Telegram Web Link
Forwarded from رسائل..
#إضاءة_منهجية (٣)

هذه الإضاءة ستتضمن مزيدا من تسليط الضوء على الإضائتين السابقتين من خلال واقع الانحرافات الفكرية اليوم، وخصوصا الانحرافات الكبرى التي تصل للطعن في الإسلام والرسالات والله عز وجل

تحدثنا في الإضاءة الأولى عن ضرورة تصور الأساس الذي تحاكم له القضايا الكبرى بوضوح، وضرورة كونه قطعيا مبرهنا، وأشرنا في الإضاءة الثانية لأهمية العناية بالدليل والتركيز عليه، لأنه إذا ثبت وقطعنا بما يدل عليه، تبين أن كل ما يتوهم معارضته له ساقط، ولا بد من خلل أدى لتوهم حصول التعارض، وحين يسير الباحث عن الحق في ضوء الإضائتين تنحل له الإشكالات دون أن يتزعزع إيمانه، لأن توليد المغالطات والاستناد للجهل لا نهاية له، لكن هذه اللانهائية منتهية عند المسلم من البداية! لأن الاعتقاد المبرهن كاف في تيقن بطلان كل الشبه ولو لم يعرف المُعتقد كيفية ذلك تفصيلا.

وفي هذه الإضاءة الثالثة سأسلط الضوء على الإخلال المنهجي والمعرفي المؤسف الذي يقع فيه بعض المنحرفين عن الإسلام، وذلك حسب ما يتبين من مناقشتهم والاطلاع عن قرب على سير انحرافهم.

الواقع للأسف أن أصحاب الانحرافات الكبرى عن الإسلام لا يركزون بحثهم في أدلة صحة الإسلام -مفترضين أن ما لديهم من تصورات ومعلومات تشكلت من تربيتهم وتعلمهم السابق هي كل ما يلزمهم- ، بل يركزون في ما يرد عليه من إشكالات، ثم إنك تجد أن الإشكال نفسه غير مبني على أساس منهجي! بل يتضمن أوجها من الخلل والتناقض المنهجي، ومن ذلك:

١- أنهم يتناقضون فيحاكمون الإسلام بناء على مقدمة ضرورية لا يمكن الاستشكال على الإسلام بدونها، وهي إثبات الكمال لله، فينطلقون منها في استشكالاتهم ولا بد، لماذا ذلك؟ لأن كل شبهة أساسها أن الدين لا بد أن يكون كاملا، فكيف يكون كذا وكذا.. وضرورة الكمال هنا لأن الله ﷻ لا بد أن يتصف بالكمال..

لكن المنحرف يتناقض بشدة هنا، لأنه بجحده للدين الحق أو لله تعالى ينكر الكمال لله مع أنه هو واهب الكمال لخلقه وبدونه لا يفهم معناه وهو تعالى أولى به، أو ينكر لوازم الكمال مثل إرسال الرسل، فإن من لوازم كمال الله تعالى من جهة حكمته ورحمته بعباده ألا يتركهم هملا، بل يرسل لهم من يرشدهم ويجيب عن أهم تساؤلاتهم الوجودية.. فنجد أن المنحرف يتجه باستشكالاته الجزئية على أرضية الكمال إلى الجحد الكلي للكمال!

وليس المراد هنا أنه لا يمكن أن يستشكل الإنسان شيئا ويحاول فهمه إلا بالوقوع في التناقض، بل المراد تناقض من ينتقل من مرحلة محاولة الفهم مع يقينه بصحة الدين إلى مرحلة الطعن في الدين، وقد أوضحت في الإضاءة الثانية ما يتعلق منهجيا بذلك.

٢- أنه يبني استشكالاته على تصوره الخاص غير المبرهن عن الكمال، ثم يحاكم له الإسلام ، فيحاكم المبرهن إلى غير المبرهن.. يحاكمه مثلا إلى افتراضات غير مبرهنة مبنية على الثقافة السائدة في الغرب، دون أن يختبر تلك الثقافة، بل حتى دون أن يمتلك أسسا لاختبارها، لأنه بدون وجود الله وإرسال الرسل لا معيارية أصلا، بل نسبيات لا تنضبط، والعقول تتنازع ولا تقطع في مستوى التفصيلات الجزئية التي تورد عليها الاستشكالات، ولا بد من وحي ممن له كمال العلم والحكمة يفصل النزاع بينها.

٣- أنه لا ينطلق من بناء سليم من تصور طرق المعرفة وتسلسل البحث، والتركيز على الأدلة أولا ثم بحث الإشكالات، بل ينطلق من رؤية مختزلة للمعرفة، ثم يركز على الإشكالات ويبقى يدور في حلقتها، ويتكلف في إثباتها ولا يبحث بجدية عن الردود عليها، في سلوك يدل على تحيز هائل مشين، وعدم رغبة في ممارسة التفكير المنهجي النقدي والبحث الجاد.. وطبعا هذا له مظاهر أخرى مثل عدم القراءة الجادة وتضييع الوقت في التشغيب والاستهزاء والاختزالية(وتشمل هنا اختزال الدين في أشخاص غير معصومين أو طائفة غير معصومة، ثم تصوره في ضوء ذلك)، والغرق في المغالطات واستخدامها بكثافة لتوليد الشبه والإشكالات الزائفة

وبهذه الطريقة من الطبيعي أن لا يصل المنحرف لشيء ولا نصل معه لشيء، ولهذا فالموضوع يجب أن يبدأ من تصحيح النية والمنهجية، وامتلاك الصبر والجدية، وإلا فالفوضى والعبثية

والله المستعان
السؤال: لماذا ينسب ابن الزنا لأمه مع أنه لاتزر وازرة وزر أخرى

الجواب:

يجب أن ندرك (أولا) أن للجرائم آثار سلبية، والآثار السلبية يتحملها فاعل الجريمة، ولا يصح أن ننظر للحكم بربط الآثار بمسبباتها بأنه هو المؤثر السلبي، إذ هو جزء متعلق بالأثر، والمبدأ والسبب من الجاني، والحكم إنما يأتي لمعالجة السلبيات وتغليب المصالح وإحقاق الحق وحفظ الحقوق

ثم ليُعلم (ثانيا) أن هذه الآثار لا تحصل، وأحيانا لا انفكاك منها:

فعدم حصولها هو إذا كان للزانية زوج فالولد هنا ينسب لفراشه فلا تترتب مفسدة نفي النسب، إلا إذا لاعن الزوج، فحينها لا انفكاك منها، لكون الزوج بدوره يريد دفع مفسدة تلحق به، وهذا الحال من تعارض المفسدتين هو من شؤم تلك الجريمة.

ومن عدم حصول المفسدة ما يراه بعض أهل العلم في حالة أن الزانية لم تكن ذات زوج، وطلب الزاني استلحاق الولد به، فينسب إليه حينها عند هؤلاء العلماء

(ثالثا): يبقى الاستشكال منحصرا في حالة كون الزانية غير متزوجة، ولم يطلب الزاني استلحاق الولد، أو على قول من لا يرى إلحاقه لو استلحقه، فحينها يجاب بأن ما يحصل للابن من مفاسد هو من آثار المعصية، ووصولها له مع عدم جنايته كولد هو من باب البلاء، وهذا ليس خاصا بهذه المسألة بل هو ملحظ عام في باب العقوبات، فالسمعة التي تلحق أي جان عوقب بعقوبة معلنة تؤذي ذويه، والسجن والتغريب والقتل كلها عقوبات ولها آثار متعدية، وذلك من باب اغتفار المفسدة الأدنى لتحقيق المصلحة الأعلى، لا سيما أن منشأ تلك المفسدة هو المعصية، فالأثر السلبي ينسب لها لا للحكم الشرعي، لأنه لم يبتدأ المفسدة، بل جاء بما يغلب جانب الصلاح ، وجانب الفساد سببه هو الجاني.

وأخيرا هذا رابط فيه تلخيص الكلام في حكم لحوق الولد بنسب الزاني:

https://islamqa.info/ar/192131

والله أعلم
Forwarded from رسائل..
‏"لابد ان يكون مع الانسان أصول كلية يرد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل"

منهاج السنة

👆🏻 تغريدة بتويتر قرأتها

ومنها إلى الإضاءة الرابعة..

#إضاءة_منهجية (٤)

كثيرا ما لا يفهم الحكم أو التصور الجزئي بصورة جيدة إلا برؤية موقعه بالنسبة للكلية.. وهذا أمر ملحوظ حتى في شؤون دنيانا، فأنت لو نظرت لرجل يوبخ طفلا ونزعت الصورة الكلية من الموقف، فسترى قسوة وعنفا، فإذا استحضرت كلية الأمر وهي أن الأب مؤدب ذو إشفاق وأن المفاسد الصغرى تحتمل لتحقيق المصالح الكبرى، لرأيت الأمر مستساغا حسنا، خاصة إذا كان بقدر الحاجة دون إفراط

وكذلك من علم كليات الشرع أدرك سر كثير من المسائل التي قد يستشكلها من ينظر لها بمعزل، وللتمثيل لذلك يمكن مراجعة هذا المقطع من برنامج كامل الصورة :

https://m.youtube.com/watch?v=eZXGT6C7B2Q
Forwarded from رسائل..
#**فاصل**

#إضاءة_منهجية (٥)

كثيرا ما يكون الخطأ الذي تكمن جذوره في المنهج أشد ، لأسباب منها:

١- انحراف المنهج يستمر وربما يزيد مع الوقت

٢- انحراف المنهج سببه اقتحام الكلام والعمل بالجهل، فهو ناشيء عن خطأ مبدئي معلوم لدى الإنسان، فينم عن إصرار

٣- انحراف المنهج يمكن تلافيه بالتعلم والبناء المنهجي المعرفي، فينم وقوعه عن استهتار

٤- انحراف المنهج يمثل انحرافا في مستوى الأصول والقواعد

مثال:

من قواعد الشرع مراعاة غالب الأحوال، وبناء الأحكام على الأوصاف الظاهرة المنضبطة التي ترتبط بالحكمة من الحكم غالبا (وليس بالضرورة دائما).. ونتيجة لذلك فإن الشريعة تبيح القصر في السفر مثلا، ولا تربط الحكم بحكمة المشقة، لأنها أمر -مع كونه مقصودا- لكنه لا ينضبط، لتفاوته كثيرا بتفاوت الأشخاص والأحوال، فربط الحكم بالسفر لأن المشقة مظنونة فيه مع كونه منضبطا، حتى لو لم تحصل المشقة أحيانا ببعض صوره..

هذا في جانب التيسير

والشريعة تعني كذلك بالاحتياط لمقاصدها، فتحيط المفاسد العظيمة بسور يمنع الوصول لمقدماتها والأمور التي يظن وقوع المفسدة عند الوقوع فيها غالبا (ولو لم يكن ذلك دائما)، ومن أمثلة ذلك إيجاب وتحريم بعض الأمور التي قد تفضي لمفسدة الزنا، وتشريع نظام كامل لآداب التعامل بين الجنسين..

فمن لا يعرف قاعدة الشرع ويفهمها ربما يستهين بهذا النظام ويبيح لنفسه بعض المقدمات كالنظر للمرأة المتبرجة بحجة أنه يأمن المفسدة كما يزعم! وهذا لا يفيد شيئا، فالحكم مرتبط بنفس النظر لا بالحكمة منه.. وهذا الخلل راجع كما ترى لعدم فهم قاعدة منهجية شرعية.. وقس عليه

فالإنسان إما يبني نفسه منهجيا بالتعلم المنهجي قبل إن يتهجم على الحكم، أو يحترم التخصص ويتواضع ويستفيد ممن يثق بعلمه ودينه من أهل التخصص
#الفروق_الفقهية من أهم ما تدفع به الاستشكالات والشبه على الأحكام الشرعية، لأن مدخل كثير من الاستشكالات هو توهّم تسوية الشرع بين المختلفات، مع الغفلة عن فرق مؤثر لم ينتبه له المستشكل

مثال ذلك استشكال عرض البارحة لأحد السائلين، خلاصته أن الشرع منع التبني لحِكم منها عدم اختلاط الأنساب، لكنه جعل الولد للفراش (للزوج) إذا زنت المرأة المتزوجة، كما جاء في الحديث: (الولد للفراش وللعاهر الحجر).

وجواب الاستشكال يكمن في الفرق، وهو أن التبني كذب صريح قاطع في النسب ولا شبهة فيه ولا أصل له يرجع إليه، بينما حمل الزوجة بمولود أمر فيه شبهة الفراش ، والفراش هو الأصل المستمر ، والأصول يستمر عليها في الحكم لتستقر الأحكام ولا تضطرب بالشكوك والاحتمالات، خصوصا إذا كانت تلك الأصول قوية كما هنا، لتعلقها بجانب ضروري، وهو حفظ الأعراض والأنساب عن أن يخاض فيها بالاحتمالات، فتنشأ عن ذلك مفاسد عظيمة

ومع ذلك فإن جانب نفي النسب يمكن الانتقال عن الأصل إليه إذا تقوى وصار صالحا للمعارضة، وذلك بملاعنة الزوج، إذ هي شهادات مكررة مغلظة، وبهذا نجد أن الشرع كعادته يوازن بين المقاصد والمصالح بطريقة منتظمة تحقق استقرار الأحكام، وتراعي بنفس الوقت طروء العوارض على محال تلك الأحكام وما يستتبعه ذلك من مصالح ومفاسد توازن بينها الشريعة وتقدم الأحق بالتقديم منها
Forwarded from رسائل..
#فاصل

#إضاءة_منهجية (٦)

من المعلوم أن الحقائق تثبت بالأدلة، لذلك فإن إقامة الدليل على ما يعتقده الإنسان بطريقة صحيحة من الأمور المهمة جدا.. ولذلك يرتبك بعض الناس حين يرد على بعض أدلة المسائل اعتراضات أو شبهات، وأحيانا يغفل هؤلاء عن قواعد مهمة تضع تلك الاعتراضات والشبه في حجمها الصحيح، وتبين أنه لا داعي للارتباك الذي قد يصيب البعض.. وهي:

(بطلان الدليل المعين ليس دالاً على بطلان المدلول)

و

(صحة المدلول لا يلزم منه تصحيح كل دليل مستعمل في الدلالة عليه )

توضيح: لتبسيط هذا الموضوع يمكننا أن نضرب مثالا بعلامات الحياة:

فمن علامات الحياة مثلا أن الشخص يمشي.. فلا يمكن أن نرى شخصا يمشي وهو ميت.. إذاً المشي دليل على الحياة..

لكن ما ذا لو رأينا شخصا مصابا في حادث وصار مقعدا لا يمشي أبدا.. هل يلزم من ذلك عدم المدلول؟ أي هل يلزم من انتفاء دليل المشي انتفاء المدلول وهو الحياة؟ طبعا لا.. لأنه قد ينتفي الدليل المعين ويبقى المدلول وتدل عليه أدلة أخرى, مثل كون هذا الشخص يتنفس

وبالنسبة للقاعدة الثانية (صحة المدلول لا يلزم منه تصحيح كل دليل مستعمل في الدلالة عليه ):

يمكن استعمال نفس المثال, فنقول:

صحة كون فلان حيا لكونه يتنفس, لا يستلزم أنه لو استدل شخص لحياته بكونه أبيض البشرة أن يكون استدلاله ذلك صحيحا, إذ قد يكون الميت أبيض البشرة.. فالبشرة البيضاء قد يتصف بها الميت, فليست بذاتها دليلا صحيحا للحياة, حتى لو كان الشخص الذي استدل لحياته بذلك هو شخص حي بالفعل

وبناء على ما سبق، فإن قيام دليل صحيح - ولو كان واحدا- على الحقيقة يكفي ، ولا يضرنا أن تورد على أدلة أخرى يستعملها البعض - وقد لا تكون صحيحة بيقين- اعتراضات
Forwarded from رسائل..
#إضاءة_منهجية (٧)
(١-٢)

يقع تصور دور العقل وحدوده في صميم موضوع ضبط المنهج, والذي يؤدي الخلل فيه لآثار منهجية معرفية ضخمة, من أبرزها عند من يغلون في تصور العقل ودوره: اعتبار الرجوع للعقل كمرجعية ومعيار مركزي أمرا حتميا, مع تهميش مضامين الوحي والتسلط عليها بالرد أو التحريف لمضامينها الصريحة، وفيما يلي عدة نقاط تعالج هذا التصور المغالي:

أولا: هناك شرط ضروري لما يصلح لاتخاذه مرجعا ومعيارا لتمييز الصواب والخطأ، وهو ضرورة أن يعطي أحكاما مطلقة تصلح بإطلاقها لمحاكمة القضايا إليها، إذ بدون الإطلاق ستكون هي محتاجة لما يثبتها, فلا تكون هي بذاتها المعيار.

ودعونا نوضح معنى هذا الشرط مع بحث توفره في العقل بالمثالين التاليين:

مثال١: يحكم العقل بقبح الظلم بصورة مطلقة، فيمكن أن نقول أن العقل معيار في مثل هذه القضية الإجمالية، إذ لا تختلف العقول فيها وتقضي بها قضاء ضروريا، لكن ماذا لو نزلنا للمستوى التفصيلي لنتناقش في نوع معين من المعاملات المالية هل هو ظلم أولا؟ ستتنازع العقول ونجد ألا معيارية حقيقية فيها، لأنها خرجت من مساحة الإطلاق الضرورية المشتركة، إلى مساحات النسبية والنظرات الخاصة المتفاوتة، والتي تنشأ من تجارب عقلية محدودة بدائرة حياة الإنسان وخبراته، وتفتقر للحسم إلى أمر خارج عن مجرد العقل الخاص، يكون مصدره العلم المطلق (الوحي)

إذا من خلال الشرح والمثال السابق نجد أن ثمة مشكلة في التطرف في النظر لدور العقل وقدرته المعيارية، فثمة من يغلو ويجعله معيارا بإطلاق، وثمة من يجعله في الطرف المقابل محدودا بنسبية مطلقة! وهو طرح النسبية الذي لا يتفق مع التصور الإسلامي (الحق/الباطل)، كما أنه قبل ذلك ذاتي الدحض, أي يدحض نفسه, فالنسبية المطلقة أمر مطلق لا نسبي! ومن يقول: الحقيقة نسبية ولا توجد حقائق مطلقة! نقول له: قولك نسبي وليس حقيقة مطلقة!

مثال٢: ندرك -كما سبق- بالعقل أن العدل حسن والظلم قبيح, وهذا الإدراك صحيح لأنه يستند لقيمة مطلقة فطرية أودعها الله في عقولنا, لكن لو بحثنا بالعقل وحده في بعض صور ومقادير العقوبات, فيتصور أن يقول بعضنا بأنواع ومقادير ويخالفه الآخرون في مناسبتها أو كفاية مقدارها, فحيث يدعي البعض أنها كافية في ردع الجريمة, سيرد آخرون بأنها لا تكفي, أو أنها قاسية ويغني عنها غيرها, فيدعي آخرون بأنها لا تغني, وهكذا تموج الآراء في نسبية لا تنتهي لسبب بسيط, وهو أن العقل نزل لمستوى تفصيلي تتنازعه العقول تنازعا لا ينحسم إذا لم تستند لمرجعية مطلقة, ولا وجود لتلك المرجعية في ذات العقل استقلالا, بل توجد فيما دل عليه العقل من مرجعية الوحي المطلقة, لكونه من عند الله, الذي وسع كل شيء رحمة وعلما, فحكمه هو الحق وحده سبحانه وهو أعلم بما يصلح خلقه.

يتضح مما سبق أن شرط الإطلاق يوجد على مستوى الضرورات والأحكام المطلقة، ويفقد مع النزول للتفصيلات، فيفتقر العقل لمرجعية تكون في نفسها مطلقة، تصلح معيارا يتحاكم له العقل في تلك التفصيلات (الوحي)

ثانيا: نقول بناء على ما سبق: مساحة الإطلاق في العقل موجودة, لكنها مساحة محدودة, تكاد تنحصر في ضروريات العقل (كمبدأ السببية واللاتناقض) والأحكام المطلقة كالأربعة عدد زوجي لقبولها القسمة على اثنين, والأخلاق المطلقة كالعدل بمفهومه العام، وما ينبني لزوما بصورة قطعية على هذه الضروريات, وهذه المساحة المعيارية تتناول القضايا الإجمالية الكبرى، ثم تنتفي كل ما اتجهنا لمستوى التفصيلات، ويحل محلها النسبيات اللامعيارية(آراء ووجهات نظر نسبية)، والتي تمتزج بالتحيزات والعواطف والانطباعات النسبية وغير ذلك, وبالتالي فإنه يتضح لنا أمران:

الأمر الأوّل: أنّ ما يطلق عليه عقل ليس كله شيئا واحدا, بل منه مطلقات قطعية ومنه ظنيات ومنه أوهام ومزاجات وأذواق، فهناك عقليات مطلقة ضرورية مشتركة، وهناك نسبيات خاصة متفاوتة, وهذا ينافي التصور المغالي في العقل الذي يصوره شيئا واحدا معياريا وموثوقا بإطلاق.

الأمر الثاني: ضرورة الإنسان للتشريع الإلهي وبقائه لصلاح البشر المفتقرين إليه، وهذا ما لبته الشريعة التي أنزلت عامة لكل زمان ومكان وكفل الله ﷻ حفظها.

ثالثا: في ظل ما سبق، دور العقل مع الوحي هو أن يدرك ابتداء صحة الرسالة بمساحة الإطلاق التي لديه، فصحة الرسالة تنبني على ضرورات العقل من السببية وإدراك التلازم في الأدلة والآيات التي بثها الله تعالى وأنزلها نورا وهدى للناس, ثم يسلم للوحي مرجعا ومعيارا مطلقا لكونه من عند الله تعالى، الذي له الحكم المطلق والعلم المطلق والعدل المطلق، ويوظف أدواته لفهم وحيه وتنزيله على الوقائع، وهذا ما استفاضت الآيات بالدعوة إليه وبيان أنه محور مركزي للرسالات.

وبهذا يتحقق التوازن في نظرتنا للعقل مع الوحي وينضبط استعماله منهجيا, في ظل معرفة بحدوده ووظيفته واحتياجاته، وبهذا يسقط ما يروج هذه الأيام من تسليط ما يظن أنه عقل معياري من النسبيات والعقليات الخاصة على نصوص الشريعة ردا وتحريفا باسم العقل!

يتبع..
Forwarded from رسائل..
#إضاءة_منهجية (٧)
(٢-٢)

- سيقول بعضهم: هذا تقليل من دور العقل، فلا يكون له دور سوى التسليم للوحي! والجواب: هذا الضبط المنهجي ليس تقليلا أبدا، وخذ هذا المثال ليتضح لك ذلك: عندما يدلك نظرك العقلي لاختيار طبيب حاذق، فهل أخذك بعد ذلك بما يقرره لك من علاج بالقبول دون معرفة بالتفاصيل والخلفيات الطويلة للتشخيص والعلاج، هل هذا منقصة للعقل؟ أم هو عين العقل!

إنه لا شك عين العقل،إذ كيف يحاكم العلم للجهل؟! فلله المثل الأعلى، كيف نحاكم علم الله لعلمنا نحن بمحدوديته، ولعقولنا بنسبيتها، فضلا عن ما يفعله البعض من المحاكمة لأوهام مشبعة بالأذواق الغربية والهزيمة النفسية، أو فلسفات تؤله الإنسان وتجعله مركز الوجود تحت مسميات كالإنسانية، وتطغيه وتحاول رفعه عن الخضوع لحكم ربه باسم الحرية

- سيقول بعضهم لاجئا للوحي كملاذ أخير! : إن القرآن أورد العقل كثيرا في سياق المدح، فأين تذهبون عن ذلك!؟

فنقول: دعا القرآن لإعمال العقل الذي فطره الله وفطره على البناء على الضرورات العقلية ليهتدي لخالقه ويخلص له عبادته، فينظر في آيات الله ﷻ الكونية والشرعية فيهتدي لاتباع ما أنزل الله ﷻ وإسلام النفس له والسمع والطاعة لأمره والتسليم لحكمه، وهذا صريح القرآن يدعو لذلك، فأين منه هذه الدعوات لحرف العقل عن مساره إلى ظلمات لا يبصر فيها، فليس كل مبصر يبصر على كل حال دون نور واتباع

ثم إن العقل في القرآن إطلاق شمولي يتناول عقل النفس وإلزامها التسليم والطاعة لله، ومنعها عن الانفلات في مجاري الهوى والشهوات، فالعبادة عقل واجتناب ما يغضب الله عقل وتقديم الآخرة على الأولى عقل، فأين هذا من ذلك الاختزال للعقل بل وإقحامه بالغلو فيه إلى ما لا يملك فيه إلا التسليم في افتقار للوحي

نسأل الله أن ينير عقولنا ويرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه.. والله ﷻ أعلم.. وصلى الله على نبينا محمد
Forwarded from رسائل..
نقد الموروث وشناعة اللوازم

تطل علينا كل فترة صيحة جديدة فيها هدم لثوابت الشريعة تحت مسمى نقد الموروث، وهذه نقاط فيها رد لكل التلبيسات التي تطرح تحت هذا العنوان:

١/ ما يطرح كنقد للموروث المجمع عليه فاسد قطعا، لأن تخطئة المجمعين معناها أنهم اجتمعوا قرونا على ضلال، ولم يفهم أحد منهم الوحي!

٢/ تخطئة المجمعين في نقد الموروث تخالف العقل، فالعادة تحيل أن يجتمع القرن وراء القرن على أمور ينسبونها لدلالة الوحي ويكون فهمهم كلهم خاطئا! أأغبياء هم؟! استغفر الله

٣/ تخطئة المجمعين في نقد الموروث تعني أنهم لقرون ما انتفعوا بعربيتهم ولا أسعفتهم عقولهم ولا أدركتهم رحمة وهداية ربانية تبصرهم !!

٤/ تخطئة المجمعين في نقد الموروث تكذيب للقرآن،فكيف يكون بيانا مبينا ونورا وهدى وحكما محكما ولقرون يخطأ المجمعون فهم القضايا الأساسية التي تكرر تناوله لها!!

٥/ هذه اللوازم الشنيعة وحدها كافية لنسف تخاريف نقد الموروث الذي يتضمن تكذيب أصول الشريعة ومحكماتها وماعلم منها بالضرورة.
Forwarded from رسائل..
مهما بلغت درجة الانحراف .. لا يوجد أحد أو جماعة يمكن أن توصف كل أفعالها بالشر المطلق.. وبالتالي فإن تحويل أي أحد أو جماعة -مهما انحرفت- إلى معيار للشر المطلق في كل المسائل هو أمر خاطئ، ولا بد من التعويل على المطلقات كمعايير، فنرجع للوحي لتمييز الصواب من الخطأ، فهو المطلق المعصوم المبرهن

إن أولئك الذين يتخذون أفرادا أو جماعات معيارا مطلقا للشر يحيدون عن التأسيس الموضوعي للأحكام إلى التهييج العاطفي، ثم توظيف ذلك في تمرير ترهاتهم وتناقضاتهم، حتى تجد من يستعمل نفس المعيار الزائف لرمي خصمه بالانحراف، في حين يستخدم خصمه ذلك أيضا مع ذات الخصم، في مهزلة فكرية تصيب بالغثيان، ولم يلجئهم لذلك بلا شك إلا الرغبة في الخلط وتمرير الأفكار التي لا تصمد أمام التمحيص العلمي الرصين، وتلك حيلة الضعف، ولا بد تنهار وتنكشف وإن أعمى سطوعها وهياجها عن رؤية ما ورائه من الهشاشة

إن من يقبل أن يمرر عليه المعيار الزائف للتهييج العاطفي تحت ستار محاربة الانحرافات، يصيب ربما في مسائل لكنه سيخطئ في أخرى دون أن ينتبه للخلط والتلبيس الذي يمارس، وسيكون ثمن ذلك غاليا حين يبدأ في قبول شيطنة مفاهيم وأحكام شرعية قطعية الثبوت إما لقطعية ثبوت النص الدال عليها أو قطعية نقلها عن العمل النبوي والراشدي وعمل الصحبة، كما في مسائل العقوبات الشرعية والأحكام المتعلقة بالجهاد في سبيل الله، وغير ذلك مما يتصادم في بعض جوانبه مع المزاج العلماني والليبرالي، حتى لو استبعد منه ما ليس منه من الغلو والانحراف في التطبيق

إن من يضع يده على انحرافات اليوم عن محكمات الشريعة يجد أن ثمة من يصمد كثيرا، ثم ينهار أمام سطوة فزاعة ذلك المعيار العاطفي الزائف والستار الخادع، وكأنه قد غطى عقله لكي ينساق لشعور النفور الذي يصنعه الضخ المستمر من الشيطنة الهوجاء، التي لا تعرف محكما من متشابه، ولا حراما من حلال، إلا ما أشربت من هواها!

فيا أولي الألباب اثبتوا واعتزوا بهدي النبي ﷺ والنور الذي أنزل معه، فبه تعرفون ما هو انحراف مما هو حق، فتمسكوا به ولا تستخفنكم معايير زيف الذين لا يوقنون..


#إضاءة_منهجية (٨)
Forwarded from رسائل..
#إضاءة_منهجية (٩)

{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف : 33]

دلت هذه الآية على أن القول على الله بغير علم من أعظم الكبائر، ومن ذلك التخرص في كتاب الله فيما لا يعلم من تفسير رسول الله ، أو ما لا يعلم معناه باللغة من الأسماء والأوصاف التي لا تتضمن ما لا يعلم إلا ببيان النبي كالهيئات للعبادات والمقادير ونحو ذلك، فيتخرص المتخرص فيه دون مستند، أو يحمله على ما يهوى ويريد

وهذه القاعدة إذا تأملتها تنقض صنيع الذين يزعمون التنوير وإعادة القراءة وفق المزاج العصراني المتشرب بالفلسفات العلمانية وتأليه الإنسان، فإنهم ينطلقون من خلفياتهم ثم يتعسفون القول على الله بغير علم وبتعال يزعمون أنه لم يفهم مراد الله ﷻ أحد غيرهم، بل لسان حالهم أنهم بما يتوهمونه عقلا -وهو محض أهواء- أعلم بمراد الله ﷻ من رسوله ﷺ ومن صحابته وسائر أمته التي ضلت عن هذا التنوير المزعوم ولم يفلح في هدايتها نبي الله ﷻ ولا كتابه، حتى جاء المجترون لزبالات أفكار الفلسفات الغربية فاكتشفوا أن الأمة كانت تغرق في ظلمات من عهد رسول الله ﷺ حتى جاءوا لينقذوها!!

ولا أشك أن مصير هذه المحاولات كلها الفشل الذريع بحول الله ، لأن كتاب الله فيه بيان المنهج الصحيح للفهم عن الله ﷻ ، وفيه بيان مسلك المنحرفين الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله على أهوائهم ، وأنه لا يتدبر كتاب الله ﷻ عاقل مخلص إلا خلص من حبائلهم ولم يضره كيدهم، وإنما ينجر خلفهم من يبحث لنفسه عن ما تشتهيه من النفوذ للشهوات والأهواء

والله المستعان على ما يصفون

إضاءات ومواد ذات صلة:

https://www.tg-me.com/ttangawi/109

https://www.tg-me.com/ttangawi/191

https://youtu.be/Pdl8SXZNUPI
Forwarded from رسائل..
#إضاءة_منهجية (١٠) : أزمة ثقة !

لدينا اليوم أزمة ثقة، أو بصياغة أدق: افتعال أزمة ثقة ، تفتعل لتضرب الثقة بالدين في صميمه بطريقة ملتفة قد تمر على الإنسان دون الانتباه لطبيعتها الهدمية الشاملة، ليظن أنه بصدد طرح نقدي تشكيكي جزئي، لا يتعدى الجزء، ولا يخرج عن دائرة التصحيح، وهذا كل ما في الأمر!

وقد تحدثت في منشور سابق عن نقد الموروث وشناعة اللوازم ( https://www.tg-me.com/ttangawi/109 ) ، وبينت فيه أن تخطئة المجمعين باسم نقد الموروث يلزم منه لوازم باطلة عقلا، ولوازم شنيعة تتعلق بالقرآن وما فيه من صفات وأخبار، ومثل هذا التبصر في لوازم القول هو ما يجب التنبه له في سياق أزمات الثقة التي تفتعل بعمومها.

أزمات الثقة التي تفتعل اليوم متنوعة، بعضها يتعلق ببيان القرآن وإحكامه وهيمنته وشموله لعموم الأحوال، وبعضها يتعلق بحجية السنة وعمومها، وبعضها يتعلق بنقلها والثقة فيه، أو بالناقلين من رواة ومؤلفين، أو بالموثقين والناقدين للأسانيد والمتون ومناهجهم في ذلك، أو بالتشكيك في ديانة وأمانة من تصدوا من علماء الأمة لبيان دلالات الوحيين وفقههما وتنزيلهما على الوقائع، إلى غير ذلك من صور التشكيك.

إن افتعال هذه الأزمات لا يخرج في تناوله لتراث الأمة عن جانبين: جانب الاجتهادات غير المعصومة، وجانب ما اجتمعت عليه الأمة، أو لنقل: جانب الجزئي وجانب المجموع، ولعبة هذه الافتعالات هي أن تأخذ مظهر تناول الجزئي بأطروحات حقيقتها الطعن في المجموع المعصوم!

ولنضرب لذلك مثالا لكشف هذه الألاعيب: يقول لك المتلاعب: العصمة للقرآن، وأما السنة فدونه في الثبوت، ويبدأ في رمي شبه متنوعة كما سبق وأشرنا.. فنقول:

بغض النظر عن تفاصيل تلك الشبه، يدرك المتبصر أن هذا الطرح ليس كما يبدو جزئيا في تناوله، بل هو يعود بالنقض على المجموع، إذ بإسقاط الثقة في نقل السنة بصورة تجعل التحقق من صحتها أمرا ممتنعا أو غير معياري خاضع للأهواء والانتقائية والقوالب الخارجية الجاهزة، يعود الإسقاط على حفظ القرآن وهيمنته، لأن السنة بيان القرآن كما قال تعالى: {لتبين للناس ما نزل إليهم}، كما يعود ذلك بنقض أصل طاعة الرسول التي هي طاعة لله {من يطع الرسول فقد أطاع الله} {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله} ويسد باب الاهتداء {وإن تطيعوه تهتدوا} والتأسي{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} ، فالتشكيك الذي يجعل السنة كلها محل تشكيك وضياع، يعود بالتشكيك على القرآن والأصول الشرعية التي دل عليها

كذلك التشكيك في حفظ الصحابة والتابعين للسنة عبر إثارة موضوع تأخر التدوين لقرنين، مع أن التدوين ثابت مستفيض قبل ذلك (انظر عن كثرة التدوين خلال المئة والخمسين عاما الإولى: https://t.co/exgLcMo3pS )، وهو على أية حال ليس وسيلة الحفظ الوحيدة، لكن مربط الفرس أن هذا التشكيك الذي يبدو إشكالا جزئيا منعزلا يعود بالطعن على أمانة مجموع الصحابة والتابعين، بما يسقط الثقة في نقلة هذا الدين بجملته، فانظر كيف تثار الطعون الكبيرة بهذه الأساليب الملتوية الخبيثة!

وقل مثل ذلك في الطعن في منهجية المحدثين في نقد الأسانيد والمتون وتصويرها بصورة سطحية، رغم تعقيدها وشموليتها وعمقها ودقتها، وذلك من تجليات حفظ الله للسنة التي هي بيان للقرآن (انظر لفكرة عن ذلك:
https://t.co/OomG61HaPN
https://t.co/nioW2hGsNk
https://t.co/wtBA72s2WH ) ، فيصور لك المتلاعب أن الموضوع متعلق بجهد بشري، ويحاول أن يستغفلك عن خصلة الخيرية وعصمة المجموع التي تقتضي حصول الحفظ بمجموع ما ألهم الله هذه الأمة لابتكاره وتفعيله من مناهج التوثيق والنقد الفريدة التي لم تسبق لها أمة!

وقل مثل ذلك في طعن الفقهاء وتصويرهم بأنهم عصابات قامت بمؤامرة تاريخية غيبت الأمة عن حقائق دينها (انظر إضاءة سابقة عن ذلك: https://www.tg-me.com/ttangawi/212 ) ، دون أن يفلت أحد من هذه المؤامرة فيكشفها بهداية من كتاب الله ﷻ وقولة حق ينجو بها يوم القيامة، فيصور لك الأمة عمياء متخاذلة اجتمعت على الجهل والتآمر، وكأن الصحابة لم يحفظوا الدين ويبلغوه ولم يربوا تابعيهم عليه، فلا زالت حلقات الظلام مستحكمة حتى جاء سكارى التأثر بالفلسفات الغربية لينقذوها بزعمهم!

الحاصل أخي القاريء، لتنقض كل هذا الهراء، اعكس الآية، وابدأ من القرآن العظيم، واعتقد ما فيه من أصول، واجعل حفظ نقله وحفظ بيانه منطلقا، تجد أن ما أجمعت عليه الأمة هو سلسلة قوية مترابطة تتسلسل معك بنقاء، وستجد أن كل تشكيك يورد هو مغالطة لو بحثت جيدا في ما يقابلها لوجدت أنها تنطلق من جهل أو تجهيل بعظمة هذا الدين وعظمة ما خلفه حملته بمجموعهم، وستكتشف أنه لولا الجهل بذلك لما راجت أزمة ثقة! وأنها حقيقة أزمة جهل! فثق بدينك وحفظه وبما اجتمعت عليه أمتك. والحمد لله رب العالمين
Forwarded from رسائل..
#إضاءة_منهجية (١١) : أنت صاحب موقف مسبق! (١/٢)

هكذا يقولون: تخلص من مواقفك المسبقة.. عليك أن تتسائل .. عليك أن تشك.. بغير ذلك لن تتيقن ولن تكون عقلانيا!

هذه التعبيرات أو ما يشبهها تطرح كثيرا كأسلوب لزعزعة موقف الإنسان في ما نشأ عليه، وربما طرحت كذلك على المسلم لتشكيكه في دينه أو ثوابته عموما، وثمة مغالطة كبيرة في تعميم هذه الفكرة، وتوظيفها للتسوية بين المختلفات والتشكيك في القطعيات، ولنكشف ذلك فيما يلي:

أولا: ليس كل ما نشأ عليه الإنسان في مرتبة واحدة من الصحة والبطلان والقطعية والظنية، وبالتالي ليس كل ما نشأنا عليه يستدعي الشك وذم التمسك به لمجرد أنه مما نشأنا عليه، فإن مما نشأنا عليه ما لا يقبل عاقل الشك فيه أصلا كالقضايا الفطرية والعقلية القطعية، فمن الذي يشك في كون الجزء أصغر من الكل، أو الواحد مع الواحد يساوي اثنين، أو في ضرورة السبب للمسبب!

ثانيا: التفكير السليم والعقلانية هو البناء على الفطرة والضرورات العقلية وإدراك ما يترتب عليها، أي أن ننطلق من الحقائق الثابتة ثم نستخدم قواعد العقل لبناء المعارف، فنستدل مثلا بمبدأ السببية وعدم التناقض وإدراك التلازمات بين مقدمات الأدلة ونتائجها لتتطور المعرفة، وهذا الطرح بعمومه حين يشكك في ما علمناه وتوصلنا إليه وفق هذا التفكير السليم، هو في الحقيقة مرض ووسوسة! ولذلك:

ثالثا: نجد أن القرآن أمر بالتفكر في الآيات ليتيقظ الإنسان لما تقتضية الفطرة ونظر العقل الصحيح، فيتنبه لما يلزم من تلك الآيات من معارف، فيرى فيها آثار صفات الخالق، ويشعر بعظيم حقه، ويتجه لتوحيده.. ومن حاد عن هذا السبيل قيل له في استنكار {أفي الله شك فاطر السماوات والأرض}، فالشك في وحدانية الله وفي صحة الرسالة ليس أمرا عاديا يتفق مع العقل والفطرة، لأنها ثابتة بأدلة قطعية، بل لا بد للشك في ذلك من وسوسة وخلل في منهج التفكير، وهذا لا يختص بهذه الأصول الكبار، بل أن ما تستلزمه من طاعة الله ورسوله والتسليم لأحكام الله وتصديق خبر الوحي بتفاصيله يدخل في ذلك، لأن ما استلزمه القطعي قطعي.

وبهذا تتنبه لمغالطة بعضهم بأن يورد لتأييد هذا الطرح الآيات التي تتضمن الدعوة لإعمال العقل والتفكر، فنقول: ما سبق من التفكر الصحيح الموافق للفطرة والآيات الدالة على صحة حقائق الدين وصدق الرسالة هو المقصود بهذه الآيات، ولم يدع القرآن للشك في الفطرة والنظر السليم! بل ذلك مرض، ولذلك حين ورد في القرآن ورد مورد الاستنكار، ففي الشك في الوحدانية {أفي الله شك فاطر السماوات والأرض} ، وفي الشك في صدق الرسول المخالف لما علم من حال صدقه: {قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون}، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

إذا: التفكيرالسليم والعقلانية هو البناء على الفطرة والضرورات العقلية وإدراك ما يترتب عليها والانطلاق نحو التوحيد والطاعة، وليس البقاء في المربع الاول والشك فيه بشكل مرضي

رابعا: تصحيح الطرح منهجيا بشكل عام هو أن يقال: العبرة بالفطرة والدليل العقلي السليم وما يترتب على ذلك، فإن كانت النشأة عبارة عن بقاء على ذلك، فمن المرض واللاعقلانية استدعاء الشك فيه، وإذا كان الإنسان قد نشأ على تغيير للفطرة وتصورات محدثة غير مستندة للأدلة، فعليه أن يبحث عن أدلة ليتحقق ولا يعتمد على مجرد الاعتياد والنشأة. وبناء على ذلك:

خامسا: لا يصح إيراد هذا الطرح على نشأة المسلم، فالإسلام دين الفطرة والبراهين العقلية، لذا فإن مجرد النشأة عليه لا تستدعي الشك، ولنزد بيان هذا من وجوه:

الوجه الأول: أن أصول الإسلام من اعتقاد كمال الله ﷻ وتوحيده والخضوع له، هي قضايا فطر الله ﷻ الناس عليها أو على ما يستلزم إدراكها ولو إجماليا، ولذا فإن المستمر على الفطرة لديه دليل فطري، وهذا معلوم بالنصوص، كما في قوله تعالى: {فطرة الله التي فطر الناس عليها}، وبالتجربة والواقع يجد كل الناس نزعة الإقرار بكمال الله ووحدانيته، بل حتى الملاحدة ينزعون لذلك في اعتراضاتهم على الأحكام مثلا، فيجعلون عدم الظلم في حق الله مقدمة في اعتراضاتهم على بعض الأحكام الشرعية التي يتوهمون أن فيها ظلما..فينبغي الانتباه إلى مغالطة تصوير المسلم بصورة الخالي من البرهان وتجاهل برهان الفطرة.

الوجه الثاني: أن كون إيمان الشخص مبنيا على البراهين العقلية لا يستلزم أن يكون قادرا على استحضار صياغة معينة لتلك البراهين، أو التعبير عنها في صورة استدلال يقيم الحجة على الغير، فوجود معنى الدليل في نفس الإنسان شيء، وتصوره على شكل دليل شيء، وتقديمه للغير شيء آخر، والوجود كاف للتيقن.

الوجه الثالث: أن القرآن مليء بالبراهين العقلية، فكل مسلم يقرؤه ويفهمه هو في الواقع يستقي تلك البراهين وتثبّته، بغض النظر عن قدرته على تصورها في صورة براهين وصياغتها..

يتبع..
Forwarded from رسائل..
تابع ل #إضاءة_منهجية (١١) : انت صاحب موقف مسبق! (٢/٢)

.. فالقرآن مشتمل على أصول الأدلة العقلية، كدليل السببية وعدم التساوي بين الخالق والمخلوقين، كما في قوله تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} ، ففي الآية استحالة الخلق من غير سبب، وعدم صلاحية الخلق للتسبب، وهذا معلوم للقارئ أنه لنقصهم وافتقارهم وعدم كمالهم، فيدل ذلك على الأحدية أيضا، لأن انتفاء هذه الاحتمالات لا يبقى بعده إلا إثبات خالق ليس كالمخلوقين، متصف بالكمال المطلق دونهم.

كذلك ذكر آيات الله ﷻ في الكون وتعدادها وبيان أوجه الإحكام والتسخير يدل على الخلق وصفات الخالق

وكذلك أدلة النبوة والدفاع عن النبي ﷺ وذكر أحواله التي تقتضي صدقه، وتحدي الثقلين في الإتيان بمثل القرآن، وما في القرآن في ذاته من كمال البيان والمعاني والإخبار بالمغيبات وغير ذلك (انظر مثلا للتوسع: النبأ العظيم لدراز https://archive.org/download/nabaa_azeem/nbzm1.pdf )

والحاصل أن المسلم الذي ينشأ على الفطرة السليمة والدين الحق المليء بالبراهين القاطعة هو في موقف عقلاني قاطع، حتى لو لم يستحضر صيغ الدلالة العقلية، ولذلك نجد أن المسلمين مهما اختلفت درجات علمهم يشعرون عموما بقوة دينهم وصحته ويتمسكون بذلك، ونجد أن تشكيك المسلم في دينه أصعب من تشكيك أهل المعتقدات الأخرى التي تقوم على تناقضات مع الفطرة والعقل.

سادسا: لا شك أنه كلما قوي تدبر المسلم في القرآن وتفكره في آيات الله وتقربه لله بالطاعات زاد إيمانه ويقينه، ومن هذا المنطلق يدعى المسلمون لزيادة إيمانهم، لا بالشك المتكلف كما في هذا الطرح، ولكن بالتدبر في كتاب الله والتفكر في خلقه والقرب منه وزيادة التقوى، والبعد عن أهل المغالطات الذين يلقون الشبه وعن مقالاتهم، كما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم). [انظر: https://www.tg-me.com/ttangawi/35 ]

والله الهادي
Forwarded from رسائل..
يحاول بعض من يرفضون هيمنة الإسلام كنظام شامل لكل جوانب الحياة أن يوردوا التشكيكات من ناحية دور الفقهاء، وذلك بأن يصوروا شمولية الشريعة كنتاج من ابتداع الفقهاء، مع تصويرهم كأنهم مؤسسة منظمة متآمرة خبيثة الغرض، وهذه الدعوى تبدو سخيفة بأدنى تأمل، ومما يبين ذلك ما يلي:

١/ لأي مسألة فقهية تطرح بأي زمن جذور نصية من الوحي وقواعده، وهذا يعني أن (المصدرية) للوحي نفسه واجتهاد الفقيه تبع محكوم به، وأدنى اطلاع على كتب الفقه يكشف عن مركزية تعليل الأحكام وإرجاعها لأصولها في الوحي بصورة واضحة لا يمكن تجاهلها

٢/ غالبا ما يكون لربط المسألة الفقهية بالنص (استنباطها من النص) امتداد تاريخي ضارب في القدم، يرجع للصحابة ومن بعدهم في الآثار المروية والفتاوى والمصنفات الفقهية وغيرها، فحتى الاستنباط من النص (الآلية) ليست وليدة تآمر من مؤسسة فقهية قررت ذلك في سياق ظرفي ما لتحقق مصالحها الشخصية

٣/ لفهم النص قواعد ثابتة مأخوذة من النصوص ومقررة من القدم أيضا، وهذا يعني أن هناك (معيارية) ضابطة، وهذا يقيد الفقيه ولا يتيح له التلاعب، وحتى لو حصل ذلك من بعضهم فسينكشف ويرد عليه لوجود المعيارية الحاكمة

٤/ الحركة الفقهية على مدى التاريخ نسيج متنوع، لا يخضع لسلطة مركزية غير الوحي، بل إن هذا النسيج شهد تجاذبات علمية قد وصلت بعض الأحيان لحد التعصب والردود الشديدة، فكيف يستقيم في هذ الجو من التعارض الاتفاق على التآمر على اختلاق الأحكام وتزويرها، والحال أن الجو مفعم بالنقد الدقيق والصارم على مستوى التقعيد والتطبيق، فلا بد مع ذلك أن ينكشف أي خروج عن معايير الشريعة ولو بالخطأ فضلا عن الدس والتحريف المتعمد

فالحاصل أن العلمانية المناهضة لهيمنة الإسلام الشاملة تحاول تحريف صورة الشريعة لنفي صلاحيتها، وليس عندها مانع أن تسلك في سبيل ذلك سبيل المغالطة والتحريف، والخلط بين نموذج رهبان النصارى ، وبين فقهاء الإسلام الذي حفظه الله للعالمين دينا خاتما كاملا {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}، ومن لوازم حفظه أن ينتفي عنه التحريف وينكشف حتى لو حصل، ولا تجتمع عليه خير أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر

والله المستعان على ما يصفون

#إضاءة_منهجية فقهية
#رد_الشبهات
Forwarded from رسائل..
#إضاءة_منهجية (١٢)

الله ﷻ خالق العقل.. ‏فلايمكن أن يحصل للعقل حكم صحيح بكمال إلا وهو حاصل لخالق العقل، لأنه منه أصلا، فلايتصور التعارض، بل لابد أن يكون الإشكال في:

* صحة نسبة الحكم للشرع

* أو فهمه

* أو تصور العقل ماليس كمالا كمالا وماليس نقصا نقصا

يستحيل الخروج عن ذلك

مثال: ‏

كثير من الاستشكالات التي يطرحها أهل الشبه بأنواعهم تنشأ من توهم أن المساواة المطلقة وعدم التفريق على أساس الإيمان والكفر كمال، وهذاغلط، فمن عرف الله بإنعامه وعظمته عظّم حقه وعظّم جرم الكفربه، وعرف الكمال في عدم المساواة المطلقة. قال تعالى: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين}

فمن راعى هذا علم أن الشريعة أمهلت وأحسنت للكافر المستحق للعذاب في الآخرة لو استمر على كفره، فقدمت دعوته، وأعطته كثيرا خيار التعايش في الدنيا تحت حكم الإسلام مع العدل والإحسان، ‏ثم ميزت المسلم عليه ببعض الأحكام التي تتعلق بظهور الدين وعلو حكم الله في أرضه كالجزية والولاية ومنع إظهار الكفر، فأين النقص في هذا؟ بل هو عين الموافقة للكمال والتفريق بين ما يستحق التفريق بناء على معايير صحيحة مبرهنة
Forwarded from رسائل..
#إضاءة_منهجية (١٣) : عين الخصم!

عندما تحاور من يستشكل أو يشكك في أحكام الإسلام، فلا يفوتنك شئ مهم، وهو أن لدى بعض من تحاورهم خللا منهجيا يجب أن تسلط الضوء عليه لتظهر قوة موقفك، فمثلا قد يسألونك عن سبب التحريم للحم الخنزير، وفي خلفية سؤالهم أنهم يطلبون مصدرا معينا من المعارف، وهو المصدر الحسي والتجريبي، والواقع أن اختزال المعرفة في الحس والتجريب خلل منهجي سائد في الغرب، فيجب أن تبين أنك ابتداء تعتقد أن هذا خلل، وأن المعرفة لها مصادر متعددة تتكامل ولا تتعارض، ونحن كمسلمين عندنا موقف مبرهن هو أن الوحي مصدر معرفي عظيم لأنه من عند الله ﷻ ، وموقفنا من هذا المصدر مبني على أدلة عقلية قاطعة تدل على صحة الإسلام وأن ما جاء به النبي ﷺ حق ووحي من عند الله

والفائدة من هذا أنك تقطع طريقتهم في تعجيزك ، لأنهم ضمنيا يحصرونك في مصدر واحد هو التجريب، ثم يطالبونك بالدليل من هذا المصدر، وعندما تسترسل معهم فكأنك تسلم لهم بصحة اختزاليتهم المعرفية وأنت لا تشعر، فتخسر أحد أقوى منطلقاتك، ويفوتك التنبيه على أعظم خلل في منطلقاتهم.

وأيضا لو قررت أنت تصحيح ذلك الخلل، فغاية ما عندهم بعدها أنهم يعارضون باختزاليتهم وجهلهم شموليتك وعلمك، وهذا في غاية الضعف، ففي مثال الخنزير مثلا سيطالبونك ببيان أضراره الصحية، وكأن الحكم بني على هذا فقط، دون اعتبار لوصف الله تعالى للخنزير بالرجس واحتمال تضمن ذلك لعدة معان كالخبث أو النجاسة أو غيرها، فينبغي لك أن لا تقبل بالاختزال، فغاية ما عندهم أن يختزلوا الحكمة في أثر محسوس، ثم يحتكمون لجهلهم،وهو قولهم: "لم يثبت!" أي تجريبيا.. وفي الحقيق أن عدم الثبوت ليس ثبوتا للعدم، أي قد يثبت ذلك مستقبلا، فهم إذا ينزلون الجهل منزلة العلم!

وصحيح أنك في هذه الحالات قد تنازعهم بالتجريب وتثبت بعض الأضرار التي يكثر وقوعها، ثم قد تشرح لهم أن الشرع يغلب جانب المفسدة إذا عظمت ويحكم بحكم يكون شرعاً يجب امتثاله طاعة لله، هذا كله صحيح، لكن من المفيد جدا أن تهز أساسهم الاختزالي وتكشف حقيقة موقفهم المستند للجهل والمنصرف عن الشمولية المعرفية الحقّة.

وقس على ذلك أوجه الخلل المنهجية الأخرى التي تبرز في صور المسائل المتنوعة الأخرى، كاتخاذ معايير غير مطلقة للحكم بالصواب والخطأ، كتأليه الإنسان وجعله مركز الوجود بدلا من سبب الوجود وهو الله الرب المعبود وحده سبحانه، وغير ذلك (انظر لإضاءة سابقة حول ذلك: https://www.tg-me.com/ttangawi/56 )

وأخيرا تنبه رعاك الله ﷻ إلى أن لا تقيس صحة الأمور بمدى اقتناع الخصم، فعدم اقتناعه لا يرجع بالضرورة لضعف موقفك وخلوه من الحجة، بل قد يرجع لخلل في طريقتك في سياق الحجة، أو قد تكون حجتك قوية لكن يرجع عدم الاقتناع لخلل منهجي ومرجعي وسابق وعميق عند الخصم، وقد يكون معه الهوى والاستكبار ونحوه مما ذكر الله ﷻ أنه من أسباب مخالفة الحق، فلا يصح أن نغفل هذه القضية ونوقع أنفسنا في حيرة بسبب عدم قبول المخالف أو ما يظهره من عدم اقتناع، ونبدأ ننظر ونقيّم من خلال عين الخصم العوراء!
Forwarded from رسائل..
#إضاءة_منهجية (١٤): منهجية الشك!

ناقشنا في الإضاءة المنهجية (١١) والتي كانت بعنوان (أنت صاحب موقف مسبق! https://www.tg-me.com/ttangawi/247 ) دعوى ضرورة الشك للتيقن والعقلانية في التفكير، وكان النقاش يتركز على كشف مغالطة الدعوى في ناحية قطعيات العقل وأصل الإسلام.

وفي هذه الإضاءة سنسلط الضوء بصورة أوسع على تبني الشك كمنهجية للنظر في غير القطعيات من مسائل الدين، حيث يدعى البعض أن جعل الشك هو الأصل في غير القطعيات وحين يحتمل النص تعدد التفسيرات مفيد في التخلص من تأثيرات الذاتية، ولنا مع ذلك عدة وقفات:

أولا: لا بد من التنبه إلى فرق مهم بين علوم الشرع وغيرها، وهو أن اتخاذ الشك منهجا أمر يأخذ حجما كبيراً في بعض مجالات العلوم بسبب صغر مساحة القطع فيها, ولقلة المسلمات والمنطلقات المرجعية الثابتة التي ينطلق منها, فكل شيء عندهم قابل للتخطئة والمناقشة, ولذلك هم يرجعون إلى كل ما يمكن صدقه فيضعونه أمام التشكيك. أما بالنسبة لنا كمسلمين فمساحة المنطلقات المرجعية الثابتة لدينا كبيرة جداً, لأننا نستمد اليقين من الوحي, وقد أنزل الله علينا نظاما عقديا وأخلاقيا وتشريعيا كاملاً، وأصوله وكلياته قطعية ثابتة, وهذا ما يجعل هذا النظام متناسقا شمولياً , ويجعل المجتهد في نظره في الجزئيات الظنية مستنداً إلى أساسات وقواعد يتمكن من خلالها من بناء اجتهاده بشكل رصين.

ثانيا: يتضح مما سبق أن المساحة القابلة للشك منحصرة فيما بني على فهم في أمر يحتمل خطأ الفهم، ومع الإقرار بوجود مساحة للاجتهاد تلك, إلا أن جعل الأصل هو الشك لا يتفق مع المساحة القطعية الكبيرة عندنا كمسلمين, فالذي يجعل الأصل هو الشك هو من يغلب عنده الشك ويتطرق عنده للأصول، أما نحن فلا يستحق موضوع التشكيك عندنا أن يكون هو الأصل.

ثالثا: غاية التشكيك عندنا أن يستعمل في النظر في النواحي الاجتهادية التفريعية الجزئية, لكن التعبير الأقرب والممارسة الأصيلة في منهجنا الإسلامي هي الإخلاص لا التشكيك, فالأخلاص يقتضي أن نتجرد من الهوى ومن أي تفضيل غير علمي لرأي بني بشكل غير منهجي, وهذا الإخلاص يقتضي مراجعة النصوص والتفقه فيها والتأمل الطويل, وهذه العملية لا تسمى بالضرورة تشكيكاً, وإن كانت قد تتضمن في ثنايها الشك كنتيجة لعدم اكتمال بعض المقدمات التي بنيت عليها النتائج محل النظر.

رابعا: دلت نصوص الشريعة على منهجية مخالفة للمنهجية التي تجعل الشك أصلا، فالشريعة تعتبر ما ثبت باليقين أو الظن المعتبر هو الأصل، وتهدر الشك الطارئ عليه حتى يقوى ويكون معتبرا في الانتقال عن الأصل السابق، ومما أفاد ذلك حديث النهي عن الانصراف عن الصلاة بمجرد الإحساس بخروج شئ, وكذلك النصوص التي تذم اتباع الظن والتخرص، كقوله تعالى: { إن الظنّ لا يغني من الحق شيئا}، وهذا الظن الضعيف الذي لا مستند له من دليل أو قرينة، بخلاف الظن الراجح المعتبر شرعا كالظن المستفاد من الشهادات في القضاء مثلا، وقد عبر الفقهاء في هذا الباب بقاعدة فقهية كبرى نصها: "اليقين لا يزول بالشك", وكذلك قولهم "لا عبرة بالتوهم" أو "لا عبرة بالظن البيّن خطؤه"، في حين قالوا في الظنون الراجحة: "الغالب كالمحقق"

خامسا: أما تطبيق التشكيك على الأحكام غير القطعية بناء على احتمال النصّ للتفسيرات المتعدّدة, فهنا لا بد من التنبه إلى أنّ احتمال النص أو عدم احتماله يرجع إلى قواعد منهجية لغوية وأصولية تجعل معالجة الاحتمالات منضبطا لا مفتوحا على مصراعيه, ومن ذلك أنّ وجود الاحتمال لا يمنع أن يكون للنص ظاهر يفهم منه, فإنّ اللغة وإن كانت تحتمل المعاني المتنوعة باللفظ, فإنّها تفيد ظاهراً يتبادر للذهن, وهذا هو المراد إلا إذا وجدت قرينة تدل على أن المعنى المرجوح هو المراد, وبناء على ذلك نستطيع أن نقرأ القرآن والأحاديث بطمأنينة ونفهم منها ما هو ظاهر منها, ولا نلتفت للاحتمالات المرجوحة إلا إذا وجدت أدلة أو قرائن على أنّها المرادة، كما أنّ فهم النص يتعلّق بمراعاة النصوص الأخرى ذات الصلة, وأسباب النزول, والإجماع وغير ذلك.

وهنا لا بد من ملاحظة أنّ هذه التكاملية والانضباط المنهجي ليس موجوداً عند اليهود والنصارى, لأنّ شرائعهم لم تحفظ، ولم تنزل عامة صالحة لكل زمان ومكان, ولهذا يتحدثون كثيرا عن التفسير وإعادة التفسير, لأنّ مساحة التقعيد والأساسات والكليات الضابطة للجزئيات ضعيفة عندهم وغير متماسكة, فيركنون لعملية تفسير تخضع كثيرا للأهواء والتخرصات والتحكمات التي يفرضونها ويضفون عليها العصمة, وهذا ما عابه القرآن عليهم حين ذكر تحريفهم للكلم واتخاذهم بعضهم أربابا لبعض يحلون الحلال ويحرمون الحرام. أما في الإسلام فلا عصمة لفرد بعد النبي ﷺ ، والمرجع هو الوحي, وعملية الاجتهاد ليست تفسيرات نسبية غير منضبطة، بل هي محكومة بمسالك ترجيحية معلومة, ولذلك لا يصح أن نسقط نفس واقعهم على واقعنا ونستعمل نفس المفردات التي تنقل لنا ثقافتهم هذه.

ولنا في إضاءة قادمة وقفات أخرى مع موضوع تعدد التفسير.
راسلني أحد المتابعين يستأذن في نقل بعض محتويات القناة لوسائل التواصل الأخرى ، وهذا الأمر لا يحتاج لاستئذان فمقصود القناة هو أن تكون منصة نشر، وبجوار كل رسالة يوجد سهم للمشاركة أو نسخ الرابط كنوع من العزو والدلالة على القناة أيضا

وفق الله الجميع لما يحب ويرضى
2024/09/29 23:31:19
Back to Top
HTML Embed Code: