Telegram Web Link
فاتقوا الله - أيها المسلمون - في أنفسكم وأولادكم وأمتكم، وتعلموا العلم النافع وعلموه، واغرسوا في نفوس أولادكم وطلابكم الإخلاص في العمل، والجد في الطلب، والابتعاد عن الملهيات التي فتكت بعقول الشباب، ودمرت كثيرا من أخلاقهم، وأوهنت عزائمهم، وأضعفت قوتهم عن تحمل المسؤوليات. عسى الله تعالى أن يصلح شباب المسلمين وفتياتهم، وأن يجعلهم قرة أعين لوالديهم ولمجتمعاتهم، إنه على كل شيء قدير.

وصلوا وسلموا على نبيكم...
🎤

*خطبة مكتوبه بعنوان:*

العلم والتعليم *ذم.الجهل.وأهله.tt* 2️⃣

للشيخ د / إبراهيم بن محمد الحقيل


عناصر الخطبة

1/نعمة العقل 2/ أعظم العلم وأعظم الجهل 3/ عواقب الجهل 4/ الغرب أجهل الناس بالدين 5/ زيادة الجهل بالبعد عن زمن الوحي 6/ خطر تهوين التغريبيين بالعلوم الشرعية في المدارس 7/ واجب الغيورين تجاه مناهج التعليم الشرعية .

اهداف الخطبة

بيان عواقب الجهل / التحذير من دعوات تقليل مناهج العلوم الشرعية في المدارس
عنوان فرعي أول
عندما يكون الجهل قاتلاً
عنوان فرعي ثاني
الجهل بالدين أم بالدنيا؟
عنوان فرعي ثالث
حماية مناهجنا الشرعية


🕌🕌🕌🕌🕌🕌🕌🕌

الخطبة الاولى:


الحمد لله (الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق:4-5]، نحمده على نعمه، ونشكره على آلائه ومننه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عظيم في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته (ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ) [الأنعام:103].

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ نقل الله تعالى به هذه الأمة الخاتمة من الجهل إلى العلم، ومن الضلال إلى الهدى، ومن دركات الشر إلى درجات الخير (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [آل عمران:164]. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله تعالى وأطيعوه (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة:48].

أيها الناس: من حكمة الله تعالى في خلقه أنه سبحانه لما خلقهم علمهم ما ينفعهم وما يضرهم، فكل مخلوق منهم يجلب لنفسه النفع، ويدفع عنها الضر؛ رحمة من الله تعالى بهم، وهداية منه عز وجل لهم، ولما قال فرعون في مناظرته لموسى عليه السلام (فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [طه:50].

وفضل سبحانه وتعالى البشر على سائر الحيوان بما وهبهم من العقول التي فتحت لهم مغاليق العلوم، وسُخرت لهم بها كنوز الأرض ودوابها (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء:70].

والبشر ما كان لهم أن يعلموا شيئا لولا أن الله تعالى ركب فيهم الأسماع والأبصار والأفئدة التي هي وسائل تحصيل العلوم والمعارف (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل:78].

وأعظم علم ينفع الإنسان في عاجله وآجله هو العلم بالله تعالى وبما يرضيه، وذلك بتعلم كتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، والفقه فيهما؛ ليعبد ربه عز وجل على علم وبصيرة، ثم العلم بما يصلح للعبد دنياه؛ فإن الدنيا مطية الآخرة.

وأعظم الجهل وأشده وأشنعه الجهل بالله تعالى وبدينه الذي ارتضاه لعباده، ومن عطل عقله عن تحصيل ما ينفعه من العلوم الشرعية التي بها يقيم دينه، ويعبد ربه فهو من الجاهلين، ولو كان مبرزا في علوم الدنيا، والأمة التي ليس لها من علوم الشريعة أي حظ هي أمة جاهلة هالكة ولو اكتشفت الذرة، وشيدت العمران والحضارة، وصعدت إلى الفضاء حتى بلغت القمر؛ إذ إن أضر شيء على العباد أن يجهلوا ما ينفعهم وما يضرهم، وما يقربهم من الله تعالى وهو الإيمان به وطاعته، واتباع رسله؛ ولذلك امتدح الله تعالى العلم والعلماء، وذم الجهل وأهله، وأخبر أن أهل العلم وأهل الجهل لا يستويان أبدا (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ) [الزُّمر:9].

وكل حمد في القرآن والسنة للعلم والعلماء فإنه ينصرف إلى العلم الشرعي الذي يتوصل به إلى رضوان الله تعالى، وكل ذم في القرآن والسنة للجهل وأهله فهو منصرف إلى الجهل بدين الله تعالى.

وقد أخبر سبحانه وتعالى عن المشركين أنهم لا يؤمنون بالآيات البينات بسبب جهلهم (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) [الأنعام:111].
والجهل سبب للإعراض عن الحق ومحاربته، ومنابذة أهله بالعداء، وهو أكثر داء في أهل الباطل (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنبياء:24].

والجهل بالله تعالى وبدينه يؤدي إلى الشرك به؛ ولذا وصف به نوح وهود ولوط عليهم السلام أقوامهم لما رفضوا دعواتهم، وأصروا على شركهم ومعصيتهم لله تعالى، فقال نوح عليه السلام (وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) [هود:29].

وقال هود عليه السلام لقومه (إِنَّمَا العِلْمُ عِنْدَ الله وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ) [الأحقاف:23]. وقال لوط عليه السلام لقومه (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [النمل:55].ولما طلبت بنو إسرائيل من موسى عليه السلام أن يجعل لهم مثل ما للمشركين من الأصنام أنكر موسى عليهم، وبين أن الحامل لهم على طلبهم هذا هو جهلهم بالله تعالى (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ البَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف:138].

ومع أن أنبياء الله تعالى قد عصموا من الجهل؛ لكمال عقولهم بالوحي الرباني، ومعرفتهم بالله تعالى؛ فإن الله تعالى وعظهم أن يكونوا في عداد الجاهلين، وهم عليهم السلام قد تعوذوا بالله تعالى من الجهل، وما ذاك إلا هداية للبشر أن يقتفوا أثر الأنبياء عليهم السلام.

سأل نوح عليه السلام ربه عز وجل أن ينجي ابنه المشرك من الطوفان فكان وحي الله تعالى له (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ) [هود:46]، فقبل نوح عليه السلام موعظة الله تعالى له، واستعاذ به سبحانه من سلوك سبل أهل الجهل والضلال (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الخَاسِرِينَ) [هود:47]. وقال موسى عليه السلام (أَعُوذُ بِالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ) [البقرة:67].

ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام لما أعرض أهل الجهل والضلال عن دعوته، وطالبوه بالآيات ثم لم يؤمنوا بها، وشق ذلك عليه؛ وعظه ربه عز وجل، وبين له أن الهداية منه سبحانه وليست لأحد من خلقه، وحذره من الجهل، فقال سبحانه (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ) [الأنعام:35].

وأمره عز وجل بتبليغ الدعوة والإعراض عن أهل الضلال والجهل (خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ) [الأعراف:199].

وأهل العلم والهدى لا يطاولون أهل الجهل في جهالاتهم، ولا يشاركونهم في مرائهم ومجادلاتهم، ولا يُجترون إلى معاركهم وخصوماتهم، وهي معارك جانبية تَشْغَلُ عن المعارك الكبرى للأمة، وغالب أهدافها الانتصار للنفس فحسب؛ وأهل العلم لا يجارون أهل السفه والجهل في ذلك؛ لأن همتهم أعلى من مجرد انتصارهم لأنفسهم، وإثبات ذواتهم؛ ولأنهم يعلمون أن أهل الجهل بجهالاتهم ومجادلاتهم إنما يستنزفون جهدهم، ويضيعون أوقاتهم فيما لا طائل منه، فيعرضون عنهم لاشتغالهم بما هو أهم وأعلى، وقد امتدح الله تعالى هذا الأسلوب منهم في التعامل مع الجاهلين (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ) [القصص:55] وجعل من صفات المؤمنين المفلحين تجنب مجادلة أهل الجهل (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) [المؤمنون:3] وفي آية أخرى (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان:63].

ومن حال جهله بينه وبين بلوغ الحق وهو دين الله تعالى الذي ارتضاه لعباده فقد عطل ما وهبه الله تعالى من وسائل تحصيل العلم والمعرفة؛ ولذا وصف الله تعالى من هذه حالهم بالعمى والصمم ونفى عنهم صفة العقل؛ لأنهم لم يعقلوا الحق ولم يبصروه ولم يسمعوه، فهم شر الخليقة عند الله تعالى، والآيات القرآنية الواردة في ذلك لا يتسع مقام كهذا لعرضها كلها، ففي سورة البقرة (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) [البقرة:171] وفي المائدة (وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا
يَعْقِلُونَ) [المائدة:103]

وفي الأنعام (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الأنعام:39] وفي الأنفال (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ الله الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) [الأنفال:22] وفي يونس (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) [يونس:100] وفي الحج (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج:46].

ولأنهم عطلوا ما رزقهم الله تعالى من وسائل تحصيل العلوم فكفروا به سبحانه وقد كان أولى بهم أن يعرفوا ربهم فلا يجحدوه، ويوحدوه فلا يكفروه؛ فإنه عز وجل قد حكم عليهم بأنهم شر خلقه (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ البَرِيَّةِ) [البيِّنة:6].

وقَدْرُهم في دين الله تعالى أقل من قدر الأنعام لتي لا تعقل (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ) [الأعراف:179] وفي آية أخرى (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) [الفرقان:44].

فحري بكل مؤمن أن يدرك قدر نعمة العلم بالله تعالى، والإيمان به، وأن يشكر الله تعالى على ذلك ويسأله الثبات، فكم من البشر قد أعرضوا عن الحق جهلا أو استكبارا!! (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الحجرات:17].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أيها المسلمون: كثير من الناس في هذا العصر قد فتنوا بحضارة الغرب، وما قدمته للبشرية من إنجازات عظيمة في أنواع العلوم والمعارف الدنيوية حتى سموها حضارة النور والعلم والمعرفة، ووسموا دولها بدول العالم الأول، ووصموا غيرها بالدول النامية ودول العالم الثالث، والدول الجاهلة والمتخلفة، واستقرت هذه التسميات في عقول الناس، وسلموا بها للغربيين.

ولئن صح ذلك في علوم الدنيا فلا يصح في علوم الدين التي نفعها أعظم من نفع علوم الدنيا وأبقى، وهي التي يجب أن تقدم عليها في التصنيف والتفضيل، فما قيمة علوم الدنيا مهما بلغت مع الجهل بالله تعالى وبدينه الحنيف، وبالدار الآخرة، والله تعالى يقول في شأن الدنيا والآخرة (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ) [القصص:60] وفي آية أخرى (وَالآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى:17].

ولا يحل لمسلم أن يُسلم للحضارة الغربية بهذه الأوصاف المطلقة من النور والعلم والمعرفة ونحو ذلك، بل لا بد أن تقيد هذه الأوصاف فيهم بعلوم الدنيا؛ لأن حضارة الغرب وإن أبدعت في علوم الدنيا فإنها جهلت علوم الدين، وهي من شر الأمم انحطاطا في هذا الجانب، ومن أشدها كفرا بالله تعالى، وما زادتهم علومهم الدنيوية إلا استكبارا عن قبول الحق، واستنكافا عن العبودية لله تعالى، واتباع رسله، وتصديق كتبه، ويصدق فيهم قول الله تعالى (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الرُّوم:7].

والعلم بالوحي الرباني المتضمن للعلم بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر هو العلم الحقيقي، وهو الروح للإنسان كما قال الله تعالى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشُّورى:52].

ومن جهل به فهو ميت وإن كان في الأحياء (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:122].
وكلما بعد الناس عن زمن الوحي قل فيهم العلم، وزاد فيهم الجهل كما دلت على ذلك الأحاديث:
فعن ابن مسعود وَأَبِي مُوسَى رضي الله عنهما قَالا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بين يَدَيْ السَّاعَةِ لأيَّامًا يَنْزِلُ فيها الْجَهْلُ وَيُرْفَعُ فيها الْعِلْمُ وَيَكْثُرُ فيها الْهَرْجُ وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ" متفق عليه.

وانتشار الجهل بدين الله تعالى من أشراط الساعة المؤذنة بقرب قيامها؛ كما في حديث أَنَسِ رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ من أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا" متفق عليه. وفي لفظ للبخاري "إِنَّ من أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَكْثُرَ الْجَهْلُ وَيَكْثُرَ الزِّنَا وَيَكْثُرَ شُرْبُ الْخَمْرِ"

أيها الإخوة: وفي زمننا هذا كثر إلحاح كثير من الصحفيين ومن يسمون أنفسهم بالمفكرين على التهوين من شأن العلوم الدينية، ويطالبون بتقليصها في مناهج التعليم، ودمج بعضها في بعض، مع مطالبتهم بتوسيع العلوم الدنيوية على حسابها؛ زاعمين أن ذلك سبيل التقدم والازدهار.

يقولون ذلك وهم يرون كثيرا من الدول العربية والإسلامية التي أقصت التعليم الديني، وقضت على مدارسه وجامعاته ومنهاجه منذ عقود ترسف في الفقر والتخلف والانحطاط والتبعية، وما نفعها شيئا القضاء على مؤسسات التعليم الديني ومناهجه، بل أضر بشعوبها ضررا بالغا؛ فلا أصلحوا للناس دنياهم، ولا أبقوا لهم دينهم.

ولذا فإنه يجب على الغيورين أن يقفوا أمام محاولات المنافقين والتغريبيين العبثية التخريبية التي تستهدف عقول أولادنا، ومدارسنا وجامعاتنا، ومناهج تعليمنا، وتحاول طمس أنوار العلوم الشرعية منها، ومسخها لتكون كالعقول الغربية في تمردها على الله تعالى وعلى أنبيائه وشرائعه.

إننا ما رأينا هؤلاء المنحرفين عن شريعة الله تعالى يجيدون شيئا سوى الثرثرة في فضائياتهم وصحفهم، فلم يصنعوا للأمة مجدا، ولم يعيدوا لها حقا، ولم يخترعوا شيئا، ولم يسهموا في رقي الأمة وتقدمها، بل هم سبب رئيس في تخلفها وتقهقرها بدعواتهم المشبوهة لنبذ الدين، ومطالباتهم المكرورة بالتبعية للغرب، والانصهار في مناهجه المحرفة لتفقد الأمة ما ميزها الله تعالى به من هذا الدين العظيم (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ) [التوبة:33].

وصلوا وسلموا على نبيكم...
🎤

*خطبة مكتوبه بعنوان:*

العلم والتعليم *العلماء.الربانيون.أمان.للأمة.tt* 3️⃣

للشيخ د / إبراهيم بن محمد الحقيل


عناصر الخطبة

1/الأسباب الشرعية والقدرية لحفظ الدين 2/حفظ الأمة بالعلماء الربانيين 3/ من العلماء الذين حفظ الله بهم الأمة 4/ أهمية توحيد كلمة العلماء والسلاطين 5/ عظم المصيبة بموت العلماء الربانيين .

اهداف الخطبة

بيان فضل العلماء الربانيين / بيان أن العلماء الربانيين حفظ للأمة / ذكر نماذج للعلماء الربانيين .
عنوان فرعي أول
العلماء وسفينة الأمة
عنوان فرعي ثاني
رجال أفذاذ
عنوان فرعي ثالث
إذا ما مات ذو علم وتقوى

🕌🕌🕌🕌🕌🕌🕌🕌

الخطبة الاولى:


الحمد لله رب العالمين؛ فضَّل هذه الأمة على سائر الأمم، وجعلها شاهدة لأنبيائهم عليهم (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة: 143] نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما أعطانا، ونستغفره لخطايانا؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ الخير بيديه، والشر ليس إليه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أخرجنا الله تعالى به من الضلال إلى الهدى، ومن الجهل إلى العلم (رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِ الله مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) [الطَّلاق:11] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واتبعوا ما أَنزل من الهدى، واحذروا مضلات الفتن واتباع الهوى؛ فإن الفتن تعمي عن السنن، وإن الهوى يهوي بأهله في نار جهنم (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الكَافِرِينَ) [آل عمران:31-32].

أيها الناس: اختار الله تعالى دينَ الإسلام مهيمنا على كل الأديان والشرائع، واختار سبحانه رسوله محمدا عليه الصلاة والسلام خاتما للرسالات والنبوات، واختار القرآن كتابا لأهل الحق والهدى يبقى إلى آخر الزمان؛ فلا دينَ بعد الإسلام، ولا نبيَ بعد محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا كتابَ بعد القرآن.

وقد قضى الله تعالى بحفظ دين الإسلام وكتابه القرآن من التحريف والتبديل والضياع (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:9]. وجعل سبحانه وتعالى لهذا الحفظ أسبابا قدرية وأسبابا شرعية:

فمن الأسباب الشرعية: تحذيرُ المسلمين من الابتداع في الدين، ونهيهم عن التشبه بالكافرين؛ لأن الابتداع والتشبه يُدخلان في الدين ما ليس منه، وإذا أُدخل فيه ما ليس منه، خرج ما هو منه، فحصل التحريف والتبديل.

ومن الأسباب القدرية: أن الله تعالى جعل في كل زمان للحق أنصارا يذودون عن الدين، ويحفظونه من جهل الجاهلين، وينفون عنه تحريف المحرفين، ويصبرون في سبيل ذلك على أذى المؤذين، وظلم الظالمين؛ كما في حديث مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه قال: سمعت رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ من أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ الهَ لَا يَضُرُّهُمْ من خَذَلَهُمْ أو خَالَفَهُمْ حتى يَأْتِيَ أَمْرُ الله وَهُمْ ظَاهِرُونَ على الناس"
وفي رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تَزَالُ عِصَابَةٌ من الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَ على الْحَقِّ ظَاهِرِينَ على من نَاوَأَهُمْ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" رواه الشيخان.

ومن نظر في تاريخ المسلمين منذ وفاة النبي عليه الصلاة والسلام استبان له أن على رأسِ هذه الطائفة المنصورة العلماءَ الربانيين، فهم الذين يبلغون الحق خلفا عن سلف، وهم الذين يدرءون عن الدين شبهات المضلين، وهم الذين يُقوِّمون اعوجاج الأمة إذا اعوجت، ويتصدون للفساد والمفسدين، وينصحون العامة والخاصة، فيأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويصدعون بالحق لا يخافون في الله تعالى لومة لائم. وفي حال المحن والفتن واختلاط الأمر يؤوب الناس إليهم لاستجلاء الأمر، واتخاذ المواقف المناسبة.

لقد حفظ الله تعالى الأمة من الانحراف والضياع بالعلماء الربانيين، وبهم حفظ دينه، ولقد كان الصديق أبو بكر رضي الله عنه أعلم الصحابة بملازمته للنبي عليه الصلاة والسلام، وبعلمه وثباته حفظ الله تعالى الأمة بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام حين صُدم الناس بوفاته، ثم حفظ به الأمة مرة أخرى لما ارتد المرتدون، فثبت ثباتا عظيما قُضي بسببه على المرتدين، وسلمت به الأمة من الفتنة في أول عهدها.

ولما حاول بعض الزنادقة والمنافقين الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعوا أحاديث لم يقلها انبرى لهم علماء الحديث والرجال فبينوا الصحيح من السقيم، وميزوا الأصيل من الدخيل، وبهم حفظ الله تعالى سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم .
ثم لما أُحدث في الأمة بدعةُ الجهمية والمعتزلة، وانتحلها ثلاثة من خلفاء بني العباس تصدى لها الإمامُ أحمد رحمه الله تعالى، وثبت ثباتا عجيبا ما ظَفِر المبتدعة منه بشيء حتى قال علي بن المديني رحمه الله تعالى: إن الله أعزَّ هذا الدين بأبي بكر الصديق يوم الردة وبأحمد بن حنبل يوم المحنة. وقال إسحاق بن راهويه رحمه الله تعالى: لولا أحمدُ وبذلُ نفسه لما بذلها له لذهب الإسلام.

ولما احتلت الجيوش الصليبيةُ بيت المقدس في القرن الخامس نهض العلماء بواجبهم، يربون الأمة، ويردونها إلى دينها، ويحولون بين الناس وبين المعاصي والشهوات، فيخطبون في الناس، ويلقون الدروس والمواعظ التي تستنهض العزائم، وتشحذ الهمم، ويحثونهم على جهاد الصليبيين، ويبثون الحمية الدينية في قلوبهم؛ حتى تهيأت الأمة في عهد نور الدين رحمه الله تعالى وقد أعلى من شأن العلماء في دولته وأدناهم، وخلَّى بينهم وبين الناس في بيان الحق والصدع به.

ثم خلفه على سيرته الحسنة صلاحُ الدين رحمه الله تعالى، فاتخذ من العلماء العاملين بطانة له، وكان بعضهم لا يفارقه في حضر ولا سفر، ولا حرب ولا سلم، كالقاضي ابن شداد الذي لازمه ربع قرن فكتب سيرته، وبإدناء العلماء، والتخلية بينهم وبين الناس؛ تهيأت الأمة على أيدي العلماء الصادقين لكسر جيوش الصليبيين، وإخراجهم من بيت المقدس أذلة صاغرين، وتم ذلك بعد تسعين سنة من احتلالها.

ولما وطئ التتر بلاد المسلمين، وأسقطوا دولة بني العباس، وعاثوا فسادا في العراق والشام هيأ الله تعالى القائد سيف الدين قُطُز الذي تربى في مجالس العلماء، فقاد الأمة وما كان يقطع برأي في الإعداد لمواجهة التتر وجهادهم حتى يراجع العلماء، ويأخذ بمشورتهم، ولا سيما الشيخ عز الدين ابن عبد السلام والقاضي بدر الدين السنجاري.


ولما جبن بعض الأمراء والقادة عن مواجهة التتر، وهابوا الخروج إليهم قال العز بن عبد السلام: أخرجوا وأنا أضمن لكم على الله تعالى النصر، واتفق مع السلطان قطز على إخراج ما في خزائنه من أموال، وكذلك خزائن الأمراء لتجهيز الجيوش، فانتصر المسلمون، وكسر الله تعالى على أيديهم التتر في عين جالوت، فلم تقم لهم قائمة بعدها.

وكان لعلماء الأندلس الفضلُ بعد الله تعالى في تأخر سقوطها قرنين وزيادة، وذلك بالسعي في الصلح بين الحكام المتناحرين، واستنهاض همم الناس للجهاد في سبيل الله تعالى، ولما تدهورت أحوال المسلمين، وعظم الاختلاف والتناحر بين ملوكهم، وغلب النصارى على كثير من الأمصار؛ سافر جماعة من علماء الأندلس إلى يوسف بن تاشفين في المغرب، وعبروا البحر لأجل ذلك، فكان في رحلتهم تلك إنقاذٌ لكثير من ممالك الأندلس من السقوط في أيدي النصارى؛ إذ عبر إليهم ابن تاشفين بجيوشه، وكسر النصارى في معركة الزلاقة، وكان الفضل في ذلك بعد الله تعالى لعلماء الأندلس وفقهائه.

وأما جهاد العلماء للمنافقين والمرتدين بأقلامهم، وذبهم عن الشريعة، وحمايتهم للأمة من الضلال والانحراف فأكثر من أن يحصر، قديما وحديثا، حتى إن من العلماء من شَغَل حياته كلها بذلك كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم الذي قال: والجهاد بالحجة واللسان مقدم على الجهاد بالسيف والسنان؛ ولهذا أمر به تعالى في السور المكية حيث لا جهاد باليد؛ إنذارا وتعذيرا فقال تعالى (فَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) [الفرقان:52].



وأمر تعالى بجهاد المنافقين والغلظة عليهم مع كونهم بين أظهر المسلمين في المقام والمسير فقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ) [التوبة:73]. فالجهاد بالعلم والحجة جهاد أنبيائه ورسله وخاصته من عباده المخصوصين بالهداية والتوفيق والاتفاق.اهـ

ولما عاب بعض الناس على ابن المُنَيِّر قعوده عن الغزو قال: ولا أجد في تأخري عن حضور الغزاة عُذرا إلا صرفَ الهمة للتحذير من هذا المصنف -يعني كشاف الزمخشري المعتزلي- والرد على أقواله التي تمثل رأي المعتزلة..اهـ

وقد لقي العلماءُ الربانيون من أهل السوء والفساد والإفساد أنواعا من الأذى كالضرب والحبس والقتل، وما ردَّهم ذلك عن بذل النصح، والصدع بالحق، والقيام بأمر الله تعالى.

والملاحظ في حوادث التاريخ، وسير الملوك والعلماء أنه متى اتفقت سياسة السلاطين مع كلمة العلماء، وتواصوا بالحق فيما بينهم، وتعاونوا على البر والتقوى، وكانت بطانة السلاطين من العلماء الناصحين؛ صلحت أحوال الرعية، واستقرت الممالك، وفاضت الخيرات، وبقيت هيبة السلاطين والعلماء محفورة في قلوب الناس.

ومتى وُجد انفصام بين العلماء الربانيين المخلصين وبين السلاطين فسدت أحوال الرعية، واضطربت الممالك، وسقطت مهابة السلاطين والعلماء على حدٍ سواء، وفي ذلك من الشر والفتن واضطراب الأحوال ما لا يخفى.
إن العلماء دعاة بألسنتهم، وأصحاب السلطان دعاة بألسنتهم وسلطانهم، وباتفاق العلماء وأصحاب السلطان وتعاونهم تتقدم الأمة، ويصلح أمر البلاد والعباد؛ فالعلماء ورثوا العلم من مقام النبوة، وأهل السلطان ورثوا القوة من مقام النبوة، والعدل أساس الملك، والتقوى أساس العلم، فبالعدل والتقوى تبنى الأمم وتزدهر، ويسود الأمن والرضا، وبغير ذلك يكون الخراب والدمار.

نعوذ بالله تعالى من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ونسأله أن يصلح أحوال المسلمين أجمعين إنه سميع قريب.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله...



الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا أمن إلا للمؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وراقبوه، والزموا طاعته ولا تعصوه (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ) [النور:52].

أيها المسلمون: موت العلماء الربانيين خسارة عظيمة للأمة التي تعرف قيمتهم، وتدرك أهميتهم، وتعلم ما يترتب على فقدهم، وكان الناس -ولا يزالون- يبكون العلماء الربانيين. ولما مات زيد بن ثابت رضي الله عنه قال أبو هريرة رضي الله عنه: مات اليوم حبر هذه الأمة ولعل الله يجعل في ابن عباس منه خلفا.

وبقي ابن عباس رضي الله عنهما عالما للأمة وإماما لها سنوات طويلة فلما مات صفق جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بإحدى يديه على الأخرى وقال: مات أعلم الناس وأحلم الناس ولقد أصيبت به هذه الأمة مصيبة لا ترتق.

وإنما كان موت العلماء الربانيين مصيبة عظيمة لأنه من نقص الأرض بنقص الدين والعلم فيها (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) [الرعد:41] قال عطاء رحمه الله تعالى في معنى نقصها: هو ذهابُ فقهائها وخيارِ أهلها.

وبتوافرِ العلماء الربانيين صلاحُ الدين والدنيا، وبفقدهم فسادهما؛ كما قال الإمامُ الزُّهْرِيُّ رحمه الله تعالى: "كان من مَضَى من عُلَمَائِنَا يَقُولُونَ: الِاعْتِصَامُ بِالسُّنَّةِ نَجَاةٌ، وَالْعِلْمُ يُقْبَضُ قَبْضًا سَرِيعًا، فَنَعْشُ الْعِلْمِ ثَبَاتُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وفي ذَهَابِ الْعِلْمِ ذَهَابُ ذلك كُلِّهِ"

وقال الْحَسَنِ رحمه الله تعالى: "كَانُوا يَقُولُونَ: مَوْتُ الْعَالِمِ ثُلْمَةٌ في الْإِسْلَامِ لَا يَسُدُّهَا شَيْءٌ ما اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ".

وسُئل سعيدُ بن جبير رحمه الله تعالى: "ما علامة هلاك الناس؟ قال: إذا ذهب علماؤهم".

والعلم إنما يزول من الأرض بموت العلماء، فَيَحِلُّ محلهم أهل الجهل والهوى، فيكون في ذلك تجهيل الناس وإضلالهم؛ كما جاء في حديث عبد الله بن عَمْرِو رضي الله عنهما قال: سمعت رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ من الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حتى إذا لم يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ الناس رؤوسا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" متفق عليه.

وفي رواية لأحمد: "إن اللَّهَ لاَ يَنْزِعُ الْعِلْمَ مِنَ الناس بَعْدَ أن يُعْطِيَهُمْ إِيَّاهُ وَلَكِنْ يَذْهَبُ بِالْعُلَمَاءِ كُلَّمَا ذَهَبَ عَالِمٌ ذَهَبَ بِمَا معه مِنَ الْعِلْمِ حتى يَبْقَى من لاَ يَعْلَمُ فَيَتَّخِذَ الناس رُؤَسَاءَ جُهَّالاً فَيُسْتَفْتَوْا فَيُفْتُوا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَيَضِلُّوا وَيُضِلُّوا"

ولقد رزئت الأمة في هذا العَقْد الثالث من المئة الخامسة بعد الألف بكوكبة من العلماء الربانيين تلاحقوا في سنوات قلائل؛ فَفُتِح على الناس بابٌ من الشر والفتن عريض، وكَثُر الاختلاف، واستنسر أهل الشر والفساد، وحقَّقُوا كثيرا من مآربهم الخبيثة، واستطاعوا في بضع سنوات تحقيق ما عنه عجزوا في خمسين سنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وجبر الله تعالى مصاب المسلمين في علمائهم، وجعل في الخلف منهم عوضا عن السلف، والحمد لله على كل حال (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ) [البقرة:157].

وصلوا وسلموا على نبيكم.....
🎤

*خطبة مكتوبه بعنوان:*

العلم والتعليم *العلماء.الربانيون.أئمة.الدين.tt* 4️⃣

للشيخ د / إبراهيم بن محمد الحقيل


عناصر الخطبة

1/ مفهوم الإمامة في الدين 2/ إمامة آدم وإبراهيم وإسحق والأنبياء من ذريته 3/ نقل الإمامة من بني إسرائيل لفسادهم لبني إسماعيل 4/ محمد صلى الله عليه وسلم إمامُ سائر الأنبياء والمسلمين 5/ نماذج لأئمة من قبل البعثة ثم الصحابة والتابعين والعلماء الربانيين 6/ أسباب موجبة للإمامة في الدين 7/ اهتمام الإعلام الفاجر بالمفسدين بدلا من العلماء الربانيين أئمة الدين

🕌🕌🕌🕌🕌🕌🕌🕌

الخطبة الاولى:

الحمد لله العليم الحكيم؛ خلق كل شيء فقدره تقديراً، نحمده فهو أهل الحمد، ونشكره فقد جعل الزيادة في الشكر، ونستغفره فهو أهل التقوى والمغفرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ رفع بدينه أقواماً فكانوا أئمة هدى، ومصابيح دُجى، وأصحاب رشد وتُقى، بهم يزيل الناس جهلهم، ويعرفون دينهم، ويتقربون لربهم على بصيرة من أمرهم.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ رفع الله تعالى ذكره في الأولين والآخرين، وأعلى مقامه بين العالمين، وبوأه مقاماً محموداً يوم الدين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتمسكوا بحبله ولا تفلتوه، والزموا دينه ولا تتركوه؛ فإنه لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شرٌّ منه، ولا نجاة إلا بالتقوى: (وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الزُّمر:61].

أيها الناس: مَن تعلو به همته لا يرضى إلا أن يكون وجوده أوسع من محيط نفسه، فإذا هو قام بنفع بلده كان وجوده بقدر بلده بحيث يكون ذكره مالئاً له، وإذا هو قام بخدمة أمته كلها بعلم نافع يبذله لها فإن وجوده يكون واسعًا بقدر سعة أمته كلها، لا يجهل حقّه قُطرٌ من أقطارها.

وإذا استطاع أن ينفع جميع البشر فإن وجوده يكون بقدر العالم الذي انتفع به، وأمثال هؤلاء الرجال هم الذين يوزن الواحد منهم بأمة، قال الله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) [النحل:120]. قال ابن مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-: الْأُمَّةُ مُعَلِّمُ الْخَيْرِ. وقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: الأمة الذي يعلم الناس دينهم.

ونفع الناس قد يكون نفعاً دنيوياً، وقد يكون نفعاً دينياً وهو الأنفع، وهو المراد بكون الخليل -عليه السلام- كان أمة، كما أن الإمامة قد تكون في الدين وقد تكون في الدنيا.

وإذا اشتدت غربة الدين، وقلَّ في الناس أتباعه وأنصاره، كان المتمسكون به الداعون إليه أئمة يوزن الواحد منهم بأمة، كما كان الأنبياء -عليهم السلام- في أقوامهم: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) [البقرة:213]، قال مجاهد -رحمه الله تعالى- في هذه الآية: آدمُ أمةٌ وحدَه؛ وذلك أن آدم -عليه السلام- أول من عبد الله تعالى في الأرض من البشر، ودعا بنيه إلى توحيد الله تعالى.

وأنال الله تعالى خليله إبراهيم -عليه السلام- الإمامة في الدين بعد أن ابتلاه بعظيم البلاء، فثبت على صبره ويقينه، (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) [البقرة:124]، (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الصَّافات:84] (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النَّجم:37].

لقد كان إبراهيم -عليه السلام- أمة؛ لأنه عاش دهراً طويلاً لا يعبد الله تعالى ولا يوحده في الأرض إلا هو، ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر في الأرض سواه، واجتمع فيه من الكمال والفضائل ما لم يجتمع في أحد قبله، ولا يجتمع عادة إلا في العدد الكثير من الناس. قال الخليل -عليه السلام- لزوجه سارة -رضي الله عنها-: إِنِّي لَا أَعْلَمُ في الأرض مُسْلِمًا غَيْرِي وَغَيْرَكِ. رواه مسلم.

ثم كانت إمامة الدين عقب الخليل -عليه السلام- في نسله الصالحين: إسماعيل وإسحاق ويعقوب، ثم في عقِب يعقوب: يوسف وموسى وداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى، عليهم السلام؛ لأنهم الأمة التي فضلها الله تعالى على العالمين في وقتها: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ) [البقرة:47].

وقال الله تعالى في إبراهيم وآله من بني إسرائيل -عليهم السلام-: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) [الأنبياء:73]، وقال -سبحانه- في موسى وأتباعه: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ) [القصص:5].
ونالوا هذه الإمامة بصبرهم ويقينهم؛ إذ إن سنة الله تعالى قاضية بأن الإمامة في الدين لا تُنال إلا بالصبر واليقين: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24].

ولما حادت بنو إسرائيل عن دين رسلهم -عليهم السلام-، وتخلوا عن مقومات الإمامة من الصبر واليقين، سلبها الله تعالى منهم، فتحولت الإمامة لآل إبراهيم من ابنه إسماعيل عليهم السلام ببعثة خاتم النبيين محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكانت فيهم إلى آخر الزمان؛ لأن الله تعالى قضى بأن الظالمين لا يستحقون الإمامة في الدين: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة:124].

فكان محمد -صلى الله عليه وسلم- إمام هذه الأمة كما كان إمام الأنبياء -عليهم السلام- ليلة المعراج، وسلَّموا له بالإمامة قبل بعثته، وأخذ الله تعالى عليهم الميثاق بها، فكان عيسى عليه السلام تابعاً له، داعياً إلى شريعته حين ينزل آخر الزمان، وكان ورثة النبي -صلى الله عليه وسلم- من العلماء الربانيين هم أئمة الدين من بعده.

ومن أوائل أئمة الدين في هذه الأمة زيد بن عمرو بن نفيل -رضي الله عنه-؛ فإنه آمن بالنبي -صلى الله عليه وسلم- قبل بعثته، ولم يبق من قريش على دين الخليل -عليه السلام- سواه؛ كما روت أَسْمَاءُ بِنْتِ أبي بَكْرٍ -رضي الله عنهما-، قالت: رأيت زَيْدَ بن عَمْرِو بن نُفَيْلٍ قَائِمًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إلى الْكَعْبَةِ يقول: يا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ، والله ما مِنْكُمْ على دِينِ إبراهيم غَيْرِي. رواه البخاري.

رأى -رضي الله عنه- قريشاً والعرب عامة في ضلال، فجاب الأرض يبحث عن دين الله تعالى، فقيل له: إنه يبعث في أرضك نبيٌّ، فعاد إلى مكة، وما كان يأكل شيئاً ذُبح لغير الله تعالى، ومات قبل البعثة، وقال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يأتي يوم القيامة أُمَّةً وحده" رواه النسائي، وصححه الحاكم وقال: على شرط مسلم، ثم قال الحاكم بعد روايته: ومَن تأمل هذا الحديث عرف فضل زيد وتقدمه في الإسلام قبل الدعوة.

وقد ذكر العلماء أن ورقه بن نوفل -رضي الله عنه- تابع زيداً على الحنيفية، ولكن ورقة عاش إلى وقت خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى أنزل عليه الوحي، ومات زيد قبل الوحي.

وظلت إمامة الدين في هذه الأمة عقب بعثة إمامها محمد -صلى الله عليه وسلم-، وكان الصحابة -رضي الله عنهم- أئمة الدين، وخَلَفَهم التابعون وأتباعهم من العلماء الربانيين في إمامة الدين إلى يومنا هذا، وكانوا يلتزمون الدعاء القرآني: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان:74].

وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يدعو فيقول: اللهم اجعلني من أئمة المتقين. قال الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله تعالى-: وفي هذا الأسوة الحسنة أن تكون همة المؤمن تدعوه إلى أن يكون إماماً في الخير، وإذا كان إماماً في الخير كان له أجره وأجر من عمل بما عَلِمَه وائتم به فيما عَلِمَه وأجزاه عنه.

وعلى قدر علم العالم، وعمله بما علم، ودعوته إليه، وصبره على الأذى فيه، تكون إمامته في الدين، وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- يقول: إِنَّ مُعَاذًا كان أُمَّةً قَانِتًا، ومعاذ -رضي الله عنه- كان من فقهاء الصحابة العاملين، بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن قاضياً ومعلماً.

إن الإمامة في الدين لا تنال بالوراثة، وقد حرص أرباب البيوت الكبيرة في العلم والجاه أن يجعلوا أولادهم أئمة في الدين فما كانوا، وسبقهم في ذلك أبناء الضعفة والفقراء فسادوا بالعلم والإمامة عليهم؛ لأن الإمامة لا تنال بالوراثة، وإنما تنال بالصبر واليقين.

وفي عصر التابعين كان أبناء الجواري أئمة بعلمهم وتقواهم، وكان كثير من أبناء السادة والأشراف هملاً. قال أعرابي لأهل البصرة: مَن سيد أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن البصري، قال: بِمَ سادهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم.

وقد يقف العالم موقفاً في الحق يستحق به الإمامة في الدين، كما وقف الإمام أحمد ضد بدعة المعتزلة، واجتمع عليه أهل الأهواء كلهم، وخذله الناس جميعاً، فثبت على الحق وحده، فاستحق أن يخلع عليه وصف إمام أهل السنة، وإن كانت السنة قبله، وسبقه من أئمتها جمٌّ غفير من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ولكنه وقف موقفاً لم يقفه عالم في زمنه، حتى قال بعض العلماء: لم يُظهر أحدٌ ما جاء به الرسول كما أظهره أحمد بن حنبل.

وقد يظهر العالم في زمنٍ فشا فيه الجهل، واضمحل العلم، وماتت السنن، وظهرت البدع، وكثرت الأهواء، فيحمل العالم لواء تبليغ العلم، وإزالة الجهل، ونشر السنة، ومحاربة البدعة، ويؤذَى في سبيل ذلك فيصبر ويحتسب حتى يظهر الله تعالى دعوته، فينال منزلة الإمامة في الدين؛ كما وقع لشيخي الإسلام ابن تيمية وابن عبد الوهاب -رحمة الله تعالى عليهما-.
فحري بأهل العلم أن يقوموا به تعليماً ودعوة وصبراً ويقيناً، وحري بشباب المسلمين أن يجِدُّوا في طلب العلم بإخلاص وصبر ويقين؛ رجاء أن يكونوا من أئمة الدين، وحري بالناس أن يأتموا بالعلماء العاملين؛ فهم أئمة الهدى والدين، وحري بكل مسلم أن يلزم هذا الدعاء المبارك: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان:74]، فعسى الله تعالى أن يستجيب دعاءه فيجعل إمامة الدين فيه أو في عقبه من بعده.

(رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان:74]. بارك الله لي ولكم في القرآن...





الخطبة الثانية:

الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].

أيها المسلمون: بين وفاة عالم رباني أمضى حياته في العلم والتعليم والدعوة والحسبة، وبين هلاك مُغَنٍّ سافلٍ منحط أمضى حياته في الغناء الرقيع، والرقص الخليع، بين هذا وذاك تتمايز الصفوف، وتتباين القلوب، وتختلف مواقف الناس، فيبين أهل الحق والإيمان والصلاح من أهل الباطل والنفاق والفساد.

ولما كان العلماء الربانيون هم أئمة الدين، وورثة المرسلين، لم يستحق أن يكون أتباعهم إلا الخُلَّصَ من المؤمنين، يفرحون بمجالسهم، ويحتفون بأقوالهم، ويَرِقون لمواعظهم، ويرجعون إليهم في أمور دينهم، ويلتزمون بفتاواهم؛ لعلمهم أنهم معظمون للشريعة، متبعون للكتاب والسنة، ويحزنون لوفاة الواحد منهم أشد الحزن؛ لما يفقدونه من علمه وهديه، متمثلين في ذلك قول الإمام الآجُرِّيِّ -رحمه الله تعالى- حين قال: ما ظنكم -رحمكم الله تعالى- بطريق فيه آفات كثيرة، ويحتاج الناس إلى سلوكه في ليلة ظلماء، فقيض لهم فيه مصابيح تضيء لهم، فسلكوه على السلامة والعافية، ثم جاءت طبقات من الناس لا بد لهم من السلوك فيه فسلكوا، فبينما هم كذلك إذ طفئت المصابيح فبقوا في الظلمة؟ فهكذا العلماء في الناس. اهـ.

وأما أهل النفاق والفساد فلا يحتفون بأئمة الدين، ويفرحون بموت العلماء الربانيين، ولا يكون حزنهم وبكاؤهم إلا على هلاك الزنادقة والمرتدين والفسقة من المغنين والشهوانيين، وحينئذ فلا عجب أن يتباكى الإعلام الضال المضل ويتأثر أزلامه الفسقة المفسدون بهلاك مغن شاذ مفسد قضى حياته في الغناء الماجن، والرقص العاهر، فلا يرثي العاهر إلا عاهر مثله، فتلك منزلتهم التي وُضعوا فيها واستحقوها؛ إذ كان القائد لهم شهواتهم لا عقولهم.

وهؤلاء الفسقة بإعلامهم الفاجر لا يمثلون حقيقة الأمة ولا نبضها، ولا يستحقون الكلام باسمها، فهم مفروضون على الناس في زمن الإرهاب الفكري، والرأي الأحادي الإقصائي.

وتظهر حقيقة الأمة ونبضها في جنائز أئمة الدين، من العلماء الربانيين، والصالحين المصلحين، حين تجتمع الجموع في تشييعهم، وتبكي القلوب قبل العيون لفراقهم، وتحملهم قلوب الرجال قبل أكتافهم.

ولقدكان الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- يقول: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم يوم الجنائز. ويوم مات أحمد تعطلت مساجد بغداد من كثرة المشيعين، حتى قال أبو صالح القنطري -رحمه الله تعالى-: شهدت الموسم -أي الحج- أربعين عاماً فما رأيت جمعاً قط مثل هذا. يعني مشهد جنازة الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-.

يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى-: صدَّق الله تعالى قول أحمد في هذا، فإنه كان إمام السنة في زمانه، وعيونُ مخالفيه: أحمد بن أبي داؤد وهو قاضي قضاة الدنيا لم يحتفل أحد بموته ولم يلتفت إليه، ولما مات ما شيعه إلا قليل من أعوان السلطان، وكذلك الحارث بن أسد المحاسبي مع زهده وورعه وتنقيره ومحاسبته نفسه في خطراته وحركاته لم يُصَلِّ عليه إلا ثلاثة أو أربعة من الناس، وكذلك بشر بن غياث المريسى، لم يُصَلِّ عليه إلا طائفة يسيرة جدا، فلله الأمر من قبل ومن بعد! وقد روى البيهقي عن حجاج بن محمد الشاعر أنه قال: ما كنت أحب أن أقتل في سبيل الله ولم أصل على الإمام أحمد. اهـ

فمن أراد معرفة حقيقة الأمة فلا ينظر إلى ما يعرض في إعلامها المضل، وإنما ينظر إلى جنائز أئمة الدين فيها؛ ليعلم حقيقة ما عليه الناس من محبة العلم والعلماء، وتحيزهم للدين وأهله، ولو قال المفسدون غير ذلك.
وإذا ذهب العلم ذهب الدين، وهذا يقع في آخر الزمان، كما في حديث عبد الله بن عَمْرِو -رضي الله عنهما- قال: سمعت رَسُولَ الله ? يقول: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ من الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حتى إذا لم يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ الناس رؤوسا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" متفق عليه.

وصلوا وسلموا...
🎤

*خطبة مكتوبه بعنوان:*

*العلم.والتعليم.tt* 5️⃣

للشيخ د / إبراهيم بن محمد الحقيل


عناصر الخطبة

1/منزلة العلم والعلماء 2/ انتقاص العلماء نوع من الصد عن سبيل الله 3/ من أعظم آثار الطعن في العلماء 4/ تحريم الطعن والاستخفاف فيهم 5/ من آثار محبة العلماء 6/ منزلة العلماء عند أسلافنا 7/ وجوب الاقتداء بأسلافنا 8/ من حق المسلم على أخيه نصرته ظالما ومظلوما 9/ من خصال المنافقين تجاه العلماء 10/ حملة العلمانيين على العلماء وواجبنا نحوها

اهداف الخطبة

التنبيه إلى عظم قدر العلماء / الترغيب في الدفاع عن العلماء / التحذير من مسلك العلمانيين مع العلماء
عنوان فرعي أول
محاربة الجبار
عنوان فرعي ثاني
إيثارهم بأعمارهم
عنوان فرعي ثالث
من إجلال الله

🕌🕌🕌🕌🕌🕌🕌🕌

الخطبة الاولى:


الحمد لله العليم القدير؛ رفع شأن العلم والعلماء، فجعلهم أهل خشيته (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ) [فاطر:28] وأنكر سبحانه التسوية بينهم وبين الجهلة بشريعته (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الزُّمر:9]

نحمده على وافر نعمه، ونشكره على جزيل عطائه؛ فهو خالقنا ورازقنا وهادينا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ربُ كلِّ شيء ومليكُه، خلق الخلق فأحصاهم عدداً، وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ إمام الأنبياء والمرسلين، وسيد العلماء الربانيين، وقدوة الأئمة المحتسبين، أوذي في الله تعالى فصبر صبراً جميلاً ليس فيه شكوى، فلما أظهره الله تعالى صفح صفحاً جميلاً ليس فيه انتقام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه واتباعه إلى يوم الدين.



أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واستمسكوا بدينكم، وسلوا الله تعالى الثبات عليه؛ فمن رأى كثرة المخذلين والمنتكسين بان له عظم الابتلاء في الدين، وأهمية الثبات على الصراط المستقيم، ولا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، والسعيد من وافى على الحق، والشقي من استبدل الضلال بالهدى (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا)[الكهف:17].

أيها الناس: للعلم والعلماء في الإسلام مقام رفيع، ومنزلة كبيرة؛ فهم ورثة خير خلق الله تعالى، وهم الأنبياء عليهم السلام، في خير ما ورثوا وهو دين الله تعالى، فورثوا خير ميراث من أفضل مُوَرِثين، ويكفيهم شرفاً أن الله تعالى أثنى على عقولهم (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا العَالِمُونَ) [العنكبوت:43] وأخبر عن نقص عقول من لم يأخذوا عنهم (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك:10] وكان الحسن البصري رحمه الله تعالى يقول: " لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم ".

ولولا العلماء من عهد الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا هذا لضاع الدين؛ فهم حملته ومبلغوه، يقول ابن حزم رحمه الله تعالى: " واعلموا أنه لولا العلماء الذين ينقلون العلم ويعلمونه الناس جيلاً بعد جيل لهلك الإسلام جملة، فتدبروا هذا وقفوا عنده وتفكروا فيه "

ولأجل أن العلماء حملة الدين ومبلغوه عن الله تعالى كان انتقاصهم والطعن فيهم، والتنفير منهم، والتأليب عليهم نوعاً من الصد عن دين الله سبحانه، وسبباً لطمس الهدى ونشر الضلال، وطريقاً لإخفاء الحق وإظهار الباطل؛ لأن مَنْ فَعَل ذلك فهو يريد الحيلولة بين الناس وبين من يبلغون الهدى ليصرفهم عنهم فيَضِلوا، ومن صدَّ عن دين الله تعالى بأي طريق كان، وأراد أن يكون الناس على عِوجٍ فهو ملعون بنص القرآن (أَلَا لَعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) [هود:18-19].

والعلماء هم من أولياءُ الله تعالى حتى قال الإمامان أبو حنيفة والشافعي رحمة الله تعالى عليهما: " إنْ لم يكن العلماء أولياءَ الله فليس لله ولي " ومن حارب أولياء الله تعالى فقد استحل محاربة الجبار جل وعلا؛ كما قال سبحانه في الحديث القدسي: " من عَادَى لي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ " رواه البخاري.

ومن أعظم آثار ذلك العاجلة موت القلب؛ لأن من انتقص نقلة الدين هان الدين في قلبه، وسهل عليه أن يتوجه بالطعن المباشر في أحكام الله تعالى وحدوده، ومن سبر أحوال كثير ممن يرفضون أحكام الله تعالى، ويطعنون في شريعته، أو يستميتون في تأويلها وتحريفها - يجد أن بدايات انحرافاتهم كانت بالطعن في العلماء، فعوقبوا بالجرأة على الدين كله تأويلاً وتحريفاً ورداً وانتقاصاً، نعوذ بالله تعالى من الضلال والهوى، وفي هذا يقول الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى: " كل من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله عز وجل قبل موته بموت القلب ".

وذكر رجل عالماً بسوء عند الحسن بن ذكوان رحمه الله تعالى فقال: " مه لا تذكر العلماء بشيء فيميت الله تعالى قلبك ".
والأصل أنه لا يطعن في علماء الشريعة، ولا يرضى بالطعن فيهم إلا أهل الأهواء والنفاق؛ لأن العلماء يحولون بينهم وبين نشر النفاق والفساد والابتداع في الدين؛ إذ ببيان العلماء يظهر العلم، ويرفع الجهل، وتزال الشبهة، وتصان الشريعة، ويكون الناس على طريق مستقيمة، ومحجة واضحة، لا غموض فيها ولا التباس؛ ولذا كان أئمة من السلف الصالح إذا رأوا من يطعن في عالم رباني اتهموه في دينه، وجعلوا ذلك قاعدة عند الناس حتى لا يغتروا بطعنه، قال يحيى بن معين رحمه الله تعالى: " إذا رأيت الرجل يتكلم في حماد بن سلمة وعكرمة مولى ابن عباس فاتهمه على الإسلام ". وجاء مثل ذلك عن عدد من علماء السلف رحمهم الله تعالى.

بل إن مجرد الاستخفاف بعالم الشريعة ولو لم يطعن فيه سبب للضلال والإضلال؛ لأن من استخف بالعلماء لم يأخذ عنهم، واتبع هواه في دينه فَضَلَّ وأَضَلَّ من تبعه، وفي هذا يقول ابن المبارك رحمه الله تعالى: " من استخف بالعلماء ذهبت آخرته ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه ومن استخف بالإخوة ذهبت مروءته ".

ومن فرح بمصاب العلماء أو موتهم، أو أراد من الناس العزوف عنهم، أو دعا إلى عدم اعتبار أقوالهم، أو رغب في الإقلال من دروسهم ومحاضراتهم، أو طالب بتقليص المناهج الشرعية في مراحل التعليم - فإنما يبتغي بذلك تجهيل الناس بدينهم، وإبطال شريعة الله تعالى فيهم، وإطفاء نوره الذي استضاءوا به، ونقلهم من الهدى والنور إلى الضلال والظلام، سواء قصد ذلك أم لم يقصده، قال أيوب السختياني رحمه الله تعالى: " إن الذين يتمنون موت أهل السنة يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ".

إن من أعظم أسباب الاتباع والهدى، ومجانبة البدع والهوى، والنجاة من سبل أهل الردى: محبة علماء الشريعة الربانيين، ومعرفة قدرهم، وحفظ مكانتهم، والذب عن أعراضهم، والانتصار لهم ممن بغى عليهم، حتى إن السلف الصالح جعلوا محبة العالم الرباني دليل الهدى والاتباع، والسلامة من الهوى والانحراف، وفي هذا يقول أبو حاتم الرازي رحمه الله تعالى: " إذا رأيت الرجل يحب أحمد بن حنبل فاعلم أنه صاحب سنة".

ويحس الواحد منهم إذا مات عالم أنه قد أصيب هو في جسده؛ كما قال أيوب السختياني رحمه الله تعالى: "إني أُخبَر بموت الرجل من أهل السنة وكأني أفقد بعض أعضائي ".

وربما تمنى بعضهم أن يتنازل عن شيء من عمره ليزيد في عمر عالم؛ من أجل نشر دين الله تعالى ونفع الناس بالعلم؛ كما قال يحيى البيكندي رحمه الله تعالى: " لو قدرت أن أزيد في عمر البخاري من عمري لفعلت فإن موتي يكون موت رجل واحد، وموتَه ذهابُ العلم ".

ومن شدة محبة أهل الإيمان للعلماء أنهم يخصونهم بالدعاء لهم؛ اعترافاً بفضلهم، ومكافأة لهم على معروفهم بنشر العلم، ورفع الجهل قال الحسن بن أحمد بن الليث: " سمعت أحمد بن حنبل وسأله رجل فقال: بالريِّ شابٌ يقال له أبو زرعة فغضب أحمد وقال: تقول شاب!! كالمنكر عليه، ثم رفع يديه وجعل يدعو الله عز وجل لأبي زرعة ويقول: اللهم انصره على من بغى عليه، اللهم عافه، اللهم ادفع عنه البلاء اللهم اللهم في دعاء كثير، قال الحسن: فلما قدمت حكيت ذلك لأبي زرعة وحملت إليه دعاء أحمد بن حنبل له، وكنت كتبته عنه، فكتبه أبو زرعة، وقال لي أبو زرعة: ما وقعت في بلية فذكرت دعاء أحمد إلا ظننت أن الله تعالى يفرج بدعائه عني ".

وكان حماد بن أبي سليمان شيخاً لأبي حنيفة رحمهما الله تعالى فعرف له أبو حنيفة فضله، وحفظ مكانته حتى قال: " ما صليت صلاة منذ مات حماد إلا استغفرت له مع والدي وإني لاستغفر لمن تعلمت منه علماً أو علمته علماً ".

تلك كانت منزلة العلماء عند أسلافنا، وواجب علينا أن نقتدي بهم في توقير العلم والعلماء؛ فإن ذلك من إجلال الله تعالى، وتعظيم شريعته، وامتثال أمره، وقد روي في الحديث: " إِنَّ من إِجْلَالِ الله إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فيه وَالْجَافِي عنه وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ " رواه أبو داود، قال الشعبي رحمه الله تعالى: " أمسك ابن عباس بركاب زيد بن ثابتٍ وقال: هكذا يُفعل بالعلماء ".

فمن رفعهم الله تعالى وجب رفعهم وقد قال سبحانه: (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة:11].

حفظ الله تعالى علماء الأمة الربانيين، وأعلى ذكرهم، وزادهم من فضله، ونفع بهم خلقه، ورد عنهم قالة السوء،إنه سميع قريب.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...



الخطبة الثانية



الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين..

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة:281].
أيها المسلمون: من حق المسلم على أخيه المسلم أن ينصره ظالماً بأن يردعه عن ظلمه، وأن ينصره مظلوماً بأن يرفع الظلم عنه.

والظلم قد يكون قولاً وقد يكون فعلاً، ومن ظلم القول: غيبة المؤمن وبهته وذمه والطعن فيه، ومن انتصار المؤمن لأخيه المؤمن ردّ ذلك، وقد جاء في حديث أبي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من رَدَّ عن عِرْضِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ كان حَقًّا على الله عز وجل أن يَرُدَّ عنه نَارَ جَهَنَّمَ يوم الْقِيَامَةِ " رواه الترمذي وقال:حديث حسن. وفي حديث آخر: " من حَمَى مُؤْمِنًا من مُنَافِقٍ أُرَاهُ قال بَعَثَ الله مَلَكًا يَحْمِي لَحْمَهُ يوم الْقِيَامَةِ من نَارِ جَهَنَّمَ..." رواه أبو داود.

فإذا كان ذلك في رد المسلم عن عرض أخيه المسلم، والانتصار له في مظلمته؛ فكيف إذن بالرد عن أعراض العلماء الربانيين، والانتصار لهم من طعن الطاعنين، ولاسيما إذا علمنا أن طعون كثير منهم في أهل العلم ليست لذات العالم وإنما هي لأجل تبليغهم العلم، وبيانهم للحق، واحتسابهم على الناس بأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر؟! فالواجب والحال هذه أعظم؛ لأن في الذب عن العلماء ذباً عن الشريعة، وفي الانتصار لهم انتصاراً للملة.

إن ظاهرة الطعن في العلماء الناصحين، والتقليل من شأنهم، ودعوة الناس للعزوف عنهم، والمطالبة بإسكاتهم، أو إبدال غيرهم بهم من أهل السوء والضلال الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ... كل ذلك كان -ولا يزال- دأب المنافقين من عهد الرسالة حين سخروا بقُرَّاء الصحابة رضي الله عنهم في غزوة تبوك إلى يومنا هذا فأنزل الله تعالى فيهم (قُلْ أَبِالله وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [التوبة:65-66] ذلك أن خفافيش الظلام من أهل الأهواء والبدعة والتغريب والفساد لا يستطيعون القيام بوظائفهم في إضلال الناس وغوايتهم إلا حين يسود الجهل بالشريعة، ويضمحل العلم بموت العلماء، أو بسكوتهم عن بيان الحق والنصح للخلق.

وما الحملة الشعواء القذرة التي يقودها أذناب الغرب، ودعاة التغريب في بلاد المسلمين ضد العلم والعلماء إلا حلقة من حلقات تجهيل الأمة وصرفها عن دين الله تعالى إلى مناهجهم المنحرفة .. يقومون بهذه المهمة الخسيسة؛ امتثالاً لإملاءات الغرب في تقاريرهم الاستراتيجية بقصد اختراق بلاد المسلمين وإفسادها، ولا يتورعون في سبيل تحقيق مرادهم عن الكذب والبهتان والتزوير والتأليب؛ ذلك أنه لا يردعهم عن بغيهم دين ولا أخلاق ولا مروءة، فهم وصوليون ذرائعيون، الغاية عندهم في إفساد الناس تسوغ كل وسيلة مهما كانت حقارتها وصفاقتها..

وواجب على أهل الإيمان عدم تصديق هؤلاء المفسدين في أكاذيبهم، ولا الانسياق خلف أراجيفهم؛ فإنهم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها، كما يجب على أهل الإيمان الذب عن العلم والعلماء، ومعرفة قدرهم، وحفظ مكانتهم، والصدور عن أقوالهم؛ فإنهم أقرب الناس إلى الحق، وأنصحهم للخلق؛ لأنهم ورثة الأنبياء عليهم السلام، ولا أحد في البشر أعلم من الأنبياء ولا أكثر نصحاً منهم، وقد قال الله تعالى فيهم: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) [الأنبياء:73] كما قال في العلماء (بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ) [العنكبوت:49].

وصلوا وسلموا...
🎤

*خطبة مكتوبه بعنوان:*

*رضا.الناس.غاية.لا.تدرك.tt*


للشيخ / هلال الهاجري


عناصر الخطبة

1/ وصف لما يرضي الناس 2/ رضا الله غاية لا تترك ومقدمة على رضا غيره 3/ خطر ترك المناصحة وعقوبتها 4/ موقف في أثر تقديم رضا الله على رضا الناس.


الخطبة الأولى:



الحَمْدُ للهِ وَلِيِّ المُؤْمِنِينَ، وَأَنِيسِ الصَّالِحِينَ، وَجَابِرِ المُنْكَسِرِينَ، وَمُغِيثِ المَكْرُوبِينَ، وَمُجِيبِ الدَّاعِينَ؛ (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن:29]، نَحْمَدُهُ فِي العَافِيَةِ وَالبَلاَءِ، وَنَشْكُرُهُ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَنُثْنِي عَلَيْهِ الخَيْرَ كُلَّهُ؛ فَلَرُبَّ سَرَّاءَ أَوْرَثَتْ غُرُورًا وَبَطَرًا وَكُفْرًا، وَلَرُبَّ ضَرَّاءَ اسْتَخْرَجَتْ تَوْبَةً وَدُعَاءً وَتَضَرُّعًا.



وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ لَهُ الحِكْمَةُ البَاهِرَةُ فِي أَفْعَالِهِ، وَلَهُ الحُجَّةُ البَالِغَةُ عَلَى عِبَادِهِ؛ لَا يَقْضِي قَضَاءً لِمُؤْمِنٍ إِلاَّ كَانَ خَيْرًا لَهُ؛ فَأَهْلُ الرِّضَا يَنْعَمُونَ بِرِضَاهُمْ، وَأَهْلُ السَّخَطِ يَعُودُ عَلَيْهِمْ سَخَطُهُمْ.



وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَتَى بِالبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ، فَبَشَّرَ مَنِ الْتَزَمَ الإِسْلاَمَ بِالعِزِّ وَالرِّفْعَةِ وَالتَّمْكِينِ، وَفِي الآخِرَةِ بِالفَوْزِ العَظِيمِ، وَأَنْذَرَ مَنْ تَخَلَّى عَنْ دِينِهِ بِالفَشَلِ وَالذُّلِّ وَالهَوَانِ، وَفِي الآخِرَةِ بِالعَذَابِ وَالخُسْرَانِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.



أَمَّا بَعْدُ: (رِضا النَّاسِ غايةٌ لا تُدركُ) .. حكمةٌ سمعناها كثيراً .. وردَّدناها كثيراً .. وكلما طالَ بالإنسانِ العُمرُ وخالطَ النَّاسَ كلما أيقنَ بصدقِ وحقيقةِ هذه الحكمةِ .. فالنَّاسُ تختلفُ مشاربُهم وأفكارُهم وأذواقُهم وأهواءُهم وآراؤهم .. فمن ذا الذي يستطيعُ، أن يُرضيَ الجميعَ.



إذا صَدَعتَ بقولِ الحقِّ فأنتَ غليظٌ جَسورٌ .. وإذا حافظتَ على صمتِكَ فأنت مُتَغَطْرِسٌ مَغرورٌ .. إذا زُرتَ كلَّ يومٍ فأنت ثقيلٌ مذمومٌ .. وإذا قطعتَ زيارتَهم فأنت القاطعُ المَلومُ .. إذا أبديتَ لهم نعمةً حسدوكَ .. وإذا أخفيتَها عنهم عاتبوكَ .. إن قُلتَ قولاً حرَّفوا معانيه .. وإن فعلتَ فِعلاً أساءوا الظَّنَ فيه .. تبتسمُ يقولونَ: ضعيفٌ .. تَعبسُ يقولون: عنيفٌ .. تعفو يقولونَ: خوَّارٌ .. تُقسو يقولون: جبارٌ.



ضَحِكْتُ فقالوا ألا تَحتشِم *** بَكَيْتُ فقالوا ألا تَبتسم

بَسِمتُ فقالوا يُرائي بهــا *** عَبستُ فقالوا بدا ما كَتَم

صَمَتُّ فقالوا كليلُ اللسانِ *** نطقتُ فقالوا كثيرُ الكَلِم

حَلِمتُ فقالوا صنيعُ الجبانِ *** ولو كانَ مُقتدراً لانتقم

بَسَلتُ فقالوا لطيشٍ بـــــه *** وما كانَ مجترئاً لو حَكم

يقولون شَذَّ إذا قلــتُ: لا *** وإمَّعةً حينَ وافقتُهم

فأيقنت أنِّي مهما أردتُ *** رِضا النَّاسِ لابُدَّ من أن أُذَّم



ولكي تعرفَ الحلَّ، اسمعْ معي إلى باقي الحكمةِ: "رِضا النَّاسِ غايةٌ لا تُدركُ، ورِضا اللهِ غَايةٌ لا تُتركُ، فاتركْ ما لا يُدركُ، وأَدركْ ما لا يُتركُ" .. إذاً لن تستطيعَ أن تُرضيَ النَّاسَ جميعاً إلا أن تأخذَ بهذه الوصفةِ العظيمةِ؛ كما جاءَ في حديثِ عائشةَ رضيَ اللهُ عَنْهَا: "مَنِ الْتَمَسَ رِضَى اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ الله عَنْهُ وَأَرْضَى النَّاسَ عَنْهُ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ سَخَطَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَسْخَطَ عليه النَّاسَ"، وصدقَ اللهُ تعالى: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ) [التوبة: 62]؛ فتَلمَّسْ -أيُّها العبدُ- رِضا اللهِ تعالى في كلِّ ما تفعلُ وتقولُ .. يجعلْ لك بين النَّاسِ الرِّضا والقَبول.



صارحني ماذا ستفعلُ لو حَضرتَ مجلسَ قريبٍ أو صديقٍ، ثُمَّ بدأوا يخوضونَ في أمورِ الدِّينِ بلا علمٍ، ويطعنونَ في أهلِ الخيرِ والصَّلاحِ؟ .. هل ستصمتُ حتى لا تُغضبَ عليكَ الأصدقاءِ؟ .. أم ستُذكِّرَ فإن لم ينتهوا فليسَ لكَ بقاءٌ؟ .. قالَ سُبحانَه: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأنعام:68]؛ لأنَّكَ إن جلستَ معهم بعدَ ذلكَ فأنتَ مثلُهم في المعصيةِ والإثمِ .. قالَ تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) [النساء:140].
أخبرني عن موقفِكَ لو دُعيتَ إلى مناسبةٍ أو وليمةٍ، فلمَّا حضرتَ فإذا أمامَكَ منكرٌ من المنكراتِ؛كأنْ يكونُ هناكَ معازفٌ وأغاني؛ فهل سُترضي الخلقَ بصمتِكَ حتى لا يعيبوا عليكَ التَّشدَّدَ أو التَّزمتَ؟ أو ستنصحُ بإزالةِ المنكرِ؛ كما قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإيمَانِ" .. وهل ستبقى لو لم يسمعوا للنَّصيحةِ حتى لا يعتبُ عليكَ أو يُقاطعُكَ الأحبابُ؟ .. أم ستعلمُ أنَّه مجلسٌ لا يُحبُّ أن يراكَ اللهُ تعالى فيه فتُبادرُ البابَ؟.



وإن لم تستطعْ بلسانِكَ هل ستُنكرُ بقلبِكَ وتُفارقُ المكانَ وذلكَ أضعفُ الإيمانِ؟ .. ذلكَ لنُحقِّقَ التَّناهي عن المنكرِ وننجو من الطردِ من رحمةِ اللهِ .. قالَ تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ) [المائدة:78-79].



كتبَ سُفيانُ الثَّوري إلى ابنِ أبي ذِئبٍ- رحمهما الله-: "فَإِنَّكَ إِنِ اتَّقَيْتَ اللهَ كَفَاكَ النَّاسَ، وَإِنِ اتَّقَيْتَ النَّاسَ لَم يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا، فَعَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ" .. نصيحةٌ جامعةٌ مختصَرةٌ.



ما هو قرارُكَ لو اجتمعَ عليكَ الزَّوجةُ والأولادُ في الإجازةِ، وأرادوكَ أن تُسافرَ بهم إلى بلادِ الكُّفرِ للسِّياحةِ؛ فهل تُسافرُ بهم لأجلِ إدخالِ السُّرورِ إلى قلوبِهم، وتطييبِ خواطِرِهم إلى بلادِ المُشركينَ .. وتتركَ السِّياحةَ في بلادِكَ وبلادِ المسلمينَ؟.. أو تعلمُ أن في بلادِهم التَّعري والزِّنا والخمرِ ومظاهرِ الكفرِ ومخالطةِ المُشركينَ، وقد قَالَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ".



قَالَ جَرِيرٌ الْبَجَلِيُّ -رضيَ اللهُ عَنْهَ-: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يُبَايِعُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْسُطْ يَدَكَ حَتَّى أُبَايِعَكَ، وَاشْتَرِطْ عَلَيَّ، فَأَنْتَ أَعْلَمُ، قَالَ: "أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتُنَاصِحَ الْمُسْلِمِينَ، وَتُفَارِقَ الْمُشْرِكِينَ" .. إذاً من أصولِ الدِّينِ .. مُفارقةِ المُشركينَ.



صارحْ نفسكَ -أيُّها المُباركُ- هل اللهُ -عزَّ وجلَّ- ورسولُه -صلى اللهُ عليه وسلمَ- أحبُّ إليكَ وأولى لكَ أن تُرضيَ، أم الزَّوجةُ والأولادُ والآباءُ والأمَّهاتُ والإخوانُ والعشيرةُ؟ .. اسمعْ معي بقلبِك لهذه الآيةِ العظيمةِ: (قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 24]؛ فلا إلهَ إلا اللهُ .. الأمرُ خطيرٌ .. ولعلَّ الآيةَ توضِّحُ سببَ بعضِ ما يُصيبُ الأمَّةِ اليومَ.



فليتَكَ تَحلو والحياةٌ مريرةٌ *** وليتَكَ تَرضى والأَنامُ غِضابُ

إذا صَحَّ مِنكَ الودُ فالكلُّ هَيِّنٌ *** وكلُّ الَّذِي فوقَ التُّرابِ تُرابُ



قالَ ابنُ رجبٍ -رحمَه اللهُ-: "فمن تَحقَّقَ أن كلَّ مخلوقٍ فوقَ الترابِ فهو تُرابٌ؛ فكيفَ يُقدِّمُ طَاعةَ شيءٍ من التُّرابِ عَلَى طَاعةِ ربِّ الأربابِ؟!، أم كَيفَ يُرضي التُّرابَ بسخطِ المَلِكِ الوَهابِ؟!، إنَّ هذا لشيءٌ عُجابٌ".



أسألَ اللهَ أن يغفرَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ والمسلماتِ الأحياءِ منهم والأمواتِ، إنَّه غفورٌ رحيمٌ.





الخطبة الثانية:



الحمدُ للهِ الكبيرِ المتعالِ، ذي الجمالِ والكمالِ والعزَّةِ والجلالِ، لا يَبلغُ مِدحتَه مقالٌ، ولا يُغني عن عطائه والحاجةِ إليه نَوالٌ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن سيِّدَنا محمَّدًا عبدُه ورسولُه، خيرَ من عملَ وقالَ، ومن أُوتيَ الحكمةَ وجوامعَ المقالِ، صلى اللهُ عليه وعلى إخوانِه خيرِ صحبٍ وآلٍ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ المرجعِ والمآلِ.



لما وَلِيَ ابنُ هُبَيرةَ العِراقَ وخُراسانَ ليزيدَ بنِ عبدِ الملكِ، بعثَ إلى الحسنِ البصري وابنِ سيرينَ والشَّعبي -رحمَهم اللهُ-، فاحتفى بهم وأحسَنَ مثواهم، ثم قالَ: إنَّ الخليفةَ أَخذَ من النَّاسِ عُهودَهم وأعطاهم عهدَه؛ كي يسمعوا له ويُطيعوا، وأنَّه تأتيني منه كُتبٌ إن أمضيتَها أسخطتُ اللهَ تعالى، وإن أهملتُها أسخطتُ أميرَ المؤمنينَ؛ فماذا تأمرونَ؟.
فأجابَ الشعبي بكلامٍ فيه تَقيَّةٌ، وسَكتَّ ابنُ سيرينَ، فقالَ ابنُ هُبَيرةَ: يا أبا سعيدٍ، ما تقولُ؟، فقالَ الحسنُ: يا ابنَ هبيرةَ: "خَفِ اللهَ في يزيدَ ولا تَخفْ يزيدَ في اللهِ؛ فإنَّ اللهَ جلَّ وعزَّ مانعُك من يزيدَ، ولن يمنعَكَ يَزيدُ من اللهِ، يا ابنَ هبيرةَ: إنَّه لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالقِ؛ فما كتبَ إليك يزيدُ فاعرِضه على كتابِ اللهِ؛ فما وافَقه فأنفِذه، وما خالَفه فلا تُنفِذه؛ فإنَّ اللهَ أولى بك من يزيدَ، وكتابُ اللهِ أولى بك من كتابِه"، وما زالَ به حتى أبكاه .. فما كانَ من الوالي بعد أن انصرفَ من بُكائه إلا أن أرسَلَ إليهم جوائزَهم، فأعطى الحسنَ أربعةَ آلافِ درهمٍ، وصاحبيه ألفينَ ألفينَ .. فنادي الشَّعبيُّ على بابِ المسجدِ: "مَن قَدِرَ منكم أن يُؤثِرَ اللهَ على خلقِه فليفعلْ؛ فإن الأميرَ قد سألَنا عن أمرِ اللهِ، ما عَلِمَ الحسنُ شيئًا جهِلتُه، ولا جهلَه ابنُ سيرينَ، ولكنَّا أردْنا وجهَ الأميرِ، فأقصانا اللهُ -عزَّ وجلَّ- من الأميرِ وقَصَرَ بنا، وأرادَ الحسنُ وجهَ اللهِ، فحباهُ اللهُ تباركَ محبَّةَ الأميرِ وزادَه في العطاءِ؛ فكم من نصيحةٍ صادقةٍ لأميرٍ، كانَ فيها الخيرُ الكثيرُ".



اللهمَّ اغفر لنا ذنوبَنا، وإسرافَنا في أمرِنا، وثبتْ أقدامَنا، وانصرنا على القومِ الكافرينَ، واجمعْ على الحقِّ كلمتَنا، وأَلِّفْ بينَ قلوبِنا، واهدنا سبلَ السلامِ، وأخرجنا من الظلماتِ إلى النورِ.



اللهم اجعلنا ممن عبدوك كما تريدُ، أعِنَّا على ذكرِك وشكرِك وحسنِ عبادتك، اقضِ ديونَنا، واستر عيوبَنا، وأغننا من فضلِك، أغننا بحلالِك عن حرامِك.



اللهم إنا نسألُك في مقامِنا هذا الفردوسَ الأعلى، وأن تعيذَنا من النارِ.



اللهم إنا نسألُك صلاحَ النيةِ والذريةِ.



اللهم آمنا في الأوطانِ والدورِ، وأصلحْ الأئمةَ وولاةَ الأمورِ، واغفر لنا يا عزيزُ يا غفورُ.



اللهم انصر دينَك، واخذِلْ المنافقينَ، وأذلَّ أعداءَ الدينِ، وعَجِّل بفرجِ المسلمينَ يا أرحمَ الراحمينَ.



(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات:180-182].
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الجمعة 22 جمادى الأولى 1444 هـ الموافق 16 ديسمبر 2022م
الخطبة الأولى : الحمد لله رب العالمين قيوم السماوات والأرضين مدبر أمر الخلائق أجمعين ، نحمده تبارك وتعالى أنعم علينا بنعمة الدين وجعله نظاما شاملا كاملا صالحا للعالمين ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تستقيم بها حياتنا وتصلح بها أوضاعنا وتستنير بها قلوبنا ونفوز بها (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله من بعثه الله كافة للناس بشيرا ونذيرا وسراجا منيرا صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين ، أوصيكم ونفسي بتقوى الله والعمل بطاعته في كل شؤون حياتنا ، والاهتداء بهديه في كل علاقاتنا ومعاملاتنا ، والجهاد في سبيله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ، (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) أما بعد فإن من خصائص هذا الدين أنه دين الفطرة بمعنى أنه الدين الذي يتناسب مع الطبيعة النفسية والجسدية التي خلق الله الإنسان عليها بكل مكوناتها فمتى سار الإنسان في تحقيق حاجاته ومتطلباته النفسية والروحية والعقلية والجسمية والمادية وفق هذا النظام حصل على السعادة والطمأنينة والراحة النفسية ونجح في تحقيق مطالبه وصدق الله (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ، متى انضبط الإنسان بهذا النظام الرباني في تفكيره وتصوراته وفي علاقاته وارتباطاته وفي تنظيم عواطفه ورغباته وشهواته وفي بيعه وشرائه ومعاملاته حصل على العيش الكريم وحافظ على مكانته الراقية التي خصه الله بها قال تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) ومتى تنكر لهذا الدين وانحرف عن هذا النظام الإلهي المعصوم عاش في ضنك وشقاء وحطم قواه العقلية والروحية والجسدية وانحدر إلى أسفل سافلين وأصبح أقل وأدنى من الحيوانات والبهائم العجماء أكرمكم الله وخسر الدنيا والآخرة وعن هذا الصنف يقول الله (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ، وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) وقال (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ، سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ، َمنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) ، وقال (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ )
بل إن الإنسان أيها الكرام إذا خرج عن هذا النظام فقد خرج عن نظام الكون كله وعن نظام خلقته وفطرته فيصبح غريبا عن هذا الوجود سائرا عكس نظامه غريبا عن نفسه وفطرته وبالتالي يعيش أزمة نفسية حادة لا تسدها المظاهر المادية مهما كثرت ذلك لأن هذا الإنسان وهذا الكون صنعة الله وهذا الدين شرعته ولا تصلح هذه الصنعة ولا تصان إلا إذا استخدمت وفق إرشادات صانعها سبحانه وستبقى تشعر بالحاجة الملحة ما لم تصل ما انقطع بينها وبين ربها ، وبهذا الانحراف تفسد النفوس وتفسد الحياة وتتلوث البيئة في مظهرها المادي وفي مظهرها النفسي وصدق الله (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) وقال (لَوْ
كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)
وتأملوا أيها المؤمنون نتيجة الانحراف لصنف من البشر في قضاء المتعة الجنسية والتي بدأت بتدمير الأسرة
والخروج على النظام الرباني في العلاقات الجنسية المقننة بقانون السماء والتي تقوم على المتعة والمسؤولية والحقوق المتبادلة وتقوم على الأخلاق والدين وتقوم على النظافة والطهارة ، لكن هذا الصنف خرج عن حد الفطرة والدين والاعتدال ابتداء من الدعوة إلى خروج المرأة وتجردها عن حشمتها وحيائها ودعوتها وترغيبها وإغرائها لتخرج بمفاتنها لتعرض جمالها وجسدها لتكون متعة رخيصة لأصحاب الشهوات من غير ثمن ولا مقابل ولا مسؤولية ولا التزامات أخلاقية ولا قانونية وهو عكس إرادة الله قال تعالى (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) وقال (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) ، وأجابت المرأة إلى تلك الدعوات بغير وعي ولا تفكير في النتائج والمآلات ، ثم تلاها دعوة المساواة بين الرجل والمرأة وإذا المرأة تخرج إلى سوق العمل تكد وتعمل وتتحمل نفقة نفسها وتحرم من الضمان الشرعي والقانوني لنفقتها على زوجها أو على ابنها أو على قريبها ثم نتج عن ذلك التحرر من كل الضوابط الأخلاقية والاجتماعية في قضاء المتعة وأصبح كل من الجنسين يقضي حاجته متى شاء ومع من شاء وأصبحت طبيعة العلاقة بين الذكور والإناث مكتوب عليها (للمتعة فقط ) لا أولاد ولا التزامات ولا حقوق ولا واجبات وأصبحت المرأة أرخص سلعة يمكن الحصول عليها وخرجت عن مكانتها التي خصها بها قانون السماء ، وأخيرا أعرض الرجل عن المرأة واكتفى بالاستمتاع بمثيله الرجل يتزوج بالرجل ويعقد زواجا علنيا بذلك والمرأة تعود إلى بنت جنسها في قضاء حاجتها وبهذا وصل هذا الصنف من الناس إلى ما هو أدنى من الحيوانات فالحيوانات بطبيعة خلقتها وفطرتها لا تقبل هذا الانحراف ولا تميل إليه وصدق الله (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) ، (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ) والعجب أيها الكرام أن تتحول هذه الجريمة النكراء والانحراف عن الفطرة والدين إلى حق قانوني وإلى فعل تضفى عليه القداسة الدينية فيعقد في الكنيسة ، وهي في الشرائع والأديان من أقبح الجرائم التي ليس لها علاج إلا باستئصال أشخاصها لأنهم غير صالحين للحياة وما وجدت الأمة عقوبة أشد من عقوبة اللواط وأشد مما فعل رب العزة بقوم لوط (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ، أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) وقال (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ، وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ) وقال في عقوبتهم (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ)، وأصبحت الطهارة والنظافة والأخلاق الإنسانية عندهم جريمة تستحق أن يطرد أصحابها وأن يشنع عليهم قال تعالى عنهم (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) وعلى ذلك فلن نجد أحسن ولا أعظم من نظام الين الحنيف (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية : الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد وقفة مع مونديال قطر وهو في آخر أيامه ومع صوت الفطرة في مواجهة الانحراف في هذا المهرجان الكروي الدولي، مونديال قطر الدولي مثل سوقا للأفكار والمبادئ وقد حاول أصحاب الشذوذ الجنسي من المثليين أن يعرضوا بضاعتهم ولكنها لم تجد رواجا ، والعجب أن نجد من أبناء العرب والمسلمين من يغضب لذلك ويدافع عن الشواذ مما يستدعي
2024/11/15 18:44:22
Back to Top
HTML Embed Code: