Telegram Web Link
خطبة عن الغيبة
المقدمة:

الحمد لله، أَعْظَمَ للمتقين العاملين أجورهم، وشرح بالهدى والخيرات صدورهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وفق عباده للطاعات وأعان، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدالله ورسوله خيرُ مَن علم أحكام الدين وأبان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الهدى والإيمان، وعلى التابعين لهم بإيمان وإحسان ما تعاقب الزمان، وسلم تسليمًا مزيدًا؛ أما بعد:

الخطبة الأولى

تعريف الغيبة:

إن اللسان جارحة ليس هناك أعظم منها فتكًا إن سرحها صاحبها في مراتع الأعراض، وإن أعظم أسلحتها نسفًا للحسنات سلاح الغيبة، التي ما دخلت على الرجل إلا أذهبت بدينه ودنياه؛ وقد أوضح لنا النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم ما هي، فقال: ((أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذِكرُك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه، فقد بهته))[1].

قال المناوي: الغيبة "هي ذكر العيب بظهر الغيب بلفظ، أو إشارة، أو محاكاة"[2].

قال النووي مفصلًا ذلك: "ذكر المرء بما يكرهه سواء كان ذلك في بدن الشخص أو دينه، أو دنياه أو نفسه، أو خلقه أو خلقه، أو ماله أو والده، أو ولده أو زوجه، أو خادمه أو ثوبه، أو حركته أو طلاقته، أو عبوسته، أو غير ذلك مما يتعلق به، سواء ذكرته باللفظ أو الإشارة أو الرمز))[3].

بل دقق في هذا حتى قيل لو ذُكر الرجل فقيل فيه: "الله يعافينا، الله يتوب علينا، نسأل الله السلامة، ونحو ذلك"[4]، على وجه التنقص - لكان من الغيبة.

حكم الغيبة:

ولعظم الغيبة؛ فقد حُرمت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.

قال تعالى: ﴿ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات: 12]؛ قال ابن عباس: "حرم الله أن يغتاب المؤمن بشيء، كما حرم الميتة".

وفي الحديث: ((إن من أكبر الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حقٍّ))، وفي رواية: ((من أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه))[5].

قيل: "الاستطالة في عرض المسلم بغير حق"؛ أي: الوقوع في عرض المسلم بالقول أو الفعل، أو بالغيبة وسيئ القول بغير حق، وبغير سبب شرعي يبيح له استباحة عرض أخيه، وبأكثر مما يستحقه من القول أو الفعل، وإذا كان الربا في المال محرمًا ومن الكبائر، فإن تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم الوقوع في الأعراض بالوقوع في الربا المحرم هو على سبيل المبالغة؛ وذلك لأن العرض أعز وأغلى على الإنسان من المال؛ فيكون الوقوع فيه أشد ضررًا وخطورةً من الوقوع في ربا المال[6].

ما العمل عند حدوثها؟

فإن زلت القدم وحدثت الغيبة، كان لها جانبان من حيث الضرر:

الأول: المستمع، فيلزمه عند ذلك أن يرفع الإثم عن نفسه بإنكارها؛ ففي الحديث: ((قالت عائشة رضي الله عنها: قلتُ للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا - تعني: قصيرةً - فقال: لقد قلتِ كلمةً، لو مُزج بها البحر لمزجته))[7]، والمعنى: أنها لو كانت هذه الغيبة مما يمزج بالبحر، لغيرت لونه وطعمه وريحه مع كثرته وسعته، فكيف بالغيبة لو خالطت أعمالًا قليلة لا نعلم قبولها أو ردها؟ فهنا أنكر عليها النبي وبين عظيم إثم الغيبة.

الثاني: صاحبها؛ فإما أن يتحلل منها بطلب العفو ممن اغتابه إن لم يكن هناك مفسدة، فإن كان هناك مفسدة كزيادة أذًى عندما يعلم، أو تكون سببًا للعدوان على المغتاب، أو مفسدة كمال الألفة والمحبة بينهما، فهنا يكفي لصاحب الغيبة أن يدعو لمن اغتاب ويستغفر له[8].

مواقف وأقوال السلف والعلماء عن الغيبة:

وقد كان السلف وعلماء الأمة يدركون ضرر الغيبة على الدين وعلى الفرد والمجتمع، فسطَّروا لنا أقوالًا تبين عمق فهم هذه المسألة؛ ومن ذلك:

دار بين سعد بن أبي وقاص وبين خالد بن الوليد كلام، فذهب رجل ليقع في خالد عند سعد، فقال سعد: "مه إن ما بيننا لم يبلغ ديننا"[9]، وقد كان عمرو بن العاص يسير مع أصحابه فمر على بغل ميت قد انتفخ، فقال: "والله لأن يأكل أحدكم من هذا حتى يملأ بطنه، خير من أن يأكل لحم مسلم"[10]، وعن عدي بن حاتم قال: "الغيبة مرعى اللئام"، وعن كعب الأحبار: "الغيبة تحبط العمل"، وقال أبو عاصم النبيل: "لا يذكر في الناس ما يكرهونه إلا سفلة لا دين له".

أقول ما سمعتم، وأستغفر الله من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروا الله إن الله غفور رحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدالله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وإخوانه؛ أما بعد:

بعض الأحوال التي تجوز فيها الغيبة:

فقد يحتاج الإنسان أن يتكلم في غائب بما يكره لمصلحة راجحة، وقد جمع العلماء تلك الحاجة في ستة مواطن؛ هي:
الأول: حال التظلم لمن يقدر على رفع المظلمة، عندها يجوز له أن يغتاب ظالمه بقدر الحاجة مثلًا؛ قال تعالى: ﴿ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ﴾ [النساء: 148].

الثاني: حال الاستفتاء؛ قالت هند بنت عتبة تستفتي الرسول صلى الله عليه وسلم: ((يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل عليَّ جناح أن آخذ من ماله ما يكفيني وبني، قال: خذي بالمعروف))[11].

الثالث: الاستعانة على تغيير المنكر؛ يدل عليه قوله تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [المائدة: 2].

الرابع: النصيحة؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس عندما طلبت منه النصح فيمن تتزوج، فقال: ((أما معاوية فرجل تَرِب لا مال له، وأما أبو جهم فرجل ضرَّاب للنساء، ولكن أسامة بن زيد))[12].

الخامس: المجاهر بالفحش المستعلن ببدعته؛ ففي الحديث: ((استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة، أو أخو العشيرة))[13].

السادس: التعريف برجل فيه صفة غير مرغوبة ولا يعرف إلا بها كالأعرج، لكن يجب ألا يكون على وجه التنقص.

الدعاء:

﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾.

﴿ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾.

﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾.

﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.

((اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تُهَّنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا)).

((اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا، وأبصارنا، وقلوبنا، وأزواجنا، وذرياتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمك مثنين بها عليك، قابلين لها، وأتمها علينا)).

اللهم آمنا في أوطاننا، واحفظ اللهم ولاة أمورنا، ووفق بالحق إمامنا وولي أمرنا.

اللهم اكفِ المسلمين كيد الكفار، ومكر الفجار، وشر الأشرار، وشر طوارق الليل والنهار، يا عزيز يا غفار.

﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾.

سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] مسلم (2589).

[2] فيض القدير.

[3] الأذكار.

[4] قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة التعجب، والنووي.

[5] حسنه ابن مفلح في الآداب الشرعية، وابن حجر في الفتح، والصنعاني في السبل، الألباني في السلسلة الصحيحة.

[6] بمعناه في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح.

[7] أخرجه أبو داود (4875)، والترمذي (2502) باختلاف يسير، وصححه ابن دقيق العيد في الاقتراح، والألباني في صحيح أبي داود، والأرنؤوط في تخريج رياض الصالحين.

[8] قال به ابن تيمية وابن القيم وابن الصلاح وابن مفلح.

[9] عيون الأخبار.

[10] الترغيب والترهيب.

[11] رواه البخاري (‏5061)‏، ومسلم (3319).‏

[12] مسلم (1480).

[13] البخاري (6054)
التخبيب ... آفة لخراب البيوت (خطبة)
التخبيب ... آفة لخراب البيوت (خطبة)
التَّخْبِيب...آفة لخراب البيوت
الخطبة الأولى

نقف اليوم مع آفة من أشد آفات المجتمعات اليوم، هذه الآفة باتت تهدد الأسر بل والمجتمع بأسره؛ لما لها من آثار سلبية، وعواقب وخيمة، هذه الآفة يفعلها بعض الناس بقصد أو بغير قصد، ويجهلون خطورتها، هذه الآفة عدها العلماء رحمهم الله بأنها باب عظيم من أبواب الكبائر، وصاحبها مطرود من رحمة الله تعالى، وتبرأ منه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتوعده بعدم دخوله الجنة، هذه الآفة هي من أعظم الوسائل التي يفرح بها الشيطان، فبسببها كم من حياة زوجية دبت فيها الخلافات والمشاكل؟ وكم من العلاقات الزوجية انتهت بالطلاق؟ وكم من الأزواج مَنْ نشبت في قلوبهم العداوة والبغضاء والكراهية؟

هذه الآفة هي (التَّخْبِيب)، فيروس من فيروسات الحياة الزوجية.. فيا ترى ما هو التخبيب؟ ما هو حكمه في شريعتنا الإسلامية؟ وما هي خطورته على البيوت والأسرة؟ وماذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم عن المخبب؟

هذه أسئلة أطرحها على مائدة وسأجيب عنها بإذن الله في هذه الساعة المباركة.

أيها المسلم: التَّخْبِيبُ في اللغة: هو الفساد والخداع وَالْخُبْثُ وَالْغِشُّ، تقول: خَبَّبَ فلانٌ على فلانٍ صَدِيقَه: أي أَفْسَدَهُ عليهِ، وَخَبَّبَ فُلاَنٌ غُلاَمِي: أَيْ خَدَعَهُ[1].

وفي الاصطلاح الشرعي: هو جامع لمعاني الإفساد والمخادعة والغش، والتخبيب بين الزوجين: هو إفساد الزوجة على زوجها، وإفساد الزوج على زوجته[2].

فالتخبيب هو الإفساد بين الزوجين سواء كان المفسد من داخل الأسرة أم من خارجها.

لذلك القرآن الكريم عدُّ التخبيب جرمًا عظيمًا من كبائر الذنوب، ومن أفعال السحرة الذين يسعون للتفريق والإفساد بين الزوجين، فقال تعالى متحدِّثًا عن قصة هاروت وماروت: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقر: 102].

ولخطورة التخبيب تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن يسعى للإفساد بين الزوجين، وتوعده بحرمانه من الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم:

« لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا، أَوْ عَبْدًا عَلَى سَيِّدِهِ »[3]، يعني أفسد زوجة على زوجها بأن يذكر عندها مساوئ زوجها، أو محاسن أجنبي عندها، فهو يعمل على تحسين الطلاق إليها حتى يطلقها فيتزوجها أو يزوجها لغيره أو من باب الغيرة والحسد واتباع الهوى والشيطان، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: « لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ خِبٌّ وَلاَ مَنَّانٌ وَلاَ بَخِيلٌ »[4]، وقال صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ الْمُؤْمِنَ غِرٌّ كَرِيمٌ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ خَبٌّ لَئِيمٌ »[5] ومعنى (الغر): الذي لم يجرب الأمور، و(الخِبُّ): الخداع المفسد، فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يقول: المؤمن الحقيقي ليس بخداع ولا خبيث، فهو لا يشغل نفسه بأمور فيها مفسدة ومضرة للآخرين، بعكس الفاجر الذي يشغل نفسه بأمور فيها مضرة للآخرين ويسعى إلى فسادهم[6].

ولو نظرنا إلى واقع الناس اليوم سنجد أن من أخطر أساليب التخبيب هو يوم أن يظهر المخبب بصورة الناصح المشفق المتعاطف، فهو لا يصرح بالتخبيب لكنه يلمح وربما بقصد أو بغير قصد، فيأتي الى الزوجة ويقول لها: والله أنت تستحقين عيشة أفضل من هذه العيشة، أنت لا تزالين شابة صغيرة وجميلة، والله مقامك أفضل وأرفع من مقامك هذا، ويذكر لها بأن فلانة تعيش هكذا وهكذا، وفلانة تلبس كذا وكذا، وفلانة تشتري كذا وكذا، وفلانة تخرج هنا وهناك، ويذكر لها ما تعيشه الفتيات من النعيم والراحة والترفيه، فتبدأ هذه الزوجة تقارن حالها وعيشتها بحال ومعيشة تلك الزوجات، فتبدأ تطلب من زوجها ما هو فوق طاقته فتبدأ الخلافات والمشاكل، ومن هنا يبدأ التحريض والتخبيب.

فكم من أم بسبب كلامها أفسدت حياة ابنتها مع زوجها؟ وكم جارة بسبب كلامها كانت سببًا في طلاق جارتها؟ وكم من أخت أو قريبة أو صديقة بسبب نصائحها التي فيها التخبيب كانت سببًا لهدم بيت هذه الزوجة؟
الزوجة تعيش مع زوجها بسعادة مع زوجها، تحترمه ويحترمها، وهي راضية بحياتها مع زوجها، لكن تأتي الأم فتحرض ابنتها على زوجها، وتعلمها الأفكار الشيطانية لتمارسها مع زوجها، هل سجَّل باسمك شيئًا؟ هل اشترى لك شيئًا؟ هل أجلسك في بيت لك وحدك؟ إياكِ أن تنفذي كل شيء يقوله.. وغيرها من الأفكار الشيطانية التي تحاول بها السيطرة على الزوج، هذه الأم بكلامها تريد الخير لابنتها، ولكنها لا تدري أنها بكلامها هذه تؤدي دور الشيطان في خراب البيوت.

وبعض الأمهات تحرض ابنها على زوجته لأنها تكره أمها، فتَخلِق أعذَارًا لظلْمِها، زوجتك لا تنظف البيت جيدًا، زوجتك متكبرة ولا تسمع الكلام، زوجتك طبخها للطعام لا يعجب، كل وقتها مع الموبايل ومهملة لبيتها وأطفالها.

وبعض الآباء من يأمر ابنه بطلاق زوجته ويعده بأن يزوجه بأفضل منها بسبب مشكلة جرت بينه وبين والدها، أو أخيها.. هذا هو التخبيب، وهذا هو الإفساد بين الزوجين.

هل تدري أيها المسلم لماذا تبرَّأ النبي صلى الله عليه وسلم من المخبب الذي يسعى للإفساد بين الزوجين ووعده بحرمانه من دخول الجنة؟

وذلك لأنه شابه بفعله إبليس اللعين، فالإفساد بين الزوجين، وهذا الفعل من أعظـم الوسائل التي يفرح بها إبليس، قال صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ »[7].

أرأيتم عندما سمع إبليس بأنه هدم كيان أسرة، وشتت شمل بيت، وفرَّق بين الأحباب، قام إليه مبتهجًا فرحًا وضمُّه إليه، وقرِّبه منه.

بل هناك تخبيب آخر وهو عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، هذه المواقع التي أصبحت في زماننا سببًا لخراب الكثير من البيوت، فترى اليوم رجلًا أو شابًا يراسل فتاة متزوجة ويتكلم معها، وهي تحدثه عن حياتها مع زوجها، وكيف أنها غير سعيدة معه، فيحدثها هو بكلام معسول، بكلام فيه عاطفة ولين، فتتعلق به، فتبدأ هذه الزوجة بالمقارنة بين هذا الرجل، وبين زوجها، بين كلامه المعسول وبين كلام زوجها، فتصل إلى الخيانة الزوجية فإن لم ينته إلى ذلك، انتهى إلى اضطراب حياتها، وانشغال فكرها، وهروب السكينة من حياتها الزوجية، وتنتهي إلى الطلاق.

والعكس كذلك فتاة تتحدث مع شاب أو رجل متزوج، وترسل له صورها، فيبدأ يقارن بينها وبين زوجته، فيتعلق بها، فيبدأ يكره زوجته، وتنتهي إما إلى أن يهملها أو يطلقها.

اذهبوا الى المحاكم وأسالوا عن أسباب كثرة الطلاق، ستجدون كم من حالة طلاق كانت هذه المراسلة هي السبب الرئيسي في خراب البيوت وهدم الأسر.

وبعض الرجال ومع الأسف تعجبه الزوجة المتزوجة من غيره، فيعمل على إفسادها على زوجها، ويقوم بتحسين الطلاق إليها من أجل أن يتزوجها أو يزوجها لغيره، وينسى هذا الرجل المريض المفسد الخبيث قوله صلى الله عليه وسلم: « لَا يَبِعِ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ »[8].

فاذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم حذر أمته من خِطْبَةِ الرَّجُلِ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، فكيف بمن يُفْسِدُ زوجة على زوجها ليتزوجها أو يزوجها لغيره؟

بل إن النبي صلى الله عليه وسلم حذر الزوجة من طلب الطلاق من زوجها بلا سبب فقال: « أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلاَقًا مِنْ غَيْرِ بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الجَنَّةِ »[9].

هل يرضى هذا المفسد الخبيث لرجل أن يفسد زوجته عليه؟ هل ترضى الزوجة المخببة أن تفسد امرأة زوجها عليها وتجعله يطلقها ليتزوج بها؟ هل يرضى هذا الرجل لمحارمه هذا الأمر؟

أنا أقف اليوم مذكرًا الرجل الذي يسعى ليقنع زوجة بطلاقها من زوجها، أو المرأة التي تسعى لتقنع الرجل بأن يطلق زوجته ليتزوجها ماذا ستقولون لرب العالمين يوم القيامة عندما يسألكم عن هذه الجريمة؟ وبماذا ستجيبون ربكم عندما يقول لكم لماذا كنتم سببًا في خراب البيوت ودمار الأسر؟ فهل هيأ الواحد منكم جوابًا لهذا السؤال؟

فينبغي أن ينتبه المسلم لكلماته - وكذلك المسلمة -؛ فقد تفسد كلمة علاقة زوج بزوجته، وتؤدي إلى الطلاق، فالمسلم يكون مصلحًا بين الناس، ولا يتدخل بين الزوج وزجته إلا أن يقول كلمة تجمع بينهما وتصلح بها أحوالهما، ويذكّر الزوج بنعمة زوجته، ويشجعه على احترامها، والمحافظة عليها فهي أم أولاده، ويشجع الزوجة على طاعة زوجها، واحترامه، والصبر عليه، فيزرع الألفة والمحبة بين الزوجين.

أسأل الله العظيم أن يحسن أحوالنا، ويحفظ أسماعنا وأبصارنا وألسنتنا وجوارحنا عن التخبيب وأهله، ويجعلنا أخوة متحابين، إن ربي لسميع الدعاء.

الخطبة الثانية

اختلف الفقهاء رحمهم الله في حكم زواج الرجل بمن أفسدها على زوجها:
فجمهور العلماء على أن نكاح المخبب بمن خبب بها صحيح على الرغم من حرمة التخبيب، وذهب المالكية وبعض أصحاب أحمد إلى أن النكاح باطل ويفرق بينهما، معاملة له بنقيض قصده[10].

جاء في "الموسوعة الفقهية" (5 /251): « فَمَنْ أَفْسَدَ زَوْجَةَ امْرِئٍ أَيْ: أَغْرَاهَا بِطَلَبِ الطَّلاَقِ أَوِ التَّسَبُّبِ فِيهِ فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ. وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِ وَزَجْرِهِ، حَتَّى قَال الْمَالِكِيَّةُ بِتَأْبِيدِ تَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ الْمُخَبَّبَةِ عَلَى مَنْ أَفْسَدَهَا عَلَى زَوْجِهَا مُعَامَلَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَلِئَلاَّ يَتَّخِذَ النَّاسُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى إِفْسَادِ الزَّوْجَاتِ»[11].

والراجح هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من صحة نكاحه، فالتخبيب وإن كان حرامًا وكبيرة من الكبائر إلا أن النكاح إذا وقع بشروطه الشرعية كان نكاحًا صحيحًا، وما سبقه من تخبيب لا يعود عليه بالإبطال.

أما ما ذكره المالكية من تحريمها عليه عقوبة له، فالواجب هو تعزيره على هذه المعصية على ما يقرره القاضي الشرعي، وأن تعرَّف المرأة بجلية الحال، فإن أرادت الرجوع إلى زوجها وكان الطلاق رجعيًّا فلها ذلك، وإن أرادت الزواج بغيره فلها ذلك أيضًا.

[1] ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير: (2/ 4)، وتاج العروس لمرتضى الزبيدي: (2/ 328).

[2] قال ابن حجر الهيتمي: " تَخْبِيبُ الْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا: أَيْ إفْسَادِهَا عَلَيْهِ، وَالزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ". الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي:(2/ 42)... و"َتَخْبِيبُ زَوْجَةِ الْغَيْرِ خِدَاعُهَا وَإِفْسَادُهَا، أَوْ تَحْسِينُ الطَّلاَقِ إِلَيْهَا لِيَتَزَوَّجَهَا أَوْ يُزَوِّجَهَا غَيْرَهُ. الموسوعة الفقهية الكويتية: (11/ 19).

[3] رواه أبو داود، كتاب الطلاق- باب فيمن خَبَّب امرأةً على زوجها: (3 /503)، برقم (2175) وإسناده صحيح.

[4] رواه الترمذي، أَبْوَابُ البِرِّ وَالصِّلَةِ - بَابُ مَا جَاءَ فِي البَخِيلِ: (3/ 408)، برقم (1963)، وقال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

[5] رواه أحمد في مسنده: (15/ 59)، برقم (9118)، وهو حديث حسن.

[6] (المؤمِن غِرٌّ كَرِيمٌ) أَيْ لَيْسَ بِذِي نُكر، فَهُوَ يَنْخَدِع لانْقِيادِه وَلينِه، أي لم يجرب الأمور، فهو سليم الصدرِ، وحَسنُ الظنِّ بالناس، يريد به أن المؤمنَ المحمودَ من طبعه الغَرَارة، وقلة الفِطنة للشر، وترك البحث عنه، وليس ذلك جهلًا منه، ولكنه كرمٌ، وحُسن خُلق. ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير: (3/ 354-355).

[7] صحيح مسلم، كتاب: صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ - بَابُ تَحْرِيشِ الشَّيْطَانِ وَبَعْثِهِ سَرَايَاهُ لِفِتْنَةِ النَّاسِ وَأَنَّ مَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ قَرِينًا: (4/ 2167)، برقم (2813).

[8] صحيح مسلم، كتاب النكاح - بَابُ تَحْرِيمِ الْخِطْبَةِ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، حَتَّى يَأْذَنَ أَوْ يَتْرُكَ:(2/ 1032)، برقم(1412).

[9] رواه الترمذي، أَبْوَابُ الطَّلاَقِ وَاللِّعَانِ- بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمُخْتَلِعَاتِ: (2/ 484)، برقم (1187)، وقال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.

[10] ينظر: الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل (3/ 182)، والموسوعة الفقهية الكويتية: (11 / 20).

[11] الموسوعة الفقهية الكويتية: (5 / 291).
الشقاق بين الزوجين أسبابه وآثاره وعلاجه
اقتباس
وَمِنْ أَسْبَابِ الشِّقَاقِ: شَكُّ الزَّوْجِ فِي زَوْجَتِهِ، وَإِسَاءَةُ الظَّنِّ بِهَا بِلَا دَلِيلٍ؛ فَرُبَّمَا اتَّهَمَهَا فِي عِرْضِهَا لِشِدَّةِ شَكِّهِ وَوَسْوَسَتِهِ, مِمَّا يَجْعَلُهُ يَتَتَبَّعُ خُطُوَاتِهَا وَيَتَجَسَّسُ عَلَيْهَا, وَيَعُودُ إِلَى الْبَيْتِ أَحْيَانًا دُونَ حَاجَةٍ بِسَبَبِ الشَّكِّ.

الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحَدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: لَا يَخْلُو عَيْشٌ مِنْ كَدَرٍ, وَلَا تَصْفُو حَيَاةٌ بِاسْتِمْرَارٍ, هَذِهِ طَبِيعَةُ الدُّنْيَا وَحَقِيقَتُهَا, وَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ:

طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا *** صَفْوًا مِنَ الْأَقْذَاءِ وَالْأَكْدَارِ

وَمُكَلِّفُ الْأَيَّامِ ضِدَّ طِبَاعِهاَ *** مُتَطَلِّبٌ فِي الْمَاءِ جَذْوَةَ نَارِ

وَالْحَيَاةُ الزَّوْجِيَّةُ لَا تَخْلُو مِنَ الْمَشَاكِلِ وَالْمُنَغِّصَاتِ, حَتَّى فِي بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَقَعَتْ إِشْكَالَاتٌ بَيْنَ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَأَزْوَاجِهِ؛ "أَلَمْ تَرَ أَنَّ الرَّسُولَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَهُوَ أَشْرَفُ الْخَلْقِ, اجْتَمَعَ عَلَيْهِ نِسَاؤُهُ يُطَالِبْنَهُ النَّفَقَةَ، مَعَ أَنَّهُ أَحْسَنُ النَّاسِ خُلُقًا وَأَكْرَمُهُمْ –أَيْضًا-؛ حَتَّى هَجَرَهُنَّ شَهْرًا؟!"(ابْنُ عَثَيْمِينَ), فَلَا تُوجَدُ زَوْجَةٌ كَامِلَةٌ لَا تَزِلُّ وَلَا تُخْطِئُ وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ, وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِكَثْرَة الْمَحَاسِنِ وَكَيْفِيَّةِ التَّعَامُلِ مَعَ الْمُشْكِلَاتِ وَحَلِّهَا, وَفِي زَمَانِنَا هَذَا كَثُرَتْ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ الْخِلَافَاتُ, وَتَفَاقَمَتِ الْمُشْكِلَاتُ, يُنْبِيكَ عَنْهَا كَثْرَةُ مُعَدَّلَاتِ الطَّلَاقِ فِي الْعَالَمِ الْعَرَبِيِّ بِصُورَةٍ عَالِيَةٍ جِدًّا.

فَالْخِلَافُ وَالشِّقَاقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَمْرٌ وَارِدٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ طَبِيعَةِ الْبَشَرِ, وَلِهَذَا الشِّقَاقِ أَسَْابٌ كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا:

سُوءُ اخْتِيَارِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِصَاحِبِهِ؛ وَلِذَلِكَ رَغَّبَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِاخْتِيَارِ صَاحِبِ الدِّينِ وَالْخُلُقِ رَجُلاً أَمِ امْرَأَةً؛ فَقَالَ -صََلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي اخْتِيَارِ الَّزوج: "إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ), وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي اخْتِيَارِ الزَّوْجَةِ: "تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ َلأرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا؛ فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَدَاكَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ), فَبَعْدَ الزَّوَاجِ قَدْ يَكْتَشِفُ الزَّوْجُ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ غَيْرُ مُنَاسِبَةٍ لَهُ, أَوْ تَكْتَشِفُ الزَّوْجَةُ أَنَّ الزَّوْجَ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لَهَا, وَهُنَا يَظْهَرُ تَبَرُّمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبِهِ, وَعَدَمُ اهْتِمَامِهِ بِهِ وَإِهْمَالُهُ, فَضْلاً عَنْ غِيَابِ مَشَاعِرِ الْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ الَّتِي هِيَ أَسَاسٌ فِي الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ السَّعِيدَةِ النَّاجِحَةِ.
وَمِنْ أَسْبَابِ الشِّقَاقِ: عَدَمُ تَفَهُّمِ الرَّجُلِ لِطَبِيعَةِ الْمَرْأَةِ؛ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَىْءٍ مِنَ الضِّلَعِ أَعْلاَهُ؛ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ), وَفِي رِوَايَةٍ: "المَرأةُ كالضِّلَعِ إنْ أقَمْتَهَا كَسَرْتَهَا, وَإن اسْتَمتَعْتَ بِهَا, اسْتَمتَعْتَ وفِيهَا عوَجٌ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)؛ قَالَ ابْنُ عُثَيْمِينَ: "فَالَّذِي يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُرَاعِيَ حَالَ الْمَرْأَةِ, وَأَنْ يُعَامِلَهَا بِمَا تَقْتَضِيهِ طَبِيعَتُهَا؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ أَعْقَلُ مِنَ الْمَرْأَةِ وَأَرْشَدُ تَصَرُّفًا؛ فَإِنْ عَامَلَهَا بِالشِّدَّةِ لَمْ يَعِشْ مَعَهَا، وَإِنْ عَامَلَهَا بِاللِّينِ وَالْحِكْمَةِ عَاشَ مَعَهَا".

وَيَدْخُلُ فِي عَدَمِ فَهْمِ طَبِيعَةِ الْمَرْأَةِ: مَا يَحْدُثُ مَنْ نُفْرَةِ بَعْضِ النِّسَاءِ لِزَوْجِهَا وَكُرْهِهَا لَهُ عِنْدَ حَمْلِهَا بِمَا يُعْرَفُ بِالْوَحَمِ, فَحِينَ تَحْمِلُ بَعْضُ النِّسَاءِ يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي نَفْسِيَّتِهَا؛ فَتَتَغَيَّرُ نَظْرَتُهَا إِلَى زَوْجِهَا بَلْ وَتَكْرَهُ جُلُوسَهُ إِلَى جَانِبِهَا, وَقَدْ تَكْرَهُ الْبَيْتَ وَتَرْغَبُ فِي الذَّهَابِ إِلَى أَهْلِهَا, وَهُنَا تَبْدَأُ الْمَشَاكِلُ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ طَبِيعَةَ الْمَرْأَةِ مِنَ الْأَزْوَاجِ, وَقَدْ أَثْبَتَتْ دِرَاسَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ كَانَ أَحَدَ أَسْبَابِ الطَّلَاقِ حَدِيثًا!!.

وَمِنْ أَسْبَابِ الشِّقَاقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ: عَدَمُ قِيَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ بِوَاجِبَاتِهِ تِجَاهَ شَرِيكِهِ؛ فَلِلزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ حُقُوقٌ, وَلِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا حُقُوقٌ, فَإِذَا قَصَّرَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَفَرَّطَ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ؛ نَشِبَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمَا؛ فَمِنْ هَذَا التَّقْصِيرِ:

أَوَّلاً: تَقْصِيرُ الزَّوْجِ فِي حَقِّ زَوْجَتِهِ؛ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: الْبُخْلُ الشَّدِيدُ وَالتَّضْيِيقُ عَلَيْهَا فِي النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ, وَإِهْمَالُ الزَّوْجَةِ وَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِهَا, وَكَثْرَةُ الْجُلُوسِ خَارِجَ الْبَيْتِ, وَعَدَمُ إِشْبَاعِ رَغْبَتِهَا الْعَاطِفِيَّةِ, وَسُوءُ مُعَامَلَةِ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ, وَمَيْلُهُ لِأَحَدِ زَوْجَاتِهِ عَلَى حِسَابِ الْأُخْرَى.

ثَانِيًا: تَقْصِيرُ الزَّوْجَةِ فِي حَقِّ زَوْجِهَا؛ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: عَدَمُ طَاعَةِ زَوْجِهَا وَعِصْيَانُهُ, وَتَسَلُّطُ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا، وَسُوءُ أَخْلَاقِهَا، وَإِهْمَالُ الزَّوْجَةِ لِزِينَتِهَا وَتَجَمُّلِهَا, وَتَمَنُّعُهَا عَنِ الْفِرَاشِ إِذَا دَعَاهَا دُونَ عُذْرٍ مَقْبُولٍ, وَخُرُوجُهَا مِنَ الْبَيْتِ مَتَى شَاءَتْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ, وَتَعَالِي الزَّوْجَةِ وَتَكَبُّرُهَا.

وَإِنَّ عَدَمَ أَدَاءِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ حَقَّ شَرِيكِهِ يُؤَدِّي -لَا مَحَالَةَ- إِلَى الشِّقَاقِ وَالْخلَافِ, وَرُبَّمَا تَفَاقَمَ بِمُرُورِ الْأَيَّامِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى الطَّلَاقِ؛ لِاسْتِحَالَةِ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ, وَخُلُوِّهَا مِنْ مَشَاعِرِ الْحُبِّ وَالْمَوَدَّةِ وَالْأُلْفَةِ.

وَمِنْ أَسْبَابِ الشِّقَاقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ: ظُلْمُ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ؛ كَتَسَلُّطِهِ عَلَى مَالِهَا يَأْخُذُ مِنْهُ كَيْفَ يَشَاءُ, أَوْ بِمَنْعِهَا مِنَ الذَّهَابِ إِلَى أَهْلِهَا وَرُؤْيَتِهِمْ بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ, أَوْ بِاسْتِخْدَامِ الْعُنْفِ وَالْقَسْوَةِ مَعَ الزَّوْجَةِ؛ فَالرَّجُلُ يَأْمُرُ وَيَنْهَى وَالْمَرْأَةُ تُنَفِّذُ فَقَطْ, دُونَ مُرَاعَاةٍ لِمَشَاعِرِهَا أَوْ أَخْذٍ لِرَأْيِهَا, مَعَ جَفَافٍ تَامٍّ فِي إِظْهَارِ الْمَشَاعِرِ الْعَاطِفِيَّةِ الَّتِي تَرْغَبُ الْمَرْأَةُ بِسَمَاعِهَا.

وَمِنْ أَسْبَابِ الشِّقَاق: أَهْلُ الزَّوْجِ وَأَهْلُ الزَّوْجَةِ؛ أَحْيَانًا يَكُونُونَ سَبَبًا فِي نُشُوءِ الْخِلَافِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ, فَكَمْ مِنِ امْرَأَةٍ تَشْكُو ضَعْفَ شَخْصِيَّةِ زَوْجِهَا عِنْدَ أَهْلِهِ، وَعَدَمَ احْتِمَالِهَا لِذَلِكَ! وَكَمْ مِنْ زَوْجَةٍ طُلِّقَتْ بِسَبَبِ خِلَافَاتٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أُمِّ الزَّوْجِ أَوْ أُخْتِهِ, حِينَمَا يَكُونَانِ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ! وَبِالْمُقَابِلِ كَمْ مِنْ زَوْجٍ عَانَى مِنْ سُوءِ خُلُقِ زَوْجَتِهِ وَحِينَ شَكَاهَا إِلَى أَهْلِهَا؛ وَجَدَ أَهْلَهَا مَعَهَا ضِدَّهُ! وَكَمْ مِنْ زَوْجٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ خِلَافٌ، لَكِنْ حِينَ يَقَعُ شِقَاقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهَا تَصْطَفُّ الزَّوْجَةُ مَعَ أَهْلِهَا وَتُنَكِّدُ عَلَيْهِ
حَيَاتَهُ!.

وَمِنْ أَسْبَابِ الشِّقَاقِ: شَكُّ الزَّوْجِ فِي زَوْجَتِهِ، وَإِسَاءَةُ الظَّنِّ بِهَا بِلَا دَلِيلٍ؛ فَرُبَّمَا اتَّهَمَهَا فِي عِرْضِهَا لِشِدَّةِ شَكِّهِ وَوَسْوَسَتِهِ, مِمَّا يَجْعَلُهُ يَتَتَبَّعُ خُطُوَاتِهَا وَيَتَجَسَّسُ عَلَيْهَا, وَيَعُودُ إِلَى الْبَيْتِ أَحْيَانًا دُونَ حَاجَةٍ بِسَبَبِ الشَّكِّ, وَهُنَاكَ زَوْجَاتٌ تَغَارُ عَلَى زَوْجِهَا غَيْرَةً مُبَالَغَةً؛ فَيَكْثُرُ شَكُّهَا بِهِ وَتَحْسِبُ عَلَيْهِ كَلَامَهُ, وَتُكْثِرُ مِنْ سُؤَالِهِ: مِنْ أَيْنَ جَاءَ؟ وَإِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ؟ وَهَكَذَا تَتَحَوَّلُ الْحَيَاةُ الزَّوْجِيَّةُ بِسَبَبِ شُكُوكِ الزَّوْجَيْنِ فِي بَعْضِهِمَا إِلَى جَحِيمٍ لَا يُطَاقُ مِنَ النَّكَدِ وَالْخِلَافِ, دُونَ أَيِّ دَاعٍ وَلَا مُبَرِّرٍ!.

وَمِنَ الْأَسْبَابِ: أَصْدِقَاءُ السُّوءِ؛ حَيْثُ تَكُونُ الْعَلَاقَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَثِيقَةً, وَالْأُمُورُ مُسْتَقِرَّةً, فَتَأْتِي امْرَأَةُ سُوءٍ لِتُغَيِّرَ نَظْرَةَ الزَّوْجَةِ؛ فَتَذْكُرَ لَهَا عُيُوبَ زَوْجِهَا, وَتُقَارِنَ لَهَا حَيَاتَهَا بِحَيَاةِ غَيْرِهَا؛ فَإِذَا الزَّوْجَةُ تَشْتَكِي مِنْ حَيَاتِهَا, وَسُوءِ حَظِّهَا, وَتُطَالِبُ بِأُمُورٍ لَمْ تَكُنْ فِي بَالِهَا, لَوْلَا قَالَةُ السُّوءِ, وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ خَبَّبَ زَوْجَةَ امْرِئٍ، أَوْ مَمْلُوكَهُ، فَلَيْسَ مِنَّا"(رواهُ أَبُو دَاوُدَ).

وَمِنَ الْأَسْبَابِ: نَزَغَاتُ الشَّيْطَانِ؛ قَالَ -تَعَالَى-: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ)[الإسراء: 53]؛ أَيْ: يُلْقِي الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ؛ فَمِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ: التَّفْرِيقُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَزَوْجَتِهِ؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ الْكَبِيرِ لِلْأُسَرِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ, قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ, فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً؛ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا, فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا! قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ, قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ, وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

أَيُّهَا الْإِخْوَةُ: إِنَّ هَذِهِ الْخِلَافَاتِ الزَّوْجِيَّةَ تَتْرُكُ أَثَرًا سَيِّئًا عَلَى اسْتِقْرَارِ الْأُسْرَةِ, وَرُبَّمَا أَدَّتْ إِلَى الطَّلَاقِ, وَتَشَتُّتِ الْأَوْلَادِ, وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَضْرَارٍ, وَلَهَا أَثَرٌ بَالِغُ السُّوءِ عَلَى نَفْسِيَّةِ الْأَطْفَالِ, الَّذِينَ يَرَوْنَ وَالِدَيْهِمْ يَصْرُخَانِ فِي بَعْضٍ، وَيُعْرِضَانِ عَنْ بَعْضِهِمَا, فَقُلُوبُهُمُ الضَّعِيفَةُ لَا تَحْتَمِلُ مِثْلَ هَذِهِ الْخُصُومَاتِ, كَيْفَ وَمَنْ يَتَنَازَعُ أَمَامَهُمْ هُوَ وَالِدُهُمْ وَأُمُّهُمْ؟!

أَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ, وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ للهِ حَقَّ حَمْدِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى نِعَمِهِ وَفَضْلِهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ، وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُ، أَمَّا بَعْدُ:

عِبَادَ اللهِ: الْبَيْتُ السَّعِيدُ لَا يَخْلُو مِنْ بَعْضِ الْمَشَاكِلِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ, لَكِنْ سُرْعَانَ مَا يَحْتَوِيهَا الزَّوْجَانِ الْعَاقِلَانِ بِكُلِّ حِكْمَةٍ, وَلِمُعَالَجَةِ أَسْبَابِ الشِّقَاقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَيْهِمَا بِالْآتِي:

أَوَّلًا: حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ؛ وَذَلِكَ بِقِيَامِ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ بِحَقِّ شَرِيكِهِ, بِمَا أَمَرَ بِهِ الشَّرْعُ, قَالَ -تَعَالَى-: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)[النساء: 19], وَقَالَ: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)[البقرة: 237].

ثَانِيًا: التَّغَاضِي عَنِ الْهَفَوَاتِ، وَهُوَ إِظْهَارُكَ الْغَفْلَةَ عَنْ عَيْبٍ مَعَ عِلْمِكَ بِهَ؛ تَفَضُّلًا وَتَرَفُّعًا, وَهُوَ مِنْ خُلُقِ الْكِرَامِ, قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)[النساء: 19], وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً؛ إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
قَالَ النَّوَوِيُّ: "أَيْ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُبْغِضَهَا؛ لِأَنَّهُ إِنْ وَجَدَ فِيهَا خُلُقًا يُكْرَهُ وَجَدَ فِيهَا خُلُقًا مَرْضِيًّا, بِأَنْ تَكُونَ شَرِسَةَ الْخُلُقِ لَكِنَّهَا دَيِّنَةٌ أَوْ جَمِيلَةٌ أَوْ عَفِيفَةٌ أَوْ رَفِيقَةٌ بِهِ, أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ"(شَرْحُ صَحِيحِ مُسْلِمٍ).

وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: "مَنْ لَمْ يُعَاشِرِ النَّاسَ عَلَى لُزُومِ الْإِغْضَاءِ عَمَّا يَأْتُونَ مِنَ الْمَكْرُوهِ.. كَانَ إِلَى تَكْدِيرِ عَيْشِهِ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى صَفَائِهِ، وَإِلَى أَنْ يَدْفَعَهُ الْوَقْتُ إِلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ أَقْرَبُ مِنْهُ أَنْ يَنَالَ مِنْهُمُ الْوِدَادَ وَترَكَ الشَّحْنَاءِ"(رَوْضَةُ الْعُقَلَاءِ).

وَمَنْ لَمْ يُغْمِضْ عَيْنَهُ عَنْ صديقِهِ *** وَعَنْ بَعْضِ مَا فِيهِ يَمُتْ وَهْوَ عَاتِبُ

وَمَنْ يَتَتبَّعْ جَاهِدًا كُلَّ عَثْرَةٍ *** يَجِدْهَا وَلا يَسْلَمْ لَهُ الدَّهْرَ صَاحِبُ

ثَالِثًا: الصَّبْرُ؛ فَـ"عَلَى الْأَزْوَاجِ أَنْ يَتَحَمَّلُوا مَا يَجِدُونَ مِنْ تَقْصِيرٍ بِالنِّسْبَةِ لِزَوْجَاتِهِمْ، وَأَنْ يُلَاطِفُوهُنَّ, ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمَرْأَةَ قَرِيبَةٌ بَعِيدَةٌ؛ لَوْ سَمِعَتْ مِنْكَ كَلِمَةً لَيِّنَةً لَزَالَ كُلُّ مَا فِي قَلْبِهَا مِنَ الْغِلِّ؛ لِأَنَّهَا قَرِيبَةٌ، وَلَوْ سَمِعَتْ مِنْكَ كَلِمَةً سَهْلَةً وَتَصَوَّرَتْهَا صَعْبَةً انْتَفَخَتْ وَغَضِبَتْ؛ لِأَنَّهَا قَرِيبَةٌ، فَيَجِبُ عَلَى الرِّجَالِ أَنْ يُدارُوا النِّسَاءَ".

رَابِعًا: الْحِرْصُ عَلَى حَلِّ الْخِلَافَاتِ الزَّوْجِيَّةِ دَاخِلَ الْأُسْرَةِ, فَلَا تَخْرُجُ عَنْ مُحِيطِ الزَّوْجَيْنِ؛ فَهُنَاكَ مَنْ يَفْرَحُ بِهَذِهِ الْخِلَافَاتِ, وَيَزِيدُ النَّارَ اشْتِعَالًا بِالتَّحْرِيضِ عَلَى عَدَمِ الْمُسَامَحَةِ وَالتَّنَازُلِ, فَيَدْفَعُ بِالزَّوْجَيْنِ إِلَى مَزِيدٍ مِنَ الشِّقَاقِ، وَيُوَسِّعُ دَائِرَةَ الْخِلَافِ, وَيُعَقِّدُ الْأُمُورَ, وَيُصَعِّبُ الصُّلْحَ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَدَخَّلَ طَرَفٌ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ؛ فَلْنَمْتَثِلْ قَوْلَهُ -تَعَالَى-: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا)[النساء: 35].

عِبَادَ اللهِ: لَا تَصْلُحُ الْبُيُوتُ إِلَّا بِالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ للهِ -تَعَالَى-, فَلَعَلَّ مَا حَدَثَ مِنْ شِقَاقٍ بَيْنَكَ وَبَيْنَ زَوْجَتِكَ بِسَبَبِ ذَنْبٍ أَذْنَبْتَهُ, قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: "وَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ ذَنْبِي فِي خُلُقِ زَوْجَتِي, وَفِي خُلُقِ دَابَّتِي"؛ فَلِلْمَعْصِيَةِ أَثَرٌ عَلَى حَيَاةِ الْمَرْءِ فِي أَخْلَاقِ زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ؛ فَلْيُرَاجِعِ الْمَرْءُ عَلَاقَتَهُ بِرَبِّهِ, عَنْ أَبِي عَوْنٍ قَالَ: "كَانَ أَهْلُ الْخَيْرِ إذَا الْتَقَوْا يُوصِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِثَلاَثٍ, وَإِذَا غَابُوا كَتَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ بِثَلاَثٍ: مَنْ عَمِلَ لآخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ دُنْيَاهُ, وَمَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ كَفَاهُ اللَّهُ النَّاسَ, وَمِنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اللَّهُ عَلاَنِيَتَهُ"(مُصَنَّفُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ), قَالَ ابْنُ رَجَبٍ: "فَالسَّعِيدُ مَنْ أَصْلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ, فَإِنَّهُ مَنْ أَصَلَحَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ؛ أَصْلَحَ اللهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ".

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أُمِرْتُمْ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
خطبة عن الأم - ملتقى الخطباء
عناصر الخطبة
1/مكانة الأم 2/ فضل بر الأم وطاعتها والإحسان إليها 3/ عظم حق الأم وجميل إحسانها 4/ وسائل بر الأم بعد موتها 5/ قصص مؤثرة في طاعة الأم وبرها 6/ التحذير من عقوق الأمهات
اقتباس
الأم، هي قسيمة الحياة، وموطن الشكوى، وعتاد البيت، ومصدر الأنس، وأساس الهناء, يطيب الحديث بذكراها, ويسعد القلب بلقياها, حنانـها فـياض لا ينضب, ونبعــها زُلالٌ لا يجفّ. الأم، لا توفّيها الكلمات, ولا ترفعها العبارات, وإنما محلّها سويداءُ القلب، وكفى به...

الخطبة الأولى:

مضى ذلك الرجل يقطع الفيافي والقفار, قد اغبر وجهه، وشعث شعره, وتتابعت أنفاسه, وبلغ به الجهد مبلغه, إذا سار مفازة وقف, وألقى الحمل عن ظهره, وجعل يلتقط أنفاسه مليًا, حتى إذا ما استرد إليه نَـَفـسُه, وهدأت نَـفْـسُه حمل حِمله على ظهره، وسار ميمماً بيت الله الحرام.

لم يكن حمله ذاك زادًا ولا طعامًا, ولا مالًا ولا متاعًا, وإنما كان هذا المحمول هي أمه التي ربته, فأحسنت تربيته حتى غدا رجلاً بلغ من بره ما رأت.

سار الرجل البار تمتطيه أمه نحو البيت الحرام، فطاف بالبيت سبعاً، وهو يقول:

إني لها مطــيةٌ لا تُذْعرُ *** إذا الركاب نفرتْ لا تنفِرُ

ما حملتْ وأرضعتني أكثرُ *** اللهُ ربي ذو الجلال الأكبرُ

وبينما هو يطوف إذ رأى الصحابي عبد الله بن عمر، فدنا إليه، وقال: يا أبا عبد الرحمن أتُراني جازيتها بما فعلت؟ نظر إليه ابن عمر, فرأى وجهاً شعثاً, وجهداً مظنياً, لكن, أنى لابنٍ أن يجزي أماً, عندها قال ابن عمر للرجل: لا ولا زفرة واحدة.

إنها الأم, وما أدراك ما الأم, عطر يفوح شذاه, وعبير يسمو في علاه, والعيش في كنفها حياة, وعين لا تكتحل برؤيتها عقوقاً وإعراضاً حسرة, والبعد عنها أسى وحرمان.

الأم، هي قسيمة الحياة، وموطن الشكوى، وعتاد البيت، ومصدر الأنس، وأساس الهناء, يطيب الحديث بذكراها, ويسعد القلب بلقياها, حنانـها فـياض لا ينضب, ونبعــها زُلالٌ لا يجفّ.

الأم، لا توفّيها الكلمات, ولا ترفعها العبارات, وإنما محلّها سويداءُ القلب وكفى به مستقراً.

لأمك حق لو علمت كثير *** كثيرك يا هذا لديه يسير

إنها الأم التي وصى بها المولى -جل جلاله-, وجعل حقها فوق كل حق إلا حقّه, وجعل شكره سبحانه مقروناً بشكرها: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان: 14].

أمك, ثم أمك, ثم أمك, قالها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ثلاثاً لمن سأله من أحق الناس بحسن صحابتي.

إنها الأم يا من تريد مغفرة الذنوب, وسترَ العيوب, يأتي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل، فيقول: أذنبت ذنباً كبيراً فهل لي من توبة؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هل لك من أم؟" قال: لا، قال: "فهل له من خالة؟" قال: نعم، قال: "فبرها" [رواه الإمام أحمد وصححه ابن حبان].

يا من تريد رضى رب البريات، وتطلب جنة عرضها الأرض والسموات: دونك مفاتحيها بإحسانك لأمك ورضاها عنك.

هذا رجل من صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-, يأتي إليه, يحدوه شوقه إلى جنات ونهر, وتتعالى همته لاسترضاء مليك مقتدر، فيمشي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "يا رسول الله ائذن لي بالجهاد؟! فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هل لك من أم؟" قال: نعم، فقال: "الزم قدمها فثم الجنة".

الإحسان إلى الأم سبب لقبول الأعمال, قال سبحانه عن عبده الشاكر لنعمته، البار بوالديه: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) [الأحقاف: 16].

الإحسان إلى الأم سبب للبركة في الرزق وفي العمر, في وقتٍ قلت فيه البركات، وفي الصحيح: "من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه".

وأعظم الصلة صلة الوالدين، وأتم الإحسان الإحسانُ إلى الأم.

عباد الله: تفتح أبواب السماوات، وتجاب الدعوات، لمن كان باراً بوالدته، محسناً إليها, انطبقت الصخرة على ثلاثة نفرٍ، فدعا كل منهم، وتوسل إلى الله بأرجى عمل عمله، ومنهم رجل كان باراً بوالديه، ففرج الله عنهم الصخرة ونجوا من الهلاك.

وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أويس القرني: أنه كان مجابَ الدعاء، وكان من أبر الناس بوالدته.

يا أيها المبارك: أمك لها عليك القدر العالي, أحسنت إليك منذ كنت نطفة, في حملك ذاقت الألم والُمرّ, وعانت الشدة والضرّ, فكم من أنَّةٍ خالجتها، وزفرة دافعتها, من ثقلك بين جنبيها, ولا يزداد جسمك نمواً إلا وتزداد معه ضعفاً.

تُسرّ إذا أحسّت بحركتك, ولا يزيدها تعاقب الأيام إلا شوقاً لرؤيتك, فإذا حانت ساعةُ خروجك فلا تسل عما تعاني, حتى لربما عاينت الموت, فإذا رأتك وشمتك, نسيت آلامها وتناست أوجاعها، وعلقت فيك آمالها , فكنت أنت المخدومُ في ليلها ونهارها.

كنت أنت رهينَ قلبها ونديم فكرها, تغذيك بصحتها وتدثرك بحنانها وتميط عنك الأذى بيمينها.

تخاف عليك من اللمسة، وتشقق عليك من الهمسة.
سرورُها أن ترى ابتسامتك، إذا مسّك ضُرٌ لم تكتحل بنوم, وربما لم يرقأ لها دمع, تفديك بروحها وعافيتها.

ولا تزيدها الأيام إلا لك حباً, وعليك حرصاً, وفي سبيل تربيتك والعناية بك إلا جهداً.

حتى إذا صلُبَ عودك, وأزهر شبابك, كنت أنت عنوانَ فخرها, ورمزَ مباهاتها, تسر بسماع أخبارك، وتتحس برؤية آثارك.

إذا غبت عن عينها رافقتك دعواتها, فكم من دعوات لك تلجلجت وأنت لا تدري.

مُناها أن تسعد في سمائك, وغايتُها أن توفّق.

تعطيك كل شيء ولا تطلب منك أجراً, وتبذل لك كل وسعها ولا تنتظر منك شكراً.

لأجل كل هذا، فالبر بالأم مفخرة الرجال، وشيمة الشرفاء، وقبل ذلك كله هو خلق من خلق الأنبياء, قال تعالى عن يحيى -عليه السلام-: (وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً) [مريم: 14].

وقال عيسى -عليه السلام-: (وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً) [مريم: 32].

يا كرام: البرُّ بالأم يتأكد يوم يتأكد إذا تقضى شبابها, وعلا مشيبها, ورق عظمها، وأحدودب ظهرها، وارتعشت أطرافها, وزارتها أسقامها.

في هذه الحال من العمر لا تنتظر صاحبة المعروف، والجميل من ولدها، إلا قلباً رحيماً، ولساناً رقيقا, ويداً حانية.

فطوبى لمن أحسن إلى أمه في كبرها, طوبى لمن سعى في رضاها، فلم تخرج من الدنيا إلا وهي عنه راضية.

فيا أيها البار بأمه -وكلنا نطمع أن نكون كذلك- تمثل قول المولى -جل جلاله-: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) [الإسراء: 24] تخلّقْ بالذل بين يديها بقولك وفعلك، لا تدْعُها باسمها، بل نادها بلفظ الأم، فهو أحب إلى قلبها، لا تجلس قبلها، ولا تمشِ أمامها، قابلها بوجه طليق وابتسامة وبشاشة، تشرف بخدمتها، وتحسس حاجاتِها، إن طلبتْ فبادر أمرها, وإن سقمت فقم عند رأسها، أبهج خاطرها بكثرة الدعاء لها، راع مشاعرها, ولا تفتأ أن تُدخِل السرور والأنس على قلبها, قدم لها الهدية، وزف إليها بالبشائر, واستشعر وأنت تُقبِّلُ وتعطِفُ على أبنائك عطفَ أمك وحنانَها بك, وردّد في صبح ومساء: (رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) [الإسراء: 24].

أيها البار بأمه: إن كانت غاليتك ممن قضت نحبها، ومضت إلى ربها، فأكثر من الدعاء والاستغفار لها, وجدد برِّك بها بكثرة الصدقة عنها, وصلةِ أقاربك من جهتها, وصلاحُك في نفسك من أعظم البر الذي تقدمه لوالديك بعد رحيلهما, جاء رجل إلى النبي -عليه السلام-، فقال: يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بها، وإكرام صديقهما.

وفي التنزيل: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان: 14].

اللهم صل وسلم على محمد.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من نبي بعده.

أما بعد:

قال أبو الليث السمرقندي: لَوْ لَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ -تَعَالَى- فِي كِتَابِهِ حُرْمَةَ الْوَالِدَيْنِ وَلَمْ يُوصِ بِهِمَا لَكَانَ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ أَنَّ حُرْمَتَهُمَا وَاجِبَةٌ, وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ حُرْمَتَهُمَا، وَيَقْضِيَ حَقَّهُمَا, فَكَيْفَ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ ذلك فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْفُرْقَانِ, وَقَدْ أَمَرَ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ، وَأَوْحَى إلَى جَمِيعِ رُسُلِهِ، وَأَوْصَاهُمْ بِحُرْمَةِ الْوَالِدَيْنِ، وَمَعْرِفَةِ حَقِّهِمَا, وَجَعَلَ رِضَاهُ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ وَسَخَطَهُ فِي سَخَطِهِمَا.

عباد الله: وسير الصالحين مع الأمهات مآثر تدرس, وأخبارٌ تروى, فحدث عن الوفاء, وعن السمو, وعن البر في أنصع الصور, وأرقّ المشاعر, قالَ محمدُ بنُ بشرٍ الأسلميِّ: لم يَكنْ أحدٌ بالكوفةِ أبرَّ بأمِه من منصورِ بنُ المعتمرِ وأبي حنيفةَ، وكانَ منصورُ يَفْلِي رأسَ أُمه، وكان أبو حنيفة يتصدق عنها بالأموال كل آن.

وذلكم الصالح محمدُ بنُ المنكدرِ يقول: باتَ أخي عمرُ يُصلي، وبِتُ أَغمِزُ رِجلَ أُمي، وما أُحِبُ أنَّ ليلتي بليلِته، وأما إمام الحديث بندار فقد حُرم الخروج للحديث لأجل أمه, استئذنها فلم تأذن, يقول بعد ذلك: فبورك لي في العلم.

وفي زمننا هذا أحد العلماء لا يخرج حتى تأذن له أمه, وهو قد بلغ الستين من عمره, حتى لربما ألغى درساً؛ لأن أمه أبت.

فما بال البعض من شبابنا لا تعلم به أمه, فضلاً عن أن يستأذنها؟

بل لقد عرفت من المعاصرين من لزم فراش أمه يمرّضها مدة أربع سنين, يبيت عندها حتى ماتت, وله عدة زوجات.

والمواقف لا تحصر ولا تعد, ولا زال في الأمة خير كبير.

نعم, هي صور رائعة, ولكن بنقضيها صور محزنة.
أجل، فكم يأسى المرء اليوم وهو يسمع عن صورٍ من صور العقوق، يندى لذكرها الجبين, قطيعةٌ وبذاءةٌ وتطاول باللسان وربما باليد، تأففٌ وتضجرٌ، وإظهارٌ للسَخَطِ وعدَمِ الرضى، حتى غَدت منزِلةُ الصَديقِ عندَ الكثيرِ من شَبابِ اليوم أعلى قدراً ومكانةً من الوالدين, وحتى قدّم البعض رضى زوجاتهم على رضى أمهاتهم وآبائهم, ولربما أبكى أمه في سبيل أن يرقأ دمعة ابنه!

والمصيبة تعظم حين تكون من ابنٍ أراه الله نسله! ويوشك إن لم يتب أن يرى ذلك العقوق في بنيه, فالبر دينٌ والعقوق كذلك!

عبد الله: أهكذا ينتهي الحال بأُمكَ التي حملتَك كُرهاً، ووضعتَك كُرهاً، ورأتَ الموتَ مرّات لأجلك, أهذا جزاء والدتك التي أرضعتكَ ورَبتَّك وغذتك ورعتك؟

مسكينٌ أنتَ أيها العاقُ، تَنامُ مِلءَ جَفنَيكَ، وقد تَركتَ والدينِ ضعيفِينِ يَتجرعانِ من العقوقِ غُصصا، ونسيت أو تناسيت أنكَ مُمُهَلٌ لا مُهملٌ، فعَاقبةُ العُقوقِ مُعجلةٌ لصاحبِها في الدِنيا قبل الآخرة، وفي الحديث: "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبة العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم".

كيف ترجو توفيقاً وقبولاً, والله قد أعرض عن العاق, والمصطفى -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة"، وذكر منهم: "العاقُ لوالديه".

تذكر -أيها المقصر مع والديه- ليلةً تُصبِحُها بلا أم, تذكر ساعةً تدخل فيها المنزل، فلا تسمع صوتها ولا تبصر رسمها, ولا ترى ثيابها, تذكر يوماً تحثو فيه الترابَ على قبرها, تذكر يوماً تتقبلُ التعازي بها, هناك ستعرف قدر أمك, هناك ستعرف أي أمر فقدت, وأي بابٍ أوصد عنك, وأي خيرٍ حرمت.

سل ذلك الذي فقد أمه يخبرك كيف تغير عليه طعم الحياة, حين خلّف أمه في المقابر, فلم يجد من بعدها من يسنده ويدعو له ويبث له شكواه, ولن يعرف قدر هذا إلا من عاناه.

ألا فعُد اليوم وأرض أمك وأباك, واستدرك ما بقي، وأصلح ما فات, وعاهد نفسك الآن على البر والإحسان مادام في العمر إمكان.

اللهم اغفرْ لآبائِنا وأمهاتِنا، جازِهم بالإحسانِ إحساناً، وبالسيئاتِ عفواً منكَ وغُفراناً.

وارزقنا برَّهم أحياءً وأمواتاً، واجعلنا لهم قرةَ أعينِ، وتوفنا وإياهم وأنتَ راضٍ عنا غيرَ غضبانِ.
🎤
*خـطـبة جمـعـة بعنـوان:*
*رمضان جباه ساجدة وأيد منفقة ..!!*
🕌🕌🕌🕌🕌🕌🕌🕌

*الخطـبة الاولــى:*
الحمدُ للهِ الذي أنشأَ وبَرَا، وخلقَ الماءَ والثَّرى،
وأبْدَعَ كلَّ شَيْء وذَرَا، لا يَغيب عن بصرِه صغيرُ النَّمْلِ في الليل إذا سرى،
ولا يعْزُبُ عن علمِه مثقالُ ذَرَّةٍ في الأرضِ ولا في السماء...

وأشهدُ أن لا إله إلا الله الذي لا تحيط به العُقولُ والأوهامُ، المتفرد بالعظمةِ والبقاءِ والدوام، المتنزه عن النقائض ومشابهة الأنام،
يرى ما في داخل العروق وبواطن العظام،
ويسمعُ خفِيَّ الصوتِ ولطيف الكلام،
إله رحيم كثير الإنعام، ورب قدير شديد الانتقام،
قدَّر الأمور فأجراها على أحسن النظام،
وشرع الشرائع فأحكمها أيما إحكام...

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل الأنام، صلى الله عليه وعلى سائر آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان على الدوام، وسلم تسليمًا كثيرًا...

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1] ؛

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71]،...

عُبّادُ ليلٍ إذا جَنَّ الظلامُ بِهِمْ ***
كم عابدٍ دمْعُهُ في الخـدِّ أجْرَاهُ
وأُسْدُ غابٍ إذا نادى الجهادُ بِهِمْ ***
هَبُّوا إلى الموتِ يستَجْدُونَ رُؤياه
يا ربّ فابعثْ لنا مِن مِثْلِهِمْ نَفَـَرًا ***
يشيـِّدُونَ لنـا مجداً أضَعْنَــاه

أمـا بعــد :
عبــــــــاد الله :

في رمضان تتنوع الطاعات والعبادات، وكل عبادة وطاعة تؤتي ثمرتها في حياة الأفراد والمجتمعات والشعوب،

وإن من هذه العبادات في هذا الشهر المبارك صلاة التراويح، وقيام الليل؛ لما فيهما من الأجر والثواب، والفوائد الروحية، والقيم الأخلاقية، والصحة الجسدية،

قال -صلى الله عليه وسلم-: مَن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه. واه مسلم.

وعن عمر بن عمرو بن مرة الجهني قال: جاء رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- رجلٌ من قضاعة فقال: يا رسول الله! أرأيتَ إن شهدتُّ أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليتُ الصلوات الخمس، وصُمت الشهر، وقمت رمضان، وآتيتُ الزكاة؟
فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: مَن مات على هذا كان من الصدِّيقين والشهداء. صحَّحه ابن خزيمة وابن حبان والألباني...

فهل نشمِّر عن ساعد الجد لتربية نفوسنا على صلاة التراويح والقيام في رمضان؛ حتى تستقيم على هذه العبادة والطاعة طوال العام؛
فتحل علينا البركات، وتتنزل علينا الرحمات، وتفرج الكربات، وتقضى الحاجات، وتدفع الشرور والآفات؟!
وكم نحن محتاجون إلى رحمة الله وتوفيقه!
ولن تنال إلا بعبادة صحيحة، ومناجاة صادقة، وعمل خالص...

إنَّ قيام الليل عبادة من العبادات الجليلة، لا يلازمها إلا الصالحون، فهي دأبهم وشعارهم، وهي ملاذهم وشغلهم،
قال -تعالى-:(( إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) [السجدة:15-17]...

ووصَفَهم في موضع آخَر بقوله:(( وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا، إلى أن قال: أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا)) [الفرقان:64-75]...

إنَّ قيام الليل له لَذَّة، وفيه حلاوة وسعادة لا يشعر بها إلا مَن صَفَّ قدميه لله فى ظلمات الليل، يعبد ربه، ويشكو ذنبه، ويناجى مولاه، ويطلب جنته، ويرجو رحمته، ويخاف عذابه، ويستعيذ من ناره،

قال -تعالى- عنهم:(( كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ))[الذاريات:17-18]...

قال الحسن: كابدوا الليل، ومدّوا الصلاة إلى السحر، ثم جلسوا في الدعاء والاستكانة والاستغفار...
وقال -تعالى-:(( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ))[الزمر:9]...
أي : هل يستوي مَن هذه صفته مع من نام ليله وضيّع نفسه، غير عالم بوعد ربه ولا بوعيده؟!.

عن -السري رحمه الله تعالى- قال: دخلتُ سوق النخَّاسين، فرأيت جارية ينادى عليها بالبراءة من العيوب، فاشتريتها بعشرة دنانير, فلما انصرفت بها -أي: إلى المنزل- عرضتُ عليها الطعام،
فقالت لي: إني صائمة..
قال: فخرجْتُ، فلما كان العشاءُ أتيتها بطعام فأكلت منه قليلا، ثم صلينا العشاء، فجاءت إليّ
وقالت: يا مولاي، بَقِيَتْ لك خدمة؟
قلت: لا.
قالت: دعني إذاً مع مولاي الأكبر.
قلت: لكِ ذلك...
فانصرفَت إلى غرفة تصلي فيها, و رقدت أنا،
فلما مضى من الليل الثلث ضربت الباب عليّ،
فقلت لها: ماذا تريدين؟
قالت: يا مولاي، أما لك حظ من الليل؟
قلت: لا،
فذهبَت، فلما مضى النصف منه ضربَت عليّ الباب
وقالت: يا مولاي، قام المتهجدون إلى وِرْدِهم، وشمــَّر الصالحون إلى حظهم،
قلت: يا جارية، أنا بالليل خشَبة، أي: جثة هامدة، وبالنهار جلبة، أي: كثير السعي...

فلما بقي من الليل الثلث الأخير ضربَت علي الباب ضرباً عنيفاً،
وقالت: أما دعاك الشوق إلى مناجاة الملِك؟
قدِّمْ لنفسك وخُذ مكاناً؛ فقد سبقك الخُدَّام...

قال السري: فهاج مني كلامها، وقمت فأسبغت الوضوء، وركعت ركعات، ثم تحسسْتُ هذه الجارية في ظلمة الليل، فوجدتها ساجدة و هي تقول: إلهي بحبك لي إلا غفرت لي..
فقلت لها: يا جارية، ومِن أين علمت أنه يحبك؟
قالت: لولا محبته ما أقامني وأنامك..
فقلت: اذهبي؛ فأنت حرة لوجه الله العظيم..
فدعت ثم خرجت و هي تقول: هذا العتق الأصغر، بقي العتق الأكبر. أي: من النار...

عبــــــــاد الله :
لقد حث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قيام الليل، ورغّب فيه، فقال -عليه الصلاة والسلام-: عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد. رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني...

جاء في كتاب : الوصفات المنزلية المجربة وأسرار الشفاء الطبيعية، وهو كتاب بالانجليزية لمجموعه من المؤلفين الأمريكيين، أن القيام من الفراش أثناء الليل، والحركة البسيطة داخل المنزل، والقيام ببعض التمرينات الرياضية الخفيفة، و تدليك الأطراف بالماء، و التنفس بعمق، له فوائد صحية عديدة...
وهو ما ذكر في الحديث..

ومن هذه الفوائد : أن قيام الليل يؤدي إلى تقليل إفراز هرمون الكورتيزول؛ مما يقي من الزيادة المفاجئة في مستوي سكر الدم، و الذي يشكل خطورة علي مرضي السكر، و يقلل كذلك من الارتفاع المفاجئ في ضغط الدم، و يقي من السكتة المخية، والأزمات القلبية في المرضى المعرضين لذلك...


كذلك يقلل قيام الليل من مخاطر تخثر الدم في وريد العين الشبكي ، و يؤدي قيام الليل إلى تحسن وليونة في مرضى التهاب المفاصل المختلفة، سواء كانت روماتيزمية؛ أو غيرها؛ نتيجة الحركة الخفيفة والتدليك بالماء عند الوضوء...

كما يؤدي قيام الليل إلى تخلص الجسد ممّا يسمي بالجليسيرات الثلاثية ، نوع من الدهون التي تتراكم في الدم، خصوصا بعد تناول العشاء المحتوي علي نسبه عالية من الدهون، التي تزيد من مخاطر الإصابة بأمراض شرايين القلب التاجية بنسبة اثنتين وثلاثين بالمائة في هؤلاء المرضي مقارنة بغيرهم...

كما أن قيام الليل ينشط الذاكرة، ويُنبّه وظائف المخ الذهنية المختلفة ؛ لما فيه من قراءةٍ وتدُّبرٍ للقرآن، وذكر للأدعية، واسترجاع لأذكار الصباح و المساء، فيقي مِن أمراض الزهايمر وخرف الشيخوخة والاكتئاب وغيرها...

فمَن علم محمداً -صلى الله عليه وسلم- كل ذلك؟
إنه الله القائل:(( وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ))[ص:88]..


عن عبد الله المكي قال : كانت حبيبةُ العدويَّةُ إذا جاء الليل قامت على سطح بيتٍ لها، وشدَّتْ عليها درعها وخمارها،
ثم قالت: إلهي، قد غارت النجوم، ونامت العيون، وغلقت الملوك أبوابها، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك. ثم تُقبل على صلاتها...

فإذا طلع الفجر قالت: إلهي، هذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليت شعري! أقبِلْتَ منى ليلتي فأُهنَّأ؟ أم رددتها على فأعُزى؟ وعِزَّتك! لَهذا دأبي ودأبك ما أبقيتني، وعزتك! لو انتهرتني عن بابك ما برحت؛ لما وقع في نفسي من جودك وكرمك...

عبــــــــاد الله :
إن شرف المؤمن وعِزه واستغناءه عن الناس لا يكون في ماله مهما كثر، ولا في جاهه ومنصبه مهما علا؛ إنما يكون في قيام الليل،
قال -صلى الله عليه وسلم-: أتاني جبريل فقال: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبِبْ مَن شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعِزُّه استغناؤه عن الناس. رواه الحاكم والبيهقي وحسنه المنذري والألباني...

إنه عندما تُطلَب العزة من غير مصدرها، فلن يكون هناك إلا الذل والهوان، وعندما يطلب الشرف والرفعة والمكانة العالية من غير وجهتها الصحيحة فلن تكون هناك إلا الوضاعة والدناءة...

وأمة الإسلام اليوم، أفراداً وشعوباً وحكومات، يجب أن تعود لعزتها وريادتها وقيادتها لهذا العالم، ولن يكون هذا إلا بعبودية الله، والخضوع والتسليم لحكمه، والاقتداء برسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتربية الروح قبل الجسد، ، ،

ومَن نظَر في تاريخ الأمة وجد أن انطلاقها من محراب العبادة كان سبب نصرتها وعزتها وتمكينها في الأرض، وإن أبواب العزة والكرامة والجهاد لا يطرقها إلا عُباد الليل، والشجاعة لا تسقى إلا بدموع الساجدين، ولم يعرف الإسلام رجاله إلا كذلك...

يُحيـُـونَ ليلَهُمُ بطاعةِ رَبِّهِـم ***
بتلاوةٍ وتضرُّعٍ وسُـؤالِ
وعُيونهم تجرى بفيضِ دموعِهِم ***
مثلَ انهمالِ الوابل الهطَّال
في الليل رهبانٌ وعند جهادِهمْ ***
لِعَدُوِّهِم مِن أشجع الأبطال
وإذا بــدا علَمُ الرِّهانِ رأيتَهُمْ ***
يتسابقون بصالح الأعمال
بوُجُوهِهِم أثَرُ السُّجُــودِ لِرَبِّهِمْ ***
وبها أشعَّةُ نـورِهِ المتلالي

إنَّ القيامَ بالعبادات، والمداومة عليها، والحرص على أدائها، واستغلال أوقاتها، عنوانٌ على كمالِ الإيمان، وصدقِ العمل، وإخلاص القلب، وهي طريقٌ لسعادة الدنيا والآخرة، وبها تُستجلَب الخيرات، وتدفع المصائب والكوارث والنقمات، وبها تصحُّ الأجساد، وتعمر البيوت، وتحيا المجتمعات، ويوم القيامة تُرْفَعُ بها الدرجات...

كان منصورُ بنُ المعتمر يصلِّي الليل على سطح بيته، وهكذا طوال حياته، فلما مات، قال غلام لأمه: يا أماه، الجِذع الذي كان في سطح جيراننا لم نعد نراه؟ قالت: يا بني، ليس ذاك بجذع، ذاك منصور قد مات...

ولما احتضر عبد الرحمن بن الأسود فبكى، فقيل له: ما يبكيك، وأنتَ مَن أنت في العبادة والصلاح والخشوع والزهد؟!
فقال: أبكي -والله!- أسفاً على الصلاة والصيام والذكر والقيام، ثمّ لم يزل يتلو حتى مات...

أما يزيد الرقاشي فإنه لما نزل به الموت أخذ يبكي ويقول: من يصلي لك يا يزيد إذا متّ؟ ومن يصوم لك؟ ومن يستغفر لك من الذنوب؟
ثم تشهَّد ومات...
ونحن نقول: مَن يصلي لك أيها المسلم، ومن يصوم ويزكي وينفق عنك إذا لم تقم أنت بذلك، وتستغل نفحات الرحمن، ورياح الإيمان في شهر رمضان؟.

فاللهم، يا سامع الدعوات، ويا مقيل العثرات، ويا غافر الزلات: اجعلنا من عبادك التائبين، ولا تردنا عن بابك مطرودين، واغفر لنا ذنوبنا أجمعين...


قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه...


الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..

أما بعد:
عبـاد الله :

عندما وصف الله -سبحانه وتعالى- عُبَّاده بقيام الليل، والتضرع بين يديه، وصَفَهم بعد ذلك مباشرة بالجود والكرم والإنفاق،
فقال -تعالى-:(( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ))[السجدة:15-17]...

فالذي لا ينفق أمواله في أبواب الخير وفي منافع العباد مِن حوله حسب قدراته وطاقته لا يوفق للقبول عند الله، ولا ينتفع بطاعة، ولا يتلذذ بعبادة؛ لأن حب المال في قلبه سيطغى على كل حب، وإنّ شكر نعمة المال لا يكون إلا بالإنفاق والبذل والعطاء...

وفي شهر رمضان يكون الإنفاق أعظم؛ لأنه يتزامن مع الصيام والقيام وقراءة القرآن،
فكيف بمسلم يقرأ قول الله -عز وجل-: ((مَنْ ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً ))[البقرة:245]،

أو يقرأ أو يسمع قول الله -عز وجل-: ((وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ))[سبأ:39]،
ثم لا يسارع إلى الإنفاق والبذل والعطاء؟!
كلٌّ بما يستطيع،
فكم من جائع ومحتاج ويتيم ومسكين ومريض وغارم يحتاج إلى مَن يقف بجانبه ويمد يد العون له! ولن يضيع ذلك عند الله...


عبــــــــاد الله:
لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس في رمضان وغير رمضان، ، ،

أخرج البخاري من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان يدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان، فلَرسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسلة.
فتشبهوا بنبيكم، واقتدوا بسلوكه وأخلاقه، والتزموا بتوجيهات؛ تفلحوا في الدنيا والآخرة.
وفي الحديث القدسي: قال الله -عز وجل-: أنفِقْ يا ابن آدم أنفقْ عليك. البخاري ومسلم...

في عام الرمادة، وقد بلغ الفقر والجوع بالمسلمين مبلغاً عظيماً، جاءتْ قافلةٌ لعُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ مُؤَلَّفة ٌمِن أْلفِ بَعْيِرٍ، مُحَمَّلَة ٌ بالتَّمْرِ والزَّبيْبِ والزَّيْتِ وغيرِها من ألوانِ الطعامِ،
فجاءَهُ تُجّارُ المدينةِ المُنَوَّرَةِ مِنْ أَجْلِ شِرائِها منه، وقالُوا لهُ: نُعْطيكَ ربحاً بَدَلَ الدِّرْهَمَ دِرْهَمَينِ يا عثمان.
قالَ عثمانُ: لقد أُعْطِيْتُ أكثرَ مِنْ هذا.
قالوا: نَزِيْدُكَ الدِّرْهَمَ بخَمْسة.
قالَ لَهُمْ: لَقَدْ زادنَي غيرُكم، الدِّرْهَمَ بَعَشَرة!
قالوا له: مَنْ ذا الذي زادَكَ، ولَيْسَ في المدينةِ تُجّارٌ غيرُنا؟
قالَ عثمانُ: أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ اللهِ -تعالى-:(( مَنْ جاءَ بالحَسَنَةِ فلهُ عَشْرُ أمثاِلها))؟
أُشْهِدُكُمْ أنّي قَدْ بِعْتُها للهِ ورسولهِ. فأنفَقَها في سبيل الله...

إن القضية ليست قضية ربح الدنيا وما فيها؛
ولكن القضية التي ينبغي أن يسعى لها كل مسلم هي ربح الآخرة،

فأنفقوا -رحمكم الله-، وقدموا لأنفسكم ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، واستغلوا أيام رمضان بالأعمال الصالحات...

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر...

ألا صلوا وسلموا على الحبيب المصطفى،
فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ،
فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]...

ﺍﻟﻠﻬﻢ ﺻﻞِّ ﻭﺳﻠﻢ ﻭﺑﺎﺭﻙ ﻋﻠﻰ ﻧﺒﻴﻨﺎ ﻣﺤﻤﺪ، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر،
ﻭﺍﺭﺽَ ﺍﻟﻠﻬﻢ ﻋﻦ ﺧﻠﻔﺎﺋﻪ ﺍﻟﺮﺍﺷﺪﻳﻦ،
أبي بكر و عمر و عثمان و علي ، ﻭﻋﻦ ﺍﻟﺼﺤﺎﺑﺔ ﺃﺟﻤﻌﻴﻦ، ﻭﻋﻦ ﺍﻟﺘﺎﺑﻌﻴﻦ، ﻭﻣﻦ ﺗﺒﻌﻬﻢ ﺑﺈﺣﺴﺎﻥ ﺇﻟﻰ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﺪﻳﻦ، ﻭﻋﻨﺎ ﻣﻌﻬﻢ ﺑﻤﻨﻚ ﻭﺭﺣﻤﺘﻚ ﻳﺎ ﺃﺭﺣﻢ الراحمين ..

ﺍﻟﻠﻬﻢ ﺃﻋﺰ ﺍﻹ‌ﺳﻼ‌ﻡ ﻭﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ، ﻭﺃﺫﻝ ﺍﻟﺸﺮﻙ ﻭﺍﻟﻤﺸﺮﻛﻴﻦ، ﻭﺍﺣﻢ ﺣﻮﺯﺓ ﺍﻟﺪﻳﻦ، ﻭﺍﺟﻌﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺒﻠﺪ ﺁﻣﻨﺎً ﻣﻄﻤﺌﻨﺎً ﻭﺳﺎﺋﺮ ﺑﻼ‌ﺩ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ﻳﺎ ﺭﺏ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﻦ..

ﺍﻟﻠﻬﻢ ﺁﻣﻨﺎ ﻓﻲ ﺃﻭﻃﺎﻧﻨﺎ ﻭﺃﺻﻠﺢ ﺃﺋﻤﺘﻨﺎ ﻭﻭﻻ‌ﺓ ﺃﻣﻮﺭﻧﺎ، ﻭﺍﺟﻌﻞ ﻭﻻ‌ﻳﺘﻨﺎ ﻓﻴﻤﻦ ﺧﺎﻓﻚ ﻭﺍﺗﻘﺎﻙ ﻭﺍﺗﺒﻊ ﺭﺿﺎﻙ ﻳﺎ ﺭﺏ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﻦ...

ﺍﻟﻠـﻬﻢ ﺇﻥ ﺃﺭﺩﺕ ﺑﺎﻟﻨﺎﺱ ﻓﺘﻨﺔ ﻓﺎﻗﺒﻀﻨﺎ ﺇﻟﻴﻚ ﻏﻴﺮ ﺧﺰﺍﻳﺎ ﻭﻻ‌ ﻣﻔﺘﻮﻧﻴﻦ ﻭﻻ‌ ﻣﻐﻴﺮﻳﻦ ﻭﻻ‌ ﻣﺒﺪﻟﻴﻦ ﺑﺮﺣﻤﺘﻚ ﻳﺎ ﺃﺭﺣﻢ ﺍﻟﺮﺍﺣﻤﻴﻦ ,


ﺍﻟﻠـﻬﻢ ﻻ‌ ﺗﺪﻉ ﻷ‌ﺣﺪ ﻣﻨﺎ ﻓﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻘﺎﻡ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﺫﻧﺒﺎً ﺇﻻ‌ ﻏﻔﺮﺗﻪ ﻭﻻ‌ ﻣﺮﻳﻀﺎ ﺇﻟﻰ ﺷﻔﻴﺘﻪ ﻭﻻ‌ ﺩﻳﻨﺎً ﺇﻻ‌ ﻗﻀﻴﺘﻪ ، ﻭﻻ‌ ﻫﻤﺎً ﺇﻟﻰ ﻓَﺮَّﺟْﺘﻪ ، ﻭﻻ‌ﻣﻴﺘﺎ ﺇﻻ‌ ﺭﺣﻤﺘﻪ ، ﻭﻻ‌ ﻋﺎﺻﻴﺎ ﺇﻻ‌ ﻫﺪﻳﺘﻪ ، ﻭﻻ‌ ﻃﺎﺋﻌﺎ ﺇﻻ‌ ﺳﺪﺩﺗﻪ ، ﻭﻻ‌ ﺣﺎﺟﺔ ﻟﻚ فيها ﺭﺿﺎً ﻭﻟﻨﺎ ﻓﻴﻬﺎ ﺻﻼ‌ﺡ ﺇﻻ‌ ﻗﻀﻴﺘﻬﺎ ﻳﺎ ﺭﺏ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﻦ ,...

ﺍﻟﻠـﻬﻢ ﺍﺟﻌﻞ ﺟﻤﻌﻨﺎ ﻫﺬﺍ ﺟﻤﻌﺎً ﻣﺮﺣﻮﻣﺎً ، ﻭﺗﻔﺮﻗﻨﺎً ﻣﻦ ﺑﻌﺪﻩ ﺗﻔﺮﻗﺎ ﻣﻌﺼﻮﻣﺎ ﻭﻻ‌ ﺗﺠﻌﻞ ﻓﻴﻨﺎ ﻭﻻ‌ ﻣﻨﺎ ﻭﻻ‌ ﻣﻌﻨﺎ ﺷﻘﻴﺎً ﺃﻭ ﻣﺤﺮﻭﻣﺎً ,


اللهم لا تخرجنا من هذا المكان إلا بذنب مغفور وسعى مشكور وتجارةٍ لن تبور ..
اللهم إرحم ضعفنا ، وإرحم بكاءنا ، وإرحم بين يديك ذلنا وعجزنا وفقرنا ..

اللهم لا تفضحنا بخفى ما أطلعت عليه من اسرارنا
ولا بقبيح ما تجرأنا به عليك فى خلواتنا ،

يا رب إغفر الذنوب التى تهتك العصب ،
وأغفر لنا الذنوب التى تنزل النقم ،
واغفر لنا الذنوب التى تحبس الدعاء ،
وأغفر لنا الذنوب التى تقطع الرجاء،
وأغفر لنا الذنوب التى تنزل البلاء ،
يا من ذكره دواء ، وطاعته غناء ، إرحم من رأس مالهم الرجاء ، وسلاحهم البكاء برحمتك يا أرحم الراحمين ...


اللهم إرحم موتانا وموتى المسلمين ،
وإشفى مرضانا ومرضى المسلمين ،
اللهم جدد آمالهم ، وأذهب آلآمهم
اللهم وفق شباب المسلمين وأكتب لهم النجاح والتوفيق ، وأستر نساءهم ، وإحفظ بناتهم ، واصلح شبابهم ، وربى أولادهم. ...

اللهم تقبل منا وأقبلنا إنك أنت التواب الرحيم..

ﺍﻟﻠﻬﻢ ﻧﺴﺄﻟﻚ ﺍﻟﺠﻨﺔ ﻭﻣﺎ ﻗﺮﺏ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻗﻮﻝٍ ﻭﻋﻤﻞ،ﻭﻧﻌﻮﺫ ﺑﻚ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺭ ﻭﻣﺎ ﻗﺮﺏ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻗﻮﻝ ﻭﻋﻤﻞ ﻳﺎ ﺃﺭﺣﻢ ﺍﻟﺮﺍﺣﻤﻴﻦ،

ﺍﻟﻠﻬﻢ ﺇﻧﺎ ﻧﺴﺄﻟﻚ ﺃﻟﺴﻨﺔ ﺫﺍﻛﺮﺓ ﺻﺎﺩﻗﺔ، ﻭﻗﻠﻮﺑﺎً ﺳﻠﻴﻤﺔ، ﻭﺃﺧﻼ‌ﻗﺎً ﻣﺴﺘﻘﻴﻤﺔ ﺑﺮﺣﻤﺘﻚ ﻳﺎ ﺃﺭﺣﻢ ﺍﻟﺮﺍﺣﻤﻴﻦ..

ﺍﻟﻠﻬﻢ ﺍﺧﺘﻢ ﻟﻨﺎ ﺑﺨﺎﺗﻤﺔ ﺍﻟﺴﻌﺎﺩﺓ، ﻭﺍﺟﻌﻠﻨﺎ ﻣﻤﻦ ﻛﺘﺒﺖ ﻟﻬﻢ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ ﻭﺯﻳﺎﺩﺓ، ﻳﺎ ﻛﺮﻳﻢ ﻳﺎ ﺭﺣﻴﻢ.
 
ﻋﺒﺎﺩ ﺍﻟﻠﻪ:
ﺇﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﻳﺄﻣﺮ ﺑﺎﻟﻌﺪﻝ ﻭﺍﻹ‌ﺣﺴﺎﻥ ﻭﺇﻳﺘﺎﺀ ﺫﻱ ﺍﻟﻘﺮﺑﻰ ﻭﻳﻨﻬﺎ ﻋﻦ ﺍﻟﻔﺤﺸﺎﺀ ﻭﺍﻟﻤﻨﻜﺮ ﻭﺍﻟﺒﻐﻲ ﻳﻌﻀﻜﻢ ﻟﻌﻠﻜﻢ ﺗﺬﻛﺮﻭﻥ، فاذﻛﺮﻭﺍ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﻳﺬﻛﺮﻛﻢ، ﻭﺍﺷﻜﺮﻭﻩ ﻋﻠﻰ ﻧﻌﻤﻪ ﻳﺰﺩﻛﻢ، ﻭﻟﺬﻛﺮ ﺍﻟﻠﻪ ﺃﻛﺒﺮ ﻭﺍﻟﻠﻪ ﻳﻌﻠﻢ ﻣﺎ ﺗﺼﻨﻌﻮﻥ...
والحمد لله رب العالمين ..

*نشر العلم صدقة جارية فأعد نشرها*
*ولاتبخل على نفسك بهذا الأجر العظيم*
========================
خطبة 🎤 بعنوان
""حق شهر رمضان"" 
🕌🕋🌴🕋🕌
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين ...
اللهم لك الحمد انت نور السموات والارض ومن فيهن ،
ولك الحمد انت قيوم السموات والارض ومن فيهمن ،
ولك الحمد انت ملك السموات والارض ومن فيهن ،
ولك الحمد انت الحق ، ووعدك حق ، ولقاؤك حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والساعة حق ، والنبيون حق ، ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم حق ،
اللهم لك اسلمنا ، وبك آمنا ، وعليك توكلنا ، واليك انبنا ، وبك خاصمنا ، واليك حاكمنا ، فاغفر لنا ما قدمنا وما اخرنا ، وما اسررنا وما اعلنا ، انت المقدم وانت المؤخر , لا إله إلا انت ،

وأشهد ان لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له . قيوم لا ينام ، ولا ينبغى له ان ينام ،
يخفض القسط ويرفعه ،
يرفع اليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل،
حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما إنتهى إليه بصره من خلقه ,سبحانه سبحانه سبحانه ..!!
الموصوف بصفات الكمال والجمال والجلال ، المنزه عن كل العيوب و النقائص ،

أنا إن تبت مناني ... و إن اذنبت رجاني ...
و إن أدبرت ناداني .. و إن أقبلت أدناني 
وإن أحببت والاني.. و إن أخلصت ناجاني

و إن قصرت عافاني .. و إن أحسنت جازاني

إلهى أنت رحماني .. فصرف عنى أحزاني


وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله وصفى الله وخليله ، البشير النذير ، السراج المزهر المنير ,خير الأنبياء مقاما ، وأحسن الأنبياء كلاما ، لبنة تمامهم ، ومسك ختامهم ، رافع الإصر والأغلال ، الداعيض الى خير الاقوال والاعمال والاحول.
الذى بعثه ربه جل وعلا بالهدى ودين الحق بين يدى الساعة بشيراًونذيرا ، داعياً الى الله بإذنه وسراجاً منيراً ،
فختم به الرسالة ، وعلم به من الجهالة وهدى به من الضلالة ،
وفتح به أعيناً عميا ، وآذاناً صما ، وقلوباً غلفاً ،
وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها . لا يزيغ عنها إلا هالك ...

اللهم وكما آمنا به ولم نره , فلا تفرق بيننا وبينه حتى تدخلنا مدخله ، وأوردنا حوضه الأصفى ، وأسقنا منه بيد حبيبك شربة هنيئاً لا نُرد ولا نظمأ بعدها ابداً يا أرحم الراحمين ...

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1] ؛

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71]،...



أحبتى فى الله:

حقوق يجب أن تعرف ، نحدد الدواء من القرآن والسنة لهذا الداء العضال الذى استشرى فى جسد الأمة ألا وهو الإنفصام النكد بين منهجها المنير وواقعها المؤلم المرير، ، ،

إن الناظر في حال هذه الأمة يجد أنها لم تعرف زمانا قد انحرفت فيه الأمة عن منهج ربها ونبيها كهذا الزمان ،

فأردت أن أذكر نفسي وأياكم في هذا المقام بحق من حقوق الكبيرة التى ضاعت ، لعلها أن تسمع من جديد عن الله عز وجل، ولعلها أن تسمع من جديد عن رسول الله ،
وتردد مع الصادقين السابقين الأولين قولتهم الخالدة: ((سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ))(285) سورة البقرة...

ونحن اليوم بحول الله ومدده على موعد مع حق جليل عظيم كبير ألا وهو حق شهر الصيام،

وكعادتي وحتى لا ينسحب بساط الوقت سريعا من تحت أقدامنا ،
فسوف أركز الحديث مع حضراتكم فى هذا الموضوع والحق الجليل فى العناصر المحددة التالية.

أولاً: فضل أمة النبي .

ثانياً: فضل شهر الصيام.

ثالثاً: التوبة خير بداية ونهاية.

وأخيراً: موسم الطاعات لا تضيعوا الصيام.


فأعيروني القلوب والأسماع، والله أسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب...


أولاً: فضل أمة النبى :

قال تعالى: ((وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ))(68) سورة القصص ..

وخلق الله الأمم خلق سبعين أمة ، و اصطفى من هذه الأمم أمة الحبيب المحبوب فجعلها خير أمة ،

قال تعالى: ((كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ))(110) سورة آل عمران..
فلقد اصطفى الله أمة الحبيب المصطفى فشرفها وكرمها،
قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35 ، 36) سورة القلم.

قال تعالى:(( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ))(28) سورة ص.

و قال تعالى:(( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ ))(18) سورة السجدة.

فكرامة أمة النبى تكمن فى أنها وحدت ربها وآمنت بالحبيب النبى صلى الله عليه وسلم.

روى مسلم فى صحيحه من حديث عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما- أن النبى قرأ يوما قول الله تعالى فى إبراهيم: ((رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ))(36) سورة إبراهيم. ..

قرأ قول الله تعالى فى عيسى: ((إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )) (118) سورة المائدة ،
فبكى الرحمة المهداة والنعمة المسداة صاحب القلب الكبير ، البشير النذير ،
فقال الله تعالى لجبريل الأمين: يا جبريل أنزل إلى محمد وسله: ما الذى يبكيك؟ وربي أعلم ، الله يعلم ما كان وما هو كائن وما سيكون لا يغيب عن علمه شئ سبحانه وتعالى ،

فنزل جبريل الأمين إلى أمين أهل الأرض المصطفى وقال: ما الذى يبكيك يا رسول الله ؟
قال:" اللهم أمتى يا جبريل"
فصعد جبريل إلى الملك الجليل وقال: يقول: "اللهم أمتي أمتي"
فقال الله لجبريل: أنزل إلى محمد فقل: إنا سنرضيك فى أمتك ولا نسوؤك ))...


ومما زادني شرفا فخرا **
و كدت بأخمصي أطأ الثريا ..
دخولي تحت قولك يا عبادى **
وأن أرسلت أحمد لي نبيا ..

روى مسلم من حديث ابن عباس- رضى الله عنه- أن النبى قال: "عرضت على الأمم-
وفى رواية فى سنن الترمذى بسند حسن أن هذا العرض كان ليلة الإسراء والمعراج- فرأيت النبي معه الرهط ورأيت النبى ومعه الرجل والرجلان ورأيت النبي وليس معه أحد"..


أرجو أن تتخيلوا معي أمة كاملة يبعث الله فيها نبياً كريماً من الأنبياء فتكفر كل الأمة بهذا النبي، فتدخل الأمة كلها إلى النار،
ويدخل نبي هذه الأمة وحده إلى الجنة"

ورأيت النبى وليس معه أحد"

قال:" وبينا أنا كذلك إذ رفع لى سواد عظيم"
أى : رأى النبي سواداً عظيماً فى طريقة إلى الجنة"
فظننت أنهم أمتي ،
فقيل لي: هذا موسى وقومه ،
ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم، وقيل لي انظر إلى الأفق الآخر فنظرت فإذا سواد عظيم ، فقيل لى :هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب"...

وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة أنه قال:" يدخل الجنة من أمتي زمرة هم سبعون ألفا تضئ وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر")))

وفى الحديث الذى رواه أحمد والبيهقى بسند صحيح بشواهده كما فى السلسلة الصحيحة من حديث أبى هريرة أن النبى قال:" سألت ربي عز وجل فزادني مع كل ألف بسعين ألفا ، ثم يحثي ربي بكفه"
- فلا تعطل ولا تكيف ولا تشبه ، فكل ما دار ببالك فالله بخلاف ذلك ، ليس كمثله شئ وهو السميع البصير-..

قال:" ثم يحثي ربي بكفه ثلاث حثيات"
فكبر عمر- قال عمر بن الخطاب: الله أكبر-
فقال النبى :"وإن السبعين ألفا الأول يشفعهم الله فى آبائهم وأمهاتهم وعشائرهم، وإنى لأرجو أن تكون أمتي أدنى الحثوات الأواخر"))...

لا أريد أن أطيل النفس فى هذا المحور الأول الذى جعلته مقدمة لهذا الموضوع الجميل لنعلم أن الله سبحانه وتعالى قد خلق الخلق والأمم، واصطفى أمة الحبيب ، على هذه الأمم ، وكرمها بهذه الطاعات وبهذه المواسم العظيمة من مواسم العبادات،
فأمة النبى هى أفضل أمه بجدارة واقتدار ،
بشهادة العزيز الغفار كما أسلفت فى قوله تعالى: ((كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ))(110) سورة آل عمران...


وخلق الله الشهور والأيام واصطفى شهر رمضان على سائر الشهور والأزمان فكرمه تكريما عظيماً فأنزل فيه القرآن ،
قال الرحيم الرحمن:(( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) (185) سورة البقرة.


وهذا هو محورنا وعنصرنا الثانى:
فضل شهر رمضان:

أيها الأخ الحبيب :
نقف في أول جمعة مع ضيف عزيز جليل كريم يهل علينا بأنفاسه الخاشعة الزاكية وبرحماته الندية،
والعاقل الذى يقدر كل شئ قدره هو الذى يستعد لضيفه إن كان كبيرا كريما قبل نزول ضيفه عليه،
وأنا لا أعلم ضيفاً هو أكرم على الله سبحانه وتعالى من هذا الضيف الكريم ،
إنه شهر القرآن ،
إنه شهر الصيام،
إنه شهر الإحسان،
إنه شهر العتق من النيران، ، ،

اللهم اجعلنا من عتقائك فيه من النار ،،

هذا الشهر الذى كان فيه الحبيب يحتفي به حفاوة بالغة...

ففى الصحيحين من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه- أن النبي قال:" إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة"- وفى لفظ مسلم:" فتحت أبواب الرحمة"**

وينادى منا : يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك فى كل ليلة حتى ينقضي رمضان"...

وفى رواية الترمذى بسند صحيح أنه قال:" إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن".

فمن المعلوم أن الذنوب تقل فى رمضان ،
لكنها لا تنقطع ..!!
فكيف ذلك وقد ذكرت الآن أن الشياطين تصفد وكذاك المردة ،

والجواب فى قوله تعالى: ((وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ))(53) سورة يوسف...

إذا كانت أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك فى كل ليلة حتى يتقضى رمضان...



وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه- أنه قال: قال الله تعالى- فى الحديث القدسى الجليل-: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة-أى وقاية- فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يسخط، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إنى صائم، فليقل إني صائم، والذى نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه"...

اللهم اجعل يوم لقائنا بك اسعد أيامنا يا رب العالمين،"

وللصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر بفطره وإذا لقي ربه فرح بصومه"...

وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة أنه قال:" من صام رمضان إيماناً وإحتساباً" أى إيماناً بالله واحتساباً بالأجر من الله-
" من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"...


يا لها والله من بشرى،
وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه- أنه قال: " من قام (- صلى القيام، صلى التراويح- )
من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم له من ذنبه"...

وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه- أنه قال: من قام ليلة القدر إيماناً وإحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"...


هل تريد المزيد لتقف على فضل هذا الشهر المجيد الكريم؟؟!!

مغبون ورب الكعبة من استمع إلى هذه الطائفة النبوية الكريمة ثم قصر ، ثم ضيع الأوقات فيما لا فائدة فيه ،
بل ربما فيما يسخط الله عليه،،،

مغبون من ضيع هذا الموسم الكريم من مواسم الطاعة ..!!

رغم أنف عبد، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه،
من هذا؟
عبد أدرك رمضان ثم انسلخ رمضان قبل أن يغفر له،
رغم أنفه : ذل وهان وعرض نفسه للهلاك والخسران ،
أن يقبل عليه شهر الرحمات وأن ينسلخ الشهر كله وهو غارق فى الشهوات ،
غارق فى المعاصىي والملذات ،
عاكف على المباريات والأفلام والمسلسلات،
مضيع للوقت على المقاهي والشوارع والنوادي والطرقات، ، ،

مغبون لم يعرف شرف زمانه ، ولم يعرف قدر وقته، ولم يعرف أن العمر يولي، والأيام تجري، والأيام تمر والأشهر تجري وراءها تسحب معها السنين ، وتجر خلفها الأعمار ، وتطوي حياة جيل بعد جيل بعد جيل،
وبعدها سيقف الجميع بين يدي الملك الجليل للسؤال عن الكثير والقليل ،،،
قال سبحانه:فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (7، 8) سورة الزلزلة .

قال الحسن البصري: ما من يوم ينشق فجره إلا وينادى بلسان الحال: يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمني فإني لا أعود إلى يوم القيامة "...

إذا مر بى يوم ولم أقتبس هدى **
ولم أستفد علماً فما ذاك من عمرى.

فيا أيها العاقل اللبيب لا تضيع هذا الموسم الكريم من مواسم الطاعة ،،


كيف تقبل عليه..

هذا هو عنصرنا الثالث:

توبة إلى الله خير بداية ونهاية:

يا نادما على الذنوب أين أثر ندمك ؟
أين بكاءك على زلة قدمك ؟
يا صاحب الخطايا أين الدموع ؟
يا أسير المعاصى أما تخشى من الموت ..!!

وآسفاه إن دعينا اليوم بين يدى رمضان ، إن دعينا اليوم إلى التوبة وما أجبنا ..!!
واحسرتاه إن ذكرنا اليوم بالله وما أنبنا ..!!

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ))(8) سورة التحريم.
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- أن النبى قال: " ينزل الله عز وجل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل الأول ويقول: أنا الملك جل وعلا، أنا الملك من يدعوني فأستجيب له؟! من يسألني فأعطيه؟! من يستغفرني فأغفر له؟! فلا يزال كذلك حتى يضئ الفجر" ...


إن عكفت على المسلسلات ووسائل التواصل والإنترنت - أفق، أستيقظ،
كفى غفلة !!
الله ينادى عليك ،
وأين أنت ؟
ما زلت قابعاً أمام التلفاز ، ما زلت عاكفاً على المسلسلات والأفلام وعلى شاشات المحمول،
أنسيت من صام معك رمضان الماضى ،
أين هو الآن ؟
بين يدى الرحمن...



دع عنك ما قد فات فى زمن الصبا**
واذكر ذنوب وابكها يا مذنب..
لم ينسه الملكان حين نسيته**
بل أثبتاه وأنت لاه تلعب..
والروح منك وديعة أودعتها**
ستردها بالرغم منك وتسلب..
وغرور دنياك التى تسعى لها**
دار حقيقتها متاع يذهب..
الليل فاعلم والنهار كلاهما**
أنفاسنا فيهما تعد وتحسب..


((كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ))(26،32) سورة القيامة...

وبذلك يفتح سجلك ويفتح كتابك ،
فإذا به لا صدق ولا صلى، ولكنه كذب وتولى،
ولا حول ولا قوة إلا بالله،

قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (99، 100) سورة المؤمنون. 



لماذا (لَعَلِّي)
- سبحان الله-
واثق أنه هل سيعمل صالحا أم لا ، مع أنه يتمنى الرجعة والعودة
"قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا" ...

غير واثق من نفسه ،
غير متأكد أن كان سيعمل صالحا أم لا،
يأتى الجواب: " كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ"
لا يجيبها الله لا يسمعها الله بمعنى الإجابة ((حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ))(99، 100) سورة المؤمنون. 



فهيا أيها الحبيب:
يا أيها العاقل:
الله سبحانه وتعالى ينادي علينا كل ليلة ليتوب العصاة ،
وفى صحيح مسلم من حديث أبى موسى أنه قال:" إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسئ النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسئ الليل حتى تطلع الشمس من مغربها"...


وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه- أن النبي قال: قال الله تعالى فى الحديث القدسي: أنا عند ظن عبدي بى، وأنا معه إذا ذكرني- فاذكر الله بذكرك الله سبحانه- وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني فى نفسه ذكرته فى نفسي، وإن ذكرني فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منه، وإن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، وإن تقرب مني ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشى أتيته هرولة"...

وفى الصحيحين من حديث أنس – رضى الله عنه- "الله أشد فرحا بتوبة عبده إليه حين يتوب من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه راحلته وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع فى ظلها وقد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح"...


فرح الله إن تبت إليه أعظم من فرح هذا العبد بعودة دابته إليه...


أقبل أيها اللاهي، أقبل أيها العاصي مهما كان ذنبك فعفو الله أعظم،
مهما كان جرمك فكرم الله أوسع عد إليه:
(( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ))(53) سورة الزمر.


قال تعالى:((إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ))(48) سورة النساء.

قال رسول الله - والحديث رواه البخاري من حديث عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يقول: قدم على رسول الله سبي، فإذا امرأة تبحث عن ولدها ،
فلما رأت هذا الولد أخذته فألصقته فنظر النبي إلى هذا المنظر الحنون ، وقال لأصحابه: "أترون هذه طارحة ولدها فى النار؟"
هل ستطرح هذه الأم التى كانت تبحث بهذا الحب والشفقة عن ولدها ثم ألصقته ببطنها وصدرها فأرضعته، هل تطرح هذه الأم ولدها فى النار؟
قالوا: لا يا رسول الله .
إسمع ماذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم.
قال:" والله لله أرحم بعباده من هذه الأم بولدها")).
2024/12/24 03:29:44
Back to Top
HTML Embed Code: