Telegram Web Link
من الناس من يعرف أسباب الريب دون أسباب الصدق ، فهو أسرع شيء إلى ارتياب ودفع ، ثم إذا جاء موضع الحق واعتناقه = لم تلق عنده إلا احتمالات الأذهان وأخوات (لعل) ، وضعف البصر بما يدفع الريبة من دلائل الحق.

وتمام العقل أن يعرف المرء أسباب الصدق كما يعرف أسباب الريب ، بل أسباب الحق أعظم نفعا للعبد وأحرى بحرصه ، فإن من عرف أسباب الريب لم يزد على أن يتوقف إذا لم يرتب ، ولم يأمن أن يقف بها عند حدها فلا ينكر الحق.

فإذا نظرت في مسألة فلا تبضعها بالريب ، حتى تعلم أين كان يصلح منها موضع الحق فلم يكن ، فإن فعلت فقد برئت من الوسواس واختلال النظر وخفي الهوى.

ومن تأمل أحوال أهل الضلال من الكفار ، والمبتدعة ، وجهلة العامة ممن تزيَّا بالفكر زورا = لم تخطئ عينه ذلك في مسالكهم.

#ملامح_من_منهج_العلم
This media is not supported in your browser
VIEW IN TELEGRAM
اخلع نياشينك !

للشيخ المحدث الولي الصالح أبي إسحاق الحويني ، شفاه الله وأدام صالح عمله.
سمعت رجلا يستفتي ومعه صاحبه ، وكان يسأل عن شيء حلف لامرأته بالطلاق ألا يعود له ، ثم عاد ففعله ، وذكر في سياق الكلام أنه شاب وضعف ، فألمح إلى الشيء ، فقاطعه صاحبه بقوله : (هذا غير مهم ، المهم هل فعلته أم لا ؟)

فأعجبني فقه هذا الصاحب ، وهذا فقه يخل به كثير من الناس إذا استفتى ، فيهتك من ستر الله عليه ، ويبرز من ذنبه ما لا حاجة بالمفتي إلى معرفته.

والواجب على العبد إذا استفتى أن يقتصر على صورة السؤال ما تبينت له ، ولا يذكر ما لم يسأله عنه مفتيه من ذنوبه ، وليحذر من مشابهة النصارى في تسكين النفس بالاعتراف ، ومن مطاوعة شهوة (السواليف).

#أنظار_في_الفقه_ومآخذه
‏خَبِّرْ -فُدِيْتَ- لمن شكا من محنةٍ ..
هَوِّنْ عليك فإنَّ همَّكَ مُقْلِعُ

ما ساوتِ الدُّنيا بوزْن رحيمِنا ..
طرَفَ البعوضِ فلا تكُنْ من يجْزَعُ

لو كان يكمُل أمرُها كمُلَتْ إذن ..
في جنْبِ سيِّدِ هاشمٍ إذ يضْجَعُ

لما أبو حفصٍ بكى من منظرٍ ..
ورأى الحصيرَ بجانبيه يوجِّعُ

هي هذه الدنيا بلاءٌ كلُّها ..
فإذا غُمِسْتَ فبالنبيِّ ستُتْبَعُ

واحذرْ مقالةَ كلَّ عبدٍ ساخطٍ ..
فِيمَ ابتُلِيتُ وإنَّ غيري يرتعُ ؟!

واصبِرْ لتحمَدَ كلَّ ساعةِ شدَّةٍ ..
حينَ النداء : أيا ملائكُ فارفعوا !
(وإن منها لما يهبط من خشية الله)

لا يشك مؤمن أن هبوط الحجارة كما أخبر الله ، وإن كان هبوطها يكون من ماء أو ريح أو زلزلة ، فإن الأسباب الظاهرة المعقولة لا تعارض أحكام الغيب ولا تنفيها¹.

غير أن كثيرا من الناس يضعف عند وقوع المرض عن الإيمان بأحكام الغيب ، فلنفسه من التعلق بالسبب الظاهر كالأدوية وتصرف الأطباء ، وضعف الالتفات إلى الغيب = ما يزهده في بركات الله وأسراره المطوية عن تجارب الطبيعة ، فيحرمه منها.

فإذا سمع أن نقص (السيرتونين) أورث الاكتئاب ظن أن ذلك لا يزول عنه بغير الدواء الذي يزيده ، ولا ريب أن السبب الظاهر حق ، واعتباره من حكم العقل ، لكن لأحكام الغيب (كالدعاء وبركات القرآن وغيره) آثارا يشهد بصدقها الأولياء المجربون ، وبقدر إيمان العبد بها = ينتفع.

ومن لطائف هذا الباب ما حكاه أبو زرعة العراقي عن والده الحافظ العراقي في شرحه لحديث "الحمى من فيح جهنم فأطفئوها بالماء" ، فقال :

"وسمعت والدي رحمه الله غير مرة يحكي أنه في شبابه أصابته حمى ، وأنه ذهب إلى النيل فاستقبل جرية الماء وانغمس فيه ، فأقلعت عنه الحمى ولم تعد له بعد ذلك.

وقد توفي والدي رحمه الله ولي من العمر أكثر من ثلاث وأربعين سنة ، ولم أفارقه إلا مدةَ إقامته بالمدينة الشريفة ، وهي ثلاث سنين ، ومدةَ رحلتي إلى الشام ، وهي دون ثلاثة أشهر ، فلم أره حُمَّ قط ، حتى ولا في مرض موته ، إنما كان يشكو انحطاط قواه ، وكان قد جاوز إحدى وثمانين سنة ، وذلك لحسن مقصده وامتثاله أمر النبي ﷺ بجد وتصديق وحسن نية ، رحمه الله ورضي عنه".

[طرح التثريب (٨/ ١٨٨)]


¹ وهذا الأصل الذي دلت عليه الآية مما ينفع استحضاره في رفع الإشكال الذي يرد في بعض الأحاديث ، كسجود الشمس وما أشبهه.

#الفهم_المعطى
للبوصيري ميمية ذائعة في مدح النبي ﷺ ، اعتنى الناس بها كثيرا ، وفيها أبيات بديعة حسنة ، غير أنه شانها بمواضع غلا فيها على طريقة جهلة الشعراء.

وأشنع ما فيها وأبعده عن التوجيه الممكن ، لاشتمال معناه على الكفر الذي لا يجدي فيه التأويل = قوله :

٤٦- لو ناسبت قدرَه آياتُه عظما ..
أحيا اسمه حين يتلى دارس الرمم

٨٠- ما سامني الدهر ضيمًا واستجرت به ..
إلا ونلت جوارًا منه لم يُضَم

ففي الأول امتناع مناسبة آيات النبي ﷺ لقدره ، وهذا إزراء بالقرآن أكبر الآيات ، وهو صفة الله الفائقة لأقدار الخلق جميعًا.

وقد ذكر الشراح في توجيه ذلك أن القرآن مخلوق ، وليس في ذلك ما يخرج معنى البيت من الكفر ، (فيتهاونون ويظنون أنه هين ، ولا يدرون ما فيه من الكفر) كما يقول الإمام أحمد.

على أن البوصيري ليس متكلما فيضبط القول ، ففي كلامه زيادة على القول بخلق القرآن ، إذ يقول :

آياتُ حق من الرحمن مُحدثةٌ
قديمةٌ صفة الموصوف بالقدمِ

فالآيات التي عناها تشمل ما يقوم بذات الرب سبحانه ، وهذا من أشد الكفر الذي لا يقوله أشعري ولا معتزلي !

وأما البيت الثاني فيقول فيه إنه لم يظلمه الدهر بمصيبة فطلب جوار رسول الله = إلا وأجاره ﷺ ، فهذا دعاء لغير الله ونسبة التصرف له ، وذلك إشراك في الإلهية والربوبية معا ، تنزه ربنا وتقدس ، فهو المستحق للاستجارة المطلقة ، المختص بالإجارة التامة ، والمنفرد بهذا الثناء الفخم وحده جل جلاله.

وقد احتمل بعض الشراح حمل البيت على توسل الدعاء ، وأن الباء فيه للسببية ، فمفعول الاستجارة هو الله ، أي استجرت الله بالنبي ﷺ ، وهذا التوجيه مخالف لمراد الناظم ، والكلام يفسر على مراد قائله ، لا على ما يذهب الشناعة عنه ، فالباء هنا زائدة للتعدية ، والمفعول هو النبي ﷺ ، وذلك من وجوه :

- ما يفيده السياق من مدح النبي ﷺ بكونه لا يضام جواره ، فذكر الجوار دليل على أن الجوار مطلوب منه ، فهو المطلوب الفاعل للإجارة ، وليس السبب المتوسل به ، فإن ذلك أقصر في المدح ، وإن كان أحسن في الدين.

- أن الحمل على الطلب نظير ما جاء بعده في البيت التالي : "ولا التمست غنى الدارين من يده" ، وما له نظير من الكلام أولى بالحمل من غيره.

- أن هذا المعنى كرره البوصيري في غير البردة ، ففي الهمزية :

وأبى الله أن يمسني السو ..
ء بحال ولي إليك التجاءُ
فأغثنا يا من هو الغوث والغيـ ..
ـث إذا أجهد الورى اللأواءُ

فكلام الرجل يفسر بعضه بعضًا ، وعلى ذلك أكثر الشراح كالجاديري وزكريا والهيتمي.

ومنه تعلم حرمة إذاعة هذه الميمية بين العامة ، والتعبد بما فيها من الباطل ، لا سيما في الموالد المحدثة لمحبة رسول الله ﷺ ، ففيها من الكفر المعارض لملته ما يوجب الارتداد عن دينه ، وعداوته ﷺ لصاحبه ، وكيف تقر شريعته هذا الغلو وقد خطب رجل عنده ، فقال : "من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى ، فقال رسول الله ﷺ : بئس الخطيب أنت ، قل : ومن يعص الله ورسوله" ، فما حال من ينشد مثل هذه الأبيات ؟!

وفي الشعر تجوز واتساع تعرفه العرب ، ولا يحل للفقيه أن يقول فيه شيئا حتى يحصل معرفة ذلك ويعرف وجوهه ، لكن هذا لا يلقي حبل الباطل على غاربه ، فيصير حجة لكل مبطل يقول الباطل الذي تشهد طرائق الكلام بإرادته له ، ثم يرمي أهل الحق بالعجمة والجهل بالعربية ، ويجعل نكيرهم من جنس الغفلة عن مخصصات العام وأضراب هذا مما لا يغفل عنه الطلبة.
ما أرسلتَ النظر في نصوص الوحي وكررته = إلا رجعت بأن أعظم المطلوب من المؤمنين إقامةُ الصلاة ، وليس غرض ذلك بيان عظم منزلتها في الأحكام فحسب ، بل من ذلك بيان عظم أثرها في إصلاح القلب وتزكيته.

وما أكثر ما يغفل الناس من العامة والخاصة ومن طلاب العلم وأربابه عن أثرها الخفي في التزكية ، فيشكو الرجل القسوة في قلبه ، وتشكو المرأة سخطها من البلاء ، ويشكو الشاب غلبة الشهوات له ، وما يخطر لواحدهم التداوي بإقامة الصلاة ، ويحسب أداء عدد ركعات الفرض بوضوء في الوقت إقامةً مثمرة ، فلا يشتغل بالإصلاح ظانا أنه لا أصلح مما كان.

ولستُ أحصي مصداق هذا المعنى وشهادة التجربة له ، فما تنيخ قسوة بقلب مع صلاة مقامة ، ولا يبقى سخط على الرب مع صلاة مقامة ، بل ذكر بعض الناس مرة شكوكا تعتريه في الرب وأفعاله ، ثم لم يلبث فصرح بأن له إخلالا سابقا بالصلوات ، فما كان ذلك غريبا ولا مستنكرا ، فما أكثر ما تكون صلاة العبد سر خلله وخفي داءه.

وإذا استحضر العبد هذا ، صار نديمه من الهموم = التفتيش عن صلاته وتعاهدها ، لأنها ركن الإيمان الأعظم وروحه الذي يحيا به ، والتي تركها أشنع من القتل والزنا وشرب الخمر وقذف المحصنة.

وحضور القلب في الصلاة محتاج إلى مجاهدة مستمرة ، لأنها متكررة كل يوم ، والنفس تضعف مع هذا التكرار ولا تبقى لها حرارة البداية ، ولكن استمرار المجاهدة أعظم معين ، ولا يزال العبد يتألم لتقصيره ، ويجاهد لدفعه فيكرمه الله بحضور قلبه على قدر مجاهدته.

علق الله قلوبنا بالقرب منه ، وجعل أنسنا بالوقوف بين يديه ، وصيرنا من أهل التلذذ بمناجاته ، وحبب إلينا الصلاة والقيام ، وجعله خير عملنا ، آمين.
يظهر أنّ عبارة العزّ على وجهها والله أعلم، كما سيأتي بيانه، وهذا التوجيه للعبارة مبني منهم على تخطئة هذا القول وأنّ فيه إشكالا، لكن لا ينبغي أن يكون إشكال القول مانعا من نسبته لصاحبه، بل ينسب له ثم للناظر أن يتعقبه نظرا واستدلالا، وأما نفي وجوده وتمحُّل دفعه، فتكلف لا وجه له.
كتب إليّ الصّديق الكريم صاحب (التقييدات) :

"الوجه الأول المذكور يضعفه ما جاء في الثالث ، وهو قوله "وأضيفُ : أن الإمام العز بن عبدالسلام قد نُقل عنه علم كثير في غير مؤلفاته ، وهي كتب تلاميذه ، وهو ما أرجّح أن منشأ العبارة هي دروسه أو تلاميذه ، وليست كتبه ومؤلفاته" ، وأما الوجه الثاني؛ فهو تخمين لا يمنع صحة نقل الزركشي.

والصّواب: أن عبارة العز على وجهها ، وسياق كلام الزركشي دالٌّ على أنها على هذا المعنى ، فقد كان الزركشي نقل عن بعض العلماء كراهة ترك اتباع المصحف ، ثم قال بعد ذلك : "وكان هذا في الصدر الأول والعلم حي غض ، وأما الآن فقد يخشى الإلباس ، ولهذا قال الشيخ عز الدين ...".

فهذا التّعليل دالٌّ على أنه سيذكر ما يخالف الكراهة السابقة ، وأن الإلباس قد يقع بالتزام الرسم المأثور ، فيخطئ الناس في القراءة ، وهو معنى عبارة العز ، فإنه قال (لئلا يوقع في تغيير من الجهال) أي أن يقرؤوا اللفظ كما كتب، فيقولوا: (الصلوة) مثلا بالواو، كما هي في الرسم، وهكذا ، فسياق الزركشي وكلام العز وتعليله دال كله على صواب العبارة.

ثم كذلك تعقيب الزركشي بقوله : "ولكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه ، لئلا يؤدي إلى دروس العلم ، وشيء أحكمته القدماء لا يترك مراعاته لجهل الجاهلين ، ولن تخلو الأرض من قائم لله بالحجة" ، وهذا يعني أنه وإن جازت الكتابة بالرسم المعاصر إلا أنّ ذلك ليس مطلقا؛ لئلا يفضي إلى ترك الرسم المأثور.

وقد وقعت العبارة على الصواب في مخطوط مكتبة الحرم المكي "393" ، وهو منسوخ سنة 878 ، فكلام العز على وجهه ، وهو موافق للسياق والمعنى ، ولما في المخطوط ، فليس لدعوى التحريف وجه ، والله أعلم"
تذييلٌ:
قلتُ: ومما يقوّي هذا النّظر الذي ذكره الصديق النبيل واستشهد له بقرينة السّياق، وقرينة الخطِّ (في المخطوط) ما عُرِف عن العزِّ رحمه الله من التفاته إلى المقاصد ودورانه عليها؛ فهذا القول به أشبه، وبأصوله أليق؛ فإنّه نظر إلى معنى حفظ القرآن وعدم تغييره، وكان ذلك يقع في الصدر الأول بالتزام الرسم المأثور، لتوافر القراء وأهل العلم وضبطهم القراءة، فلا يلتبس عليهم، فلما تغير الحال وكثر الجهال، صار الحفظ للنص القرآني باتباع الرسم الحادث؛ لأنه يتفق فيه اللفظ مع الخط، فيؤمن معه من تغيير القارئ لما يقرأ، وبهذا يكون الحكم عند العز دائرا مع المقاصد، فلما كان الرسم الحادث في هذه العصور أقرب إلى حفظ النص من التغيير، كان هو المطلوب، فهذه هي طريقة العز في النَّظر، وهي أولى به؛ ولهذا كان يتفرّد بأقوالٍ من هذا الجنس، أدّاه إليها إمعانُه في النّظر المصلحيّ المقاصديّ، رحمه الله وغفر له.
قال ابن الجوزي رحمه الله :

"بالله عليك يا مرفوع القدر بالتقوى لا تبِعْ عزها بذُّلِّ المعاصي ، وصابِرْ عطش الهوى في هجير المشتهى ، وإن أمضَّ وأرمض.

فإذا بلغت النهاية من الصبر ؛ فاحتكم وقل ، فهو مقام من لو أقسم على الله لأبره.

تالله لولا صبر عمر ما انبسطت يده بضرب الأرض بالدِّرة ، ولولا جدُّ أنس بن النضر في ترك هواه ، وقد سمعتَ من آثار عزمته : (لئن أشهدني الله مشهدًا ، ليرين الله ما أصنع) ، فأقبل يوم أحد يقاتل حتى قتل ، فلم يعرف إلا ببنانه ، فلولا هذا العزم ما كان انبساط وجهه يوم حلف : (والله لا تكسر سن الربيع).

بالله عليك تذوق حلاوة الكفِّ عن المنهيِّ ، فإنها شجرة تثمر عز الدنيا وشرف الآخرة.

ومتى اشتد عطشك إلى ما تهوى ، فابسط أنامل الرجاء إلى من عنده الرِّيُّ الكامل ، وقل : قد عِيلَ صبر الطبع في سنيِّه العجاف ، فعجِّل لي العام الذي فيه أُغَاث وأعصِر.

بالله عليك تفكر فيمن قطع أكثر العمر في التقوى والطاعة ، ثم عرضت له فتنة في الوقت الأخير ، كيف نطح مركبُه الجرفَ ، فغرق وقت الصعود ؟!

أف والله للدنيا ، لا ، بل للجنة إن أوجب نيلها إعراض الحبيب.

إنما نسب العامي باسمه واسم أبيه ، فأما ذوو الأقدار ؛ فالألقاب قبل الأنساب.

قل لي : من أنت ، وما عملك ، وإلى أي مقام ارتفع قدرك يا من لا يصبر لحظة عما يشتهي ؟!

بالله عليك أتدري من الرجل ؟ الرجل والله من إذا خلا بما يحب من المحرم ، وقدر عليه ، وتقلل عطشًا إليه = نظر إلى نظر الحق إليه ، فاستحيا من إجالة همه فيما يكرهه ، فذهب العطش.

كأنك لا تترك لنا إلا ما لا تشتهي ، أو ما لا تصدق الشهوة فيه ، أو ما لا تقدر عليه ، كذا والله عادتك ، إذا تصدقت أعطيت كسرة لا تصلح لك ، أو في جماعة يمدحونك.

هيهات والله ! لا نلت ولايتنا حتى تكون معاملتك لنا خالصة ، تبذل أطايبك ، وتترك مشتهياتك ، وتصبر على مكروهاتك ، علمًا منك - تدخر ثوابك لدينا - إن كنت معاملا بأنك أجير ، وما غربت الشمس.

فإن كنت محبًا رأيت ذلك قليلا في جنب رضى حبيبك عنك ، وما كلامنا مع الثالث".

[صيد الخاطر]
لا تبطل عملك

في الصحيح أن أمير المؤمنين عمر ذكر في قول الله : (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون) أنه مثل لعمل "لرجل غني يعمل بطاعة الله عز وجل ، ثم بعث الله له الشيطان ، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله".

قال ابن القيم :

"فلو فكر العاقل في هذا المثل وجعله قِبْلة قلبه لكفاه وشفاه ، فهكذا العبد إذا عمل طاعةً لله ، ثم أتبعها بما يبطلها ويفرقها من معاصي الله = كانت كالإعصار ذي النار المحرق للجنة التي غرسها بطاعته وعمله الصالح.

... فلو تصور العامل بمعصية الله بعد طاعته هذا المعنى حق تصوره ، وتأمَّله كما ينبغي = لما سولت له نفسه -والله- إحراقَ أعماله الصالحة وإضاعتها ، ولكن لا بد أن يغيب عنه علمُه بذلك عند المعصية ، ولهذا يستحق اسم الجهل ، فكل من عصى الله فهو جاهل.

... وتأمَّل كيف ضرب سبحانه المثل للمنفق المرائي -الذي لم يصدر إنفاقه عن الإيمان- بالصفوان الذي عليه التراب ، فإنه لم ينبت شيئًا أصلًا ، بل ذهب بذره ضائعًا ، لعدم إيمانه وإخلاصه ، ثم ضرب المثل لمن عمل بطاعة الله مخلصًا نيته لله ، ثم عرض له ما أبطل ثوابه = بالجنة التي هي من أحسن الجنان وأطيبها وأزهاها ، ثم سُلِّط عليها الإعصار الناري فأحرقها.

فإنَّ هذا نبت له شيء وأثمر له عمله ثم احترق ، والأول لم يحصل له شيء يدركه الحريق ، فتبارك من جعل كلامه حياةً للقلوب وشفاءً للصدور وهدًى ورحمة".

[طريق الهجرتين (٢/ ٨١١)]

#الفهم_المعطى
حكى يونس بن حبيب شيخ سيبويه (ت : ١٨٣ هـ) ما سمعه من عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي إمام العربية و"أول من بعج النحو ومد القياس وشرح العلل" (ت : ١١٧ هـ) ، فقال :

"قلت له : هل يقول أحد : الصويق - يعني السويق - ؟
قال : نعم ، عمرو بن تميم تقولها ، وما تريد إلى هذا ؟ عليك بباب من النحو يطرد وينقاس".

[طبقات فحول الشعراء (١/ ١٥)]

وفي هذه الكلمة من ابن أبي إسحاق تنويه بشرف القواعد والأصول الكلية على الجزئيات والفروع ، فإن معرفة الجزئيات ربما حصلت لمن لا يتنفع بها عند المعضلات ، فيقف به حماره ، بخلاف العارف بالكليات فإنه يستعين بها على توليد الجزئيات ، وينتفع بتحصيل الجزئيات في تبين الأصول وسبرها ، وهذه الخصلة الأخيرة فرقان ما بين العارف بالكليات على الحقيقة كالمجتهدين من الأئمة ، وبين المشتغل بها على ضعف وترتيب أبواب من موتى الأصوليين.

ومن فضل معرفة الكليات والأصول أن صاحبها إذا تغيرت الأحوال تبقى آلته معه ، ولذا لما سئل يونس عن علم ابن أبي إسحاق من علم الناس في زمانه قال : "لو كان في الناس اليوم من لا يعلم إلا علمه يومئذ ؛ لضُحِك منه ، ولو كان فيهم من له ذهنه ونَفاذُه ، ونظَرَ نظرهم ؛ لكان أعلم الناس".

يشير إلى أن ما عنده من الجزئيات والفروع قليل في زمان يونس ، إلى حد أنه يضحك منه ، لكن آلته ومعرفته تبلغه أعلى الرتب إذا أتيح له النظر.

#ملامح_من_منهج_العلم
في مبتدأ استقامة العبد وشروعه في طلب العلم بالله ومعرفة أسمائه وصفاته وشرائعه = يكون لنفسه وهج وحرارة ، وألق يشبه ألق الشيء الجديد ، ثم إذا حصَّل قدرا من ذلك ؛ عرض لنفسه ملل بطول الوقت وبعد الغاية ، فتذهب هذه الحلاوة منها وتقسو ، فيمر على الآيات والتذكير مرور المالِّ المعتاد ، وربما توهم أنه قد جاز القنطرة فاستغنى عنها ، فهو المحبوب الذي له دالَّة على الرب ، وإنما الوعظ والتذكير يُستصلح به غيره ، وأما هو فقد صار من القوم وأرباب الولاية !

فإذا حصل له ذلك فهو أحوج شيء إلى أوقات الاغتسال ، اغتسال قلبه بالنور السماوي في أوقات العبادة الفاضلة ، والتخلي عن الناس والإقبال على نفسه حتى يطهرها ويعيد لها بهجتها الأولى ، ويقربها إلى أنسها بربها ومناجاته ، ويزيل عنها الملل واستطالة الطريق وأوضار العجب والتيه وفساد الظنون المردية.

بعدما أسلم الصحابة وتركوا الكفر بالله وذاقوا حلاوة الإيمان ، ومضت عليهم مدة = عاتبهم الله وذكرهم ، وحذرهم من هذا العارض الذي يصيب من عرف العلم وقاربه من الملل ، وأنه أصاب أهل الكتاب قبلهم ، فهو من أدواء أرباب العلوم ، قال ربنا : "ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون".

أخرج مسلم عن ابن مسعود أنه قال : "ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله) إلا أربع سنين".
العفة واستتار النساء عن الأجانب خصلة حسنة في ذاتها كالصدق والكرم والطهارة ، فلا يقتصر المراد منها على سد ذرائع الفتنة وقطع الشهوات كما يتوهم كثير من الناس ، بل هي كمالٌ محبوب في الدنيا والآخرة.

ومن شواهد ذلك في الدنيا أن الله جعل احتجاب النساء عن الرجال طهارة ، فقال : (فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن).

ولما رخص الله للقواعد من النساء كشف وجوههن = ندبهن إلى زيادة العفة بسترها ، فقال : (وأن يستعففن خير لهن) ، فكانت الفقيهة التابعية أم الهذيل حفصة بنت سيرين يدخل عليها أصحاب الحديث فتنتقب ، فيقولون لها رحمك الله ، ويقرؤون عليها الرخصة (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة) فتقول : أي شيء بعد ذلك ؟! (وأن يستعففن خير لهن) ، كما عند سعدان بن نصر في جزئه "٦٠".

وأما في الآخرة فمن شواهد ذلك ما صح عن علي رضي الله عنه من أن الولدان يستقبلون أهل الجنة بالبشارة عند دخولهم ، ثم ينطلقون إلى الحور ، قال : "ويسبق غلمان من غلمانه إلى أزواجه من الحور العين ، فيقولون لهن : هذا فلان - باسمه في الدنيا - قد أتاكن.
قال : فيقلن : أنتم رأيتموه ؟
فيقولون : نعم.
قال : فيستخفهن الفرح ، حتى يخرجن إلى أسكفة الباب" أخرجه ابن أبي شيبة "٣٥١٣٨".

فتأمل قوله "حتى يخرجن إلى أسكفة الباب" ، وما فيه من استتار الحور عن الأعين ومباعدة التكشف بالخروج ، مع استخفاف الفرح لهن وشوقهن لأزواجهن.

ثم في الجنة وصف الله الحور بأنهن (مقصورات في الخيام) ، والخيمة في الجنة عظيمة من لؤلؤ عرضها ستون ميلا - وهذه مسافة أكبر مما بين مكة وجدة - ، ولها أربعة آلاف باب من الذهب ، وهذا مكان عظيم الضخامة جدا لم يملكه بشر في الدنيا ، ومعنى هذا أن أهل الخيام لا يبصر بعضهم بعضا من سعة نعيم كل واحد منهم ، فالنساء بعيدات لا ينظر إليهن الرجال.

وهذا مما يبين لك أن العري والتبرج قبح نزه الله عنه أهل الجنة ، كما نزههم عن مستقذرات الأنوف والأفواه ونتن العرق والأحداث وغَول الخمر ، ونزه عنه من قبل المؤمنين في الدنيا ، جعلني الله وإياك من أهل الجنة ، وزيننا بسمة أهلها في الدارين.
حكى الشافعي مناظرته لبعض العراقيين في مسألة بيع المدبر ، وكان من ذلك قوله :

"قال : فهو قول أكثر الفقهاء.

قلتُ : بل قول أكثر الفقهاء أن يباع.

قال : لسنا نقوله ولا أهل المدينة.

قلت : جابر بن عبد الله وعائشة وعمر بن عبد العزيز وابن المنكدر وغيرهم يبيعه بالمدينة ، وعطاء وطاوس ومجاهد وغيرهم من المكيين ، وعندك بالعراق من يبيعه ، وقول أكثر التابعين ببيعه ، فكيف ادعيتَ فيه الأكثر ، والأكثر ممن¹ مضى عليك ؟!

مع أنه لا حجة لأحد مع السنة ، وإن كنت محجوجًا بكل ما ادعيت ، وبقول نفسك".

[الأم (٩/ ٣٣٧)]

وفي كلام الشافعي تنبيه لنوعين من الغلط الشائع في المتفقهة ، أما الأول فالغلط في تمييز قول الأكثر ، فإن كثيرا من الناظرين يعتبر قول بعض الأئمة المتبوعين = قولَ الأكثر ، وقد رأيتَ في حكاية الشافعي كيف غلط العراقي فجعل قول أصحابه (الحنفية) مع أهل المدينة (المالكية) قول أكثر الناس ، ومنه في الأزمنة المتأخرة اعتبارُ اتفاق المذاهب الأربعة أو أكثرها قولَ جمهور العلماء ، وليس ذلك بلازم ، فقد يكون ذلك قولَ جمهور العلماء من أئمة الأمصار من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على الحقيقة - كما هو الغالب أو الكثير جدا - ، وقد لا يكون.

فإذا أطلق المرء على اتفاق أكثر الأربعة (قول الجمهور) فإما :

- أن يقصد أكثر العلماء من أئمة الأمصار - الصحابةِ فمن بعدهم - ، فلا يسوغ له ذلك بمجرد الوقوف على قول أكثر الأربعة.

- أو يقصد الأكثر بالنظر إلى المذاهب المتبوعة المستمرة ، فهذا اصطلاح تواضع عليه الناس بأخرة ، ولا مشاحة فيه إذا فهمه مطلقه ، وذلك مثل إطلاق أن كذا مذهب الحنابلة بالنظر إلى اتفاق الإقناع والمنتهى - وإن لم يكن ذلك قول الحنابلة جميعًا ، بل ولا قول أحمد نفسه - ، فهو سائغ بفهم ذلك.

وفائدة التنبه إلى هذا ضبط المنزلة التي ينالها القول في نفس المتفقه ، بحيث يتصور الأمر على ما هو عليه ، وإن كان ذلك ليس مؤثرًا في الاحتجاج وتمييز الحق كما هو معلوم.

وأما الغلط الثاني فمقابلة الحجة بأعداد الرجال ، وهو معنى كثر تنبيه الأئمة له لكثرة زلل الناس فيه قديما وحديثًا.

وفي النظر لكثرة الرجال معنى صحيح ، وهو أن يتحرى الناظر في السنة فلا يشهر سيفها بخديج الفهوم وبدوات النقد ، فإن العاقل يعرف أن لغيره عقولا تصيب كما يخطئ ، وأن من العلم ما يفوته ويدركه الأكثر دونه ، كما يفوتهم ويدركه دونهم ، ثم هذا المعنى الصحيح تبالغ فيه طائفة فيُخرج به عن القصد ، وبعد كونه معتبرًا لئلا يتعجل في ادعاء السنة يصير حجة تُخالَف به السنة نفسها !

وقد كان الشافعي حفيا بالتنبيه على هذا الغلط وخطره ، وبالرد على من وقع فيه من الفقهاء ، فرحمه الله ما أجود كلامه وأدق نظره وأحسن نصحه للمسلمين.

___
¹ في المطبوع : "من" ، وله وجه ، والمثبت من بعض النسخ والمعرفة للبيهقي ، وهو الأشبه بكلام الشافعي.

#أنظار_في_الفقه_ومآخذه
2024/11/15 07:46:43
Back to Top
HTML Embed Code: