمكان فهد وغزالة أن يكونا صديقين في هذا العالم .. إذ إن الله وبحسب قول النبي قد ادّخر هذه الأعجوبة إلى قاطني الجنة .." فمن يقرأ " آلموت " سوف يتعرف على عالمين متضادين على عالم أنثوي مغري في جزء الأروع من آلموت حيث كما وصفها المستشرق " ماركو بولو " التي زار آلموت من بعد وفاة " الحسن بن الصبّاح " بقوله : " الحسن بن الصبّاح حول أحد أودية جبال آلموت إلى حديقة من أكبر وأجمل ما يمكن أن تقع عليه عين ناظر مليئة بكل أنواع الفاكهة نصبت فيها خيم وقصور أنيقة فارهة جميعها مفضفضة ومذهبة وسواقي تجري فيها الخمور والألبان والعسل والماء .. " وقد استقى " فلاديمير بارتول " بعض تلك الأوصاف من الرحالة " ماركو بولو " وبثّها بخيال ساحر في روايته ليبرع في رسم عالم أنثوي بجدارة حيث جواري من كل صنف يتعلمن فنون الغناء والرقص والخياطة والتزين والكتابة على يد " مريم " القريبة من قلب " الحسن بن الصباح " فهي من يسكب في حضرتها فحوى أسراره وخططه بينما يتعاطين فنون الحب الجنسي على يد " أباما " الذي سرق الزمن جمالها وقلّص من اغرائها
وانتهت إلى عجوز شمطاء بائسة الحظ لا تملك سوى ذاكرة حكائية مضمّخة بقرنفل الأبطال والعشاق .. مع وجود خصيان مخلصين يقومون بخدمة الجواري ..

ومن هذا المخبأ المنيع الذي يسمح فيه كل شيء حتى التفسخ يكمن في الجانب الآخر من جدران آلموت عالم يكاد يفصله عن الجانب الأول بشكل فاغر ؛ حيث هنا آلموت عبارة عن قلعة أشبه بمدرسة لتأهيل صبية صغار ما بين الثانية عشر والعشرين من أعمارهم يقوم أساتذة من الإسماعيلية بتلقينهم تعاليمهم السرية بأسلوب مجاهر ومكشوف ويتلقون فنون الفلسفة وفنون القتال ناهيك عن فرض قوانين جادة وصارمة حيث يمنع هؤلاء الصبية من شرب الخمر والزواج .. بل إن مجرد إطلاق الفكر في خيالات الاحتلام يعد خطيئة يعاقبون عليها أشد عقاب ..
وهؤلاء الصبية يؤهلون بعد اجتياز الاختبار إلى مسمى " فدائيين " وهم جيش اتخذه " الحسن بن الصّباح " للتنكيل بأعدائه ولبث دسائسه وقد استولى على عقولهم من خلال زرع الأوهام والأباطيل على كونه النبي الذي يجب تقديسه وما يسوغ ذلك هو امتلاكه مفتاح الفردوس.

وسوف يرى القارئ كيف أن بعض هؤلاء الفدائيين يفلح " الصبّاح " في خداعهم بجنات الفردوس من خلال تنويهم بمادة الحشيش ومن هنا جاءت تسمية " الحشاشين " وعبر ذلك يدخلون في عوالم وهمية تتضارب فيها الحقيقة مع الخيال؛ ليجدوا أنفسهم في الفردوس حيث حوريات الجنة والخمر والمتع الحسية بمساعدة الخصيان الذين يقومون بنقلهم وهم منغمسون في ترف نوم مسكر .. وكم يدرك القارئ هنا مدى فداحة خبث " الحسن بن الصّباح "!
وما أثرى شخصية " الحسن بن الصباح " هي هالة الاعتزال أو العزلة فــــــ" شيخ الجبل " تذكرني هنا – شخصيا - برواية " نجيب محفوظ " في رائعته " أولاد حارتنا " وشخصية " الجبلاوي " في مبدأ العزلة والرهبة .. هذا الاعتزال عن الآخرين خاصة فدائييه وعن جواريه عدا " مريم " و" أباما " وبعض الخصية وبعض مقربيه جعل الآخرين يقدسونه كنبي ويؤّلهون كل الأساطير التي كانت تحوم حوله .. : " - لماذا لا يكشف الزعيم لنا عن نفسه للمؤمنين؟ سأل ابن طاهر بإلحاح.
- إنه قديس – قال معترضا – يدرس القرآن طوال النهار يصلي ويسن التعاليم لنا والوصايا ".

كان " فلاديمير بارتول " المحرر من الوهم يعلم أن الخير والشر يتآخيان غالبا في النفس الإنسانية .. يموت غوله عندما يعترف لنا بأن تعصّبه نفسه لم يكن إلا التنّكر لعقل تخلّص من كل وهم .. و"الحسن بن الصّباح " صانع الخزعبلات والأساطير والأوهام قد تشبّع من أوهامه وبددها بإلقام الآخرين لها ؛ ليحيك فراغه في عزلة أسطورية .
فقد كان يعرف حيث لا يعرف الآخرين سر الإسماعيلية وكانت في عبارة صغيرة ملفوفة بورق الوهم : " لا شيء حقيقي وكل شيء مباح ".

و" حيث يبدأ وهم الحياة تنتهي الحقيقة " كما تشير إحدى سطور الرواية.
‏"ليس لي من منزلٍ عائليّ.
ذلك لا لأنني أضعتُه:
بل لأن أمي ما إن ولدتني حتّى
عهدت بي إلى العالم الفسيح.
واقفاً في هذا العالم أتقدّم
موغلاً في أعماقه أكثرَ فأكثر،
سعادتي كلها وشقائي كلّه
أعيشُهما وحدي".

- ريلكه
الساحر غارسيا ماركيز مرة أخرى
شاكر الأنباري
1
معظم الكتّاب الذين دخلوا عالم الأدب بعد ثمانينيات القرن العشرين، وفي عموم الكرة الأرضية، قرأوا ماركيز. تأثروا في حكاياته، أو على الأقل استمتعوا بها، كونه يعكس تجربة حياتية غنية، متعددة المصادر والثقافات. وهذا يسري بالتأكيد على ثقافتنا العربية التي ترجمت معظم أعماله، وتبنت أساليبه في الكتابة بهذا الشكل أو ذاك. كتاب رحلة إلى الجذور للكاتب "داسو سالديبار" وهو كولومبي الأصل ويعيش في إسبانيا، يعتبر من أهم الكتب التي أرّخت لسيرة حياة غابرييل غارسيا ماركيز، الكولومبي الفذ، والحائز على جائزة نوبل عن روايته "مائة عام من العزلة". وصدر كتاب رحلة إلى الجذور عن المشروع القومي للترجمة في مصر. وقام بالترجمة صبري التهامي ونشر عام 2004، والكتاب عن طفولة ماركيز في قريته الكاريبية وأقربائه وعائلته، ثم مصادر معرفته، واهتماماته لاحقا في السينما والقصة والصحافة. كل ذلك جعله يتعرف على أهم كتاب عصره الكولومبيين، ثم لاحقا كتاب أميركا اللاتينية.
وقد لاحق الكاتب حياة ماركيز يوما بيوم تقريبا، وقابل أشخاصا عرفوه منذ عشرات السنين، وحاوره شخصيا في أكثر من بلد، وذكر الصحف التي كان يكتب فيها، والمعاهد التي درس فيها السيناريو وفن السينما. تتبع تفاصيل حياته في البلدان التي عاش فيها مثل ايطاليا، وإسبانيا، وفرنسا، وأميركا، والمكسيك، والأرجنتين، إضافة إلى بلده كولومبيا. جاع ماركيز وعجز في فترات عن دفع إيجار بيته. رفضت له روايات من قبل دور نشر، وطرد من عمله في الصحافة، وعاش الغربة في أوربا، حتى أنه اضطر لجمع الزجاجات الفارغة من شوارع باريس كي يأكل. وكل تلك الصعوبات لم تثنه عن مواصلة مشروعه الكتابي. كان أصدقاؤه يؤمنون بموهبته السردية ويعوّلون على نشر عوالمه الساحرة، وهي عوالم قارة بأكملها.
2
ماركيز في كل أعماله ينقل القارئ إلى حيز جديد غير مألوف، حتى يجد المطّلع على سيرته أن ظروفه التي عاشها، والحكايات التي وصلته من جداته وعماته وبيئته لا بد أن تصنع كاتبا فذا مثل الكاتب الذي عرفناه. وعلى الصعيد الشخصي التقيت بماركيز في فندق محمود الواقع مقابل المتحف الوطني العراقي في كرخ بغداد. وفندق محمود يشرف على المتحف الوطني العراقي، ولعمارته البسيطة المهملة وسط بغداد، ظل في ذاكرتي عقدين من السنين، لأنني كلما ورد اسم الكاتب الكولومبي غارسيا ماركيز أتذكره. عاش معي في دمشق وكوبنهاغن وساو باولو وبيروت وهامبورغ وكل مدينة تواجدت فيها. واسم ماركيز ظل يرد إلى أذني ويتكرر يوميا تقريبا، على امتداد ثلاثين سنة، ليس بسبب فوزه بجائزة نوبل للرواية، بل للروايات الساحرة والقصص التي ظل ينشرها طوال أكثر من أربعين سنة من حياته الكتابية.
الحب في زمن الكوليرا، ليس للجنرال من يكاتبه، قصة موت معلن، خريف البطريرك، مائة عام من العزلة، عاصفة الأوراق، وعشرات القصص، وعلى رأسها إيرينديرا الساحرة وجدتها، التي نشرت في مجلة الأقلام العراقية نهاية السبعينيات، أو بداية الثمانينيات. وارتبط فندق محمود الواقع في علاوي الحلة ببغداد دائما باسم ماركيز، كل هذه الأعوام، لأنني ولأول مرة أقرأ له رواية مائة عام من العزلة في هذا الفندق. أحسست أنني أقرأ رواية من نمط خاص، ومختلف عن كل الروايات التي قرأتها في حياتي. قرأتها وعمري لم يصل الرابعة والعشرين سنة، ووجدته لا يشبه ديستويفسكي المهووس بتناقضات الروح البشرية، ولا تولستوي الناسك وتشيخوف الساحر، ولا جون شتاينبك وهمنغواي، ولا نجيب محفوظ أو يوسف أدريس أو غائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي أو حنا مينة الذي قرأت روايته “الثلج يدخل من النافذة” بشغف في بغداد الساخنة، الملوثة بدماء الحروب.
3
الشخصيات التي تتناسل، تشابه الأسماء، الأحداث العجيبة غير المألوفة لبيئته، الأسلوب الالتفافي على الزمن الذي ميّز ماركيز، التفاصيل الحياتية الصغيرة للشخصيات، النساء خاصة، الرؤساء المخلوعون، المهمل من الحوارات والعلامات الصغيرة، وكيفية وصول الحضارة الجديدة إلى قرية ماكوندو، أو أي بلدة مهملة. وهكذا، الغيوم التي تمطر أزهارا، الفتاة التي تطير، الأزهار الناثّة لرائحة مدارية في ظهيرات ساكنة وحارة، وكيف وقف الجنرال بوينديا أمام فصيل الإعدام، وهو المشهد الذي يفتتح فيه ماركيز روايته الساحرة مائة عام من العزلة. قرأت كل هذه الأحداث وأنا في فندق محمود، متحللا من ملابسي العسكرية، خالعا بيريتي وبسطالي، مستمتعا باستكان من الشاي، وسيجارة من نوع بغداد.
لا أظن أن أحدا من جيلي قرأ لماركيز دون أن يتأثر به. فهو السهل الممتنع، الذي يشعر القارئ بأنه يستطيع هو الآخر تحويل حياته البسيطة إلى قصة أو رواية. لكن الأمر لم يكن كذلك، فبساطة ماركيز هي بساطة المعلم، والخبير، حين يصل إلى قمة الحرفنة.
واحد من قصاصي العراق، يبدو أنه أعجب بحكاية السماء التي تمطر أزهارا، واعتقد أن المشهد حصل في رواية مائة عام من العزلة، وينبغي القول هنا أن أمطارا من زهور ظاهرة تحدث كثيرا في أميركا اللاتينية، بسبب كثافة الغطاء النباتي والأشجار المزهرة، والغابات المدارية البكر، وحين تهب العواصف أو الأعاصير يكون من الطبيعي أن تحمل تلك الأزهار لمسافات بعيدة مع الريح لتسقط على مدن وقرى نائية، وشاهدت ذلك عيانا في أصقاع البرازيل في سنة 1992 وكنت أزورها مع زوجتي البرازيلية السابقة. جعل ذلك القاص العراقي سماء السماوة، أو الناصرية، لم أعد أتذكر بوضوح، تسقط كسرا من الزجاج لتغطي القرية التي تدور فيها الأحداث، وهي قرية عراقية على أية حال، لأن الحدث يدور في العراق. هذا هو التأثر الساذج، المكشوف والفج، بماركيز.
وماركيز يحاول في معظم كتاباته الغرائبية أن يجسد الأساطير التي خلقها الناس، ودارت في الأفق الحضاري لأميركا اللاتينية ذات الطبقات المتراكمة والثقافات المتداخلة، من زنوج وهنود وأوربيين وصينيين وعرب. هذا ما يشترك فيه معظم كتاب أميركا اللاتينية تقريبا. لم يخلق هو الأساطير إنما رواها فقط، كما في حكاية الشابة التي طارت إلى السماء واختفت، إذ أن عائلتها هي التي اختلقت هذه الأسطورة لكي تغطي على هربها مع الشخص الذي أحبته. الأسطورة علاج للفضيحة الاجتماعية، والبنت أرينديرا التي يتعاقب عليها فصيل من الجنود في صحراء الملح والبارود، أيام كانت الدعارة شائعة في واقع أميركا اللاتينية.
ولعل ماكوندو، المدينة الصغيرة في كولومبيا أو تشيلي أو الأمازون، تجسيد لقدرة ماركيز على صياغة الأسطورة وزراعتها في تربة الواقع. استلهم ماركيز أسطورة ماكوندو وصنعها منذ أول رواية كتبها، وهي رواية عاصفة الأوراق، وتتحدث عن المدينة الصغيرة في بدايات القرن العشرين بعد أن رحلت عنها العاصفة وتركتها مدينة مهملة، بائسة، مدمرة نفسيا وروحيا. أبناؤها يستبطنهم الحقد، والكراهية، والدسائس الصغيرة، والمؤامرات، والتشوهات الخلقية. رحلت العاصفة وتركت المدينة متهالكة الشوارع، خربة، متهدمة البيوت، مشبعة بحكايات زمن بعيد، زمن عاصفة الأوراق التي جاءت ذات يوم بشركات الموز، والسكك الحديد، والمضاربات، والعاهرات، والسمسرة، وشذاذ الآفاق من كل بلد وقارة.
رصد ماركيز مدينة ماكوندو بعد رحيل العاصفة، حيث لم تعد سوى هياكل فارغة.
4
ورواية عاصفة الأوراق تلك قرأتها في درجة حرارة خمسين مئوية، وذلك في منتصف شهر تموز بغدادي، وكنت أقطن في منطقة الدورة. قرأتها وقد تلاشت أحلامي من الوصول إلى عراق كنت أحلم فيه قبل عودتي. قبل أن تحملني عربة توينبي الخرافية لري براد بري من دمشق إلى بغداد، عبر الأردن لا أدري وقتها لم أحسست أن ماركيز كان في تلك الرواية يتحدث عنا نحن العراقيين. وأوحى لي العنوان بعاصفة الصحراء، التي كانت المقدمة الأولى لغزو ماكوندو المعاصرة، ماكوندو العراقية.
ماكوندو غارسيا ماركيز عاشت العاصفة في عشرينيات القرن المنصرم، يفصلنا عنها ما يقرب من القرن. أما نحن فعشنا العاصفة في مفتتح القرن الحادي والعشرين، وانبلاج الألفية الثالثة، وينبغي أن نكون محظوظين كوننا وجدنا أرواحنا في لب التطور التكنولوجي، وغزو الفضاء ومجراته، وفي بركات شرائع حقوق الإنسان، والوفرة، والحريات التي كفلتها دساتير العالم الحديث. وأنا وجيلي ممن أكلتهم الحروب محظوظون بشكل مضاعف، لأننا تجاوزنا مقابر الحروب ومآسيها وهجرات شعوبها وكوارث أديانها ومذاهبها، وبقينا نحتفظ برؤوسنا على أكتافنا الكليلة.
بقينا شهودا على جحيم دانتي وهو يتسع، ويتسع، ليشمل أرض العرب من الخليج وحتى المحيط.
قدم ماركيز خلاصة تلك الحقبة روحيا عبر شخصية الدكتور الذي وفد مع العاصفة، ولا أحد يعرف من أين جاء، وكل ما كان يملكه كي يصبح مقيما شرعيا في ماكوندو هو توصية من الجنرال بوينديا، جنرال حروب التحرير التي ضربت أصقاع أميركا اللاتينية في تلك الحقبة. كان الدكتور خلاصة لعاصفة الأوراق تلك، وجثة متحركة فقدت كرامتها البشرية. كم منا اليوم من يحمل خلاصة عاصفة الصحراء التي ضربت ماكوندو المعاصرة؟ ماكوندو العراقية، التي صار ربع قاطنيها يعانون من اختلالات نفسية وروحية، فقد تخرجت أجيال من مختبر الحروب التي دامت ثلاثين سنة، تفككت أسر، وتشوهت أرواح، وقست نفوس بعد أن عاشت الثلاثين سنة تلك في بحر من العنف، والموت، والقمع، والاحتلال، والكذب، وسايكولوجيا الهروب من واقع مر وبائس.
5
تأثير ماركيز كما قلت سابقا شمل الجميع، ليس ذلك القاص العراقي فقط، بل أدباء عربا من بلدان مختلفة. سوريا على سبل المثال. في العام 1997 أو ربما قبلها أو بعدها بقليل، لست أذكر تماما، كنت أعمل في دار المدى للثقافة والفنون بمقرها الكائن في منطقة ركن الدين الدمشقي. كنت قرأت للتو خريف البطريرك الذي ترجمه محمد علي اليوسفي.
وذات نهار صيفي دخل إلى الغرفة الصغيرة المواجهة للمدخل، كاتب شاب معروف في الوسط الثقافي والفني، تعرفت عليه في مقهى الروضة، هو خالد خليفة، حاملا مخطوطة رواية سماها “دفاتر القرباط”. كان يود نشرها في المدى. كنت أقرأ معظم المخطوطات التي ترد الدار للنشر، قلت لخالد خليفة انتظرني بضعة أيام حتى أقرأ المخطوط، وقد قرأت لخالد قبل ذلك رواية اسمها حارس الخديعة لم استطع التفاعل معها، وهي تحمل ثغرات التجارب الأولى للكتابة، لكن دفاتر القرباط كانت رواية جميلة ومؤثرة، تفاعلت معها وجذبتني إلى أجوائها الأسطورية والساحرة. وتعود بأمكنتها إلى حلب التاريخية وأسرها ونسائها ومعاناة بشرها، لكنني لاحظت أن الرواية تقع تحت هيمنة ماركيز وطريقته في القص، وذلك في مائة عام من العزلة، وخريف البطريرك، وقصة موت معلن والحب في زمن الكوليرا وغيرها من الروايات والقصص، إلا أنني لم أتجرأ على التوصية بنشرها لأن الرواية تدين بشكل واضح الواقع الحزبي والسياسي في سورية. وهو خط أحمر أعرفه جيدا، فقلت لخالد رأيي بذلك لكنني أخبرته بالحقيقة، ثم تابعت لخالد مسلسل سيرة آل الجلالي الذي أخرجه هيثم حقي، وكان يعرض على شاشة التلفزيون السوري، وتمتعت كثيرا بحلقات المسلسل، وشخصياته الحلبية، وتقلبات حياتها وفضائها الاجتماعي.
6
غادرت سورية الى العراق مودعا كتّابها وأماكنها ومقاهيها، وسمعت بوصول رواية خالد خليفة في مديح الكراهية إلى القائمة القصيرة للبوكر في العام 2008، ولم أقرأها حتى اليوم. لكن في العام 2014، وبعد وصول روايته لا سكاكين في مطابخ المدينة إلى القائمة القصيرة للبوكر تهيأ لي نسخة ب دي أف أرسلها لي صديقي وكنت وقتها أقيم في كوبنهاغن. لم أقرأ خالد خليفة منذ حارس الخديعة ودفاتر القرباط، لذلك جئت إلى رواية لا سكاكين في مطابخ المدينة بفضول، خاصة وهي تتنافس مع رواية عراقي هو أحمد سعداوي وعنوانها “فرانكشتاين في بغداد”. كنت أريد معرفة التطور الذي سار فيه خالد في كتابة الرواية بعد حارس الخديعة ودفاتر القرباط. وجدت تأثير ماركيز ما زال لاصقا بنمط خالد في كتابة الرواية، مثل كتاب عرب آخرين طبعا، وهو أمر لم يدهشني كثيرا، كون معظم الكتاب العرب تأثروا، بهذه الطريقة أو تلك، بأسلوب ماركيز في القص. غير أن اتساع رقعة الترجمة من الروايات العالمية إلى العربية، ووصول أساليب جديدة في الكتابة، وترسخ فن الرواية في البيئة العربية، كل ذلك خفف بعض الشيء من الصدمة الماركيزية.
7
ماركيز بقي الأثير، خلال عقود وحتى اليوم غالبا، لدى كتاب القصة والرواية العرب. لذلك ما أن مات ماركيز حتى سرت موجة شاسعة من الرثاء، والمديح، في الصحافة العربية. أعدت ملفات، كتبت مقالات، ملأت بوستات الفيسبوك معلقة حول ماركيز الظاهرة، والأسطورة، والأيقونة القادمة من أميركا اللاتينية. رواية خريف البطريرك وكأنها تروي سيرة زعيم عربي من الذين حولوا حياتنا في العقود الأخيرة إلى مقبرة. التلاعب بالزمن الروائي أنتج لدى ماركيز حيوية، وحضورا، طاغيين، مما مكنه من الانتقال بين الشخصيات، والأزمان، والأمكنة، بسلاسة لم تعهدها الرواية العالمية، ولا يمكن هنا إغفال تأثر ماركيز بالسينما وكيفية كتابة السيناريو. الأمر الذي أتاح تحويل أي حدث، مهما ضؤل، إلى مشهد فني. وأتاح في الوقت ذاته قدرة الحفر في الوعي الجمعي لقارة برمتها، هي أميركا اللاتينية، وكأنه استطاع، مثل كولومبس، اكتشاف ذلك المحيط السفلي من اختلاط الأعراق، والأساطير، والخرافات، ضمن طبيعة خلابة وساحرة، منذ الحضارات الهندية الكبرى وحتى دخول الرجل الأبيض بعباءة الدين والمدنية. ويمكن أن يكون لألف ليلة وليلة دور في اقتناص ما هو، أسطوري، يوتوبي، حلمي، وتبنيه في النص الروائي باعتباره سردا له وشيجة مع الواقع.
وتأثر ماركيز بألف ليلة وليلة جاء بعد قراءة الملحمة تلك، صغيرا، ولم ينكر، لاحقا، هيمنتها السردية على نتاجه. من كل ذلك استطاع ماركيز بناء عمارة روائية مختلفة عما ألفته الذائقة العربية التي تربت، بشكل عام، على الرواية الأوربية والأميركية ضمن الفضاء المسيحي الصناعي بحروبه، وعقلانيته، ومنطقه.
بعض من وجوه تلك العمارة السردية يمكن للقارئ التقاطه في الواقع العربي حوله، دون امتلاك الأداة لتمثله، وثمة تجارب عربية نسخت ماركيز، أو تأثرت به لكنها لم تنجح في تمثل التقنية وتعريبها مع الواقع المحلي، بل بقيت على السطح. ولا يمكن إغفال أن ماركيز يتكئ على تراث قرون من التجارب الروائية، الأوربية والأميركية، والتنظير النقدي لها، فكان دمج ذلك التراث مع التاريخ اللاتيني الهجين، وفي لحظة زمنية نادرة، أنتج ما صار يعرف بسرد الواقعية السحرية.
2024/09/29 17:40:55
Back to Top
HTML Embed Code: