سبيلاً أمامه سوى الفرار إلى بريطانيا وشرع بنشره كتبه هناك.
ولا تكاد تختلف تفاصيل حياة المفكر اليهودي البولندي " ريجمونت باومان" عن مواطنه بابيه، فباومان وقع ضحية نزعة قومية عنصرية، فهو يهودي بولندي، تشكّل وعيه السياسي والفكري بعد الحرب العالمية الثانية، غير أنه لمواقفه حرم من الجنسية البولندية ومن حقه في التدريس بجامعة وارسو، وانتهى الأمر بطرده من بولندا عام 1968م؛ فاضطر للرحيل إلى إسرائيل، والتدريس في عدد من جامعاتها، لكنه لم يستطع المكوث لأكثر من ثلاثة أعوام؛ لأنه بعد أن كان ضحية دولة قومية عنصرية " بولندا" لم يرد أن يقترف جرم القوميين في دولة قومية عنصرية أخرى" إسرائيل"، فرحل منها ليستقر في بريطانيا 1971م، مُنكبًّا على تأليف كتب متنوعة في السيولة الثقافية والأخلاقية في زمن الحداثة. وكان أكثر مواقفه وضوحًا عندما وقعّ مع جماعة من رفاقه على عريضة للضغط على الوزير البريطاني "ديفيد ميلباند" بعنوان "يهود من أجل العدالة للفلسطينيين" يطالبونه بوقف العقوبات الإسرائيلية على غزة، وتطبيق سياسة العقاب الجماعيّ للفلسطينيين. ولطالما انتقد باومان إسرائيل والمجتمع الدولي بسبب معاناة ملايين اللاجئين الفلسطينيين، كما فضح الساسة الإسرائيليين باستغلال الهولوكوست لتبرير القوة الوحشية لاسيما في كتابيه " الحداثة والهولوكوست" و" الأخلاق في عصر الحداثة السائلة".
ففي كتابه " الأخلاق في عصر الحداثة السائلة" تحديدًا يقف باومان وقفة أخلاقية تجاه الهولوكوست بطرحه تساؤلاً في غاية الأهمية: أيّ فرصة للأخلاق في عالم استهلاكي معولم؟
هذا السؤال محرض أساسي دفع المفكر إلى استبدال " الحداثة الصلبة" التي دشنها عصر التنوير في القرن الثامن عشر تأسيسا على تحولات وإرهاصات تنامت منذ انتهاء العصور الوسطى و" تصلبت" في عصر العقلانية الذي مضى يتجاذب لمفاهيم كبرى من تبعات الحداثة كالدولة الحديثة والمجتمع والثقافة، لكن هذه المفاهيم جلها تبلورت لاسيما بعد الحرب العالمية الثانية، فصلابة تلك المرحلة السابقة تمخضت عن سيولة في الرؤى والمفاهيم لتداخل الحدود والسمات وذوبانها في التعاطي بين الشعوب الأصلية واللاجئين مما خلف سيولة في هويات الفرد وبدت أبرز مظاهر الخصائص الثقافية في سيولة البشر بتدفقهم من مكان إلى آخر، وسيولة المال بإلغائه للحدود التقليدية التي أقامتها الحداثة الصلبة، وسيولة الهويات وسيولة القيم الأخلاقية من خلال النزعة الاستهلاكية.
يرى باومان أن ما قبل عهد الحداثة السائلة كان أكبر تهديد جابه البشرية قديمًا هي الطبيعة التي تعاظمت مخاطرها على الجنس البشري بهيئة فيضانات وموجات جفاف ومجاعات وأمراض معدية وغيرها، ولدت عن كوارث خلفت الكثير من المخاطر التي راح ضحيتها الإنسان الذي ظلت أوضاعه متقلّبة بفعل هذا النذير، لم يكن يبددها مؤقتا سوى الآثار السلبية بتأثير بعض الأحقاد والنوايا السيئة والسلوكيات العدائية بينهم كبشر كالجيران أو جماعة ما في الشارع المجاور وما وراء النهر، غير أن عداوتها لم تكن بتأثير الكوارث الطبيعية، لكونها أبعد ما تكون عن صناعة بشرية.
لكن البشرية لم تكن تعي تمام الوعي وهي تشق طريقها بتحفّز نحو الحداثة الغربية التي همّشت دور الطبيعة وتبعاتها أن بالحداثة نفسها يمكن أن تصنع دمارًا بشريًّا نوعيًّا وأن تبيد أعدادًا مهولة من البشر دون أي نوازع أخلاقية تحت ما يسمى بالإبادات الجماعية " وهي شكل من أشكال القتل الجماعي من جانب واحد تنوي فيه دولة أو سلطة أخرى أن تدمر جماعة، حسب تعريف مرتكبي القتل لتلك الجماعة والعضوية فيها"(الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، سعد البازعي وبثينة الإبراهيم، ص 117 ولعل من أبرز الإبادات وأشهرها على مدى التاريخ الحديث حيث ساهمت الحركة الصهيونية لتبقى كذلك، والتي ورطّت الشرق الأوسط لاسيما فلسطين رغم براءة ذمتها ودمها هي "الهولوكوست" فهي وليدة حضارة غربية حدثت في أربعينيات القرن العشرين واستهدفت اليهود في الأراضي الأوروبية التي يحتلها النازيون وذلك من خلال حرقهم في أفران الغاز ورميهم بالرصاص. هذا الحدث لم يكن له سابقة في ذلك الوقت لدرجة كما يقول باومان عجزت المعاجم العبرية عن إيجاد لفظة تصف " القتل الباتر" الذي مورس ضد فئة من البشر بحلول خمسينات القرن الماضي وبعد ورود كلمات شبيهة معبرة كالدمار أو فناء حتى اهتدوا للفظة " هولوكوست" التي وجدت قبولاً واسعا، لكن مع مرور الزمن حملت اللفظة نفسها دلالات أشمل تعبر عن أنواع عديدة من القتل الجماعي الموجه ضد جماعات إثنية وعرقية ودينية وتعذيب وطرد وغيرها من الانتهاكات ضد البشرية لتكون حالة أخرى من حالات " الهولوكوست" .
ولا تكاد تختلف تفاصيل حياة المفكر اليهودي البولندي " ريجمونت باومان" عن مواطنه بابيه، فباومان وقع ضحية نزعة قومية عنصرية، فهو يهودي بولندي، تشكّل وعيه السياسي والفكري بعد الحرب العالمية الثانية، غير أنه لمواقفه حرم من الجنسية البولندية ومن حقه في التدريس بجامعة وارسو، وانتهى الأمر بطرده من بولندا عام 1968م؛ فاضطر للرحيل إلى إسرائيل، والتدريس في عدد من جامعاتها، لكنه لم يستطع المكوث لأكثر من ثلاثة أعوام؛ لأنه بعد أن كان ضحية دولة قومية عنصرية " بولندا" لم يرد أن يقترف جرم القوميين في دولة قومية عنصرية أخرى" إسرائيل"، فرحل منها ليستقر في بريطانيا 1971م، مُنكبًّا على تأليف كتب متنوعة في السيولة الثقافية والأخلاقية في زمن الحداثة. وكان أكثر مواقفه وضوحًا عندما وقعّ مع جماعة من رفاقه على عريضة للضغط على الوزير البريطاني "ديفيد ميلباند" بعنوان "يهود من أجل العدالة للفلسطينيين" يطالبونه بوقف العقوبات الإسرائيلية على غزة، وتطبيق سياسة العقاب الجماعيّ للفلسطينيين. ولطالما انتقد باومان إسرائيل والمجتمع الدولي بسبب معاناة ملايين اللاجئين الفلسطينيين، كما فضح الساسة الإسرائيليين باستغلال الهولوكوست لتبرير القوة الوحشية لاسيما في كتابيه " الحداثة والهولوكوست" و" الأخلاق في عصر الحداثة السائلة".
ففي كتابه " الأخلاق في عصر الحداثة السائلة" تحديدًا يقف باومان وقفة أخلاقية تجاه الهولوكوست بطرحه تساؤلاً في غاية الأهمية: أيّ فرصة للأخلاق في عالم استهلاكي معولم؟
هذا السؤال محرض أساسي دفع المفكر إلى استبدال " الحداثة الصلبة" التي دشنها عصر التنوير في القرن الثامن عشر تأسيسا على تحولات وإرهاصات تنامت منذ انتهاء العصور الوسطى و" تصلبت" في عصر العقلانية الذي مضى يتجاذب لمفاهيم كبرى من تبعات الحداثة كالدولة الحديثة والمجتمع والثقافة، لكن هذه المفاهيم جلها تبلورت لاسيما بعد الحرب العالمية الثانية، فصلابة تلك المرحلة السابقة تمخضت عن سيولة في الرؤى والمفاهيم لتداخل الحدود والسمات وذوبانها في التعاطي بين الشعوب الأصلية واللاجئين مما خلف سيولة في هويات الفرد وبدت أبرز مظاهر الخصائص الثقافية في سيولة البشر بتدفقهم من مكان إلى آخر، وسيولة المال بإلغائه للحدود التقليدية التي أقامتها الحداثة الصلبة، وسيولة الهويات وسيولة القيم الأخلاقية من خلال النزعة الاستهلاكية.
يرى باومان أن ما قبل عهد الحداثة السائلة كان أكبر تهديد جابه البشرية قديمًا هي الطبيعة التي تعاظمت مخاطرها على الجنس البشري بهيئة فيضانات وموجات جفاف ومجاعات وأمراض معدية وغيرها، ولدت عن كوارث خلفت الكثير من المخاطر التي راح ضحيتها الإنسان الذي ظلت أوضاعه متقلّبة بفعل هذا النذير، لم يكن يبددها مؤقتا سوى الآثار السلبية بتأثير بعض الأحقاد والنوايا السيئة والسلوكيات العدائية بينهم كبشر كالجيران أو جماعة ما في الشارع المجاور وما وراء النهر، غير أن عداوتها لم تكن بتأثير الكوارث الطبيعية، لكونها أبعد ما تكون عن صناعة بشرية.
لكن البشرية لم تكن تعي تمام الوعي وهي تشق طريقها بتحفّز نحو الحداثة الغربية التي همّشت دور الطبيعة وتبعاتها أن بالحداثة نفسها يمكن أن تصنع دمارًا بشريًّا نوعيًّا وأن تبيد أعدادًا مهولة من البشر دون أي نوازع أخلاقية تحت ما يسمى بالإبادات الجماعية " وهي شكل من أشكال القتل الجماعي من جانب واحد تنوي فيه دولة أو سلطة أخرى أن تدمر جماعة، حسب تعريف مرتكبي القتل لتلك الجماعة والعضوية فيها"(الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، سعد البازعي وبثينة الإبراهيم، ص 117 ولعل من أبرز الإبادات وأشهرها على مدى التاريخ الحديث حيث ساهمت الحركة الصهيونية لتبقى كذلك، والتي ورطّت الشرق الأوسط لاسيما فلسطين رغم براءة ذمتها ودمها هي "الهولوكوست" فهي وليدة حضارة غربية حدثت في أربعينيات القرن العشرين واستهدفت اليهود في الأراضي الأوروبية التي يحتلها النازيون وذلك من خلال حرقهم في أفران الغاز ورميهم بالرصاص. هذا الحدث لم يكن له سابقة في ذلك الوقت لدرجة كما يقول باومان عجزت المعاجم العبرية عن إيجاد لفظة تصف " القتل الباتر" الذي مورس ضد فئة من البشر بحلول خمسينات القرن الماضي وبعد ورود كلمات شبيهة معبرة كالدمار أو فناء حتى اهتدوا للفظة " هولوكوست" التي وجدت قبولاً واسعا، لكن مع مرور الزمن حملت اللفظة نفسها دلالات أشمل تعبر عن أنواع عديدة من القتل الجماعي الموجه ضد جماعات إثنية وعرقية ودينية وتعذيب وطرد وغيرها من الانتهاكات ضد البشرية لتكون حالة أخرى من حالات " الهولوكوست" .
فلفظة " الهولوكوست" يمكن استبدالها بسهولة في عصرنا الحالي بمفردة " جينو سايد" أي الإبادة الجماعية، هذا المصطلح الذي جاء معبرًا تماما عن المذابح الجماعية التي تعرض لها أفراد وشعوب ما بين عامي 1960م و1979م . شملت الأكراد في العراق والجنوبيين في السودان والتوستي في رواندا والهوتو في بوروندي، الصينيين وغيرهم.
لكن ما يجعل لفظة " هولوكوست" هي الأقوى والأشمل ليس لأنها تحتمل دلالات تدميرية هائلة فحسب بل وفق تعبير باومان بكونها لا تعبر عن مفهوم " التضحية" الدارج بمعنى جماعة تقدم تضحيات لغاية ما كأي حرب من الحروب العادلة، ولكن هذه اللفظة بعيدة عن ذلك، فضحايا الهولوكوست أكثر عمومية من كل ضحايا الإبادات الجماعية، فهم يعدمون؛ لأنهم مجردين من أي قيمة بتعبير جورجيو أغامبن هم مجرد " هومو ساكر" :" حيث يوضع الإنسان خارج القانون الإنساني من دون أن يسمح له بدخول مملكة القانون الإلهي" ( الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، ص 119)بمعنى أدق مصطلح " الهومو ساكر" هم أفراد حياتهم مفرغة، فيتم قتلهم بلا أي مغزى أخلاقي دون أن يقتضي عقابا مثل حياة اليهود في زمن النازية وحياة الغجر والمثليين والمرضى العقليين في الزمن الماضي، وهو ما تفعله الصهاينة في الأرض المحتلة مذ نكبة 48 وفي غلاف غزة منذ طوفان الأقصى.
ولتبرر الحداثة الغربية هذه النكسة تجاه موقفها البارد من " هولوكوست" روجوا أسطورة عنها، كما يسرد باومان في كتابه " الحداثة والهولوكوست" فالغربيين ذهبوا بأن الهولوكوست التي وقعت داخل البناء الحضاري كانت مجرد حادثة استثنائية أو نكوص عارض أو انحراف تاريخي مؤقت عن مسار الحداثة الغربية العقلانية والتقدم الحضاري الغربي، لكن باومان يدحض هذه الكذبة بل يرى أن ما يجعل الهولوكوست أكثر الإبادات الجماعية تطرفا؛ لأنه لم يكن من الممكن تصورها خارج إطار المجتمع الغربي العقلاني الحديث، ولم يكن حدثًا عابرًا وخليق الصدفة، بل تطلب حدوثه القتل المنظم بدون تحييد القناعات الشخصية لاسيما الأخلاقية. لقد جعلت الحداثة الهولوكوست ممكنًا، وهذا ما يجعلها بوصفها مجزرة شنيعة وفق باومان :"هي أنها ارتكبت في قلب أوروبا التي نظرت إلى نفسها في ذلك الوقت بأنها في قمة التقدم التاريخي والضوء الذي يهتدي به بقية البشر الأقل تحضرا والأقل استعدادا للتحضر؛ ولأنه نفذ بتصميم غير عادي وبمنهجية وثبات على مدى زمني طويل ولأنه حشد الدعم والتوجيه طوال العملية من أفضل ما في العلم والتقنية الذي تفخر الحضارة الحديثة".( الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، ص 125)
بينما كان الحكم الشمولي أي السيادة الكاملة والمطلقة هو الذي نقل تلك الإمكانية إلى حيز التنفيذ لبناء النظام الجديد وفقا لحلم " هتلر" المطلق بتطهير الجنس الآري لبلوغ الكمال. وذلك ما كان ليحدث دون غربلة المجتمع من الغرباء والهمجيين البربريين الذين هم أشبه بالحشائش السامة والحشرات والفيروسات من خلال التطهير العرقي الذي راح ضحيته ستة ملايين يهودي، بمعدل 100 يهودي كل يوم. فقد أرادوا افناء الشعب اليهودي بأكثر السبل سرعة وفعالية مع تحقيق نتائج مرضية على أرض الواقع؛ لذا إلى جانب إعدامهم كبار السن، حرصوا أيضا على قتل آلاف الأطفال الذين يمثلون أجيالاً كاملة، وعلى حد تعبير باومان :" لتمحو جنسًا بشريًّا من الوجود من الضروري قتل الأطفال". ( الأخلاق في عهد الحداثة السائلة، ص 121)
يرى باومان أن الذين اضطهدوا أو وقفوا في طريق كمالية الجنس الآري هم ضحايا "القتل الباتر" حيث جرى افناء رجال ونساء وأطفال؛ لأنهم صنفوا على أنهم كائنات ينبغي افناؤها، فوفق منطق القتل الباتر لم يكن مهمًّا إذا ما كان الضحايا كبارًا أم صغارًا، أقوياء أم ضعفاء، سيئين حقيقة أم لم يكونوا. حيث يتم تجريد القائمين على الإبادة من مشاعرهم الإنسانية ليكونوا وحوشا على وفق المصطلح الذي طرحه الكاتب ممدوح عدوان في كتابه" حيونة الإنسان" حيث استعار مقولة للبروفيسور " رالف روزنتال " في " المجلة الأمريكية لعلم الإجتماع " ذهب فيه بأن الإبادة كي تنجح لابد من توفر أربعة عناصر على رأسها أن يكون منفذوا الإبادة على اقتناع تام بصحة عملهم وبأنهم يتصفون بالامتياز العنصري والإنساني من غيرهم، وثانيها أن يكون أمام المنفذين مجموعة تستحق الإبادة – من وجهة نظرهم – وثالثها أن توفر الأسلحة القادرة على التنفيذ بالسرعة المطلوبة أما رابعها أن تتم العملية وسط جو سياسي ومعنوي خاص لا يكترث لعملية الإبادة وإنما يقابل هذه العملية بالتفرج عليها.
هنا يمكن أن نطرح سؤال الذي جعلنا طوال سنوات نفكر: لماذا هيمنت الإبادة اليهودية " الهولوكوست" وصارت بمثابة أيقونة وحظيت بدعم عالمي؟
لكن ما يجعل لفظة " هولوكوست" هي الأقوى والأشمل ليس لأنها تحتمل دلالات تدميرية هائلة فحسب بل وفق تعبير باومان بكونها لا تعبر عن مفهوم " التضحية" الدارج بمعنى جماعة تقدم تضحيات لغاية ما كأي حرب من الحروب العادلة، ولكن هذه اللفظة بعيدة عن ذلك، فضحايا الهولوكوست أكثر عمومية من كل ضحايا الإبادات الجماعية، فهم يعدمون؛ لأنهم مجردين من أي قيمة بتعبير جورجيو أغامبن هم مجرد " هومو ساكر" :" حيث يوضع الإنسان خارج القانون الإنساني من دون أن يسمح له بدخول مملكة القانون الإلهي" ( الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، ص 119)بمعنى أدق مصطلح " الهومو ساكر" هم أفراد حياتهم مفرغة، فيتم قتلهم بلا أي مغزى أخلاقي دون أن يقتضي عقابا مثل حياة اليهود في زمن النازية وحياة الغجر والمثليين والمرضى العقليين في الزمن الماضي، وهو ما تفعله الصهاينة في الأرض المحتلة مذ نكبة 48 وفي غلاف غزة منذ طوفان الأقصى.
ولتبرر الحداثة الغربية هذه النكسة تجاه موقفها البارد من " هولوكوست" روجوا أسطورة عنها، كما يسرد باومان في كتابه " الحداثة والهولوكوست" فالغربيين ذهبوا بأن الهولوكوست التي وقعت داخل البناء الحضاري كانت مجرد حادثة استثنائية أو نكوص عارض أو انحراف تاريخي مؤقت عن مسار الحداثة الغربية العقلانية والتقدم الحضاري الغربي، لكن باومان يدحض هذه الكذبة بل يرى أن ما يجعل الهولوكوست أكثر الإبادات الجماعية تطرفا؛ لأنه لم يكن من الممكن تصورها خارج إطار المجتمع الغربي العقلاني الحديث، ولم يكن حدثًا عابرًا وخليق الصدفة، بل تطلب حدوثه القتل المنظم بدون تحييد القناعات الشخصية لاسيما الأخلاقية. لقد جعلت الحداثة الهولوكوست ممكنًا، وهذا ما يجعلها بوصفها مجزرة شنيعة وفق باومان :"هي أنها ارتكبت في قلب أوروبا التي نظرت إلى نفسها في ذلك الوقت بأنها في قمة التقدم التاريخي والضوء الذي يهتدي به بقية البشر الأقل تحضرا والأقل استعدادا للتحضر؛ ولأنه نفذ بتصميم غير عادي وبمنهجية وثبات على مدى زمني طويل ولأنه حشد الدعم والتوجيه طوال العملية من أفضل ما في العلم والتقنية الذي تفخر الحضارة الحديثة".( الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، ص 125)
بينما كان الحكم الشمولي أي السيادة الكاملة والمطلقة هو الذي نقل تلك الإمكانية إلى حيز التنفيذ لبناء النظام الجديد وفقا لحلم " هتلر" المطلق بتطهير الجنس الآري لبلوغ الكمال. وذلك ما كان ليحدث دون غربلة المجتمع من الغرباء والهمجيين البربريين الذين هم أشبه بالحشائش السامة والحشرات والفيروسات من خلال التطهير العرقي الذي راح ضحيته ستة ملايين يهودي، بمعدل 100 يهودي كل يوم. فقد أرادوا افناء الشعب اليهودي بأكثر السبل سرعة وفعالية مع تحقيق نتائج مرضية على أرض الواقع؛ لذا إلى جانب إعدامهم كبار السن، حرصوا أيضا على قتل آلاف الأطفال الذين يمثلون أجيالاً كاملة، وعلى حد تعبير باومان :" لتمحو جنسًا بشريًّا من الوجود من الضروري قتل الأطفال". ( الأخلاق في عهد الحداثة السائلة، ص 121)
يرى باومان أن الذين اضطهدوا أو وقفوا في طريق كمالية الجنس الآري هم ضحايا "القتل الباتر" حيث جرى افناء رجال ونساء وأطفال؛ لأنهم صنفوا على أنهم كائنات ينبغي افناؤها، فوفق منطق القتل الباتر لم يكن مهمًّا إذا ما كان الضحايا كبارًا أم صغارًا، أقوياء أم ضعفاء، سيئين حقيقة أم لم يكونوا. حيث يتم تجريد القائمين على الإبادة من مشاعرهم الإنسانية ليكونوا وحوشا على وفق المصطلح الذي طرحه الكاتب ممدوح عدوان في كتابه" حيونة الإنسان" حيث استعار مقولة للبروفيسور " رالف روزنتال " في " المجلة الأمريكية لعلم الإجتماع " ذهب فيه بأن الإبادة كي تنجح لابد من توفر أربعة عناصر على رأسها أن يكون منفذوا الإبادة على اقتناع تام بصحة عملهم وبأنهم يتصفون بالامتياز العنصري والإنساني من غيرهم، وثانيها أن يكون أمام المنفذين مجموعة تستحق الإبادة – من وجهة نظرهم – وثالثها أن توفر الأسلحة القادرة على التنفيذ بالسرعة المطلوبة أما رابعها أن تتم العملية وسط جو سياسي ومعنوي خاص لا يكترث لعملية الإبادة وإنما يقابل هذه العملية بالتفرج عليها.
هنا يمكن أن نطرح سؤال الذي جعلنا طوال سنوات نفكر: لماذا هيمنت الإبادة اليهودية " الهولوكوست" وصارت بمثابة أيقونة وحظيت بدعم عالمي؟
وفق باومان السبب يعود إلى أنه انتج رقمًا كبيرًا من الجثث وكمًّا ضخمًا من الشواهد المكتوبة والمسجلة في ظل حضارة غربية في أعلى مستوياتها من الحداثة رغم ذلك بقوا شهود صامتين فشكّل صدمة أخلاقية غير مسبوقة، فاليهود كانوا أقلية منعزلة لها طقوسها في ممارسة حياتها، وكان المرء يستدل عليهم بسهولة من أرديتهم التي عبرت عن خلفياتهم كيهود، ونتيجة لذلك عوملوا معاملة الغرباء والدخلاء في المجتمعات الأوروبية لاسيما في ألمانيا التي كانت تخطط لتصفية وطنها من الأعراق الأقلية المهمشة التي لا وطن لها كاليهود، فقد رأى هتلر كما يذهب باومان في كتابه " الحداثة والهولوكوست" بأن اليهود شعب بلا أرض لذا ليس بإمكانهم أن يلعبوا دورًا في الصراع العالمي للقوة في إطار الحرب التقليدية القائمة على غزو الأراضي، بل إنهم يلجؤون إلى المكر والخديعة ودسائس الظلام التي جعلتهم عدوًّا لدودًا مخيفًا لا يمكن إشباع رغبته أو ترويضه، بل لا بد من تدميره حتى يختفي ضرره. النازيون وبتواطؤ من الأوروبيين كانوا يسعون إلى التخلص من اليهود كليًّا، فقد كان بإمكانهم لو رغبوا بهم جزءا في منظومة العالم الجديد أن يخضعوهم لاعتناق الدين المسيحي ويتم دمجهم كأي أقلية عبر التاريخ، كهنود الحمر السكان الأصليين لأمريكا الذين تم دمجهم في المجتمع الأمريكي بعد إبادة الكثيرين. لكن النازيين فضلوا تصفيتهم بينما سخر الأوروبيون لاسيما فرنسا وانجلترا وروسيا جهودهم منذ القرن التاسع عشر من أجل الحد من ازدياد أعداد اليهود المهاجرين الذين أصابهم الفقر والجهل والتخلف والذين لم يكن لهم سوى خيارين إما الاشتراكية أو الصهيونية بالتخلص منهم ومن أعبائهم من خلال دفعهم دفعا إلى الشرق الأوسط، إلى فلسطين تحديدًا.
لكن من أكثر الأسباب التي جعلت الهولوكوست اليهودي في الوعي العالمي موقعا أيقونيًّا خاصا به هم "اليهود" الذين نجوا، فالحركة الصهيونية وظفت كافة مواردها لضخ الدعم لمظلوميتها، كان توظيف مفردة " هولوكوست" بحد ذاتها أثره الديني في شرعنة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. وكجواز مرور وحصانة رسمية لسياستها في الماضي والمستقبل، بشهادة المفكر " إيلان بابيه" في كتابه " التطهير العرقي في فلسطين:" بعد أن اتُخذ القرار استغرق تنفيذ العملية الستة أشهر، ومع اكتمال التنفيذ كان أكثر من نصف سكان فلسطين الأصليين أي ما يقارب 800.000 نسمة قد اقتلوا من أماكن عيشهم و531 قرية دُمرت و11 حيًّا مدنيًّا أخلي من سكانه، وهي تعتبر اليوم في نظر القانون الدولي جريمة ضد الإنسانية". (التطهير العرقي في فلسطين، إيلان بابه، ص 3)
ولكن يبدو أن خيبة الأمل الكبيرة التي خلفها الهولوكوست عبر التاريخ ليس الموقف الأوروبي المحايد والموافق للنازية فحسب بل اليهود أنفسهم، الذين كما يدعون كانوا ضحايا الهولوكوست وكان يمكن أن لهؤلاء الناجين أن يمنعوا تلك المجازر التي اقترفتها سلطاتهم في الأرض المحتلة، كان يمكن أن يكونوا مثالاً براقًا من أجل بسط السلام لحماية الأقليات والشعوب المضطهدة من الطغاة، وأن يكونوا سببا في بدء عصر أكثر تحضّرًا وإنسانية في تاريخ البشرية رغم كل الأهوال والرعب والاشمئزاز الذي مروا به، لكن ما حدث نقيض ذلك تماما.
لعل السؤال الذي يظهر نفسه بلا مواربة وبخيبة أمل كبيرة: ماذا فعلت الهولوكوست باليهود؟
يبدو جليًّا أنها جردتهم من إنسانيتهم، فاليهود الضحايا ترقبوا أول فرصة للانتقام من مضطهديهم كما يفسر مؤلف " الحداثة والهولوكوست:" إذا وجدوا صعوبة أو استحالة في الانتقام من مضطهديهم في الماضي؛ فإنهم يهرعون إلى غسل عار الماضي الشاهد على ضعفهم، ويُظهرون أنهم يعرفون كيف يبرزون قوتهم ومهاراتهم بحزم وشدة: فماذا يكون الجدار العازل حول الأراضي الفلسطينية المحتلة إن لم يكن محاولة للتفوق على من بنوا الجدار المحيط بجيتو وارسو؟".( الحداثة والهولوكوست، ص 34)
كان ثمة أمل قبل خمسين أو ستين عاما أن تسبب المعرفة البشعة بالهولوكوست صدمة توقظ البشرية من نعاسها الأخلاقي وتجعل المزيد من الإبادات الجماعية مستحيلا؛ كم يبدو هذا الأمل مدعاة للسخرية والخيبة في آن!
ليس في حجم المجازر التي تجاوزت بها القانون الدولي في فلسطين فحسب بل لسعيهم الحثيث إلى طمس الحقائق وتشويهها، كما يوضح " إيلان بابه" في كتابه" التطهير العرقي في فلسطين" منذ ثلاثين عاما تقريبا، بدأ ضحايا التطهير العرقي إعادة تجميع مكونات الصورة التاريخية التي بذلت الرواية الإسرائيلية الرسمية لأحداث سنة 1948م كل ما في وسعها لإخفائها وتشويهها. لقد تحدثت القصة الإسرائيلية التاريخية التي جرى تلقيفها عن " انتقال طوعي" جماعي أقدم عليه مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين قرروا أن يهجروا بيوتهم وقراهم مؤقتا من أجل أن يفسحوا الطريق أمام الجيوش العربية الآتية لتدمير الدولة اليهودية الوليدة". (التطهير العرقي في فلسطين، إيلان بابه، ص 4)
لكن من أكثر الأسباب التي جعلت الهولوكوست اليهودي في الوعي العالمي موقعا أيقونيًّا خاصا به هم "اليهود" الذين نجوا، فالحركة الصهيونية وظفت كافة مواردها لضخ الدعم لمظلوميتها، كان توظيف مفردة " هولوكوست" بحد ذاتها أثره الديني في شرعنة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. وكجواز مرور وحصانة رسمية لسياستها في الماضي والمستقبل، بشهادة المفكر " إيلان بابيه" في كتابه " التطهير العرقي في فلسطين:" بعد أن اتُخذ القرار استغرق تنفيذ العملية الستة أشهر، ومع اكتمال التنفيذ كان أكثر من نصف سكان فلسطين الأصليين أي ما يقارب 800.000 نسمة قد اقتلوا من أماكن عيشهم و531 قرية دُمرت و11 حيًّا مدنيًّا أخلي من سكانه، وهي تعتبر اليوم في نظر القانون الدولي جريمة ضد الإنسانية". (التطهير العرقي في فلسطين، إيلان بابه، ص 3)
ولكن يبدو أن خيبة الأمل الكبيرة التي خلفها الهولوكوست عبر التاريخ ليس الموقف الأوروبي المحايد والموافق للنازية فحسب بل اليهود أنفسهم، الذين كما يدعون كانوا ضحايا الهولوكوست وكان يمكن أن لهؤلاء الناجين أن يمنعوا تلك المجازر التي اقترفتها سلطاتهم في الأرض المحتلة، كان يمكن أن يكونوا مثالاً براقًا من أجل بسط السلام لحماية الأقليات والشعوب المضطهدة من الطغاة، وأن يكونوا سببا في بدء عصر أكثر تحضّرًا وإنسانية في تاريخ البشرية رغم كل الأهوال والرعب والاشمئزاز الذي مروا به، لكن ما حدث نقيض ذلك تماما.
لعل السؤال الذي يظهر نفسه بلا مواربة وبخيبة أمل كبيرة: ماذا فعلت الهولوكوست باليهود؟
يبدو جليًّا أنها جردتهم من إنسانيتهم، فاليهود الضحايا ترقبوا أول فرصة للانتقام من مضطهديهم كما يفسر مؤلف " الحداثة والهولوكوست:" إذا وجدوا صعوبة أو استحالة في الانتقام من مضطهديهم في الماضي؛ فإنهم يهرعون إلى غسل عار الماضي الشاهد على ضعفهم، ويُظهرون أنهم يعرفون كيف يبرزون قوتهم ومهاراتهم بحزم وشدة: فماذا يكون الجدار العازل حول الأراضي الفلسطينية المحتلة إن لم يكن محاولة للتفوق على من بنوا الجدار المحيط بجيتو وارسو؟".( الحداثة والهولوكوست، ص 34)
كان ثمة أمل قبل خمسين أو ستين عاما أن تسبب المعرفة البشعة بالهولوكوست صدمة توقظ البشرية من نعاسها الأخلاقي وتجعل المزيد من الإبادات الجماعية مستحيلا؛ كم يبدو هذا الأمل مدعاة للسخرية والخيبة في آن!
ليس في حجم المجازر التي تجاوزت بها القانون الدولي في فلسطين فحسب بل لسعيهم الحثيث إلى طمس الحقائق وتشويهها، كما يوضح " إيلان بابه" في كتابه" التطهير العرقي في فلسطين" منذ ثلاثين عاما تقريبا، بدأ ضحايا التطهير العرقي إعادة تجميع مكونات الصورة التاريخية التي بذلت الرواية الإسرائيلية الرسمية لأحداث سنة 1948م كل ما في وسعها لإخفائها وتشويهها. لقد تحدثت القصة الإسرائيلية التاريخية التي جرى تلقيفها عن " انتقال طوعي" جماعي أقدم عليه مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين قرروا أن يهجروا بيوتهم وقراهم مؤقتا من أجل أن يفسحوا الطريق أمام الجيوش العربية الآتية لتدمير الدولة اليهودية الوليدة". (التطهير العرقي في فلسطين، إيلان بابه، ص 4)
لكن السردية الصهيونية التي عكفت لأعوام طويلة على ضخها من خلال أساليب ووسائل متعددة أشهرها في الأفلام والمسلسلات حتى استوطنت في الذهنية الغربية وبدت وحدها الحقيقة الكاملة، الحقيقة التي لا يناقضها شيء وكل ما دونها من روايات فلسطينية هي مجرد أوهام حتى جاء السابع من أكتوبر لتسقط تلك الحقيقة المدّعية، ولتشرع العقول الغربية على احتمالية صدق الرواية الفلسطينية، على النظر في الجانب الآخر من القضية، فإن كان ثمة قصة إسرائيلية فمن الطبيعي أن تكون هناك قصة فلسطينية أيضا. والمبعث الآخر الذي جعل "غزة " أيقونة تجابه به أيقونة الصهاينة المسمى بــ" الهولوكوست" هي وضعها المكاني بحد ذاته؛ فهي تحت الحصار منذ 2007م وهو أطول حصار في التاريخ، وظفت إسرائيل كل وحشيتها لتدمير قطاعاتها الحيوية كالمطار والمرفأ، رفعت الأسوار ومنعت فتح مرفأ رفح أو أي مدخل آخر يمكن أن يهّرب قليلاً من الحياة إلى العزيين، تمنع المواد التي تحتمل صفة " الاستخدام المزدوج" بشهادة أهلها من دخول غزة، القوائم نفسها تخضع لرقابة صارمة وتعدّل كل مرة، وتشحن مواد معينة فحسب. فوق هذا لا يتواصل سكان غزة مع العالم الخارجي، ويبدو السفر لخارجها من أجل السياحة تطّلعًا مستحيلاً، فأهلها لا يختلطون أحدًا فلا يمكنهم حتى زيارة الضفة الغربية أو قراهم الأصلية المحتلة منذ 48 أو بقية أهلهم في مخيمات سوريا ولبنان، أو الفلسطينيين المقيمين في الأردن أو بقية دول الخليج والعرب والعالم، وهي مسورة بأسلاك وجدران جعلتها إسرائيل أخطر بقعة على وجه الكرة الأرضية، دون أن يشهد أهلها المحصورون منذ 2007أي تحرك عالمي أو عربي أو فلسطيني لرفع الحصار عنها، لا منظمات ولا هيئات ولا مجالس الأمن أو الكنائس أو الطوائف الدينية، جميعهم قبلوا بالحصار كأنه أمر لا يخالف الشرائع البشرية وعلى أهل غزة أن تحياه!
ليأتي " طوفان الأقصى" معلنًا العصيان لفك هذا الحصار ولتحرير العقول لاسيما الغربية عن مظلومية ضحايا الهولوكوست؛ ولتجد إسرائيل نفسها ولأول مرة مذ 75 عاما مكشوفة وضعيفة ومهددة من قبل المقاومة الفلسطينية الذين كانوا قبل أعوام أطفال الانتفاضة الأولى والثانية وصارت الحجارة المشدودة في أيديهم أمام دبابات الصهاينة رغم أنها لم تكن تحدث ضررًا محسوبا لكنها خلّفت هلعًا لعساكرهم حاملي البنادق والرشاشات لدرجة اندفاعهم في مواجهة لا عدو بالغ مدجج بالأسلحة الثقيلة بل لاغتيال براءة طفل كــ " فارس عودة" الذي تصدى لدبابة إسرائيلية بحجارته الصغيرة منذ سنوات، فأرداه جندي إسرائيلي برصاصة في عنقه ليكون أيقونة عالمية عن معارضة الاحتلال الإسرائيلي الذي يغتال الأطفال في عام 2000. ناهيك عن تعرض آخرين للقمع والسجن، لكن هؤلاء الصغار الكبار كبروا واستطالت معهم مقاومتهم واستحالت حجارتهم إلى أسلحة هي صنيع مقاومة وطنية متطلعة إلى ردح المحتل من أرضها، مقاومة عاتية يحسب لهم عالم اليوم ألف حساب، لدرجة أن أمريكا جندت قواتها ودشنت أسلحتها المتطورة وحملتها في طائرات إلى قطاع غزة، فالصراع فيها أصبح يدار من قبل المقاومة وبتوقيتها بعد أن تمكنوا من مفاجأة العدو الصهيوني في داخل سياجه المحكم، عبر هجوم صاروخي لعدد من مستوطناتها، تزامنا مع اقتحام بري من المقاومين عبر السيارات رباعية الدفع والدراجات النارية والطائرات الشراعية للبلدات المتاخمة لغلاف غزة، ليسطروا على عدد من المواقع العسكرية في سديروت، واقتحموا نتيفوف، وخاضوا اشتباكات عنيفة كما أسروا عددا من الجنود واقتادوهم لغزة .
ليكون هؤلاء الأسرى ورقة الرابحة لفك الحصار . لكن ما جعل السردية الصهيونية تنهار وجعلت شعوب العالم تتعاطف مع الغزيين هي هول المجازر التي ارتكبتها إسرائيل في غزة منذ السابع من أكتوبر حتى اللحظة الراهنة؛ ففي 48 ارتكبت إسرائيل في فلسطين 37 مجزرة، ولكن في غزة وحدها، منذ ستة أسابيع ارتكبت 1330 مجزرة أي 36 ضعفا. وأكثرهم من الأطفال والنساء بل أبيدت عائلات بأكملها، أجيال كاملة. هذه المجازر لم تفلح إسرائيل في اخفائها ولا اخضاعها لأكاذيبهم؛ فقد سجلت صوتا وصورة وبمشاهد كاملة لتعرض أمام أنظار العالم، ليدرك الشعوب الغربية مدى الوحشية الإسرائيلية، وحين جوبهوا بحقيقة ارتكابها تمادوا ووصفوا الغزيين بأنهم مجرد حيوانات، هذه الفوقية التي أظهرها الصهاينة هي نفسها التي سبق وأظهرها النازيون حين وصفوا اليهود في ذلك الوقت بالحشرات والفيروسات التي يجب التخلص منهم نهائيا بقتلهم، وهي نفسها كانت نهاية الحكم النازي في أوروبا. هي السياسة عينها يتبعها كل المستبدين لتبرير مجازرهم الجماعية في حق المدنيين العُزّل، هذه الحقيقة أعلنها الكاتب والروائي السوري " ممدوح عدوان" في كتابه " تهويد المعرفة" حين وضح بأن :" السعي الصهيوني إلى محو الشخصية الفلسطينية من التاريخ والحاضر يتلاقى مع تفكير غربي استعماري تعامل مع العالم كله على هذا الأساس.
ليأتي " طوفان الأقصى" معلنًا العصيان لفك هذا الحصار ولتحرير العقول لاسيما الغربية عن مظلومية ضحايا الهولوكوست؛ ولتجد إسرائيل نفسها ولأول مرة مذ 75 عاما مكشوفة وضعيفة ومهددة من قبل المقاومة الفلسطينية الذين كانوا قبل أعوام أطفال الانتفاضة الأولى والثانية وصارت الحجارة المشدودة في أيديهم أمام دبابات الصهاينة رغم أنها لم تكن تحدث ضررًا محسوبا لكنها خلّفت هلعًا لعساكرهم حاملي البنادق والرشاشات لدرجة اندفاعهم في مواجهة لا عدو بالغ مدجج بالأسلحة الثقيلة بل لاغتيال براءة طفل كــ " فارس عودة" الذي تصدى لدبابة إسرائيلية بحجارته الصغيرة منذ سنوات، فأرداه جندي إسرائيلي برصاصة في عنقه ليكون أيقونة عالمية عن معارضة الاحتلال الإسرائيلي الذي يغتال الأطفال في عام 2000. ناهيك عن تعرض آخرين للقمع والسجن، لكن هؤلاء الصغار الكبار كبروا واستطالت معهم مقاومتهم واستحالت حجارتهم إلى أسلحة هي صنيع مقاومة وطنية متطلعة إلى ردح المحتل من أرضها، مقاومة عاتية يحسب لهم عالم اليوم ألف حساب، لدرجة أن أمريكا جندت قواتها ودشنت أسلحتها المتطورة وحملتها في طائرات إلى قطاع غزة، فالصراع فيها أصبح يدار من قبل المقاومة وبتوقيتها بعد أن تمكنوا من مفاجأة العدو الصهيوني في داخل سياجه المحكم، عبر هجوم صاروخي لعدد من مستوطناتها، تزامنا مع اقتحام بري من المقاومين عبر السيارات رباعية الدفع والدراجات النارية والطائرات الشراعية للبلدات المتاخمة لغلاف غزة، ليسطروا على عدد من المواقع العسكرية في سديروت، واقتحموا نتيفوف، وخاضوا اشتباكات عنيفة كما أسروا عددا من الجنود واقتادوهم لغزة .
ليكون هؤلاء الأسرى ورقة الرابحة لفك الحصار . لكن ما جعل السردية الصهيونية تنهار وجعلت شعوب العالم تتعاطف مع الغزيين هي هول المجازر التي ارتكبتها إسرائيل في غزة منذ السابع من أكتوبر حتى اللحظة الراهنة؛ ففي 48 ارتكبت إسرائيل في فلسطين 37 مجزرة، ولكن في غزة وحدها، منذ ستة أسابيع ارتكبت 1330 مجزرة أي 36 ضعفا. وأكثرهم من الأطفال والنساء بل أبيدت عائلات بأكملها، أجيال كاملة. هذه المجازر لم تفلح إسرائيل في اخفائها ولا اخضاعها لأكاذيبهم؛ فقد سجلت صوتا وصورة وبمشاهد كاملة لتعرض أمام أنظار العالم، ليدرك الشعوب الغربية مدى الوحشية الإسرائيلية، وحين جوبهوا بحقيقة ارتكابها تمادوا ووصفوا الغزيين بأنهم مجرد حيوانات، هذه الفوقية التي أظهرها الصهاينة هي نفسها التي سبق وأظهرها النازيون حين وصفوا اليهود في ذلك الوقت بالحشرات والفيروسات التي يجب التخلص منهم نهائيا بقتلهم، وهي نفسها كانت نهاية الحكم النازي في أوروبا. هي السياسة عينها يتبعها كل المستبدين لتبرير مجازرهم الجماعية في حق المدنيين العُزّل، هذه الحقيقة أعلنها الكاتب والروائي السوري " ممدوح عدوان" في كتابه " تهويد المعرفة" حين وضح بأن :" السعي الصهيوني إلى محو الشخصية الفلسطينية من التاريخ والحاضر يتلاقى مع تفكير غربي استعماري تعامل مع العالم كله على هذا الأساس.
وهذا ينطبق على النظرة الأوروبية إلى شعوب العالم من خلال موقف عرقي"( تهويد المعرفة، ص 31) ويرى أن هذه المسألة في تماه في أسس التكوين العقلي والوجداني. وهذا التماهي يبنى على أسس دينية وعرقية. وهي تفضح نظرة الأوروبي " الأبيض" إلى الشعوب الأخرى هي نظرة الإنسان إلى الحشرات، فمن يبالي بقتل الذباب أو البعوض. بل تبرر فعلها بأن هذه الشعوب التي يقومون بتصفيتها هي شعوب ولادة، كثيرة العدد لا أهمية لفقدان أعداد كبيرة منها أو قتلهم، فيجب قتلهم إذا كان الإنسان يعيش مكانها. هذه النظرية نفسها تبناها كل من باومان وعدوان. باومان حين أسهب الحديث عن ظاهرة البستاني الذي يمثل عمل الدولة في اجتثاث النباتات السامة كي لا تشوه تطلعات هذا البستاني إلى حديقته المتناسقة، هذا ما فعل الآري باليهودي، وهو نفسه مارسه بكل برود وعنجهية اليهودي الذي كان مضطهدًا في التاريخ على الفلسطينيين حيث قام باقتلاعهم من أرضهم، وإلى قتل كثير منهم، وإلى دفع البقية إلى التهجير لتمتد مستوطناتهم في مساحات الإخلاء التعسّفي.
نحن اليوم أمام سؤال مفصلي: ماذا يعني أن يعيش المرء في عالم مشحون دائما بذلك النوع من الرعب الذي جاء الهولوكوست ليكون نموذجا له؟
استعار باومان لتفسير هذه الظاهرة بعبارة " مارتن هايدغر" :" الوجود على أنه معادل لعملية من الاستعادة المستمرة للماضي".( الأخلاق في عهد الحداثة السائلة، ص 127)
على هذا الحبل تماما لعب الصهاينة، على تذكير العالم الأوروبي بأنهم ضحايا الهولوكوست، لقد سعوا لإحياء جذوة هذه الذاكرة لتغطي على كل المجازر والابادات في حق الشعب الفلسطيني، وكلما اعترض العالم على سعيها لتوسيع المستوطنات في الأراضي الفلسطينية شهرت مظلوميتها لتوجه الضمير الأوروبي نحو مناصرتها، كما يؤكد باومان :" تمثل فكرة الماضي شيئا عنيدا، نهائيا وغير قابل للتغيير وغير قابل لعكس المسار، الأنموذج الحقيقي لـ" الواقع" الذي لا يمكن إلغاؤه أو إزالته بالتمني، يخفي الرواة ضعفهم الإنساني خلف ضخامة الماضي المهيبة التي على عكس هشاشة الحاضر وبقاء المستقبل رهن التحقق، يمكن على عكس الحقائق أن تقدس لأنها لا تتيح مجالا للاختلاف"( الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، ص 129). فالتقديس هذه الذاكرة الجمعية والماضي المحتدم بالوقائع حميت مصالح الصهاينة في العالم، هو نفسه القربان المقدس الذي حظي به " الهولوكوست" مذ تاريخ اطلاق هذه اللفظة المخترعة حتى نسفتها طوفان الأقصى لتأتي معبرة عن صناعة هولوكوست إسرائيلي آخر ومشابه إلى حد كبير وعلى مرأى أنظار العالم بكافة الوسائل وبتقنيات الذكاء الاصطناعي في غزة. وسط صمت القيادات الغربية بل وسط دعمهم الكامل ومنحهم الضوء الأخضر للكيان الصهيوني في إبادة الغزيين. رغم أن الصهاينة الذين ظلوا يذكرون الأوروبيين بموقفهم اللامبالي أثناء إبادتهم على يد النازية؛ وهي ظاهرة سبق ووضحها أيضا " ممدوح عدوان" في كتابه " تهويد المعرفة" بأن الأمريكي والأوروبي لا يتعب نفسه في الحديث عن حقوق أو أصول" فليس هناك إلا حقه هو في الوصول إلى أي مكان بفضل القوة، وخدمة للأهداف التي يعلنها هو. وبهذه القوة يهدم التاريخ والحضارة ويبيد البشر ويفرض مشروعيته. وهو يعطي الآن هذه القوة لإسرائيل التي تريد، ويريدها، أن تفعل مثل ما فعل. وهذه لا تكتفي بالقتل والتدمير ومحو الشعب ذاته كما فعلت الولايات المتحدة، بل تريد، زيادة على ذلك، أن تمحو تاريخه، لكي تمد جذورها في قبوره"( تهويد المعرفة، ص 33). هي مقاربة تماثل تماما لقراءة المفكر الفلسطيني " إدوارد سعيد" لتاريخ الشراكة الصهيونية والعقلية الغربية؛ فالدعم الأوروبي ليس ناجما عن مدى محبتها للإسرائيليين ولا عن بغضها للعرب الفلسطينيين، بل لكون إسرائيل نجحت في طرح نفسها كحركة تحرير لليهود المضطهدين وكحل عملي لمشكلة العداء للسامية الذي ساد في الغرب، كما أنها قدمت للعقلية الغربية مشروعًا استعماريًّا دقيقًا على أسس علمية وحضارية غربية وفي الوقت عينه بها حلاً ناجعًا لمشكلة الأقليات اليهودية في العالم والأهم راحة الضمير للأوروبيين في جزء من الشرق العربي الإسلامي المتخلف والقابل للاستعمار!
لكن التقديس الذي ناله الهولوكوست يبدو مبتذلا؛ فالجريمة التي كانت مستهجنة أخلاقيًّا، كادت أن تكون فرصة لاستنباط مبادئ أخلاقية صالحة عالميًّا لو أن " موشي لاندو" الذي ترأس عام 1961م محاكمة " أدولف إيخمان" وهو أحد المسؤولين الكبار عن إعداد المدنيين اليهود في معسكرات الاعتقال لإعدامهم فيما يعرف بالحل الأخير، حوكم بالقدس وأعدم، تمكن بعد ستة وعشرين عاما أن يترأس البعثة التي شرعنت استعمال التعذيب ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. ربما السؤال الشافي هنا هو ليس سعي هؤلاء اليهود الصهاينة إلى تعذيب المدنيين الفلسطينيين، ولنجاري الحضارة الغربية وهي تطرح: لماذا هذه العدوانية أو الوحشية من قبل الفلسطينيين لليهود؟
نحن اليوم أمام سؤال مفصلي: ماذا يعني أن يعيش المرء في عالم مشحون دائما بذلك النوع من الرعب الذي جاء الهولوكوست ليكون نموذجا له؟
استعار باومان لتفسير هذه الظاهرة بعبارة " مارتن هايدغر" :" الوجود على أنه معادل لعملية من الاستعادة المستمرة للماضي".( الأخلاق في عهد الحداثة السائلة، ص 127)
على هذا الحبل تماما لعب الصهاينة، على تذكير العالم الأوروبي بأنهم ضحايا الهولوكوست، لقد سعوا لإحياء جذوة هذه الذاكرة لتغطي على كل المجازر والابادات في حق الشعب الفلسطيني، وكلما اعترض العالم على سعيها لتوسيع المستوطنات في الأراضي الفلسطينية شهرت مظلوميتها لتوجه الضمير الأوروبي نحو مناصرتها، كما يؤكد باومان :" تمثل فكرة الماضي شيئا عنيدا، نهائيا وغير قابل للتغيير وغير قابل لعكس المسار، الأنموذج الحقيقي لـ" الواقع" الذي لا يمكن إلغاؤه أو إزالته بالتمني، يخفي الرواة ضعفهم الإنساني خلف ضخامة الماضي المهيبة التي على عكس هشاشة الحاضر وبقاء المستقبل رهن التحقق، يمكن على عكس الحقائق أن تقدس لأنها لا تتيح مجالا للاختلاف"( الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، ص 129). فالتقديس هذه الذاكرة الجمعية والماضي المحتدم بالوقائع حميت مصالح الصهاينة في العالم، هو نفسه القربان المقدس الذي حظي به " الهولوكوست" مذ تاريخ اطلاق هذه اللفظة المخترعة حتى نسفتها طوفان الأقصى لتأتي معبرة عن صناعة هولوكوست إسرائيلي آخر ومشابه إلى حد كبير وعلى مرأى أنظار العالم بكافة الوسائل وبتقنيات الذكاء الاصطناعي في غزة. وسط صمت القيادات الغربية بل وسط دعمهم الكامل ومنحهم الضوء الأخضر للكيان الصهيوني في إبادة الغزيين. رغم أن الصهاينة الذين ظلوا يذكرون الأوروبيين بموقفهم اللامبالي أثناء إبادتهم على يد النازية؛ وهي ظاهرة سبق ووضحها أيضا " ممدوح عدوان" في كتابه " تهويد المعرفة" بأن الأمريكي والأوروبي لا يتعب نفسه في الحديث عن حقوق أو أصول" فليس هناك إلا حقه هو في الوصول إلى أي مكان بفضل القوة، وخدمة للأهداف التي يعلنها هو. وبهذه القوة يهدم التاريخ والحضارة ويبيد البشر ويفرض مشروعيته. وهو يعطي الآن هذه القوة لإسرائيل التي تريد، ويريدها، أن تفعل مثل ما فعل. وهذه لا تكتفي بالقتل والتدمير ومحو الشعب ذاته كما فعلت الولايات المتحدة، بل تريد، زيادة على ذلك، أن تمحو تاريخه، لكي تمد جذورها في قبوره"( تهويد المعرفة، ص 33). هي مقاربة تماثل تماما لقراءة المفكر الفلسطيني " إدوارد سعيد" لتاريخ الشراكة الصهيونية والعقلية الغربية؛ فالدعم الأوروبي ليس ناجما عن مدى محبتها للإسرائيليين ولا عن بغضها للعرب الفلسطينيين، بل لكون إسرائيل نجحت في طرح نفسها كحركة تحرير لليهود المضطهدين وكحل عملي لمشكلة العداء للسامية الذي ساد في الغرب، كما أنها قدمت للعقلية الغربية مشروعًا استعماريًّا دقيقًا على أسس علمية وحضارية غربية وفي الوقت عينه بها حلاً ناجعًا لمشكلة الأقليات اليهودية في العالم والأهم راحة الضمير للأوروبيين في جزء من الشرق العربي الإسلامي المتخلف والقابل للاستعمار!
لكن التقديس الذي ناله الهولوكوست يبدو مبتذلا؛ فالجريمة التي كانت مستهجنة أخلاقيًّا، كادت أن تكون فرصة لاستنباط مبادئ أخلاقية صالحة عالميًّا لو أن " موشي لاندو" الذي ترأس عام 1961م محاكمة " أدولف إيخمان" وهو أحد المسؤولين الكبار عن إعداد المدنيين اليهود في معسكرات الاعتقال لإعدامهم فيما يعرف بالحل الأخير، حوكم بالقدس وأعدم، تمكن بعد ستة وعشرين عاما أن يترأس البعثة التي شرعنت استعمال التعذيب ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. ربما السؤال الشافي هنا هو ليس سعي هؤلاء اليهود الصهاينة إلى تعذيب المدنيين الفلسطينيين، ولنجاري الحضارة الغربية وهي تطرح: لماذا هذه العدوانية أو الوحشية من قبل الفلسطينيين لليهود؟
والإجابة هي واضحة كالشمس، هؤلاء اليهود هم مستعمرون قاموا بطرد السكان الأصليين، أزالوا منازلهم بل أحياء سكنية بأكملها، قاموا باقتلاع حقول الزيتون التي يعود تاريخها لستة ملايين عام، اجتثوا المحاصيل، أحرقوا أماكن العمل، فصلوا المزارع عن البيوت ببناء حوائط لتدمير مصادر عيش الفلاح الفلسطيني، قبل كل هذا نهبوا تاريخهم وتراثهم المتأصل ونسبوا إليهم بكل فجاجة الأكلات الفلسطينية الشهيرة كالفلافل والحمص وغيرها؛ لدرجة أن الأوروبيين يعتقدون أنها أكلات إسرائيلية. لقد سرق هؤلاء اليهود من الفلسطينيين آثارهم وطبائع البلاد والناس.
سياسة " القتل الباتر" وكما عبرت عنه المعاجم العبرية بــاللفظة الأشهر والأعم والأشمل" الهولوكوست" منذ أربعينيات القرن الماضي هو نفسه مورس ضد الفلسطينيين في الأرض المحتلة، سياسة البستاني في إزالة الحشائش، إلى تطهير وهو تدمير إبداعي يقوم بإزالة كل شيء غير ملائم وغير منسجم مثل الغرباء رغم أنهم (أصحاب الأرض الأصليون) بتعبير باومان" يُخلق النظام ويعاد إنتاجه"( الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، ص 144) نظام العهد النازي من أجل بناء نظام جديد ومتطور ومتكامل كما يرون.
بل يؤكد باومان في كتابه" الحداثة والهولوكوست" بأن طريقة احتفال بذكرى الهولوكوست في السياسة الإسرائيلية هي أكبر العوائق في طريق إدراك إمكانية إدراك الهولوكوست بوصفها تطهيرا أخلاقيا، إنها انتصار لهتلر بعد مماته، فهو من كان يحلم بخلق صراع بين اليهود والعالم بأكمله، وبين العالم بأكمله واليهود، إنه انتصار في منع اليهود من أية فرصة للتعايش السلمي مع الآخرين.
وغدت إسرائيل اليوم كما وصفها الحاخام الأمريكي " يهودا ماجنيس" حينما أكدّ بأن:" الصوت اليهودي الجديد يخرج من فوهات البنادق، هي التوراة الجديدة لأرض إسرائيل".
أي أنها أصبحت كيانا عنيفا وداعيًّا إلى العنف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*المصادر والمراجع:
1- الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، زيجمونت باومان، ترجمة سعد البازعي وبثينة الإبراهيم، كلمة للترجمة، أبوظبي، ط1، 2016م.
2- الحداثة والهولوكوست، زيجمونت باومان، ترجمة حجّاج أبو الخير و دينا رمضان، مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة، ط1، 2014م.
3- التطهير العرقي في فلسطين، إيلان بابه، ترجمة أحمد خليفة، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، ط1، 2007م.
4- تهويد المعرفة، ممدوح عدوان، دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2007م.
5- حيونة الإنسان، ممدوح عدوان، دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، سوريا، ط1، 2007م.
سياسة " القتل الباتر" وكما عبرت عنه المعاجم العبرية بــاللفظة الأشهر والأعم والأشمل" الهولوكوست" منذ أربعينيات القرن الماضي هو نفسه مورس ضد الفلسطينيين في الأرض المحتلة، سياسة البستاني في إزالة الحشائش، إلى تطهير وهو تدمير إبداعي يقوم بإزالة كل شيء غير ملائم وغير منسجم مثل الغرباء رغم أنهم (أصحاب الأرض الأصليون) بتعبير باومان" يُخلق النظام ويعاد إنتاجه"( الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، ص 144) نظام العهد النازي من أجل بناء نظام جديد ومتطور ومتكامل كما يرون.
بل يؤكد باومان في كتابه" الحداثة والهولوكوست" بأن طريقة احتفال بذكرى الهولوكوست في السياسة الإسرائيلية هي أكبر العوائق في طريق إدراك إمكانية إدراك الهولوكوست بوصفها تطهيرا أخلاقيا، إنها انتصار لهتلر بعد مماته، فهو من كان يحلم بخلق صراع بين اليهود والعالم بأكمله، وبين العالم بأكمله واليهود، إنه انتصار في منع اليهود من أية فرصة للتعايش السلمي مع الآخرين.
وغدت إسرائيل اليوم كما وصفها الحاخام الأمريكي " يهودا ماجنيس" حينما أكدّ بأن:" الصوت اليهودي الجديد يخرج من فوهات البنادق، هي التوراة الجديدة لأرض إسرائيل".
أي أنها أصبحت كيانا عنيفا وداعيًّا إلى العنف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*المصادر والمراجع:
1- الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، زيجمونت باومان، ترجمة سعد البازعي وبثينة الإبراهيم، كلمة للترجمة، أبوظبي، ط1، 2016م.
2- الحداثة والهولوكوست، زيجمونت باومان، ترجمة حجّاج أبو الخير و دينا رمضان، مدارات للأبحاث والنشر، القاهرة، ط1، 2014م.
3- التطهير العرقي في فلسطين، إيلان بابه، ترجمة أحمد خليفة، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، ط1، 2007م.
4- تهويد المعرفة، ممدوح عدوان، دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2007م.
5- حيونة الإنسان، ممدوح عدوان، دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع، سوريا، ط1، 2007م.
يسعدني فوز الكاتبة الكورية هان كانغ بجائزة نوبل في الآداب.
وأضع هنا مراجعة سابقة نشرتها عن روايتها البديعة " النباتية" في مجلة الفيصل عام 2018م.
وأضع هنا مراجعة سابقة نشرتها عن روايتها البديعة " النباتية" في مجلة الفيصل عام 2018م.
في رواية «النباتية» تستحيل البطلة إلى شجرة
ليلي عبدالله - كاتبة عمانية | سبتمبر 1, 2018 | كتب
لعل من المصادفات المبهجة والغريبة أيضًا أن أقرأ رواية «النباتية»، للروائية الكورية الجنوبية هان كانغ، ترجمة: محمود عبدالغفار (دار التنوير 2018م)، بالتزامن مع لقائي بصديق أسترالي من أصل مكسيكي.
الغريب في الأمر أن هذا الصديق هو نباتي أيضًا، لا يتناول سوى الوجبات النباتية، طعام خالٍ تمامًا من أنواع اللحوم كافة حتى الأسماك، بل إنه يتجنب أكل البيض والحليب ومشتقاته أيضًا، إمعانًا في غايته لقطع صلته بكل ما هو لحميّ، لأكثر من عشر سنوات تخلى هذا الصديق المدعو كارل عن ذلك؛ يقينًا منه أن هذه اللحوم تتعرض لأذى إنساني فظيع أثناء قتل بني آدم لها والتهامها، تلك هي فلسفته في الحياة، الفلسفة التي تبدو غريبة لنا نحن آكلي اللحوم المتوحشين ربما!
في رواية «النباتية» للصحافية والكاتبة هان كانغ، تحمل بطلتها فلسفتها أيضًا حول أكل اللحوم، فلسفة غير مخطط لها، بل نابعة من صميم حلم يأتيها في ليلة ما، فتجد نفسها واقفة بذهول أمام الثلاجة الفائضة بأنواع متعددة من اللحوم، الحلم نفسه يتكرر؛ ما يجعلها تُخرِج كل تلك اللحوم من الثلاجة وتضعها في أكياس القمامة لترميها بعيدًا من بيتها، مما يشكِّل مشكلة للزوج الذي يُفاجَأ بسلوك زوجته الغريب، المرأة الهادئة، العادية، الزوجة المنصتة، تستحيل بين يوم وليلة إلى كائن يتصرف بغرابة، فلا تطيق اللحوم بل لا تطيق لمساته كزوج؛ لأن مسامَّه تفوح برائحة اللحوم المقرفة!
نَحَت الروائية كانغ في روايتها الثالثة التي صدرت عام 2007م إلى التجريب، الذي أهلها للفوز بجائزة مان بوكر الدولية 2016م عن استحقاق، وقد نوهت لجنة التحكيم بأن مبعث فوزها المستحق هو في أنها نجحت في إظهار التلاحم الطريف بين الجمال والرعب عبر قصة مركزة ودقيقة ومروعة، عن امرأة تستحيل إلى نباتية بين يوم وليلة دون أي مسوغات، سوى الكابوس الذي نبش حلمًا من أحلامها في إحدى الليالي؛ لتحيل حياتها وحياة كل من حولها إلى جحيم، فمن هو هذا العاقل الذي يتخلى عن التهام مئات الأطباق المكونة من أشهى اللحوم المتنوعة؟! لذا فإن هذا يعرِّضها لتعنيف شديد القسوة من قبل عائلتها، ولا سيما الأب الذي يرى في تصرف ابنته نوعًا كبيرًا من العار في حق زوجها!
هان كانغ
تطرقت الروائية لفكرة جديدة، وقامت بسردها بأسلوب أقل ما يقال عنه: إنه معتم، فجوّ الرواية سوداوي، ويجد القارئ نفسه أمام امرأة تتضاءل يومًا بعد يوم، ويشكل تخليها عن اللحوم أزمة وجودية، ولا سيما وأن كونها نباتية لم يكن نابعًا من فلسفة إنسانية تجاه الحيوانات، بل هو نابع من حلم غريب انتابها وجعلها تبدو شخصًا متوحِّشًا، وتلك الكائنات الحيوانية تكاد تنتقم منها بالتهامها، ثم سرعان ما يتمكن منها هذا الحلم، ويظهر تأثيره لا على حياتها فحسب، بل على حياة من حولها أيضًا ابتداء من زوجها الذي يطلقها، وهو الراوي الأول في الرواية، يسرد تفاصيل حياته العادية مع زوجته العادية، زوجة تبدو مضجرة في ممارسة حياتها الزوجية، حتى بداية الحلم وتخليها عن اللحوم بطريقة مقززة!
ثم تتطرق الرواية لحياتها مع أسرتها: أبيها وأمها وأخيها وأختها وزوجها؛ ليكون زوج أختها هو السارد الثاني لتحريك دفة السرد، الفصل الأكثر ثراءً وحيوية في الرواية من حيث تناولها للتفاصيل، زوج الشقيقة الكبرى الذي يرى أن شقيقة زوجته الصغرى امرأة مثيرة، سرعان ما يستغل حالتها الغريبة ليطرح عليها فكرته المجنونة، وهي أن يرسم على كامل جسدها حديقة زهور ملونة، ثم يستغلها لمآربه الجنسية في تماهٍ مع فكرته الفنية ورغباته أيضًا، لكن الشقيقة الكبرى تقف له بالمرصاد وتنهي حياتها معه، بل تدخله مصحة نفسيّة متهمة إياه بالجنون، وبذلك تنتهي حياته المهنية كفنان، وحياته كزوج وأب أيضًا!
أما الفصل الأخير من الرواية فاتكأ السرد فيه على صوت الشقيقة الكبرى، المضحية بالمعنى الدقيق، التي يشعر القارئ باندفاعاتها، ويتجاوب مع معاناتها كامرأة عاملة وأم وزوجة وشقيقة كبرى، وتغدو في الرواية أكثر شخصية يتعاطف معها القارئ، في حين تكاد نظرة القارئ للبطلة النباتية يشوبها نوع من القلق، بل تكاد تكون نظرة محايدة مشْبَعة بنوع من الهلع حول مصيرها الغامض خلف لهاثها تجاه حلم غامض! أما الشقيقة الكبرى فهي برّ الأمان في الرواية، المرأة الحنون، هي الأخت الكبرى فعلًا، التي بدورها تتماهى مع ما تعايشه شقيقتها الصغرى التي تتخيل نفسها شجرة، فتتخلى كليًّا عن الطعام حتى النباتي منه، وتكتفي بالماء؛ فالأشجار تكتفي بالماء وضوء الشمس لتكون وارفة، فائضة بالحياة!
الرواية أيضًا تحمل فكرتها الكبرى، الفكرة الخفية، عن سوء معاملة النساء في مكان مشهود له بالحضارة العريقة والتطور الفذّ ككوريا الجنوبية، في ظل هذا الانطلاق التكنولوجي يظل فيه وضع المرأة مزريًا، بل يكاد وضعها يثير الشفقة، فالبطلة حين تتحول إلى نباتية تلام بشدة، ويَصِمونها بالجنون، وكأن ليس من حقها أن
ليلي عبدالله - كاتبة عمانية | سبتمبر 1, 2018 | كتب
لعل من المصادفات المبهجة والغريبة أيضًا أن أقرأ رواية «النباتية»، للروائية الكورية الجنوبية هان كانغ، ترجمة: محمود عبدالغفار (دار التنوير 2018م)، بالتزامن مع لقائي بصديق أسترالي من أصل مكسيكي.
الغريب في الأمر أن هذا الصديق هو نباتي أيضًا، لا يتناول سوى الوجبات النباتية، طعام خالٍ تمامًا من أنواع اللحوم كافة حتى الأسماك، بل إنه يتجنب أكل البيض والحليب ومشتقاته أيضًا، إمعانًا في غايته لقطع صلته بكل ما هو لحميّ، لأكثر من عشر سنوات تخلى هذا الصديق المدعو كارل عن ذلك؛ يقينًا منه أن هذه اللحوم تتعرض لأذى إنساني فظيع أثناء قتل بني آدم لها والتهامها، تلك هي فلسفته في الحياة، الفلسفة التي تبدو غريبة لنا نحن آكلي اللحوم المتوحشين ربما!
في رواية «النباتية» للصحافية والكاتبة هان كانغ، تحمل بطلتها فلسفتها أيضًا حول أكل اللحوم، فلسفة غير مخطط لها، بل نابعة من صميم حلم يأتيها في ليلة ما، فتجد نفسها واقفة بذهول أمام الثلاجة الفائضة بأنواع متعددة من اللحوم، الحلم نفسه يتكرر؛ ما يجعلها تُخرِج كل تلك اللحوم من الثلاجة وتضعها في أكياس القمامة لترميها بعيدًا من بيتها، مما يشكِّل مشكلة للزوج الذي يُفاجَأ بسلوك زوجته الغريب، المرأة الهادئة، العادية، الزوجة المنصتة، تستحيل بين يوم وليلة إلى كائن يتصرف بغرابة، فلا تطيق اللحوم بل لا تطيق لمساته كزوج؛ لأن مسامَّه تفوح برائحة اللحوم المقرفة!
نَحَت الروائية كانغ في روايتها الثالثة التي صدرت عام 2007م إلى التجريب، الذي أهلها للفوز بجائزة مان بوكر الدولية 2016م عن استحقاق، وقد نوهت لجنة التحكيم بأن مبعث فوزها المستحق هو في أنها نجحت في إظهار التلاحم الطريف بين الجمال والرعب عبر قصة مركزة ودقيقة ومروعة، عن امرأة تستحيل إلى نباتية بين يوم وليلة دون أي مسوغات، سوى الكابوس الذي نبش حلمًا من أحلامها في إحدى الليالي؛ لتحيل حياتها وحياة كل من حولها إلى جحيم، فمن هو هذا العاقل الذي يتخلى عن التهام مئات الأطباق المكونة من أشهى اللحوم المتنوعة؟! لذا فإن هذا يعرِّضها لتعنيف شديد القسوة من قبل عائلتها، ولا سيما الأب الذي يرى في تصرف ابنته نوعًا كبيرًا من العار في حق زوجها!
هان كانغ
تطرقت الروائية لفكرة جديدة، وقامت بسردها بأسلوب أقل ما يقال عنه: إنه معتم، فجوّ الرواية سوداوي، ويجد القارئ نفسه أمام امرأة تتضاءل يومًا بعد يوم، ويشكل تخليها عن اللحوم أزمة وجودية، ولا سيما وأن كونها نباتية لم يكن نابعًا من فلسفة إنسانية تجاه الحيوانات، بل هو نابع من حلم غريب انتابها وجعلها تبدو شخصًا متوحِّشًا، وتلك الكائنات الحيوانية تكاد تنتقم منها بالتهامها، ثم سرعان ما يتمكن منها هذا الحلم، ويظهر تأثيره لا على حياتها فحسب، بل على حياة من حولها أيضًا ابتداء من زوجها الذي يطلقها، وهو الراوي الأول في الرواية، يسرد تفاصيل حياته العادية مع زوجته العادية، زوجة تبدو مضجرة في ممارسة حياتها الزوجية، حتى بداية الحلم وتخليها عن اللحوم بطريقة مقززة!
ثم تتطرق الرواية لحياتها مع أسرتها: أبيها وأمها وأخيها وأختها وزوجها؛ ليكون زوج أختها هو السارد الثاني لتحريك دفة السرد، الفصل الأكثر ثراءً وحيوية في الرواية من حيث تناولها للتفاصيل، زوج الشقيقة الكبرى الذي يرى أن شقيقة زوجته الصغرى امرأة مثيرة، سرعان ما يستغل حالتها الغريبة ليطرح عليها فكرته المجنونة، وهي أن يرسم على كامل جسدها حديقة زهور ملونة، ثم يستغلها لمآربه الجنسية في تماهٍ مع فكرته الفنية ورغباته أيضًا، لكن الشقيقة الكبرى تقف له بالمرصاد وتنهي حياتها معه، بل تدخله مصحة نفسيّة متهمة إياه بالجنون، وبذلك تنتهي حياته المهنية كفنان، وحياته كزوج وأب أيضًا!
أما الفصل الأخير من الرواية فاتكأ السرد فيه على صوت الشقيقة الكبرى، المضحية بالمعنى الدقيق، التي يشعر القارئ باندفاعاتها، ويتجاوب مع معاناتها كامرأة عاملة وأم وزوجة وشقيقة كبرى، وتغدو في الرواية أكثر شخصية يتعاطف معها القارئ، في حين تكاد نظرة القارئ للبطلة النباتية يشوبها نوع من القلق، بل تكاد تكون نظرة محايدة مشْبَعة بنوع من الهلع حول مصيرها الغامض خلف لهاثها تجاه حلم غامض! أما الشقيقة الكبرى فهي برّ الأمان في الرواية، المرأة الحنون، هي الأخت الكبرى فعلًا، التي بدورها تتماهى مع ما تعايشه شقيقتها الصغرى التي تتخيل نفسها شجرة، فتتخلى كليًّا عن الطعام حتى النباتي منه، وتكتفي بالماء؛ فالأشجار تكتفي بالماء وضوء الشمس لتكون وارفة، فائضة بالحياة!
الرواية أيضًا تحمل فكرتها الكبرى، الفكرة الخفية، عن سوء معاملة النساء في مكان مشهود له بالحضارة العريقة والتطور الفذّ ككوريا الجنوبية، في ظل هذا الانطلاق التكنولوجي يظل فيه وضع المرأة مزريًا، بل يكاد وضعها يثير الشفقة، فالبطلة حين تتحول إلى نباتية تلام بشدة، ويَصِمونها بالجنون، وكأن ليس من حقها أن
تختار، بل هذا الخيار الحرّ نحو ما يلائم شخصيتها لا وجود له في عالم المرأة المتزوجة، هذا الانتهاك الذي يتعرض لحريتها الشخصية ربما هو المبعث الأساسي لفشل حياتها الزوجية، ليس هذا فحسب، بل إن الرواية أيضًا تظهر طبيعة المجتمع الكوري الجنوني الذي تنقصه قيم التقبّل: تقبل اختلاف الآخر، واختلاف توجهاته وأنماطه في ممارسة حياته كما يحلو له؛ كمعظم المجتمعات الأوربية التي قطعت أشواطًا هائلة لتمديد مساحات الحريات الشخصية كحق إنساني، ومنطلق حقيقي نحو مستقبل أكثر انفتاحًا.
الرواية هي فضح ورفع للغشاوة عن مجتمع محدود الأفق، وقاسٍ، وينقصه الكثير لتتعادل فيه حداثة الآلات مع حداثة العقول البشرية!
الرواية هي فضح ورفع للغشاوة عن مجتمع محدود الأفق، وقاسٍ، وينقصه الكثير لتتعادل فيه حداثة الآلات مع حداثة العقول البشرية!
«بطولة الإنسان في هذه المرحلة، أن يبقى حيّاً، وشريفاً، وألّا يفقد عقله».
عبدالرحمن منيف
عبدالرحمن منيف
"منكباً في ورشتِهِ
يصنعُ هذا النجّارُ الكهلُ
توابيتاً للناسْ
ينسى التفكيرَ بموته..
الألفةُ تفقدهُ الإحساسْ".
عدنان الصائغ
يصنعُ هذا النجّارُ الكهلُ
توابيتاً للناسْ
ينسى التفكيرَ بموته..
الألفةُ تفقدهُ الإحساسْ".
عدنان الصائغ
وقع اختياري في الحياة على أكثر المهن والمواهب مشقّة:
التدريس والكتابة!
تركت التدريس دون تأنيب في الضمير مع قليل من الحنين، لكن لا مجال على ما يبدو الاستغناء عن الكتابة حيث لا تربطها قانون تقاعد ولا تلغيها ورقة استقالة.
والكتابة من أعتى المهمّات في الحياة بلا منازع ولا تلائم سوى حالم صبور أو من به مسّ الخبَلْ. فأيّ مخلوق هذا الذي يلاحق كلمة تلو كلمة تلو كلمة ليرمّم عوالمه السردية بلا كلل؟!
أصدقكم القول: أحيانا أغبط من نجا من لوثة الكتابة. ريّح وارتاح... محظوظ ابن اللذينا!
التدريس والكتابة!
تركت التدريس دون تأنيب في الضمير مع قليل من الحنين، لكن لا مجال على ما يبدو الاستغناء عن الكتابة حيث لا تربطها قانون تقاعد ولا تلغيها ورقة استقالة.
والكتابة من أعتى المهمّات في الحياة بلا منازع ولا تلائم سوى حالم صبور أو من به مسّ الخبَلْ. فأيّ مخلوق هذا الذي يلاحق كلمة تلو كلمة تلو كلمة ليرمّم عوالمه السردية بلا كلل؟!
أصدقكم القول: أحيانا أغبط من نجا من لوثة الكتابة. ريّح وارتاح... محظوظ ابن اللذينا!
تحوّلت بلدتي تاجوراءَ، الضاحية الشرقية للعاصمة طرابلس، أمام عينيْ تحوّلاتٍ جذرية في سنواتٍ قليلة. كنّا ونحنُ أطفال نتسلل إلى "السواني"، أي بساتين البلدة، نسرقُ البرتقال في الشتاء ونلملمُ التوت في الصيف، وكانت البلدة واسعة، ربما لأننا أطفال يعيشون على فطرةِ الرّيف، أي أنّها لم تكن مزدحمةً البتّة وكانت أغلب شوارعها وطرقاتها ترابية، مع أنّ حكومات الجماهيرية العظمى رسمت مخططات لطرقٍ معبّدة لها منذ السبعينيات.
لا أذكر وجودَ مقاهي في البلدة في طفولتي إلا مقهىً واحداً أو اثنيْن، أحدهما كان على الشاطئ ويبدو من بنائه أنّه إيطالي الطّابع. وبعد الثورة الليبية سنة 2011 تغيّر كل شيء في البلدة، فعُبِّدَت طرق جديدة وصارت البساتين، مرابع الطفولة ومنتهى أحلامها، تختفي الواحدة تلو الأخرى لتُبنى بدلاً منها القصور والمنازل الواسعة الكبيرة، وندَرَ رؤية "سانية" أو بستان برتقال وسطَ البلدة، وتغلغلَ العُمران فيها وانتشرت الغابات الإسمنتية وأمكنَ للمرء أن يرى في شارعٍ رئيسٍ واحدٍ أكثر من خمسة مقاهي، فما بالك بالبلدة كُلِّها. تحوّلت البلدة أمام عيني، وكأي ابن بلد يتوق إلى زمن بلدته الجميل، وصرتُ أتحسّر على طفولةِ تاجوراء، وأتحسّر أكثر على فقدانها بساتينها البهيّة وأشجارها العظيمة التي كانت تظللنا وتحمينا من حرارة الشمس. ازدحمت تاجوراء واكتظّت بالسكّان. ومع ذلك الاكتظاظ تغيّرت، في عشر سنوات عادات السكّان وطباعهم وربما تفككت روابط اجتماعية قديمة بعد أن انتهت التجربة الاشتراكية في البَلد وتسارعت حمّى الثروة بعد ثورة فبراير، وما زالت البلدة الآن تواجه مخاضاً عسيراً لتشكّل روابط اجتماعية جديدة لم يعتَد عليها سكّانها الأصليون.
الكاتب الليبي محمد النعاس
لا أذكر وجودَ مقاهي في البلدة في طفولتي إلا مقهىً واحداً أو اثنيْن، أحدهما كان على الشاطئ ويبدو من بنائه أنّه إيطالي الطّابع. وبعد الثورة الليبية سنة 2011 تغيّر كل شيء في البلدة، فعُبِّدَت طرق جديدة وصارت البساتين، مرابع الطفولة ومنتهى أحلامها، تختفي الواحدة تلو الأخرى لتُبنى بدلاً منها القصور والمنازل الواسعة الكبيرة، وندَرَ رؤية "سانية" أو بستان برتقال وسطَ البلدة، وتغلغلَ العُمران فيها وانتشرت الغابات الإسمنتية وأمكنَ للمرء أن يرى في شارعٍ رئيسٍ واحدٍ أكثر من خمسة مقاهي، فما بالك بالبلدة كُلِّها. تحوّلت البلدة أمام عيني، وكأي ابن بلد يتوق إلى زمن بلدته الجميل، وصرتُ أتحسّر على طفولةِ تاجوراء، وأتحسّر أكثر على فقدانها بساتينها البهيّة وأشجارها العظيمة التي كانت تظللنا وتحمينا من حرارة الشمس. ازدحمت تاجوراء واكتظّت بالسكّان. ومع ذلك الاكتظاظ تغيّرت، في عشر سنوات عادات السكّان وطباعهم وربما تفككت روابط اجتماعية قديمة بعد أن انتهت التجربة الاشتراكية في البَلد وتسارعت حمّى الثروة بعد ثورة فبراير، وما زالت البلدة الآن تواجه مخاضاً عسيراً لتشكّل روابط اجتماعية جديدة لم يعتَد عليها سكّانها الأصليون.
الكاتب الليبي محمد النعاس
"الكتابة التي نريد ليست فرضا، ولا إجراء، ولا تحديا، ولا تباهيا، الكتابة التي نريد، هي أمر يحدث أثناء عيشنا مع الخفة، والبطء، والسذاجة، والغفلة، والصدق، والحب، والبذل، والتأمل، والعيش الدائم في دنيا الأدب، والفن، والجمال، في أثناء ذلك هل سنقبض على سرها؟
لا أدري! ".
طاهر الزهراني
لا أدري! ".
طاهر الزهراني