Telegram Web Link
أيْ بُنيّ، أوما تدرك أنّنا إلى نزيرٍ من الأدب والأخلاق الدّمثة أشدّ عَوَزًا منه إلى وفيرٍ من العلم ؟
مع تقاطع الغسق رقَّشتُ نصًّا، لكنّني، كما ديدَني، حِرتُ من إفشائه؛ أحسستُ أنَّ فيه لكنةَ شجنٍ متلعثِمة في حُنجور المفردات. مع أوّل تنهيدة ظهرَ يُرِيق الدّموع، فما عساي أن أفعلَ (ومحارِمي) الورقيّة مُخضَّلةٌ بالذِّكريات. بلى، أتفهَّمُ أنَّ الغمَّة فاتحة الارتواء، وأنّ القلم إذا لم يُنقَع أو يُغمَّس في دواة المناحةِ سيَهْتِكُ به العطش، وأنّ الكلمات المُنتَزعة منه عرضيّة وغثّة. حسنًا، الابتِكار علامتنا الفارقة الموغلةُ في الاكتراب، والاكتراب إشارة السَّرد النّثريّ الغارق في البُروء والإبداع، ليس من السَّلِس أن نسطِّر دون تأوّهاتٍ مرّة، وليس من المهارة والإتقان أن يفرُغَ النّصُّ من دمعة.
الدّمعةُ هي نفطُ الحياة... وشَطّ الإخلاص والوفاء، وهي جادَّة العبور إلى القلوب المُقفرة. المألوفون يتجاوَزون اليُمُوم على متن زورَق، والمنهكون يتعدَّون المحيطات، كما القفار، على مَتْنِ دمعة، والدّمعةُ ابتِئاسٌ وبهجة، والدّمعةُ أرقٌ وسُكنى، والدّمعةُ أَرْيٌ وحنظل. هِنِّاك حاجات لا تُلهْوِقها الحروف ولا تزركِشها، ولا تنهضُ بآهاتها كدمعةِ رقّةٍ درُّ الدّموع ما أشدّ أمانتها.
- من الذّاكرة.
أيْ بُنيّ، لا تكن مثل كثيرٍ ممّن أعرف، فإنّك إن تمكّنت من أن تروّض نفسك وتلجمها عن الحكم على الأمور بالكُلّية، والنّاس بخاصّة، حتّى تفقه بالفعل لا بالسّليقة أنّى تكون الأحكام، ربحت وزادت موازينك وربّ محمّد.
إيْ بُنيّ، أوما تدري أنّ (عزل!) المشيوخاء عن السّياسة وإماطتهم من الجادّة (ليس!) إقصاءً للدّين عن السّياسة ؟
بل إنّه (نبذ!) من لا يفقه عمّا لا يفقه، وإنّ في كثير من الأحايين ما يكون زجر المشايخ عن الحديث في الشّريعة والفتيا عينها (واجبًا!) لازمًا، وهو كذلك، أيضًا، من الباب نفسه تنحية من لا يفقه عمّا لا يفقه، وللّه المُشتكى.
أيْ بُنيّ، لقد نبضت قلوب الأناسيّ بالصّلف، والضّغينة، والغيلة، والتكلّف، والغيرة... في حين أنّهم تكاتفوا بمثالب المروءة والأنفة والتقام الكتف كلّها، وأضحت الأُبْنة، الأُبنة كلّها، أن تظلّ رجلًا !
- أيْ والدي، هل سندرك أنّنا مقصورو العقل ؟
- نعم.
ـ طيّب هل سنُقرّ بذلك ؟
- ألبتّة.
- حسنًا، ماذا سيحصل ؟
- سنزعم أنّ ذلك ظاهر العقل، لكنّ مقصوري العقل لا يمكن أن يفهموننا، بيد أنّ مَكِنةٍ الإنسان وسليقته على تشنيع البهيّ وزخرفة الشّنيع لا يمكن للخيال أن يطوّقها، وللّه المُشتكى.
تخيّل أن أقولَ لكَ إنّ ضرب الآباء ليس محرَّمًا؛ لأنَّ اللّه لم يقل لا تضرِبهما، بل لا تقل لهما أفٍ ولا تنهَرهُما، أستعُدّني مجنونًا وأقول قولًا معوّقًا ؟
الحال نفسها مع من يقول إنّ اللّه قال لا تستغفروا للكافرين، لكنّه لم يقل لا تترحّموا عليهم !!
اتّعِظ هو خيرٌ لكَ وأزكى.
أيا بُنيّ، رحتّ أشكّ أنّ نواكث الوضوء في عَوَزٍ لإرجاع النّظر فيها من أجل إلحاق ناقضين أو ثلاثة تُضمّ إلى ملمّات هذا الزّمن لولا أنّني أخاف من أن أكون مبتدعًا. إنّه من العسير جدًّا والوعر على من يُطالع بعض فضلات تلكم الأدمغة وبَرازاتها وبولها وروثها ألّا يستردّ الرّؤية في التنرّه المعنويّ وطهارته.
فبربّهم هلّا تطهّروا من بعد الاستنجاء بالتّيمّم فكرًا مُطهّمًا ومستساغًا إذا لم يغتسلوا بماء الوحي ؟
هل استعصت عليهم عزائمهم إلّا نجاسة ورجسًا مثل هذا ؟
هل أنا، حقًّا، أتّبع ديني وراثة ؟
- يا أبتِ، إنّه تكلّم عن الموضوع "الفُلانيّ" لأربع ساعات، ما شاء اللّه، إنّه مثقّف شديد الاطّلاع !

- أيْ بنيّ، أتظنّ، حقًّا، أنّ من تكلّم في موضوع ما لأربعِ ساعات مواظبة هو مثقّفٌ ونحريرٌ ولوذعيٌ مهيع الأدراك ومنبسط الاطّلاع ؟

- نعم، لمَ لا، وماذا تقصد ؟

- إذا كان ذلك قرينة وبيّنة على ثقافةٍ عريضة وبحبوحةٍ في الاطّلاع وبَذَخٍ في الدّراية، فإنّني أستنبط، إذًا، أنّ النّساء كافّة هن أشدّ النّاس درايةً والأكثر معرفةً وتضلّعًا على هذه البسيطة كلّها.

ـ معقول، كيف يعني هيك ؟

- إنّ في مَكِنةٍ كلّ امرأةٍ (وإنّ لكلّ قاعدةٍ دنيويّة ليست دينيّةً ولا رياضيّة شّذاذ) أن تتحدّث سبع ساعات متتابعات ودؤوبات، وبحيويّة مكتنزة، وشغفٍ مدرار، واندفاع واتّقاد وترغيب متدرّجٍ ومتزايد مع حذاقةِ افتتاحٍ، ومع مزركشاتٍ معنويّةٍ، وبهارات دِلاليّة، ومقبّلاتٍ لفظيّة، وتشبيه وتناصٍّ وترسّلٍ دون أن يكون هِنّاك موضوع من الأرومة !
إنّ العلم بالأرومات العلميّة جامدة لا يخور عنه أحد، لكنّ الصّدد كلّه دراية الاستثناءات.
إنّ الفقه بالمثيل يناله أغور الإنس فهمًا، بل إنّ المسألة الوعي بالتّباعدات والفروق، واللّه المستعان.
ما قولكم في حكم تكفير الرّافضة ؟
إنّ المنهج الرّافضيّ عينه كُفرٌ دامغٌ لا استراب فيه، وهو من أشدّ الفرق المعتزية، زورًا، إلى الإسلام ضلالًا وتجديفًا، لكنّني لستُ أهلًا لتكفير الأعيان نفسهم، بل إنّه متروكٌ لأهل العلم من العلماء الورعين، وإنّ مرتكب الكفر لا يُكفّر حتّى تُقام عليه الحجّة ويُستتاب، واللّه المستعان.
ثمّ ملمحٌ من الحكيمين النّحارير يقول بلهجة الحاذق المنتشي: لا تُعمّم، حتّى إذا جهرت مع كلّ شهيقٍ: بعض، وجزء، ومن، وقد، ولعلّ، وربّما، لا مناص، أيضًا، من (لا تعممّ). وإنّ السّديد أن نلجم هذا الملمح من الحكيمين بِهُوَة دلاليّة مثل: ولا تُعمّم أنت كمان في قولك (لا تُعمّم)، أو أن نوضّح له أنّ الحديث بالعموم من الحديث لا يُراد به التّضمين والكُليّة، وأنّ المتروكة الكُلّيّة في جسارة الجزئيّة، وأنّ الفرقان يتحدّث عن بني إسرائيل وأهل الكتاب والكافرين وأهل بكّة والنّاس والمؤمنين بإقرارات العامّة، ولم يفهم أحد أنّ في هذا جمعًا ألبتّة.
إنّ من بلاغة الحديث: الشّمول عند جلاء هدف التّخصيص والتّكبيل.
لقد أصاب ذلك الّذي تلفّظ أنّه يقترب أن تُبصر أنفارًا يلفظون الشَّهادة يلتمسون السّماح من مشركي أم القرى مكّة من معترك بَدر، هذا إذا ما يطلبوا المغفرة من أنّ الشّرك نُسِب إليهم من الأرومة !
للّه المشتكى.
حتّى إذا ما تأرجَح القلبُ المُبلّل بالجوى على عود الالتعاج، وفار التّنور دمًا عصيَّا، لاحَ الضّباب، وادلهمّ ليل القلب، وسَكُرَ الرُّوح، فتح القبر، وأخذت السّاعة تتمطّى، وصار الوقت جرعةً معبَّأةً بالخواء.
بلى، إنّني لا أجحدُ ألبتّة بأنّكَ قد تُمسي، حقًّا، كاتبًا وأديبًا، بل ربّما كاتبًا يقف على القُنّة، وعلى النّهج عينه الّذي فعلتْهُ زوج سقراطٍ بزوجها لمّا (جعلته!) فيلسوفًا، حتّى قال: يا بنيّ، تزوّج، فإن نجحت حييت محبورًا، وإن أخفقت صرت فيلسوفًا.
لكنّني أبتغي، الآن، أن أُجلّي لك حال نفرٍ ممن يُشنّر عليك ما تصنع ويقذعه في هذا العشيّ الّذي (يُجوِّز!) لك (الفيس) فيه أن تُذيع ما تسطّر ممّا (تظنّه!) حصافةً وكِياسة ورشادًا على رؤوس الدّهماء والأشهاد، فهم حينما يرونك تُرقّش (التّرقيش!) عينه الّذي كانوا يرقّشونه قديمًا في مذكّراتهم وكشكولاتهم المضمرة ثمّ يخرجون (افتِرارات!) وقهقهاتٍ من أنفسهم بعد سنوات قاحلاتٍ مجدباتٍ ويشكرون للّه على أنّها كانت محجوبة عن الملأ.
هذه هي الحكاية كلّها، وللّه المشتكى.
أيْ بُنيّ، إنّ قولك إنّ علم فلان حقّ نتاج شهرته إنّما هو من البلاهة والرّثيئة والرّعالة، فلا تجد مخلوقًا أشدّ شهرةً من إبليس الخنّاس عينه، في حين كم من نبيٍّ لا نحيط باسمه، ويصل يوم التّناد وليس معه أحد !!!
لا تجعل قلبك، يا أُخَيَّ، ينقبضُ، مواظِبًا، على جادَّة الحقِّ شمّاعة شُح عابريها ونقصِهم، ولا تهوي طريدة الرِّيبة إذا غَلُظ السّالكون فيها وازدادوا أيّما زيادة من بعد تَهتارِهم المُدقع.
- من الذاكرة.
2025/07/07 16:29:48
Back to Top
HTML Embed Code: