Telegram Web Link
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الجمعة 2 رمضان 1444هـ الموافق 23 مارس 2023م
الخطبة الأولى : الحمد لله على نعمة الإسلام والإيمان والقرآن الحمد لله على نعمة الصلاة والصيام والقيام يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تكرم على عباده بمواسم للنفحات ورفع الدرجات ومضاعفة الحسنات وتكفر السيئات وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين وقدوة الصائمين القائمين صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحه والتابعين أما بعد فيا أيها المؤمنون الكرام ونحن في اليوم الثاني من أيام هذا الشهر المبارك شهر الصيام والقيام والقرآن والجهاد والدعوات المستجابات يطيب لي أن أهنئ الجميع بحلول الشهر الكريم ، سائلا الله أن يهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما يحبه الله ويرضاه ، وأن يكون شهر فرج وفرح وخير ونصر وفتح وبركات والحمد لله الذي بلغنا رمضان وأنعم علينا بالحياة والصحة والعافية والحرية لنتمكن من العبادة والجهاد ، أقف بحضراتكم أيها الصائمون القائمون مع مراتب الصوم أو الصوم الكامل لتكون هذه التذكرة معينة لنا على إحسان هذه العبادة لنحظى بكامل أجرها وتمام أثرها في حياتنا إن شاء الله تعالى شعارنا (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ، ولترتقي النفوس والقلوب والأرواح في منازل التقوى فتفوز بجنة عرضها السماوات الأرض أعدت للمتقين
نعم أيها المؤمنون إن الإنسان لا يحظى بالأجر الكامل على صيامه وعبادته ولا ينتفع بالصيام في تهذيب أخلاقه إلا إذا كان صيامه كاملا ، وإنما يكمل الصيام عندما يتفاعل معه كيان الإنسان كله في ظاهره وباطنه وفي أقواله وأفعاله وفي أخلاقه وتصرفاته فتصوم البطن عن الطعام والشراب ويصوم الفرج عن الجماع والشهوات . ويكف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح ويمتنع عن الآثام ، ويصوم القلب والفكر عن الاشتغال بما سوى الله عز وجل ودينه وذكره وشكره ، وعلى ذلك فإن الصيام ينقسم إلى قسمين : صيام حسي وصيام معنوي ، والمفطرات كذلك مفطرات حسية ومفطرات معنوية ، دليل ذلك قول الله عز وجل (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) فهذه هي المفطرات الحسية المتمثلة في الأكل والشرب والجماع وما في معناها من الشهوات وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: الصَّوْمُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي) رواه مسلم
وأما الصوم المعنوي والمفطرات المعنوية فأدلتها كثيرة فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم : "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" أخرجه البخاري . وفي الحديث أيضا "ليس الصيام من الطعام والشراب وإنما الصيام من اللغو والرفث" . وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ وعن أبي هريرة رضي الله عنه كذلك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر" رواه أحمد . وقال جابر بن عبد الله : إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم ودع أذى الجار ، وليكن عليك سكينة ووقار يوم صومك ، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء . وقال الشاعر :
إذا لـم يكن في السمـع مني تصـون    وفي بصري غض وفي منطقي صمت
فحظي إذا من صومي الجوع والظمـأ    وإن قلـت إني صمت يوماً فما صمت
فهذه المؤثرات المعنوية على الصوم من الغيبة والنميمة وقول الزور والسب واللعن وغيرها من سوء الأخلاق اتفق العلماء على أنها تذهب بأجر الصوم وأثره الأخلاقي والسلوكي ويصبح الصوم صورة بلا حقيقة وجسدا بلا روح ، ولكنها لا تبطله ولا توجب القضاء في قول عام العلماء ، وقال بعضهم بل تبطل الصوم وممن قال بذلك من الصحابة أنس بن مالك، ومن التابعين ومن بعدهم : مجاهد بن جبر ، وحفصة بنت سيرين، وميمون بن مهران، وعَبيدة السلماني، وأبو العالية، والأوزاعي، وابن حزم الظاهري . وبناء عليه فلا يكمل صومك أيها الصائم إلا بخمسة أمور :
الأول: غض البصر، وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يحرم ويُذم ويُكره وإلى كل ما يشغل القلب، ويلهيه عن ذكر الله عز وجل قال تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)
الثاني: حفظ اللسان عن الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة والمراء، وإلزامه السكوت وشغله بذكر الله سبحانه وتلاوة القرآن، فهذا صوم اللسان
الثالث: كفُّ السمع عن الإصغاء إلى كل محرم أو مكروه ؛ لأن كل ما حَرُمَ قوله حَرُم الإصغاء إليه؛ ولذلك قرن الله عز وجل بين المستمع وآكل السحت، فقال تعالى: (سماعون للكذب أكالون للسحت)
الرابع: كفُّ بقية الجوارح عن الآثام من اليد والرجل وكفُّ البطن عن الشبهات وقت الإفطار. فلا معنى للصوم وهو الكف عن الطعام الحلال، ثم الإفطار على الحرام وأكل أموال الناس بالباطل .
الخامس : أن يشغل كل قواه الظاهرة والباطنة بطاعة الله وذكره ونفع مجتمعه وأمته فخير الناس أنفعهم للناس فلنحرص على ذلك متذكرين قول النبي صلى الله عليه وسلم (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)واستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية : بعد الحمدلة والشهادتين والوصية بالتقوى: أما بعد فيا عباد الله إذا كان الصوم الكامل يقتضي أن يتفاعل كيان الإنسان كله مع هذه الفريضة فإن على الصائم كذلك أن يضع لنفسه برنامجا يرتب فيه أنشطته في اليوم والليلة حسب أهميتها وأفضليتها خطة تشمل التقرب إلى الله بإحسان الفرائض وأداء السنن الراتبة وصلاة الضحى والتراويح والوتر وغيرها من الرواتب المؤكدة كما يشمل النفقة اليومية في أبواب الخير والجهاد وتفقد الأقارب والأرحام والجيران والمحتاجين وتفقد أسر المرابطين والشهداء والجرحى والمعتقلين ، برنامجا يشمل الدعوة والنصيحة والأمر بالخير والنهي عن الشر وحراسة القيم الفاضلة في المجتمع والتحذير من الظلم والطغيان والفساد في الأرض برنامجا يشمل المساندة للجيش والأمن والمقاومة في مواجهة مليشيات الحوثي الإرهابية المعتدية حماية الدين والدفاع عن الحرمات ونصرة المستضعفين والمظلومين متمثلا حياة النبي المجاهد وأصحابه الذين مدحهم الله بقوله ( لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). متاجرين م الله بأربح تجارة أعلن الله عنها فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) فكونوا سندا للجيش والأمن بأموالكم وأنفسكم وثباتكم وصبركم ودعائكم وجهدكم حتى يأتي نصر الله وهو قريب بإذن الله ثم الدعاء والصلاة على النبي
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الجمعة 9رمضان 1444هـ الموافق 31 مارس 2023م
الخطبة الأولى : الحمد لله على نعمة الإسلام والحمد لله على نعمة الإيمان والحمد لله على نعمة القرآن الحمد لله على نعمة الصلاة والصيام والقيام الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ، وأنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله الذي كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن ، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وعلى من استن بسنته واهتدى بهديه وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين . أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم ، ولزوم طاعته ،والجهاد في سبيله ، وأنتم في شهر القرآن والتقوى والجهاد ، فاتقوا الله واحذروا مخالفة أمره ونهيه ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) أما بعد : فيا أيها المؤمنون الصائمون القائمون ، من خصائص شهر رمضان الكريم أنه شهر القرآن : شهر القرآن لأن الله تعالى أنزل القرآن فيه ، وفي أعظم ليلة من لياليه وهي ليلة القدر ، أنزله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء ، شهر القرآن لأن أول آيات القرآن نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستنار بها الوجود في رمضان ، شهر القرآن لأن جبريل عليه السلام أمين الوحي كان يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ليلة من ليالي رمضان فيدارسه القرآن ، ولنسمع إلى ربنا عز وجل يحدثنا عن الارتباط الوثيق بين رمضان والقرآن قال تعالى : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) ، وقال : (حم ، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ، أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، وقال : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ، سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) ، ورمضان أيها الكرام شهر القرآن لأن سلفنا الصالح كانوا يقضون معظم وقتهم فيه مع القرآن تلاوة وتدبرا ومراجعة وحفظا وفهما وقياما به آناء وآناء النهار ، وذلك لأن القلوب والأرواح مهيأة للتفاعل مع القرآن في شهر تنزله فيستثمرون ذلك ، قال عنهم الشاعر :
أجدادنا قرؤوا القرآن واتعظوا ونفذوا حكمه فانجابت السحب
كانوا يبيتون والقرآن رائدهم لهم دوي به كالنحل تضطرب
في الذكر ذكر لهم بل فيه رفعتهم فالذكر جمعهم من بعد ما انشعبوا
نعم أيها الكرام هذا هو حال العارفين من ذلك الجيل القرآني ، وكيف لا يكون ذلك والقرآن هو الروح الذي تحيا به القلوب حياة طيبة ، وهو النور الذي تضاء به دروب الحياة فنسير فيها على بصيرة ، وهو الهدى الذي يرشدنا إلى سبل الخير في كل شؤوننا قال تعالى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ، وكذلك ينبغي أن نكون أيها الكرام ، فتشبهوا إلم تكونوا مثلهم ...إن التشبه بالكرام فلاح ، لنجعل من رمضان منطلقا جديدا لتصحيح علاقتنا مع القرآن ، وتجديد صحبتنا للقرآن وأهليتنا مع القرآن ، فنصحح المسار للمستقبل حتى نكون من المبشرين بقول النبي صلى الله عليه وسلم (اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه ) رواه مسلم ، وبقوله (يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ في الدنيا تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَآلُ عِمْرَانَ تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا) . وما أحوجنا للشفاعة يوم لا ينفع مال ولا بنون ولا جاه ولا قرابة .
إن القرآن إخوة الإسلام هو رمز العزة والكرامة والشرف والنصر والقوة والعظمة والكمال والجمال ، هو منبع السعادة والحق والعدل ، هو الحل لكل مشاكل البشرية وعثراتها وصدق الله القائل : (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) والقائل : (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) . فلا ذكر لنا ولا مكانة ولا سعادة إلا بقدر تمسكنا بتعاليم هذا الكتاب المقدس
يا أمتي القرآنُ حبلُ نجاتنا * * فتمسكي بعراهُ كي لا نغرقا
ولتجمعي حول الكتاب شتاتنا * * وثقي بوعد الله أن يتحققا
والإعراض عن القرآن وتعاليمه وهداياته شقاء وضنك وعذاب في الحياة وبعد الممات ، ولعل هذا ما أصاب أمتنا اليوم فجعلها عاجزة ضعيفة تمتد إليها أيادي الأعداء كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها وصدق الله وهو يحذرنا (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ، وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) . ولهذا كان من الواجب علينا أن نعمر حياتنا بالقرآن ، وأن نصلح قلوبنا بالقرآن ، وأن ننور بيوتنا بالقرآن ، وأن نربي أبناءنا على القرآن ، وأن نحرس عقيدتنا وديننا بالقرآن ، وأن نجاهد أعداءنا بالقرآن ، وأن نصلح ما فسد من أوضاعنا بالقرآن ، وأن نقيم علاقاتنا على القرآن ، وأن نرشد سياساتنا بالقرآن ، وأن نصلح اقتصادنا بالقرآن . وأن نجاهد أعداء ديننا ووطننا تحت راية القرآن وبدونه فالحياة كلها خراب ودمار وخسارة وبوار وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من ليس في جوفه شيء من القرآن فهو كالبيت الخرب) وصدق الله : (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) وقد أحسن الشاعر في قوله :
أَكْـرِمْ بقـومٍ أَكْرَمُـوا القُرآنـا * * * وَهَبُـوا لَـهُ الأرواحَ والأَبْـدَانـا
قومٌ قد اختـارَ الإلـهُ قلوبَهُـمْ * * * لِتَصِيرَ مِنْ غَرْسِ الهُـدى بُسْتَانـا
زُرِعَتْ حُروفُ النورِ بينَ شِفَاهِهِمْ * * * فَتَضَوَّعَتْ مِسْكـاً يَفِيـضُ بَيَانَـا
رَفَعُوا كِتابَ اللهِ فـوقَ رُؤوسِهِـمْ * * * لِيَكُونَ نُوراً في الظـلامِ... فَكَانـا
سُبحانَ مَنْ وَهَبَ الأُجورَ لأهْلِهَـا * * * وَهَدى القُلُوبَ وَعَلَّـمَ الإنسانـا
‍يَا رَبِّ أَكْرِمْ مَـنْ يَعيـشُ حَيَاتَـهُ * * * لِكِتَابِـكَ الوَضَّـاءِ لا يَتَـوَانـى
‍واجْعِلْ كِتَابَـكَ بَيْنَنَـا نُـوراً لنـا* * * أَصْلِحْ بِهِ مَـا سَـاءَ مِـنْ دُنْيَانـا
وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية : الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد : فإن من الواجب علينا نحو القرآن أن نعلمه للأجيال تلاوة وحفظا وفهما وعملا وتربية وتخلقا ، وهذه هي وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم وهي كذلك وظيفة الأمة والمجتمع والدولة من بعده قال تعالى ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ وقال : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ، وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ )
ومن حق القرآن علينا أن ندافع عنه من كيد الكائدين ومكر الماكرين وحقد الحاقدين وحسد الحاسدين من اليهود
والنصارى والعلمانيين ، والمنافقين والحوثيين لضالين المضلين الذين لا يريدون لهذا النور أن ينتشر ولا لهذه الروح أن تسري في الأمة وإنما (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) ، (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) ، وأخطر هذه الفئات أيها الكرام هم الروافض الإيرانيون والحوثيون الحاقدون الذين يحاربون القرآن باسم القرآن ، ويهدمون
الدين باسم الدين ، ويطعنون في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم آل البيت ، وينتقصون من أصحاب رسول الله حملة الدين والقرآن ، إنهم بحق أهل الإفك والكذب والزور ، يدعون خداعا وتضليلا للأمة بأنهم أهل المسيرة القرآنية ، وهم أشد عداوة للقرآن وقتلا لحفاظه وحملته ودعاته ، وتدميرا لدُوره ومدارسه وتآمرا على مناهجه ومحاضن تعلمه والعمل به .. بل هم الذين يدعون افتراء أن هذا القرآن لا قيمة له بدون سادتهم وكهانهم والذين يسمونهم بقرناء القرآن ، وأن القرآن بدونهم عمى ، وأن أولئك الضلال هم القرآن الناطق !! يمنعون القرآن أن يدوي في الأرجاء عبر المآذن لا سيما في هذا الشهر الكريم ولياليه المباركة ، ولا يتحرجون أن تدنس المساجد المقدسة بخرافاتهم وضلالات سيدهم ، وهم بذلك يكررون حديث أشباههم ويجددون عهد من سبقهم من أعداء الدين وأعداء القرآن الذين حكى الله عنهم فقال : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ .فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ . ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ )
واسمعوا إلى نماذج من جرائمهم في حق القرآن : عطلوا 393 مدرسة ومؤسسة قرآنية عن عملها ، فجروا ما يزيد على 20 دار قرآن أو مدرسة قرآنية ، أغلقوا 1430 حلقة قرآنية في مناطق نفوذهم ، فجروا 174 مسجدا تؤدى فيه الصلاة ويعلم فيها القرآن ، وعطلوا 2100 مسجد عن وظيفتها العبادية والقرآنية وحولوها إلى متارس أو محلات مقايل وتخزين ، شردوا وسجنوا وقتلوا أعدادا كبيرة من حفاظ القرآن ، فاستعيذوا بالله من شر هؤلاء الضالين المضلين البغاة المعتدين ، واعلموا بأنه لا حل معهم غير قول الله (فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) ، لا طريق للتفاهم معهم غير قول الله (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) ، والتواني والتخاذل عن قتالهم وكبح جماحهم بالقوة هي الكارثة التي يحذرنا الله منها بقوله (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) ، (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا) ، وأهل القرآن في القديم وفي الحديث هم أعرف الناس بذلك ، وهم أصحاب ميادين الجهاد والقتال والبطولة دفاعا عن القرآن والدين والعرض والأرض والأوطان ، فمن تصدى لمسيلمة الكذاب إلا أهل القرآن من الصحابة الأخيار رضي الله عنهم ؟ ، ومن أبطل ضلالات الأسود العنسي وسجاح وطليحة غير حفظة القرآن ؟ ومن وقف في وجه الحوثي وخرافاته وجرائمه وضحى بالنفس والمال والحياة غير أهل القرآن ؟ واقرأوا سير الشهداء والجرحى والمرابطين وأصحاب الشجاعة والإقدام ستجدون القرآن هو المحرك الذي يدفعهم بتعاليمه إلى الذود عن الدين والعرض والكرامة والوطن ، فاللهم تقبل تضحياتهم واجعلنا منهم ومعهم ولا تحرمنا أجرهم ، وما أعظم أن يبذل أبناء هذا الشعب كل غال ونفيس من المال والنفس والحياة من أجل هذا الدين وهذا القرآن فرفع الله قدرهم وشأنهم في الدنيا والآخرة ففي الحديث " إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ " ، ثم الدعاء بما يناسب المقام والصلاة على النبي ........وأقم الصلاة
ملتقى الخطباء


رسالة لمن يصوم رمضان ويضيع الصلاة
خالد بن عبدالله الشايع


عناصر الخطبة
1/من ثمرات الصيام في تهذيب النفوس 2/خطورة ترك الصلاة 3/التحذير من النوم عن الصلوات المكتوبات 4/وجوب الحرص على الاستيقاظ للصلاة.
اقتباس
الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، ولا يقبل الله من عبد عملاً وهو تارك للصلاة، وإني لأستغرب ممن يصوم ولا يصلي، هل أنت تصوم لله؟ إن الذي أمر بالصيام هو الذي أمر بالصلاة، بل الصلاة أكبر قدرًا، وآكد فرضيةً، وأعظم عقوبةً في تركها، فنقول لمن لا يصلي: لا تتعب نفسك بالصيام، فلا صيام مقبول بلا صلاة، واحذر أن تموت كافرًا،...

الخطبة الأولى:



إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.



(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].



أما بعد فيا أيها الناس: إن الصيام يهذّب النفس، ويقودها إلى الطاعات، ويبعدها عن السيئات، والكلّ يلحظ ذلك جليًّا، إلا أن البعض من الناس هداهم الله، لا تنقاد نفوسهم للطاعة، ولا تبتعد عن السيئات، مع أن الشياطين في رمضان تسلسل، وداعي المعصية يضعف، ولكن نجد هؤلاء لا ينتهون عن منكر، ولا يسارعون في طاعة، وإذا فكرت في السبب، تبيّن لك أنهم لم يأتوا بالصيام على وجهه المطلوب، فهم فقط أمسكوا عن الأكل والشرب والجماع، ولكنهم في المعاصي غارقون، نهارهم نوم، وليلهم سهرات على المنكرات، لا يتورعون عن معصية لا في سماعهم ولا في كلامهم، ولا في كسبهم، فمثل هؤلاء كيف يؤثر فيهم رمضان؟ -والعياذ بالله-.



عباد الله: كل الذنوب تهون إلا ترك الصلاة، فالذنوب فيها الصغائر وفيها الكبائر، ولكن ترك الصلاة كفر -والعياذ بالله-، هل تعلمون أنه يوجد بيننا من يصوم ولا يصلي ولا حول ولا قوة إلا بالله، والبعض يصلي ولكن بعد خروج الوقت، فتراه ينام بعد طلوع الشمس ولا يستيقظ إلا مع أذان المغرب أو بعده، جيفة بالنهار، لا يعرف من الصوم إلا ترك الأكل والشرب، ولمثل هؤلاء أقول:



اتقوا الله -تعالى-، فترك الصلاة كفر، ومن ترك صلاة واحدة حتى يخرج وقتها من غير عذر كفر عند جمع من العلماء، قال عبد الله بن شقيق: "لم يكن أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- يعدون شيئًا تركه كفر إلا الصلاة.



أخرج مسلم في صحيحه من حديث جابر قال -صلى الله عليه وسلم-: "ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة".



فالصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، ولا يقبل الله من عبد عملاً وهو تارك للصلاة، وإني لأستغرب ممن يصوم ولا يصلي، هل أنت تصوم لله؟



إن الذي أمر بالصيام هو الذي أمر بالصلاة، بل الصلاة أكبر قدرًا، وآكد فرضيةً، وأعظم عقوبةً في تركها، فنقول لمن لا يصلي: لا تتعب نفسك بالصيام، فلا صيام مقبول بلا صلاة، واحذر أن تموت كافرًا، فتكون من أهل النار خالدًا مخلدًا فيها، -والعياذ بالله-.



ونقول لمن يصلي ولكنه ينام عن الصلاة إن ذنبك عظيم، وأنت على وشك الكفر، فالصلاة لا تلاعب فيها ولا تهاون، هي الفارق بين العبد وبين الكفر كما صح به الحديث، فمن فرط في الصلاة فهو لما سواها أعظم تفريطا، فلا تجده في دنياه إلا مخذولا، معدوم التوفيق، ضائق الصدر، تعلوه الكآبة والذلة، والعياذ بالله.



معاشر المؤمنين: إن من أشنع السيئات وأعظم الموبقات النوم عن الصلوات المكتوبات، حتى أصبح أولئك المفرطون يستغرقون في نومهم، غير مبالين بصلاة تفوتهم أو صلاة يخرج وقتها، المهم أن يهنأ بنومه، لا يستشعرون ضرورة الاستيقاظ للصلاة، أضاعوا الصلاة واعتذروا بالنوم، لكن الاعتذار بالنوم لا يكون بالغياب عن الجامعة أو المدرسة، ولا بالغياب عن الوظيفة، ولا يفوت رحلة وسفراً.



أيها النائم عن الصلوات المكتوبات: ألا تخشى أن يحرمك الله لذة النوم أو يحرمك من النوم، فتعيش قلقاً لا تعرف معه للنوم لذة، ألا تخشى أن يصيبك من العذاب مثل ما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- من عذاب الذي ينام عن الصلاة المكتوبة؟ أيتحمل رأسك ضربة بحجر من ملك؟ فكيف بضربات؟!!
يا من ينامون عن الصلوات المكتوبة: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ألستم تحبون الله؟ ألستم تطمعون بدخول الجنة؟ ألستم تؤملون تكفير السيئات؟ ألستم تريدون راحة في الدنيا والآخرة؟ إذًا فما بالكم بالنوم للصلوات مضيعون؟



اللهم اهدِ ضالّ المسلمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.





الخطبة الثانية:



أما بعد: فيا أيها الناس: إن النوم عن الصلاة جريمة عظيمة، وعاقبتها وخيمة، وعقوبتها أليمة، أخرج البخاري في صحيحه عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني وإنهما قالا لي: انطلق، وإن انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه، فيتدهده الحجر ها هنا، فيتبع الحجر فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى، قال: قلت لهما: سبحان الله! ما هذان؟ ثم قالا لي: أما إنا سنخبرك، أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة".



عباد الله: إن كنتم تتعجبون من هذه الرؤيا فرسولنا تعجب منها وقال: سبحان الله! ما هذان؟ رجل مضطجع، ومَلَك معه صخرة، يضرب بها رأس المضطجع، فما أشدها وآلمها من ضربة تشدخ وتهشم الرأس وتكسره تكسيراً، ثم تتدحرج الصخرة، فإذا ذهب الملك ليأتي بالصخرة ليضرب بها رأس المضطجع مرة أخرى، وجد رأسه عاد كما كان سليماً، فيضربه مرة أخرى، وهكذا ضربة بعد ضربة ومرة بعد مرة، في عذاب متكرر متوالي. أين يا مسلمون مكان هذا العذاب؟ إنه في البرزخ، في القبور.



تلكم هي عقوبة من يتعمد النوم عن الصلوات المكتوبة، أما من غلبة النوم مع بذل الأسباب المعينة على الاستيقاظ للصلاة وصدق في حرصه على الاستيقاظ فلا إثم عليه، ويصلي إذا استيقظ، كما أخرج مسلم في صحيحه قال -صلى الله عليه وسلم-: "ليس في النوم تفريط"؛ يعني لمن بذل السبب ولم يستيقظ.



يا عبد الله: يا من زيَّنت له نفسه النوم عن الصلاة، كم من الصلوات خسرت أجورها وفضائلها بسبب نومك؟!



ألا يدعوك إيمانك وحبّك لربك أن تقف مع نفسك وقفة محاسبة، وقفة مراجعة، وقفة تصحيح، وقفة تدارك، قبل أن تقول يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله.



وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].



اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.



اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.



اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.



رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.



عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.
رمضان الفرصة التي لا تعوض - الشيخ راكان المغربي

الخطبة الأولى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أما بعد: من المقولاتِ الشائعةِ بين الناس: "الدنيا فرص"؛ وفي ذلك إشارةٌ إلى أن كثيرا من مكاسبِ الدنيا إنما تنال بالفرص، فالبائعُ يغتنم فرصةَ إقبالَ الناس على بضاعتِه في بعضِ المواسم، فيكثفَ الجُهْدَ، ويزيدَ في الإنتاج، ليضاعفَ الربح، وتاجرُ الأسهمِ يغتنم فرصةَ ارتفاعَ مؤشراتِ السوق؛ ليشتريَ نصيبا أكبرَ ليزيدَ في مكتسباته، وهكذا ستجد أن أرباحَ الدنيا كثيرا ما تكون من نصيب من يحسنُ اقتناصَ الفرص، والمحرومُ من ضيعَ تلك الفرص، فأدبرَ وقت الإقبال، ونامَ وقت اليقظة.

وكما أن "الدنيا فرص"، فإن "الآخرةَ فرصٌ" أيضا، في الآخرة فرصٌ تزدادُ فيها الأرباح، وتَهُبُّ فيها الرحمات، وتتكاثرُ فيها الهبات، أيامٌ قليلةٌ تفصلنا عن فرصةٍ من أعظمِ فرصِ الآخرة، وموسمٍ من أعظم ِمواسمِ ازدهار الخيرات؛ إنه رمضان، ذلك الضيفُ المنتظر، والحبيبُ المرتقب، ذلك الضيف الذي سيَحُطُّ رحلَه عندنا بعد أيام، ليَقْدُمَ علينا ببركاتِه وغنائمِه.

عباد الله: بلوغُ رمضانَ هو أعظمُ فرصةٍ من فرصِ الآخرة؛ لأنه بمجرد أن يدخلَ فإن الله -سبحانه- سيأمرُ الأوامرَ ويهيئُ الأجواءَ التي تعيننا على الإقبال، وتزيد لنا من فرصِ الإقدام، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا كانَ أوَّلُ ليلةٍ من رمضانَ صُفِّدَتِ الشَّياطينُ مردَةُ الجنِّ، وغُلِّقَتْ أبوابُ النَّارِ فلم يُفتَحْ منها بابٌ، وفتِحَت أبوابُ الجنَّةِ فلَم يُغلَقْ منها بابٌ وَنادى مُنادٍ: يا باغيَ الخيرِ أقبل، ويا باغيَ الشَّرِّ أقصِر، وللَّهِ عتقاءُ منَ النَّارِ".

تفتيحُ أبواب الجنان فرصة؛ لأن ذلك يعني أن الجنةَ قد تزينت للناظرين، فَفُتِّحت أبوابُها، وفاح عبيرُها، وازدهرت أسواقُها، واللهِ ما فتّح اللهُ لك أبوابَ الجنة إلا ليعينَك على الوصول إليها، ويسهلَ لك الطريقَ إليها.

فهل من مشمِّر إلى جنةِ الخلد، ودارِ السلام، ومحلِّ الرضوان؟ هل من عاملٍ يَجِدُّ في العملِ لنيلِ نعيمِها، والتلذذِ بمتعِها، وسماعِ ذلك النداءِ فيها؛ "إنَّ لَكُمْ أنْ تَصِحُّوا فلا تَسْقَمُوا أبَدًا، وإنَّ لَكُمْ أنْ تَحْيَوْا فلا تَمُوتُوا أبَدًا، وإنَّ لَكُمْ أنْ تَشِبُّوا فلا تَهْرَمُوا أبَدًا، وإنَّ لَكُمْ أنْ تَنْعَمُوا فلا تَبْأَسُوا أبَدًا"، فَذلكَ قَوْلُهُ -عزَّ وجلَّ-: (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[الأعراف: 43]، هل من مغتنمٍ لهذه الفرصة؟ أدركْ فإن الفرصةَ قد لا تُعوض.

وتغليقُ أبواب النار فرصة؛ لأنه لو رُفعَ عنك الحجابُ لرأيت النارَ في رمضانَ تشكو قلةَ من يطرُقُ بابَها، وإدبارَ من اعتادَ سلوكَ طريقها، وتضاعفَ أعدادِ المعتقين منها، والله ما غلَّقَ اللهُ لك أبوابَ الجحيم إلا وهو يريد أن يصرفَك عن شرها، ويعتقَك من حرها، أما سمعتَ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- يقول وهو يتحدثُ عن رمضان: "إنَّ للهِ -تعالى- عند كلِّ فطرٍ عُتَقاءَ من النارِ، وذلك في كلِّ ليلةٍ"؟، هل من مغتنمٍ لهذه الفرصة؟ أدركْ فإن الفرصةَ قد لا تُعوض.

وتصفيدُ مردةِ الجانِّ فرصة، فليتك ترى في رمضانَ قادةَ الشرِّ ورؤساءَ الغوايةِ في الأصفادِ مسلسلين، عابسةً وجوهُهم، مغتاظةً صدورُهم، يقبعون في الأسرِ يندبون هوانَهم وقلةَ حيلتِهم، يتحسرون على ضعفِ الشر، وقلةِ أهله، ويتحسرون على قوةِ الخير، وكثرةِ أهله.
أولئك المفسدون الذين كانوا يسرحون ويمرحون في إضلالِ الناس طُوالَ العام، قد أعانك الله عليهم في رمضان، فقهرهم وسلسلهم وكف عنك فسادَهم، فهل ستُفَوِّتُ هذه الفرصة؟! أدركْ فإن الفرصةَ قد لا تُعوض.

ونداءُ المنادي: "يا باغيَ الخيرِ أقبل، ويا باغيَ الشَّرِّ أقصِر" فرصة؛ لأنك إن لم تسمعْه بأُذُنِك، فإنك ستجدُ صداه في قلبِك الباغي للخير، حين تلمسُ في قلبِك انشراحا للطاعات، وإسراعا في الخيرات، سترى أثرَ ذلك النداءَ فيك وفي من حولك، حين تمتلئُ المساجدُ لأداء الصلوات، وتلهجُ الألسنُ بالتلاوات، وتنهمرُ الأعينُ بالدَّمَعَات، وتجودُ الأيدي بالأُعْطِيات.

وفي إقبال الجموعِ إلى الخيرِ في رمضان معونةٌ لك على المشاركةِ في الطاعات، والمزاحمةِ على ميادينِ الخيرات، فإن المؤمنَ يتقوّى بإخوانه، وهذه فرصةٌ وأيّ فرصة؟ فأدركْ إن الفرصةَ قد لا تُعوّض.

رمضان فرصة؛ لأن فيه أعظمُ ليالي العُمُر، وأجلُّ ساعاتِ الدنيا، حين تَحِلُّ ليلةُ القدر ببركاتِها على العباد، فهي ليلةٌ واحدةٌ في أعدادِ الدنيا، وأكثرُ من ألفِ شهرٍ في ميزانِ الآخرة، قال -صلى الله عليه وسلم-: "للهِ فيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ، من حرمَ خيرَها فقد حُرِم"، فإياك إياك أن تكون من المحرومين، فتُضيّعَ الفرصة، وتفوتَك الغنيمة.

رمضان فرصة؛ لأن أسبابَ المغفرة فيه متكاثرة، وطرقَها متعددة، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا؛ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ"، ويقول: "مَن قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا؛ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ"، ويقول: "مَن قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا واحْتِسابًا؛ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ"، فيا من طالت شكواه من الذنوب، يا من لا يزالُ متأخرا عن الصعود.

اليومُ هو يومُك، رمضانُ هو فرصتُك لتغتسلَ من كلِّ الذنوب، ولتحطَّ عنك كلًّ الخطايا، ولتبدأَ صفحةً جديدةً في علاقتِك مع ربك، فهل من مغتنمٍ لهذه الفرصة؟ أدركْ فإن الفرصةَ قد لا تُعوّض.

رمضان فرصة؛ لأنه الشهرُ الوحيدُ الذي فيه تقيمُ ركنا من أركان دينك، فتقوي به بناءَ إسلامك، وترفعُ به رصيدَ حسناتك، وحين تؤدي ركنَ الصيام إيمانا بفرضيته، واحتسابا لثوابه، فإنك تغتنمُ أعظمَ فرصةً لتكونَ من المتقين الذين أُعدّت لهم الجنان، ووقاهم ربهم النيران، يقول -سبحانه-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 183]، ذلكم هو المكسبُ الحقيقي الذي ستغتنمه إذا انتهزتَ فرصةَ الصوم في شهر الصوم (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

حين ترى الماءَ الباردَ في وسطِ النهارِ الحارق، الكأسُ يلمع، والبطنُ تُقَرْقِر، والنفسُ تتمنى وتشتهي، فيأبى المؤمنُ إلا طاعةَ الله، وحرمانَ النفس من شهواتِها؛ ابتغاءَ رضوان الله، وهل التقوى إلا ذاك؟.

حين يراك اللهُ على هذه الحال، هل ستظن أن أحدا سيوفيَك أجرَك إلا هو؟ وهل تظنُّ أن الأضعافَ سيكون لها حدٌّ أو حصرٌ؟ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، إلى سَبْع مِائَة ضِعْفٍ، قالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: إلَّا الصَّوْمَ؛ فإنَّه لي، وَأَنَا أَجْزِي به، يَدَعُ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ وشَهْوَتَهُ مِن أَجْلِي".

فالذي يريده اللهُ منك ليس هو الجوعُ والعطشُ، وإنما الطاعةُ والتسليمُ وتحقيقُ التقوى، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به والجَهْلَ، فليسَ لِلَّهِ حاجَةٌ أنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ"، فمن أولِ يومٍ تصومُ فيه، استحضرْ -أخي- عن هذا المعنى واعمل به؛ فإنه هو روحُ عبادة الصوم وجوهرُها، وإلا فقد ضيعتَ الفرصة، فما في الحقيقة صُمتَ، وإنما جعتَ وعطشتَ؛ "ورُبَّ صائِمٍ حَظُّهُ من صِيامِهِ الجوعُ والعَطَشُ"، كما قال -صلى الله عليه وسلم-. وقال مبينا حالَ الصائمِ الذي ينبغي: "فإذَا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ ولَا يَصْخَبْ، فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ".

فَهمُك واستحضارُك لهذا المعنى سيؤهلُك لتحقيقِ أعلى النتائج، وأرفعِ الدرجات، واغتنامِ أعظمِ الفرص في شهر رمضان، بالوصولِ إلى الغايةِ التي من أجلِها كتب الله الصيام علينا وعلى من قبلنا؛ (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

فاللهم وفقنا لطاعتك، اللهم أمدنا بعونك وتسديدك، ربنا اشرح صدورنا، ويسر أمورنا، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

-------------------------------------------------
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله،وإحسانه،وأشكره على توفيقه وامتنانه،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله،صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه،وسلَّم تسليماً كثيرًا، أما بعد:

عباد الله: إذا انبهرتم بفضائلِ رمضان، واشتاقت له قلوبُكم، وعزمتم على أن تغترفوا من كنوزه، وتنالوا من بركاتِه، فهذه بعضُ الوصايا تعينُكم لاغتنام ما فيه من عظيمِ الفرص:

أولا: دوامُ استحضارِ العاقبةِ الحسنة، وعِظَمُ الرجاءِ في رحمةِ الله، بتذكرِ الثوابِ العظيمِ من اللهِ الكريم، فحين يستحضرُ الإنسانُ ثوابَ العمل، تهونُ عليه كلُّ مشقة، ويسهلُ عليه كلُّ صعب، فكلما قَعَدَتْ نفسُك عن العمل، فحَفِّزْها بتذكرِ عظيم الأجر.

ومما يعينك على ذلك تعلمُ العلم بالإكثار من القراءة عن فضائلِ رمضان، وسماعِ المواد الصوتية ومشاهدة المقاطعِ المرئيةِ النافعة التي تذكرك بفضائلِ الشهر وتبين لك حالَ الصالحين فيه؛ لتتحفزَ بذلك فتتبعَ هديَهم، وتقتديَ بسيرتِهم.

ثانيا: الدعاءُ الصادقُ بأن يوفقَك الله لطاعته، ويمدَّك بعونه وتسديده، فمن الذي يملك القلوبَ إلا الله؟ ومن الذي بيده هدايتُك إلا الله؟ فاطرق بابَه ليفتحَ لك، واطلب هداهُ ليهديَك، فواللهِ لولا اللهُ ما اهتدينا، ولا صمنا ولا تصدقنا ولا صلينا، ومن الأدعية النافعة في ذلك ما علمه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- صاحبَه معاذاً -رضي الله عنه- بأن يقول دبر كل صلاة: "اللهمَّ أعني على ذكرِك وشكرِكَ وحسنِ عبادتِكَ".

ثالثا: الإقلاعُ عن السيئات، والتوبةُ من الذنوب؛ فإن الذنوبَ هي التي تحرمُك التوفيق، وتثقلك عن سرعة السيرِ إلى الله، فأدبرْ عن الذنوب وأقبلْ على الكريم، واعلم أنه كلما صفا القلبُ مما سوى الله وتعلقَ به كلما زاده الله إقبالا وقربا منه -سبحانه-، وفي الحديث القدسي يقول الله: "واللَّهِ لَلَّهُ أفْرَحُ بتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِن أحَدِكُمْ يَجِدُ ضالَّتَهُ بالفَلاةِ، ومَن تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ ذِراعًا، ومَن تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِراعًا، تَقَرَّبْتُ إلَيْهِ باعًا، وإذا أقْبَلَ إلَيَّ يَمْشِي، أقْبَلْتُ إلَيْهِ أُهَرْوِلُ".

رابعا: الجِدَّ الجِدَّ -معاشرَ المسلمين-، ففي رمضان ليس هناك وقتٌ للكسل، وليس هناك فسحةٌ للفتور، اللهُ قد فتح لك أبوابَ الخير، وعدد لك ميادينَ السباق، سابق في الصيام وأحسن فيه؛ "فإنَّه لا عِدلَ له" كما قال -صلى الله عليه وسلم-، سابق في الصلاة والقيام فإنه؛ "من قام مع الإمامِ حتى ينصرفَ، كُتِبَ له قيامُ ليلةٍ"، سابق في القرآن فإنه؛ "منْ قرأَ حرفًا من كتابِ اللهِ فله به حسنةٌ، والحسنةُ بعشرِ أمثالِها".

سابق في بذل الصدقات للفقراءِ والمحتاجينِ وأصحاب الديون، وأجزل العطاءَ في إطعامِ الطعام وتفطيرِ الصائمين، وكن كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي "كان أجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجْوَدُ ما يَكونُ في رَمَضانَ"، وقد تيسرت -ولله الحمد- العديد من المنصات الرسمية والجمعيات الخيرية المصرحة الموثوقة التي توصل التبرعات إلى مستحقيها.

تلك هي بعض الخطوات التي إن سلكتها ستكون قد أحسنت اغتنام فرصة رمضان، ونلت من عظيم بركاته.

وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله؛ كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56].
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد.
وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واحمي حوزة الدين يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق ولي أمرنا وولي عهده لرضاك، وأعنهما على طاعتك يا ذا الجلال والإكرام.
اللّهم آت نفوسنا تقواها، زكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللّهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر.
اللّهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
ربنا إن ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
غزوتا بدر والفتح والفرقان بين الحق والباطل - الشيخ عبدالعزيز أوتكوميت

الخطبة الأولى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسولُ الله.

نحمدك ربنا على ما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضلَ رُسلك، وأنزلت علينا خيرَ كُتبك، وشَرعت لنا أفضلَ شرائع دينك، فاللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرِّضا.

أما بعد أيها الإخوة المؤمنون: رمضان شهر الجد والاجتهاد، وشهر الفتوحات –لا كما يريد البعض أن يجعله شهر الكسل والخمول، وشهر التراجع في العمل والإنتاج–؛ فهو شهر العطاء، وشهر الانتصارات، ففي رمضان تم فتح الأندلس بقيادة البطل المسلم طارق بن زياد (92هـ)، وفيه وقعت معركة الزلاقة بين المرابطين والملك القشتالي ألفونسو السادس (479هـ)، وفيه وقعت عين جالوت بين جيش المماليك بقيادة سيف الدين قطز، وجيش المغول (658هـ)، وفيه وقع حرب رمضان بين الأمة العربية والكيان الصهيوني (1973م)، ومن تلكم الملاحم التي وقعت في رمضان غزوة بدر، وفتح مكة، وهذا موضوع خطبتنا اليوم.

عباد الله: غزوة بدر: وقعت في 17 رمضان من السنة الثانية من الهجرة، في مكان يسمى بـ"بدر"، يبعد عن المدينة بنحو 160 كلم، والسبب في اعتراض قافلة لقريش عائدة من الشام؛ حيث ألفوا رحلة الصيف إلى هناك؛ كما قال -تعالى-: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ)[قريش: 1، 2]، فندب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصحابه للخروج، فخرجوا في نحو 314 رجلاً معهم فرسان وسبعون بعيرًا.

لكن أبا سفيان استطاع أن يعلم بخروج المسلمين، فسلك ناحية البحر الأحمر، وأرسل إلى قريش يستنفرهم، فخرجوا في نحو 1000 مقاتل، معهم 200 فرس، و700 بعير، وعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- بخروجهم، فاستشار أصحابه للقائهم فكلهم وافقوا، فجمع الله بينهم من غير ميعاد؛ قال -تعالى-: (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ)[الأنفال: 42].

عباد الله: كان من نتائج هذه الغزوة أنْ نَصَرَ الله المسلمين، واستشهد منهم أربعة عشر صحابيًّا، وقُتل من المشركين سبعون منهم، وأُسر سبعون؛ قال -تعالى-: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[آل عمران: 123].

وأما غزوة فتح مكة: فكانت في 18 رمضان من السنة الثامنة من الهجرة، ومن أسبابها نقض قريش للعهد المبرم مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- في صلح الحديبية، حينما منعته قريش من أداء العمرة، وانتهى الأمر بصلح اتفقوا من خلاله على وضع الحرب على الناس عشر سنين.

لكنَّ قريش أعانت حلفاءها من بني بكر خفية، على خزاعة حلفاء المسلمين، فهاجموا عليهم، وقتلوا منهم نحو عشرين رجلاً، فكان هذا غدر وخيانة واضحة، فعزم النبي -صلى الله عليه وسلم- على فتح مكة؛ وقال: "اللهم خُذِ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها"(سيرة ابن هشام: 2 /397).

فما دروا حتى باغتهم الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وتم الفتح المبين، وهدم النبي -صلى الله عليه وسلم- الأصنام حوالي الكعبة، وكان عددها ثلاثمائة وستين؛ وهو يقول: "جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقًا، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد"(رواه البخاري: 4720).

وخطب خطبة الفتح وافتتحها بقوله: "الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"(تاريخ الإسلام للذهبي: 2/556)، وأقام في مكة تسعة عشر يومًا، وأصبحت شوكة المسلمين قوية، وارتفع نجم الإسلام، وأذل الله الشرك والمشركين.

فاللهم أبقِ راية الإسلام عالية، وأعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين.

-------------------------------------------------

الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى، وآله وصحبه ومن اقتفى.

أما بعد: فقد رأينا في الخطبة الأولى بعض ملاحم المسلمين التي وقعت في رمضان، ورأينا باختصار أهم تلكم الملاحم من سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- غزوتا بدر والفتح، وقد سمى الله غزوة بدر بيوم الفرقان؛ فقال -تعالى-: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ)[الأنفال: 41]، ويمكن أن نقيس عليها غزوة الفتح كذلك، فلماذا؟

غزوة بدر فرَّق الله بها بين الحق والباطل، وبين عهد الاستضعاف والصبر والمصابرة على أذى المشركين، وعهد القوة والانطلاق والدعوة إلى الله -تعالى- ونشر الحق، وهي عكس مقاصد المشركين لما أرسل إليهم أبا سفيان بالرجوع لنجاة القافلة، فقال أبو جهل: "والله لا نرجع حتى نرِدَ بدرًا، فنقيم عليه ثلاثًا، فننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان (الجواري)، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدًا بعدها"(سيرة ابن هشام: 1/619).

أرادوا العزة لأنفسهم بالإثم والعدوان، فأبى الله إلا أن تكون العزة لرسوله وللمؤمنين، وقبل الفتح كانت مكة دار كفر وباطل، وبعده صارت دار إسلام، فانقطعت الهجرة إلى المدينة بفتح مكة؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية"(رواه البخاري: 2783).

في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ولكن جهاد ونية"، نستفيد أن رجوعنا للحق لا بد من السعي والجهاد لأجله، مجاهدة النفس وتزكيتها، وحينئذٍ تقوى على مجابهة الباطل، فالباطل له صولة وجولة، إذا خبا صوت الحق، ومن سنن الله المدافعة بين الحق والباطل.

إن أهل الحق لا ينتصرون على أهل الباطل بعدد ولا عدة، رغم أهمية الإعداد ولزومه؛ لقوله -تعالى-: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ)[الأنفال: 60]، وإنما المعول عليه بعد الإعداد رجاء معونة الله والتوكل عليه: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)[آل عمران: 126]، (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى)[الأنفال: 17].

إن رجوع الناس إلى الحق في رمضان وغيره والبعد عن المعاصي، ما يحمل المؤمن على الفرح، ومن الذي يمنعه؟ ورب العباد يفرح بتوبة عبده المؤمن، غير أنه -أخي المؤمن- احرص على أن تكون توبتك خالصةً لله: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر: 99].

إن هذه الفتوح وغيرها من الفتوح التي ستأتي ستغير مجرى التاريخ، وتبين أن العاقبة للإسلام؛ قال -تعالى-: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[القصص: 83]، ويصدق فيها قول أبي تمام الشاعر في فتح عمورية:

فتح تفتح أبواب السماء له *** وتبرز الأرض في أثوابها القشب
يا يوم وقعة عمورية انصرفت *** منك المنى حفلاً معسولة الحلب
أبقيت جد بني الإسلام في صعد *** والمشركين ودار الشرك في صبب

فاللهم أعز الاسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ومن أراد بالإسلام خيرًا فوفقه لكل خير، ومن أراد بالإسلام شرًّا، فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره في تدميره، واجعلنا ممن صام وقام رمضان إيمانًا واحتسابًا.

وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله؛ كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56].
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد.
وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واحمي حوزة الدين يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق ولي أمرنا وولي عهده لرضاك، وأعنهما على طاعتك يا ذا الجلال والإكرام.
اللّهم آت نفوسنا تقواها، زكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللّهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر.
اللّهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
ربنا إن ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

-------------------------------------------------
رمضان بين مقاصد الشرع الحنيف وتيسير الكريم اللطيف - الشيخ عبدالله البرح

الخطبة الأولى:
معاشر المسلمين: ها نحن نضع رحالنا في شهر الخير والإحسان وشهر السباق إلى جنة المنان؛ فيا هناء المشمرين في طاعة الديان، ويا سعد من أقبل على خالقه ومولاه وتاب من ذنوبه وخطاياه؛ ويا تعاسة من لم يعرف لهذا الشهر قدره ولم يرجع إلى بارئه وربه -سبحانه-.

والعاقل من أدرك أن بلوغ هذا الشهر الفضيل نعمة تستوجب شكر الملك الجليل والتزود ليوم الرحيل؛ فما أحوجنا لحسن استقباله والعيش في ظلاله والمسارعة لاغتنام خيراته واستثمار أوقاته؛ فكم حرم هذه النعمة من الخلق؛ فبين من قضى نحبه قبل بلوغه، وبين من عجز عن صيامه والقيام فيه، وبين محروم شغلته ملهيات الدنيا الزائلة والانغماس بملذاتها الزائفة.

بُشْرَى العَوَالِمِ أَنْتَ يَا رَمَضَانُ *** هَتَفَتْ بِكَ الأَرْجَاءُ وَالأَكْوَانُ
لَكَ فِي السَّمَاءِ كَوَاكِبٌ وَضَّاءَةٌ *** وَلَكَ النُّفُوسُ المُؤْمِنَاتُ مَكَانُ
سَعِدَتْ بِلُقْيَاكَ الحَيَاةُ وَأَشْرَقَتْ *** وَانْهَلَّ مِنْكَ جَمَالُهَا الفَتَّانُ

أيها الصائمون: فرض الله صيام شهر رمضان على عباده المؤمنين كما فرضه على من قبلهم؛ كما في قوله -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)[البقرة: 183 - 184]؛ بل جعل صيامه أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام؛ ولا يصح إسلام العبد إلا بالإتيان به، وقد كان فرض الصوم في السنة الثانية من الهجرة؛ فتوفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد صام تسع رمضانات.

ومن جمال ويسر شريعة الإسلام؛ تدرجها في تشريع صيام شهر رمضان؛ فلم يفرض صيام شهر رمضان على درجة واحدة، بل مر ذلك بثلاث مراحل؛ كما جاء في حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: "أحيل الصيام ثلاثة أحوال"(صححه الألباني).

ونقل عن ابن القيم الجوزية -رحمه الله-: "وكان للصوم رتب ثلاث: إحداها: إيجابه بوصف التخيير، والثاني: تحتمه، لكن كان الصائم إذا نام قبل أن يطعم حرم عليه الطعام والشراب إلى الليلة القابلة، فنسخ ذلك بالمرتبة الثالثة وهي التي استقر عليها الشرع إلى يوم القيامة ".

ولعلنا نقف مع تفصيل يسير لمراحل تشريع الصيام؛ فالمرحلة الأولى: مرحلة التخيير بين صيام شهر رمضان، أو دفع فدية مكان كل يوم يفطر فيه يطعم مسكيناً، قال -تعالى-: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[البقرة: 184]؛ والمراد بقوله؛ (يطيقونه) في هذه المرحلة، أي؛ يقدر على الصيام ولم يصم.

والمرحلة الثانية من مراحل تشريع الصيام: مرحلة فرضية الصيام على المسلم البالغ العاقل الصحيح المقيم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس؛ لكنه في هذه المرحلة أبيح للصائم المأكل والمشرب ما لم ينم؛ فإن نام حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى غروب شمس اليوم التالي، وكان في هذه المرحلة حرج شديد على المسلمين، كما روى الإمام البخاري -رحمه الله- من حديث الْبَرَاءِ بن عازب -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: " كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا فَحَضَرَ الْإِفْطَارُ فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ، لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ، فَقَالَ لَهَا: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ، قَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ، فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فأنزل الله -تعالى- قوله: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ)[البقرة: 187]؛ فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا، وَنَزَلَتْ: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل)".

وأما المرحلة الثالثة من مراحل تشريع الصيام: ففرض صيام شهر رمضان المبارك على الحالة التي نحن عليها، ويدل على ذلك قول الحق -تبارك وتعالى-: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)[البقرة: 185]، وقوله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ)[البقرة: 187].
عباد الله: تلكم هي مراحل فرضية الصيام؛ ولم يبق في عصرنا من المراحل السابقة؛ إلا ما أشارت إليه الآية الكريمة؛ حيث قال ربنا -سبحانه-: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)[البقرة: 184]، وهذه الآية لم تنسخ؛ كما روى البخاري -رحمه الله-: "لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ، هُوَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَصُومَا فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا"، والمراد بـــ (يطيقونه) في هذه المرحلة: أي يشق عليهم.

وذكر الإمام ابن القيم الجوزية -رحمه الله- في بيان مراد الشارع من التدرج في فرض الصيام؛ قوله: "لمّا كان -أي؛ الصّوم- غيرَ مألوفٍ لهم، ولا معتادٍ، والطِّباعُ تأباه؛ إذ هو هجرُ مألوفِها ومحبوبِها، ولم تذقْ بعدُ حلاوتَه وعواقبَه المحمودةَ، وما في طيِّه من المصالح والمنافع، فخُيِّرت بينه وبين الإطعام، وندبت إليه، فلمّا عرَفَت علّته وألِفَتْه، وعرفت ما تضمّنه من المصالح والفوائد، حُتِم عليها عيناً، ولم يقبل منها سواه، فكان التّخيير في وقته مصلحةً، وتعيينُ الصّوم في وقته مصلحة، فاقتضت الحكمة البالغة شرعَ كلِّ حكمٍ في وقته؛ لأنّ المصلحة فيه في ذلك الوقت".

إخوة الإيمان: ولم يكتف الإسلام بتدرجه في فرض هذه العبادة العظيمة؛ بل بين المقاصد العظيمة والحِكَم الجليلة من مشروعية فرض الصيام على من توفرت فيهم الشروط من الأنام؛ فمن حكم وأسرار الصيام:

تحقيق الصائم تقوى الله ربه وخالقه؛ كما جاء في ذلك في ختام آية الأمر بالصيام؛ فقال -جل في عليائه-: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة: 183].

كما أن من المقاصد: أن الصائم يتدرب في مدرسة هذه الفريضة على مراقبة الله وخشيته في الغيب والشهادة؛ فيقيم ما أمره الله ويترك ما نهاه عنه مولاه؛ لإدراكه بنظر الله إليه في سائر أحواله؛ فيعيش مستشعرا قول الرقيب -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].

ومن مقاصد تشريع الصيام على الأنام: أن الصيام يربي الإنسان على التحلي بالصبر؛ حيث أن في هذه العبادة تربية للنفس للصبر على الطاعات والواجبات، وصبر عن هجر الذنوب والمحرمات؛ إضافة إلى ما يحصل ما للصائم فيه من ألم الجوع والعطش وضعف النفس والبدن؛ (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزمر: 10].

ومن مقاصد تشريع الصيام: إظهار محاسن دين الإسلام ويسر أحكامه؛ فأجاز للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة، أن يفطرا ويطعما عن كل يوم مسكينًا إذا كانا يجدانه، لقول ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله -تعالى-: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)[البقرة: 184]، "إنها ليست بمنسوخة، هي للكبير الذي لا يستطع الصوم" (رواه البخاري)، وكذا مراعاته للمريض والمسافر فأجاز لهما الإفطار مع القضاء، قال -تعالى-: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)[البقرة: 184].

وراعى الإسلام في عبودية الصيام حاجات الناس وما يلحق بهم من المشقة في منعها؛ ألا وهو إباحة إتيان النساء في ليالي رمضان؛ حيث قال -سبحانه-: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ)[البقرة: 187].

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[البقرة: 185].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------------------------------

الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

عباد الله: ينبغي علينا أن نشكر الكريم اللطيف على نعمة شهر رمضان الشريف، وأن نجتهد في أداء واجبات عبودية الصيام وآدابها؛ فنعمر نهاره بالصيام وتلاوة القرآن وليله بالقيام والدعاء والتضرع، ونبتعد عما يجرح صيامه ويحول دون الغاية من تشريع هذه العبادة؛ ونكف ألسنتنا عن الزور والغيبة والنميمة والسب والشتم واللعان، ونكف أيدينا عن إيذاء الآخرين، ونحمي قلوبنا من آفاتها؛ من الحسد والغل والكبر وسائر أمراضه؛ فمن اجتهد في ذلك نال ثمار رمضان اليانعة وخيراته الباسقة وفضائله الوارفة التي أشار إليها إمام الأنبياء وأكرم الأتقياء -عليه الصلاة والسلام- وهو يبشر
بقدوم هذا الشهر الكريم: "قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك كتب الله عليكم صيامه، فيه تفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم"(رواه البخاري).

فاتقوا الله -أيها الأخيار- وأحسنوا في هذا الشهر الفضيل تفلحوا واغتنموا زمنه المبارك تسعدوا، واشكروا الله على ما أكرمكم به من التيسير فيما افترضه عليكم تنعموا.

وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله؛ كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56].
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد.
وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واحمي حوزة الدين يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق ولي أمرنا وولي عهده لرضاك، وأعنهما على طاعتك يا ذا الجلال والإكرام.
اللّهم آت نفوسنا تقواها، زكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللّهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر.
اللّهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
ربنا إن ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

-------------------------------------------------
اللهم وفقنا في رمضان - الشيخ عبدالله البصري

الخطبة الأولى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: مَن نِعمَةِ اللهِ عَلَينَا وَمَا أَكثَرَ نِعمَهُ، أَنْ أَصبَحنَا اليَومَ وَأَمسِ صَائِمِينَ، وَأَن قُمْنَا جُزءًا مِنَ اللَّيلَتَينِ المَاضِيتَينِ، وَمَا زَالَ أَمَامَنَا شَهرٌ سَنَصُومُ فِيهِ وَنَقُومُ، وَمَيدَانٌ مُمتَدٌّ سَنَتَنَافَسُ فِيهِ وَنَتَسَابَقُ، وَسُوقٌ رَابِحَةٌ وَمَوسِمُ خَيرٍ مُتَنَوِّعُ البِضَاعَةِ، يُقبِلُ المُوَفَّقُونَ مِنَّا فِيهِ عَلَى رَبٍّ كَرِيمٍ يَقبَلُ القَلِيلَ وَيَجزِي عَلَيهِ الكَثِيرَ، فَمَن مِثلُنَا فِيمَا نَحنُ فِيهِ؟!

أَكثَرُ العَالَمِ اليَومَ يَمُوجُ في كُفرٍ وَضَلالٍ، وَيَتَقَلَّبُ في فَسَادٍ وَانحِلالٍ، وَيُصبِحُ عَلَى مَصَائِبَ وَيُمسِي عَلَى مِثلِهَا، وَلا يَدرِي كَثِيرٌ مِمَّن فِيهِ إِلى أَينَ يَتَّجِهُونَ، أَمَّا نَحنُ فَنَعلَمُ بِمَا عَلَّمَنَا اللهُ، وَنَدرِي بِمَا وَفَّقَنَا لِمَاذَا خُلِقنَا؟! وَلأَيِّ شَيءٍ عَلَى هَذِهِ الأَرضِ أُوجِدنَا؟! وَنَفقَهُ مَا هُوَ رَمَضَانُ وَمَا وَاجِبُنَا فِيهِ؟! وَمَا الَّذِي يُشرَعُ لَنَا لِيُقَرِّبَنَا مِن رَبِّنَا؟! قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالى: (وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ) [الذَّارِيَاتِ: 56]، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ)[الْبَقَرَةِ: 183].

وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: "بُنيَ الإِسلامُ عَلَى خَمسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ وَصَومِ رَمَضَانَ"(رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ)، وَعَن عَمرِو بنِ مُرَّةَ الجُهَنيِّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيتَ إِنْ شَهِدتُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، وَصَلَّيتُ الصَّلَوَاتِ الخَمسَ، وَأَدَّيتُ الزَّكَاةَ، وَصُمتُ رَمَضَانَ وَقُمتُهُ، فَمِمَّن أَنَا؟! قَالَ: "مِنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ"(رَوَاهُ البَزَّارُ وَابنُ خُزَيمَةَ وَابنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ).

وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: "مَن صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ، وَمَن قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ، وَمَن قَامَ لَيلَةَ القَدرِ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ"(مُتَّفَقٌ عَلَيهِ)، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ هَذَا الشَّهرَ قَد حَضَرَكُم وَفِيهِ لَيلَةٌ خَيرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ، مَن حُرِمَهَا فَقَد حُرِمَ الخَيرَ كُلَّهُ، وَلا يُحرَمُ خَيرَهَا إِلاَّ كُلُّ مَحرُومٌ"(رَوَاهُ ابنُ مَاجَه وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ)، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ:" إِنَّ في الجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدخُلُ مِنهُ الصَّائِمُونَ يَومَ القِيَامَةِ لا يَدخُلُ مِنهُ أَحَدٌ غَيرُهُم، فَإِذَا دَخَلُوا أُغلِقَ فَلَم يَدخُلْ مِنهُ أَحَدٌ"(رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ)، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: "الصَّلَوَاتُ الخَمسُ وَالجُمُعَةُ إِلى الجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلى رَمَضَانَ
مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَينَهُنَّ إِذَا اجتُنِبَتِ الكَبَائِر"(رَوَاهُ مُسلِمٌ)، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: "الصِّيَامُ وَالقُرآنُ يَشفَعَانِ لِلعَبدِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: رَبِّ إِنِّي مَنَعتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ القُرآنُ: رَبِّ مَنَعتُهُ النُّومَ بِاللَّيلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ فَيُشَفَّعَانِ"(رَوَاهُ أَحمَدُ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ)، وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: "مَن فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثلُ أَجرِهِ، غَيرَ أَنَّهُ لا يَنقُصُ مِن أَجرِ الصَّائِمِ شَيءٌ"(رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَالنَّسَائيُّ وَابنُ مَاجَه وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ).

إِنَّ هَذِهِ النُّصُوصَ وَأَمثَالَهَا، مِمَّا سَمِعتُمُوهُ وَمِمَّا سَتَسمَعُونَهُ في الأَيَّامِ القَادِمَةِ أَو يُنقَلُ إِلَيكُم في وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ وَالإِعلامِ، إِنَّهَا لَمُشَجِّعَاتٌ عَلَى الطَّاعَةِ، وَمُحَفِّزَاتٌ عَلَى عَمَلِ الخَيرِ، وَمُرَغِّبَاتٌ في التَّسَابُقِ في أَوجُهِ البِرِّ، وَدَوَاعٍ إِلى العُلُوِّ بِالنُّفُوسِ وَالرُّقِيِّ بِالقُلُوبِ إِلى أَعلَى المَرَاقِي، وَلَكِنْ ... يَبقَى قَبلَ ذَلِكَ وَبَعدَهُ شَيءٌ مُهِمٌّ بَل هُوَ الأَهَمُّ وَالأَعظَمُ، ذَلِكُم هُوَ تَوفِيقُ اللهِ تَعَالى لِعَبدِهِ وَإِعَانَتُهُ وَتَسدِيدُهُ؛ فَلَيسَ الَّذِينَ تَرَونَهُم يَصُومُونَ وَيَقُومُونَ، وَيُبَكِّرُونَ إِلى المَسَاجِدِ وَيُصَلُّونَ مَعَ الجَمَاعَاتِ، وَيَقرَؤُونَ القُرآنَ وَيُرَتِّلُونَ الآيَاتِ، وَيَدعُونَ وَيَتَخَشَّعُونَ، وَيُنفِقُونَ أَموَالَهُم وَيُفَطِّرُونَ الصَّائِمِينَ وَيُكثِرُونَ مِنَ الصَّدَقَاتِ، لَيسَ كُلُّ أُولَئِكَ بِأَذكَى النَّاسِ وَلا أَكثَرَهُم عِلمًا، وَلا أَغنَاهُم وَلا أَوفَرَهُم مَالاً، لَكِنَّهُم بِتَوفِيقِ اللهِ عَلِمُوا فَعَمِلُوا، وَسَمِعُوا فَاستَجَابُوا، وَاهتَدَوا فَزَادَهُمُ اللهُ هُدًى، وَذَاقُوا اللَّذَّةَ فَاستَقَامُوا، وَأَمَّا مَن عَدَاهُم مِمَّن قَد يَكُونُ أَذكَى مِنهُم وَأَكثَرَ عِلمًا وَأَوسَعَ ثَقَافَةً وَأَوفَرَ مَالاً، وَلَكِنَّهُ يَكتَفِي بِصِياَمٍ مَا هُوَ إِلاَّ إِمسَاكٌ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَتَجوِيعٌ لِلنَّفسِ وَإِلهَابٌ لِلكَبِدِ بِالعَطَشٍ، ثم هُوَ يَنَامُ عَنِ الصَّلَوَاتِ المَكتُوبَاتِ، وَلا يَشهَدُ الجَمَاعَاتِ، وَلا يَكَادُ يَقرَأُ حَرفًا مِن كِتَابِ اللهِ وَلا يُفَطِّرُ صَائِمًا وَلا يُنفِقُ نَفَقَةً لِوَجهِ اللهِ، إِنَّ هَؤُلاءِ أَعرَضُوا فَأَعرَضَ اللهُ عَنهُم، وَتَكَاسَلُوا وَتَثَاقَلُوا، فَكَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُم فَثَبَّطَهُم وَقِيلَ اقعُدُوا مَعَ القَاعِدِينَ.

نَعَم -أَيُّهَا المُسلِمُونَ-، إِنَّ المُعَوَّلَ عَلَيهِ في كَثِيرٍ مِنَ الطَّاعَاتِ وَالقُرُبَاتِ وَأَعمَالِ الخَيرِ هُوَ البِدَايَةُ الجَادَّةُ وَالإِقبَالُ الصَّادِقُ، وَأَخذُ النَّفسِ بِالعَزِيمَةِ، وَأَطرُهَا عَلَى تَقدِيمِ الخَيرِ وَبَذلِ المَعرُوفِ، مَعَ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ وَسُؤَالِهِ الهِدَايَةَ وَالتَّوفِيقَ وَالرَّشَادَ وَالسَّدَادَ، وَالسَّيرِ إِلى الأَمَامِ وَعَدَمِ الالتِفَاتِ لِلخَلفِ، وَالتَّشَبُّهِ بِالكِرَامِ الصَّالِحِينَ، وَالتَّرَفُّعِ عَن صِفَاتِ اللِّئَامِ وَالمُثَبِّطِينَ؛ فَسِلعَةُ اللهِ غَالِيَةٌ، وَلم يَكُنْ لِيَنَالَهَا وَيُمتَّعَ بها مُتَكَاسِلٌ مُتَلَفِّتٌ مُتَبَاطِئٌ، لا وَاللهِ، إِلاَّ مَن جَاهَدَ نَفسَهُ وَاحتَسَبَ، وَسَارَعَ وَسَابَقَ، وَنَافَسَ وَبَادَرَ، وَعَمِلَ بِصِدقٍ وَصَبرٍ وَصَابَرَ وَرَابَطَ، وَوَفَّقَهُ اللهُ قَبلَ ذَلِكَ وَزَكَّاهُ، وَحَبَّبَ إِلَيهِ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ في قَلبِهِ، وَوَقَاهُ شَرَّ نَفسِهِ وَشُحَّهَا وَهَوَاهَا، وَحَفِظَهُ مِنِ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ فَإِنَّهُ يَأمُرُ بِالفَحشَاءِ وَالمُنكَرِ وَلَولا فَضلُ اللهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِن أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[النور: 21]، (وَاعلَمُوا أَنَّ فِيكُم رَسُولَ اللهِ لَو يُطِيعُكُم في كَثِيرٍ مِّنَ الأَمرِ لَعَنِتُّم وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ في قُلُوبِكُم وَكَرَّهَ إِلَيكُمُ الكُفرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)[الحجرات7].

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَأَقبِلُوا عَلَى رَبِّكُم يَقبَلْكُم وَيُوَفِّقْكُم، وَقُولُوا كَمَا قَالَ شُعَيبٌ عَلَيهِ السَّلامُ: (وَمَا تَوفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيهِ تَوَكَّلتُ وَإِلَيهِ أُنِيبُ)[هود: 88]، وَإِيَّاكُم ثم إِيَّاكُم وَالتَّرَدُّدَ (فَأَمَّا مَن أَعطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ
بِالحُسنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِليُسرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاستَغنَى * وَكَذَّبَ بِالحُسنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلعُسرَى * وَمَا يُغني عَنهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى)[اللَّيْلِ: 5-11].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

-------------------------------------------------

الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله،وإحسانه،وأشكره على توفيقه وامتنانه،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله،صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه،وسلَّم تسليماً كثيرًا

أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، وَاشكُرُوهُ وَلا تَكفُرُوهُ، وَاذكُرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيهِ وَاستَغفِرُوهُ، وَتَبَرَّؤُوا مِنَ الحَولِ وَالقُوَّةِ وَتَوَكَّلُوا عَلَيهِ (وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا * وَيَرزُقْهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمرِهِ قَد جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيءٍ قَدرًا)[الطلاق: 3].

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: يَقُولُ نَبِيُّكُم صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيلَةٍ مِن شَهرِ رَمَضَانَ صَفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَت أَبوَابُ النَّارِ فَلَم يُفتَحْ مِنهَا بَابٌ، وَفُتِّحَت أَبوَابُ الجَنَّةِ فَلَم يُغلَقْ مِنهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيرِ أَقبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقصِرْ، وَللهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذَلِكَ كُلَّ لَيلَةٍ"(رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَابنُ مَاجَه وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ).

مَا أَعظَمَ فَضلَ اللهِ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ-، مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ مُرَبَّطَةٌ، وَأَبوَابُ النَّارِ مُغَلَّقَةٌ، وَأَبوَابُ الجَنَّةِ مُفَتَّحَةٌ، وَمُنَادِي الخَيرِ يُنَادِي في كُلِّ لَحظَةٍ، وَالمُسلِمُونَ مِن حَولِنَا يُنَوِّعُونَ العِبَادَاتِ وَيَأخُذُونَ مِن كُلِّ خَيرٍ بِطَرَفٍ، فَإِذَا لم تَنبَعِثْ مَعَ هَذَا نَفسُ أَحَدِنَا لِلخَيرِ وَيَنشَطْ لِطَلَبِ مَا عِندَ اللهِ مِنَ الأَجرِ وَيُسَابِقْ وَيُنَافِسْ؛ فَمَتى تَنبَعِثُ نَفسُهُ إِذَنْ وَمَتى يَنشَطُ، وَمَتى يُسَابِقُ وَيُنَافِسُ؟! نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الخِذلانِ، وَمِن أَن يَكِلَنَا اللهُ إِلى أَنفُسِنَا.

فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا المُسلِمُونَ-، وَخُذُوا أَنفُسَكُم بِالجِدِّ مِن أَوَّلِ الشَّهرِ، وَاحذَرُوا الكَسَلَ وَالتَّوَاني؛ فَمَا الشَّهرُ إِلاَّ أَيَّامٌ مَعدُودَاتٌ، وَمَن صَبَرَ فَازَ وَظَفِرَ، وَمَن تَكَاسَلَ وَتَغَافَلَ وَسَوَّفَ وَمَاطَلَ، فَلَن تَتَوَقَّفَ الدُّنيَا لأَجلِهِ، وَلَن تَبكِيَ السَّمَاءُ وَالأَرضُ عَلَيهِ، بَل سَتَمضِي قَوَافِلُ العَابِدِينَ الحَامِدِينَ الرَّاكِعِينَ السَّاجِدِينَ، وَسَتَستَمِرُّ وَهُوَ وَاقِفٌ مَكَانَهُ، وَسَيَأتي قَومٌ يُحِبُّهُمُ اللهُ وَيُحِبُّونَهُ (ذَلِكَ فَضلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[المائدة: 54].

وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله؛ كما أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56].
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا".
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد.
وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين؛ أبى بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واحمي حوزة الدين يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق ولي أمرنا وولي عهده لرضاك، وأعنهما على طاعتك يا ذا الجلال والإكرام.
اللّهم آت نفوسنا تقواها، زكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللّهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر.
اللّهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
ربنا إن ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

-------------------------------------------------
2024/09/21 14:44:57
Back to Top
HTML Embed Code: