Telegram Web Link
لماذا يأنس الناس بقبور الصالحين، ويكثرون من زيارتها؟!

الجواب عند ابن تيمية وابن الجوزي!


قال ابن تيمية - رحمه الله - في كتابه [اقتضاءُ الصراطِ المستقيم؛ مخالفةَ أصحابِ الجحيم] أثناءَ كلامٍ:

"وكذلك ما يُذكر من الكرامات، وخوارقِ العادات التي تُوجد عند قبور الأنبياء والصالحين، مثلَ نزولِ الأنوارِ والملائكةِ عندها، وتَوَقِّي الشياطينِ والبهائمِ لها، واندفاعِ النارِ عنها، وعمَّنْ جاورها، وشفاعةِ بعضِهم في جيرانه من الموتى، واستحبابِ الاندفانِ عند بعضهم، وحصولِ الأُنْسِ والسكينةِ عندها، ونزولِ العذابِ بمن استهان بها!!

فجنسُ هذا حقٌّ، ليس مما نحن فيه!

وما في قبور الأنبياء والصالحين من كرامة الله ورحمته، وما لها عند الله من الحرمة والكرامة؛ فوق ما يتوهمه أكثر الخلق، لكن ليس هذا موضع تفصيل ذلك!". انتهى بلفظه.

قلتُ: فانظر إلى قوله: "ونزول العذاب بمن استهان بها"، ولا يستهين بها سوى هؤلاء النابتة!

ولو نزعنا اسم ابن تيمية عن هذا الكلام، ووضعنا اسم الشعراني مثلًا؛ لقامت قيامة النابتة، ولقالوا: إنه شرك أكبر، ووصفوا قائله بأنه قبوريٌّ مشرك، فماذا يقولون إذن في ابن تيمية؟!

أعرفتم - أيها النابتة - لماذا نَأنس بقبور الصالحين، ونُكثر من زيارتها؟!

لِما عندها من تنزل الأنوار والملائكة، وحصول الأنس والسكينة عندها، بل إن ما لها من الحرمة والكرامة عند الله فوق ما يتوهمه أكثر الخلق، على حد تعبير شيخكم ابن تيمية!

فلو كنا قبوريين؛ لكان شيخُكم ابنُ تيميةَ شيخَ القبوريين!

بل خذ هذه العبارة الصريحة الواضحة لابن الجوزي السلفي!

قال - رحمه الله - في كتابه [صيد الخاطر]:

"كثر ضجيجي من مرضي، و عجزت عن طب نفسي، فلجأت إلى قبور الصالحين، وتوسلت في صلاحي، فاجتذبني لطف مولاي بي إلى الخلوة على كراهةٍ مني، وردَّ قلبي عليَّ بعد نفور مني، وأراني عيب ما كنت أوثره"!

قلت: فما أنقذه من سوء حاله؛ إلا لجوؤه إلى قبور الصالحين - على حد تعبيره - وتوسله إلى الله بأهلها، حتى لطف الله به، وأدخله الخلوة رغم كرهه لها، وأصلح له قلبه، وأراه عيب ما كان يظنه غنيمة له!

وأنا - واللهِ - ما اجتمعت عليَّ الهموم، وتثاقلت عليَّ الذنوب، فجلست في مقام من مقامات الصالحين؛ إلا فرَّج الله عني، وخرجت مجبور الخاطر!

وكلما كان المقام في الخلاء، بعيدا عن العمران؛ كان الفرج أعظم، والسرور أتم!

ولعل هذا سر تردد العوام وغيرهم كثيرا على مساجد آل بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم وأولياء الله الصالحين، دون غيرها، من غير شعور منهم، وكأنهم ينجذبون إليها بمغناطيس؛ لما فيها من الأُنْس والراحة والسكينة والطمأنينة وتنزل الرحمات والبركات والملائكة على من حضرها، فينصرفون منها وقد شعروا بالأمان، ولله في خلقه شؤون!

بقلم: خادم الجناب النبوي الشريف
محمد إبراهيم العشماوي
التبرك بالصالحين.. في أكبر شروح الصحيحين:


1-«شرح صحيح البخاري» للإمام الكبير أبي الحسن ابن بطال (ت449)، قال (2/77): «قال المهلب: وفيه التبرك بمصلى الصالحين ومساجد الفاضلين. وفيه: أنه من دُعي من الصالحين إلى شيء يتبرك به منه، فله أن يجيب إذا أمن الفتنة من العُجب».
وقال (2/126): «ولم يزل الناس يتبركون بمواضع الصالحين وأهل الفضل».
وقال (3/178): «وأما من أراد الصلاة في مساجد الصالحين والتبرك بها متطوعًا بذلك، فمباحٌ له قصدُها بإعمال الـمَطِيّ وغيره، ولا يتوجه إليه النهيُ في هذا الحديث».
وقال (9/100): «وفيه أنه ينبغي التبركُ بثياب الصالحين ويتوسلُ بها إلى الله في الحياة والممات».
2-«إكمال المعلم بفوائد مسلم» للإمام الحافظ القاضي عياض المالكي، عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته (ت544)، قال (2/631): «فيه التبرك بالفضلاء، ومشاهد الأنبياء وأهل الخير ومواطنهم، ومواضع صلاتهم».
وقال (7/21): «فيه التبرك بالصالحين ودعائهم».
3- «المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم» للإمام المحدث، أبي العباس القرطبي (ت656) قال (7/355): «دليل على التبرك بآثار الأنبياء والصالحين، وإن تقادَمت أعصارُهم وخَفيت آثارُهم».
4- «المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج» للإمام شيخ الإسلام، محيي الدين النووي (ت676) قال (4/219): «ففيه التبرك بآثار الصالحين واستعمال فَضل طَهورهم وطعامهم وشرابهم ولباسهم».
وقال (5/161): «وفيه التبرك بالصالحين وآثارهم، والصلاة في المواضع التي صلَّوا بها، وطلب التبريك منهم».
وقال (14/100): «ومنها: حملُ المولود عند ولادته إلى واحد من أهل الصلاح والفضل، يحنّكه بتمرة؛ ليكون أولَ مايدخل في جوفه ريقُ الصالحين، فيتبرك به».
5- «الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري» للإمام شمس الدين الكرماني (ت786)، قال (21/99): «وفيه التبركُ بآثار الصالحين، ولُبسِ لباسِهم».
6- «التوضيح شرح الجامع الصحيح» للإمام الحافظ الفقيه، سراج الدين ابن الملقن (ت804)، قال (4/102) عن قبر سيدنا أبي أيوب الأنصاري في القسطنطينية: «فقبره مع سور القسطنطينية يتبرك به ويُستشفَى».
وقال (6/23): «ولم يزل الناس يتبركون بمواضع الصالحين وأهل الفضل».
وقال (27/641): «وفيه: أنه ينبغي التبرك بثياب الصالحين، ويتوسل بها إلى الله تعالى في الحياة والممات».
7- «اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح» للإمام شمس الدين البِرْماوي (ت831)، قال (3/279): «إنما كان ابن عمر يصلي في هذه المواضع للتبرك، فلم يزل الناس يتبركون بمواضع الصالحين».
8- «فتح الباري بشرح صحيح البخاري»؛ والذي هو أعظم شروح كتب السنة على الإطلاق، للإمام الحافظ، ابن حجر العسقلاني (ت852)، قاضي القضاة، وشيخ الإسلام، وأمير المؤمنين في الحديث؛ قال (3/304): «وفيه الحرص على مجاورة الصالحين في القبور؛ طمعا في إصابة الرحمة إذا نزلت عليهم، وفي دعاء من يزورهم من أهل الخير».
وقال (10/330): «وفيه استعمال آثار الصالحين ولباس ملابسهم على جهة التبرك والتيمن بها».
9- «عمدة القاري شرح صحيح البخاري» للإمام العلامة بدر الدين العيني (ت855) قال (3/122): «ويستنبط منه حكم آخر وهو: استحباب خدمة الصالحين وأهل الفضل والتبرك بذلك».
وقال (4/275): «ولم يزل الناس يتبركون بمواضع الصالحين».
وقال (9/241): «وأما تقبيل الأماكن الشريفة على قصد التبرك، وكذلك تقبيل أيدي الصالحين وأرجلهم: فهو حسن محمودٌ باعتبار القصد والنية».
10- «الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري» للإمام أحمد بن إسماعيل الكُوراني (ت893)، قال (2/62): «وفيه دلالة على استحباب التبرك بآثار الصالحين من ماء وطعام وغيرهما».
وقال (2/168): «وإلا فالتبرك بآثار الصالحين لا سيما سيد المرسلين، لا يشكُّ أحدٌ في حُسنه».
11- «إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري» للإمام المحدث الحجة، شهاب الدين القسطلاني (ت923) قال (1/430): «أما مَن اتخذ مسجدًا في جوار صالح وقصد التبرك بالقرب منه، لا للتعظيم له ولا للتوجه إليه، فلا يدخلُ في الوعيد المذكور».
وقال (1/467): «واستُنبط منه: التبركُ بما يلامِسُ أجسادَ الصالحين».
12- «منحة الباري بشرح صحيح البخاري» للإمام شيخ الإسلام زكريا الأنصاري (ت926) قال (2/79): «وفي الحديث: جواز ضرب الخيام والقباب والتبرك بآثار الصالحين».
وقال (2/213): «وفيه: التبرك بما يلامس أجساد الصالحين».
13- «فتح المنعم شرح صحيح مسلم» لشيخ شيوخنا العلامة الدكتور موسى شاهين لاشين (ت1430) قال (3/92): «وفيه: التبرك بآثار الصالحين، واستعمال فضل وضوئهم وطعامهم وشرابهم ولباسهم».
استحباب مجاورة الصالحين حتى في المقبرة:

قال العلامة ابن بطال في شرح صحيح البخاري :
فيه من الفقه: الحرص على مجاورة الموتى الصالحين في القبور ، طمعًا أن تنزل عليهم رحمة ، فتصيب جيرانهم، أو رغبة أن ينالهم دعاء من يزورهم في قبورهم من الصالحين"
انتهى من (("شرح البخاري))

وأخرج البخاري (3700) عن عمر بن الخطاب أنه أمر ابنه عبد الله وهو في فراش موته بعدما طُعِن :

( انْطَلِقْ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَقُلْ : يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ السَّلَامَ ، وَلَا تَقُلْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ؛ فَإِنِّي لَسْتُ الْيَوْمَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَمِيرًا ، وَقُلْ يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ ، فَسَلَّمَ وَاسْتَأْذَنَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهَا فَوَجَدَهَا قَاعِدَةً تَبْكِي، فَقَالَ : يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ السَّلَامَ ، وَيَسْتَأْذِنُ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ ، فَقَالَتْ : كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي ، وَلَأُوثِرَنَّ بِهِ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِي .

فَلَمَّا أَقْبَلَ قِيلَ : هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَدْ جَاءَ ! قَالَ ارْفَعُونِي ، فَأَسْنَدَهُ رَجُلٌ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : مَا لَدَيْكَ ؟ قَالَ : الَّذِي تُحِبُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ! أَذِنَتْ .

قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مَا كَانَ مِنْ شَيْءٍ أَهَمُّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ ) .

والرغبة في الدفن قرب الصالحين أمر شائع ، معروف لدى أهل الصلاح ، رغب فيه الكثير من السلف والخلف .

فكيف بمجاورة سيد المرسلين وخير البرية أجمعين ، صلى الله عليه وعلى آله وسلم أجمعينوقال ابن قدامة الحنبلي رحمه الله تبارك وتعالى :

" ويستحب الدفن في المقبرة التي يكثر فيها الصالحون والشهداء ؛ لتناله بركتهم ، وكذلك في البقاع الشريفة .

وقد روى البخاري ومسلم بإسنادهما " أن موسى - عليه السلام - لما حضره الموت سأل الله تعالى أن يدنيه إلى الأرض المقدسة رمية بحجر ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : لو كنت ثم لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر " انتهى من "المغني" (2/380) .

وقال البهوتي رحمه الله تعالى :

" ( و ) يستحب أيضا الدفن في ( ما كثر فيه الصالحون ) ؛ لتناله بركتهم ، ولذلك التمس عمر الدفن عند صاحبيه وسأل عائشة حتى أذنت له " انتهى من "كشاف القناع" (2/142) .

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاةُ والسلامُ على سيّدنا محمّدٍ الصادقِ الوعدِ الأمينِ وعلى إخوانِهِ النبيّينَ والمرسلينَ ورضيَ اللهُ عن أمهاتِ المؤمنينَ وألِ البيتِ الطاهرينَ وعنِ الخلفاءِ الراشدينَ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ وعن الأئمةِ المهتدينَ أبي حنيفةَ ومالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ وعن الأولياءِ و الصالحينَ.
يقول ابن أبي زيد القيروانيّ رحمه الله في رسالته: (وَأَنَّه فَوْقَ عَرْشِهِ الْمَجِيدِ بِذَاتِهِ).
الشرح:
هذه الجملة مما انتُقِد على المصنف رحمه الله، فإنّ أحدًا من صالِحِ السلف ولا من محققي الخلف لم يثبت عنه أنه أضاف كلمة (بذاته) عند قوله عن الله (استوى على العرش)، ثم الموافق للآية هو لفظ (على العرش) وليس (فوق العرش) مع أنّ الإشكال الذي لا يُتسَامح فيه هو تعبيره بلفظة (بذاته) مع حَمْل كلمة فوق على فوقيّة القهر لا الجهة كما في نحو قوله تعالى (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)) [سورة النحل] والتي قال أبو القاسم القشيريّ وتاج القرّاء الكرمانيّ في معناها (يخافون الله أن ينزّل عليهم عذابًا من فوق رءوسهم)، وقال ابن عطيّة في تفسيرها وقوله (من فوقهم) يَحتمل معنيين:
أحدهما الفوقيّة الّتي يوصف بها الله تعالى فهي فوقيّة القدر والعظمة والقهر والسّلطان.
والآخر أن يتعلّق قوله (من فوقهم) أي بقوله (يَخَافُونَ) يخافون عذابَ ربهم مِن فوقهم، وذلك أنّ عادة عذاب الأمم إنّما أتَى من جهة فوقٍ.
وأمّا الاعتراض على أبي محمد رحمه في قوله عن الله (فَوْقَ عَرْشِهِ الْمَجِيدِ بِذَاتِهِ) فذلك بشأن لفظتين:
الأولى تعبيره بـ (فَوْقَ عَرْشِهِ) وما فيه مِن عُدُولٍ عن لفظ النصّ القرآني (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ (5)) [سورة طه].
قال القاضي عبد الوهّاب في شرحه ما نصُّه (هذه العبارة الآخرة التي هي قوله على العرش [استوى] أحبُّ إلَيَّ من الأولى التي هي قوله (وأنه فوق عرشه المجيد بذاته) لأنّ قوله (على عرشه) هو الذي ورد به النصّ ولم يرد النصّ بذِكر (فوق (1)) وإن كان المعنى واحدًا، وكان المراد بذِكر الفوق في هذا الموضع أنه بمعنى (علَى) إلَّا أنَّ ما طابَق النصَّ أولَى بأن يُستَعمل). اهـ
وقال الشيخ أبو الحسن عليّ بن محمد المنوفي الشاذليّ في كفاية الطالب الربّاني ما نصُّه (وأحسن ما قيل في دفع الإشكال إن الكلام يتضح ببيان معنى الفوقية والعرش والمجيد والذات، فالفوقية عبارة عن كون الشىء أعلى من غيره وهي حقيقة في الأجرام كقولنا زيد فوق السطح مجاز في المعاني كقولنا السيد فوق عبده، وفوقية الله تعالى على عرشه فوقية معنوية بمعنى الشرف وهي بمعنى الحكم والملك، فترجع إلى معنى القهر والعرش اسم لكل ما علا، والمراد به هنا مخلوق عظيم) إلى أن قال (المعنى أن هذه الفوقية المعنوية له تعالى بالذات لا بالغير من كثرة أموال وفخامة أجناد وغير ذلك). اهـ
وقال أبو الحسن العَدَويّ في حاشيته على كفاية الطالب ما نصُّه (وأما قوله (فوق عرشه المجيد) فلم يؤخذ عليه فيه أي لأنه ورد الشرع بإطلاق الفوقية كقوله (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)) [سورة النحل].
وقال الشيخ صالح الآبي الأزهري في كتابه الثمر الداني ما نصّه (فوق عرشه أي فوقية سلطنة وقهر، قال تعالى (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)) [سورة الأعراف]. اهـ
وقال ابن ناجي التنوخي في شرحه على الرسالة ما نصُّه (فأما لفظ الفوقية فمشترك بين الحس والمعنى والقرينة تخصص المراد منهما)، ثم قال (فإذا تقرر هذا فحَمْلُ الفوق على الحِسّ معلوم الاستحالة بالدليل اليقيني لتقدسه سبحانه عن الجواهر والأجسام، ومعلوم ذلك من سياق كلام المؤلف رحمه الله بحيث لا يوهم أنه أراد الحِسّ، فهو تعالى فوق العرش فوقيَّة معنًى وجلالٍ وعَظَمة). اهـ
وقال الشيخ أحمد زرُّوق الفاسي في شرحه على الرسالة ما نصُّه (يريد فوقيّةً معنويةً، كما يقال السلطان فوق الوزير والمالك فوق المملوك والشريف فوق الدنيء لا أنها حسية، كالسماء فوق الأرض وما في معناه، لانتفاء الجهة في حَقِّه تعالى لما يلزم عليها من النقص والحدوث)، ثم قال (وكأنّه يقول هو فوق العرش من حيث الجلالة والعظمة لا من حيث الحلولُ والاستقرار). اهـ
وقال الشيخ محمد بن قاسم جسوس في شرحه على الرسالة ما نصُّه (2) (وفوقيته تعالى على عرشه فوقية استيلاء وقهر وغلبة، يقولون السيّد فوق عبده والمالك فوق المملوك والخالق (وَهُوَ اللهُ) فوق المخلوق، فهي راجعة إلى معنى القهر)، ثم قال (وقد عُلِم أنّ الألفاظ الموهمة لا يجوز إطلاقها في حقِّ الله، وأنّ (فوق) لها معنًى صحيحٌ ورد بها السمع، ولم يَرِد السمع بهذا اللفظ في هذا التركيب الموهِم). اهـ
الثانية قوله (بذاته):
قال الشهاب النفراويّ الأزهريّ في الفواكه الدواني ما نصّه (قال في التحقيق: أُخِذ على المصنف في قوله بذاته، وقيل هي دسيسة عليه، فإن صح هذا فلا إشكال في سقوط الاعتراض عنه، ولا عليه، لأنه لم يرد بها سمع). اهـ
وقال ابن ناجي التَنوخي في شرحه على الرسالة ما نصُّه (وهذا مما انتقد على الشيخ رحمه الله في قوله بذاته فإنها زيادة على النص فمن مخطئ ومن معتذر، قال الفاكهاني: وسمعت شيخنا أبا علي البجائي يقول إن هذه لفظة دست على المؤلف رضي الله عنه فإن صح هذا فلا اعتراض على الشيخ). اهـ
وقد قال الحافظ ابن الفخّار القرطبي في رسالته التّبصرة في نقد رسالة ابن أبي زيدٍ القيرواني ما نصّه (وموضع الغلط في هذا الكلام عدوله عن ظاهر نصّ القرآن لأنه تعالى قال (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ (5)) [ سورة طه]. اهـ
وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي في كفاية الطالب الربّاني ما نصُّه (أخذ عليه في قوله (بذاته) لأنّ هذه اللفظة لم يرد بها السمع). اهـ
وقال القلشاني في تحرير المقالة في شرح الرسالة ما نصّه (في عبارته رضي الله عنه في هذا المكان قلق، وقد استشكلت قديمًا وحديثًا). اهـ
وقال الشيخ محمد جسوس في شرحه على الرسالة ما نصُّه (وقوله (بذاته) هو محل للانتقاد على المؤلف، لأنه لفظ يوهم كون الفوقية فوقية استقرار، وقد علِم أنّ الألفاظ الموهمة لا يجوز إطلاقها في حقه الله). اهـ
وقد ترك الشيخ عبد الله بن أحمد الحاج (توفّي 1209هـ) ناظم رسالة ابن أبي زيد لفظة (بذاته) وأبدلها بلفظة (بعِلْمِه) فقال:
وَهُوَ فَوْقَ عَرْشِهِ الْمَجِيدِ *** بِعِلْمِهِ جَلَّ عَنِ التَّقْيِيدِ
حتّى إنّ الذّهبيّ على بعض شذوذه عن عقيدة أهل السنّة والجماعة، اعترض هنا على الشيخ أبي محمّد لاستعماله لفظة (بذاته) في الرسالة، فقال الذهبيّ في كتابه المسمّى العُلُوّ للعَلِيّ الغَفّار ما نصُّه (وَقد نَقَموا عليه (أي أبي محمَّد القيرواني) في قوله (بذاته)، فَلَيْتَهُ تركها). اهـ
وقد اعترض هذا الذّهبيّ أيضًا على ابن الزاغونيّ من الحنابلة لاستعماله تلك اللفظة في قصيدة له، فقال في سير أعلام النبلاء ما نصُّه (قد ذكرنا أن لفظة (بذاته) لا حاجة إليها، وهي تشغب النفوس، وتركها أولى). اهـ
وقد تمسك بعض المشبهّة بظاهر لفظة أبي محمد القيروانيّ في الرسالة لإثباتهم الجهة والحيّز لله تعالى، وقد رَدّ دعواهم الشيخُ الإمامُ عبد الله بن أبي جمرة رضي الله عنه في كتابه بهجة النفوس بشرح مختصره على صحيح البخاريّ فقال ما نصُّه (وأما ما احتَجُّوا به (يعني المجسّمةَ) لمذهبهم الفاسد بقول ابن أبي زيد رحمه الله في العقيدة التي ابتدأ الرسالة بها بقوله (وأنه فوق عرشه المجيد بذاته) فلا حجة لهم فيه أيضًا لأنهم خفضوا المجيد وجعلوه صفة للعرش، وافتروا على الإمام بذلك، والوجه فيه رفع المجيد لأنه قد تم الكلام بقوله فوق عرشه، والمجيد بذاته كلام مستأنف). اهـ
وهذا ما ذهب إليه بعض شُرَّاح الرسالة في تأويل تلك اللفظة مِن الشيخ أبي محمد، وهذا على فرض ثبوتها عنه، وأقول لا حاجة إلى ذلك، لأنّنا نظنّ أنها دسيسة عليه كما سبق فيما نقلنا، وما ذِكر الإمامِ ابن أبي جمرة رضي الله عنه لمقولتهم إلا مبالغة في التشنيع عليهم لإسكاتهم وتبكيتهم.
قال العلامة محمد الشاذلي النيفر التونسي في كتاب مسامرات الظريف ج 1 ص 358 (وقد قرأت عليه الكفاية شرح الرسالة للشيخ سيدي عبد الله بن أبي زيد القيرواني، وكانت قراءته لذلك قراءة تحقيق بعد صلاة الصبح، ولما ولي رئاسة الفتيا تأخر عن الدرس المذكور، وكانت تقاريره ومباحثه تسحر الألباب، وأذكر منها أنه لما كان يقري قول الشيخ (ومملا يجب اعتقاده أنه تعالى فوق عرشه المجيد بذاته) وقد أورد الشارح الاستشكال على ظاهر العبارة بما هو مبسوط في محله من إشعاره بالجرمية والاستقرار بالذات نفسها، فاستظهر رحمة الله أن الجملة مركبة من عقيدتين، وهما كونه تعالى فوق عرشه، وكونه تعالى مجيداً بذاته، بحيث يقرأ المجيد (بالرفع) خبراً ثانياً، لا بالجر على أنه نعت للعرش، قال وهذا الوجه أخذته من قراءة الوقف على ذي العرش في قوله تعالى (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) وهو وجه يزيدك حسناً كلما زدته نظراً، وهكذا كانت أختامه ودروسه كلها في غاية حسن التقرير والتحرير، وأدعيته لطيفة الإنشاء، يبدع في تحريرها كيف شاء). انتهى
(1) أي في الكلام على العرش، وإلا فقد جاء في القرآن (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ) [سورة النحل] معناه يخافون عذابه أن يأتيهم من فوقهم.
(2) طبع في ثلاث مجلدات بتحقيق الباحثة إحسان النقوطي، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في المملكة المغربية 1429 هـ – 2008 م.
هل يجوز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلّم بعد وفاته؟
Anonymous Quiz
90%
يجوز.
6%
لايجوز.
4%
شرك بالله.
أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ pinned «هل يجوز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلّم بعد وفاته؟»
هل يعتبر عبدالله بن سعيد بن كلاب من أهل السنة والجماعة؟
Anonymous Quiz
75%
نعم.
25%
لا.
[دفع الريبة عن كلام سيدي ابن عجيبة]

مقالٌ يوضّح فيه بعض العبارات المُشكلة في كلام الإمام ابن عجيبة رضي الله عنه وأرضاه.

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدًا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الأطهار، وبعد..

فإن الله تعالى لمّا خلق الخلق، وفرق السماوات والأراضين، وقدّر فيهما أقواتهما، وأجرى القلم بما ثبت لديه في علمه القديم مما شاء أن يكون في كونه إذ هو الفعّال لما يريد؛ كان فيما سنّه وقدّره، وحكم به وأظهره، أن جعل الأشراف تبتلى بالأطراف، وجعل الكلاب تنبح السحاب، لحكمٍ عرّف بعضها واختزن بعضها، وليس لنا إلا أن نقول: سبحانك نحن عبيدك نواصينا بيدك.

وكان من مصاديق ذلك أن ابتلى السيّد الشريف العلامة عبد العزيز الشهاوي ببعض الصبيان الذين سمعوا منه صيغة صلاة جرت بها ألسنة الفقهاء والمفسرين والمحدثين قرونًا مديدة وأزمنة عديدة، غير أن آذانهم لم تألفها وأسماعهم لم تتعرّفها، وهي الصلاة التي فيها: "اللهم صلّ على الذات المطلسم والغيب المضمضم..الخ"
فبادروا بالإنكار، واشتدوا في السبّ والطعن لمّا توهموا أنها إحدى العثار.
حتى قال بعض سفهائهم: إن هذا إلا سحرٌ يؤثر!

فشرّف الله الفقير بكتابة مقالة هي رقية لشيطان جهلهم المَريد، وترياق لسمّ سوء أدبهم الشديد، بيّنتُ لهم فيها أن هذه الكلمات التي جهلوها هي من اللغة العربية الفصيحة، وهي مودعة في المعاجم والقواميس، وأن معنى المطلسم: المخفيّ.
ومرادهم بالذات المطلسم: الكنز المكنون.
فكأنه قال: اللهم صلّ على الكنز المكنون.

وبيّنتُ أن هذا معنى لا غبار عليه من جهة الشريعة الغرّاء، إلى آخر ما رآه القراء، فلا داعي للإطالة بتكراره خشية الملل.

وكان الواجب على المنصف أن يعلن للناس أنه كان يجهل تلك المعاني حتّى علّمه الله إياها على يد الفقير، ويعتذر ويتوب من تعجّله بالإنكار فيما لم يحط به خبرًا!

بَيْدَ أن الغرض مرض، والهوى غلّاب، فَهُم وإن انتبه بعض العقلاء منهم فكفّكف من غلوائه، متخليًا عن كبريائه، إلا أن أشقياءهم أوغلوا في الجهل إيغالًا، وأسرفوا في الضلالة إسرافًا، فقفزوا من موضوع الشيخ الشهاوي رضي الله عنه دون اعتذار عن خطئهم في فهمه، وسوء أدبهم معه، وانتقلوا إلى سيّدي ابن عجيبة لأنني نقلتُ جُملةً من كلامه الذي لم يقرأوه ولا سمعوا به قطّ قبل هذا اليوم، وصار كلّ صبيٍّ منهم يلوك الكلام -الذي قرأه أول مرة منذ لحظات- بفمه، ويشرحه بفهمه، كأنما دارسه جبريل فيه، ونفث علمه في فيه!

فلمّا استغربوا بعض عباراته، فتوهّموا منها أنه يجعل النبي صلى الله عليه وسلم جزءًا من ذات الله -عياذًا بالله وتعالى الله علوًا كبيرًا-
سارعوا إلى تكفير الإمام ابن عجيبة رضي الله عنه وأرضاه، الإمام العَلَم الولي مفسّر القرآن الكريم!


وما زال الشيطان يؤز أحمق القوم أزًّا، حتى خرج من تكفير ابن عجيبة إلى تكفير الإمام الجزولي صاحب دلائل الخيرات وتكفير سيدي عبد السلام بن مشيش الوليّ المجمع على ولايته شيخ الإمام أبي الحسن الشاذلي، وتكفير الإمام الدردير إمام الدنيا في زمانه عمود المذهب المالكي وتلميذه الصاوي وغيرهم من كبار كبار أئمة المسلمين.

كلّ هذا من أجل عباراتٍ لم يفهموها من كلام سيدي ابن عجيبة رضي الله عنه وأرضاه!

فكان لابد من حلّ إشكال هذه العبارات، وتبيين بعدها عن ما ظنه أولئك الخوارج من قبيح الآفات، ليحيى من حيّ عن بينة ويهلك من هلك عن بيّنة.

فأقول وبالله أعتضد، فيما أعتمد، وأعتصم، مما يصم:

اعلم رحمك الله ووسع لك الرزق في الفهم أن علماء المسلمين نبّهوا على أن الصوفية لهم تعبيراتٌ مُشكلة، ينبغي التعامل معها بحذرٍ شديد، لأنها مزلّة أقدام، والسلامة معها في الإحجام لا الإقدام.

فهي عبارة باطنها فيها الرحمة وظاهرها من قِبَله العذاب، إذ ظاهرها مُشكلٌ شديدُ الإشكال، غير أن مرادهم منها ومقصودهم بها كالماء العذب الزلال، فمن فهم العبارة على هذا الظاهر المشكل فهو بين خطيئتين، إما أن يقبل هذا الظاهر المشكل فيَضلّ، أو يرفضه فيُضلّلَ قائله.
غير أن الصواب مع تلك العبارات، ليتوخى الباحث طريق الإنصاف، ويتجافى عن سكك الاعتساف؛ اجتناب حملها على ظاهرها، والبحث عن مراد قائلها بها.

يقول ابن القيم رضي الله عنه وأرضاه:

"اعلم أن في لسان القوم -أي الصوفية- من الاستعارات وإطلاق العام وإرادة الخاص، وإطلاق اللفظ وإرادة إشارته دون حقيقة معناه ما ليس في لسان أحدٍ من الطوائف غيرهم، ولهذا يقولون: "نحن أصحاب إشارة ولا أصحاب عبارة" و"الإشارة لنا والعبارة لغيرنا".
وقد يطلقون العبارة التي يطلقها الملحد ويريدون بها معنى لا فساد فيه.
وصار هذا سببا لفتنة طائفتين:
١- ((طائفة تعلقوا عليهم بظاهر عباراتهم فبدعوهم وضللوهم.))
٢- وطائفة: نظروا إلى مقاصدهم ومغزاهم فصوبوا تلك العبارات وصححوا تلك الإشارات".
قلتُ: تأمل - رحمك الله- كيف جعل ابن القيم من كفّرهم وضلّلهم لأنه لم يفهم تلك العبارات = مفتونًا.
كما جعل من صوّب ظاهر تلك العبارات وقبله = مفتونًا أيضًا.

ويقول أيضًا رضي الله عنه:
"والعارفون من القوم أطلقوا هذه الألفاظ ونحوها، وأرادوا بها معاني صحيحة في نفسها فغلط الغالطون في فهم ما أرادوه ونسبوهم إلى إلحادهم وكفرهم".

فهذا تنبيهٌ ينبّهك له ابن القيم، من كون تلك المواطن مشكلة ملغزة، والعجلة فيها مهلكة مفسدة.

من أجل ذلك يقول الإمام الذهبي رضي الله عنه ناقلًا عن بعض شيوخه:
" فإنّ كثيرًا من أحوال المُحِقِّين من الصوفية لا يَفِي بتمييزِ حَقِّه من باطِلِه عِلمُ الفروع.
بل لا بُدَّ مِن معرفةِ القواعدِ الأصولية، والتمييزِ بين الواجبِ والجائز، والمستحيلِ عقلًا، والمستحيلِ عادَةً.
وهو مقامٌ خَطِر، إذ القادِحُ في مُحِقِّ الصُّوفية داخلٌ في حديث: (مَن عادى لي ولِيًّا، فقد بارَزَني بالمُحارَبة).
والتارِكُ لإنكارِ الباطلِ مِمّا سَمِعَه مِن بعضِهم تاركٌ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر."

فانظر التنبيه إلى خطورة ذلك المقام، مما يستلزم أن يُكَف عنه فضلاء العوام، ناهيك عن الجهلة الطغام!
ثم تأمّل حالنا اليوم وقد صار يتصدى للكلام فيه كل معجبٍ بفيه!

والعبارات التي حيّرت هؤلاء المساكين في كلام سيدي ابن عجيبة رضي الله عنه هي قوله:
"وذلك أن الحق جل جلاله كان كنزاً لم يعرف، أي سرًا خفيًا غيبيًا، فلما أراد أن يعرف ((ظهر قبضة من نور ذاته)) سمَّاها محمداً صلى الله عليه وسلم"

فقالوا: إن قوله عن سيدنا محمد إنه قبضة من نور ذات الله = معناه أن سيدنا محمدًا جزءٌ من الإله.
وزاد أحمقهم الطين بلّة فقال كالسكران: وجزء الإله إله!
تعالى الله عن فهمهم العاطل، وعن قولهم الباطل، فإن المسلم لا يقول: جزء الإله إله، بل يقول: الله تعالى منزه عن الأجزاء والأبعاض.

كذلك حيّرهم قول سيدي ابن عجيبة رضي الله عنه:
"وهو عين الذات في مقام الجمع، فالقبضة المحمدية لما كانت من عين الذات؛ أطلق عليها الذات"

فقالوا: هذا توكيد لما فهمناه أنه ومعه شيخ الإسلام الدردير يجعلون النبي صلى الله عليه وسلم هو الله، أو جزءًا من الله -عياذًا بالله وتعالى الله عن جميع ذلك علوًا كبيرًا!-

ولو أن الواحد من هؤلاء المساكين علم قدر نفسه، لقال: أنا الذي كنتُ منذُ سويعات قليلة لا أعلم أن كلمة "مطلسم" كلمة عربية لها معنى مذكور في المعاجم ومستعمل في الشعر، وكنت أظنها من نفث هاروت وماروت ومن همهمات الجنّ حتى ظهر جهلي باللغة وألفاظها، فربّتما أخطأت كذلك في فهم كلام ابن عجيبة لا سيما وقد نبه ابن القيم والذهبي وغيرهما أن عبارات القوم مشكلة صعبة وعرة لا تفهم بنظرٍ قاصر!

لكن الجاهل مغرور، يحسب نفسه قد حوى بين جنبيه علم الأولين والآخرين، فلمّا قرأ جهلاؤهم هذه العبارات سارعوا إلى تكفير قائلها، بل وتكفير كل من ذكر كلمة "القبضة المحمدية" شأنهم شأن أجدادهم من الخوارج الأُوَل، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

ورُقية شيطان جهلهم هذه المرة في ما يلي:

[١]
اعلم أن قول الإمام ابن عجيبة:
"وذلك أن الحق جل جلاله كان كنزاً لم يعرف ،اى سراً خفياً غيبياً ، فلما أراد أن يعرف ظهر قبضة من نور ذاته سمَّاها محمداً صلى الله عليه وسلم"

لو قصد به ما فهموه من أن النبي صلى الله عليه وسلم جزءٌ من ذات الله تعالى؛ فهو كفرٌ لا مرية فيه، وقائله كافر خارج من ملة المسلمين.

لكن معاذ الله أن يقصد هذا العالم الجليل هذا الفهمَ السقيم.

وإنما دخلت عليهم الشبهة من جهلهم معاني الإضافة!

فالإضافة منها ما يكون على معنى "مِن"
تقول: خاتمُ حديد. أي: خاتمٌ من حديد.

ومنها ما يكون على معنى "اللام" أي لام الاختصاص.
تقول: غلامُ زيد. أي: غلامٌ لزيد.

فلما قرأ صبيانهم قول ابن عجيبة رضي الله عنه: قبضة من نور ذاته.
ظنوا إضافة "نور" لـ "ذات" على معنى: "من"
فيكون المعنى: نورٌ مِنَ الذات! وفهموا أيضًا أن "من" هنا للتبعيض، فيكون المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم نورٌ من بعض ذات الله! عياذًا بالله!

وكلّ ذلك لم يكن!

بل الإضافة هنا على معنى: اللام.
فيكون المعنى: نورٌ للذات.
ظهر قبضةً من نورٍ لذاته سبحانه وتعالى.

كما تقول: غلامٌ لزيد. أي: غلامٌ يختصّ بزيد.
فكذلك: نورٌ لذات الله.
والإضافة هنا للتشريف.
ومنه قول الحقّ جل جلاله: "هذه ناقةُ الله لكم آية"
فليس المعنى: ناقةٌ من بعضِ الله، فتكون الناقة جزءًا من الله عياذًا بالله!
بل المعنى: ناقةٌ لله. والإضافة لتشريف الناقة.

فقول ابن عجيبة: "نور ذاته".
كقول الله تعالى: "ناقة الله" و"بيت الله" و"نفخت فيه من روحي"
فهل يقال إن الله تعالى خلق آدم جزءًا منه لأنه خلقه من روحه؟!
أعوذ بالله!

يقول الرازي رحمه الله:
"وإنما أضاف الله سبحانه روح آدم إلى نفسه تشريفًا له وتكريما"

ويقول الطاهر بن عاشور رحمه الله:
"وإسناد النفخ وإضافة الروح إلى ضمير اسم الجلالة تنويه بهذا المخلوق"
فكذلك نقول:
إضافة النور إلى ذات الله تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وتكريم له.

فقوله: من نور ذاته.
أي: من نورٍ لذاته.

كقوله تعالى: من روحي
أي: من روحٍ لي.

وكل ذلك للتشريف، لا للقول بأن شيئًا من هذا جزء من الله تعالى.

فاقرأ الآن عبارة ابن عجيبة مرة أخرى بعينٍ غير تلك العين العمياء التي قرأوا بها، وفهم غير ذلك الفهم السقيم الذي فهموا به، يقول:
"وذلك أن الحق جل جلاله كان كنزاً لم يعرف، أي سراً خفياً غيبياً، فلما أراد أن يعرف ظهر قبضة من نور ذاته سمَّاها محمداً صلى الله عليه وسلم"

فهل بقي من إشكال؟ وهل جاوز تعبيره تعبير القرآن عن سيدنا آدم؟ اللهم لا.

[٢]
أما قوله رضي الله عنه:

"وهو عين الذات في مقام الجمع، فالقبضة المحمدية لما كانت من عين الذات أطلق عليها الذات"

فسبب إشكاله على أفراخ الخوارج هؤلاء جهلهم بعلوم اللغة أولًا، وغفلتهم عن قوله "في مقام الجمع" ثانيًا إذ هو من اصطلاحات الصوفية التي لا يفهمون معناها.

أما مقام الجمع فالمراد به ما يعبرون عنه بالفناء، أو ما يعبرون عنه أحيانًا بالمحو.
يقابله مقام الفرق، أو الصحو.

وكل هذه الألفاظ موضوعة لتصف شعورًا يصل إليه الذاكر عند الاستغراق في ذكره، لا لتصف حقائق الموجودات على ما هي عليه.

فالذاكر إذا استغرق في الذكر واندمج معه اندماجًا شديدًا قد يتغلب عليه شعورٌ اسمه: الفناء.
حيث يشعر أنه ليس موجودًا، وأنه لا أحد موجود إلا الله، فيحسب في هذا اللحظات أن كل شيء هو الله.
فهذا هو مقام الجمع، أي: شعور الجمع.

فإذا أفاق من هذا الشعور الذي استغرق فيه؛ انتبه مرة أخرى للحقيقة وهي أن وجوده شيء غير وجود الله تعالى، فالله سبحانه وتعالى الرب الخالق المالك المدبر، وهو العبد المفتقر المحتاج. وهذا مقام الصحوّ، أو الفرق. أي: شعور الفرق.

كلّ هذا كما ترى ليس متعلقًا بحقيقة الله تعالى وحقيقة المخلوقات، بل هو متعلّقٌ بشعورٍ يمرّ بالذاكر أحيانًا عند الاستغراق الشديد في ذكره.

هذا الشعور يصفه ابن القيم رضي الله عنه بقوله:
"والفناء الذي يشير إليه القوم، ويعملون عليه: أن تذهب المحدثات في شهود العبد، وتغيب في أفق العدم، كما كانت قبل أن توجد، ويبقى الحق تعالى كما لم يزل، ثم تغيب صورة المشاهد ورسمه أيضا، فلا يبقى له صورة ولا رسم، ثم يغيب شهوده أيضا، فلا يبقى له شهود، ويصير الحق هو الذي يشاهد نفسه بنفسه، كما كان الأمر قبل إيجاد المكونات، وحقيقته: أن يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل."

ثم يقول بعدما يبين الفهم السليم لهذا المقام ويحذر من فهم أهل الاتحاد:
"وحاشا شيخ الإسلام -يعني الهروي- من إلحاد أهل الاتحاد، وإن كانت عبارته موهمة، بل مفهمة ذلك، وإنما أراد بالجحد في الشهود، لا في الوجود، أي يجحده أن يكون مشهودا ، فيجحد وجوده الشهودي العلمي، لا وجوده العيني الخارجي" ا.هـ

فتأمل كلامه لتعرف أولًا:
- أنه يثبت مقام الجمع الذي يغيب فيه الذاكر عن الشعور بكلّ ما سوى الله، حتى يشعر أن كل وجود هو الله، فإذا شاهد الذاكرُ الله بقلبه يشعر في هذا المقام أن الله هو الذي يشاهد نفسه بنفسه.

ولتعرف ثانيًا:
أنه لما رأى كلام الهروي موهمًا بل مفهمًا لكلام أهل الاتحاد؛ لم يكفّره بذلك، بل أوّل عبارته ليكون معناها هو المعنى الصحيح الذي ذكرته لك، وهو أن يكون شعورا داخل قلب الذاكر في هذا الوقت، وليس اعتقادًا أن الله هو هو المخلوق على الحقيقة.

وقارن حسن ظنه والتماسه العذر وتأويله العبارة على وجه مقبول بفعل أولئك الصبية الخوارج لما سارعوا بجهلهم لتكفير الإمام ابن عجيبة رضي الله عنه ومعه الجزولي وابن مشيش والدردير وغيرهم لعبارات مُشكلةٍ لم يفهموها على وجهها!

عودًا على بدء..
يقول ابن عجيبة:
"وهو عين الذات في مقام الجمع، فالقبضة المحمدية لما كانت من عين الذات أطلق عليها الذات"

فهل قال إن النبي صلى الله عليه وسلم هو عين ذات الله في الحقيقة وفي الوجود الخارجي هذا؟! وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو هو الله في الحقيقة؟!
أو قال: في مقام الجمع؟!

يعني: هو عين الذات في الشعور الذي يعتري الذاكر أحيانًا عندما يستغرق في الذكر ويندمج معه اندماجًا شديدًا، فإذا أفاق من هذا الشعور وهذا الاستغراق انتبه لحقيقة الوجود الخارجي وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس عين ذات، بل هو شيء غير ذات الله في الحقيقة، والمخلوق غير الخالق جلّ جلاله، فالعبد عبدٌ والربّ ربٌّ سبحانه وتعالى، لكل منهما وجود يليق به، فوجود الله وجود استغناء الرب الجليل العظيم، ووجود المخلوق وجود افتقار العبد الذليل لمولاه سبحانه.

فانظر كيف قاد جهلُ هؤلاء باصطلاحات الصوفية إلى غفلتهم عن هذا القيد المؤثر "في مقام الجمع" ثم تكفيرهم الإمام رضي الله عنه بسبب جهلهم!

كذلك ففي قوله:
"وهو عين الذات في مقام الجمع"
تشبيه بليغ، حذف أداة التشبيه ووجه الشبه.
والأصل: وهو كعين الذات في مقام الجمع.

ثم في قوله:
"فالقبضة المحمدية لما كانت من عين الذات"
(من) هنا الابتداء، وليست للتبعيض.
كما تقول: هذه صدقةٌ مني إليك.

أو أنها بمعنى الباء، فالمراد: لما كانت بعين الذات.
أي: مخلوقة مباشرةً بذات الله تعالى لأول وهلة، دون أن تنتقل من كونها مخلوقًا إلى كونها مخلوقًا آخر.
فليست كالسماء مثلًا كانت دخانًا ثم خلق من الدخان السماء.
ولا كجسد سيدنا آدم مثلًا خلق من طين.

بل هذه القبضة النورانية خلقها الله تعالى خلقًا مباشرًا بذاته من العدم دون توسط مادة كالطين والدخان ونحو ذلك.

وقوله:
"أطلق عليها الذات"
أي: على سبيل المجاز المرسل الذي علاقته السببية، فيطلق لفظ السبب وهو "الذات" ويريد المسبَّب وهو "المخلوق بالذات"

تقول العرب: "رعت الإبلُ الغيث."
والإبل لا ترعى الغيث بل ترعى العشب، لكن لما كان الغيث سببًا في إنبات العشب أطلق السبب وهو الغيث وأراد المسبَّب وهو العشب.

فهذا معنى قول ابن عجيبة:
"فالقبضة المحمدية لما كانت من عين الذات أطلق عليها الذات"
أي:
لما كانت بسبب عين الذات أطلق عليها الذات من باب إطلاق السبب وإرادة المسبَّب.

[٣]
وهناك موضع آخر مشكل أيضًا، يقول فيه ابن عجيبة رضي الله عنه:

"أظهر بقدرته قبضةً من نوره الأزلي"

وقد أشكل عليهم قوله: الأزلي.
كيف يكون النور مخلوقًا وإضافته إضافة تشريف وهو هنا يقول النور الأزلي؟

والجواب أن مراده بالنور هنا غير مراده بالنور في التعبير الأول، فالنور هنا هو الذات، و"من" ليست بمعنى التبعيض، بل هي بمعنى: الباء.
فيكون المعنى: أظهر بقدرته قبضةً بذاته.

لأن "من" هنا بمعنى الباء.
وإضافة النور إلى الضمير الذي مرجعه ذات الله تعالى هي إضافة بيانية.
أي: نورٌ هو ذات الله.

فيكون المعنى:
أظهر بقدرته قبضةً بذاته الأزلية.

وهذا الذي قلتُه ليس تعسّفًا ولا تخمينًا ولا ظنًّا، بل هو منصوص الأئمة رضوان الله عليهم الذين كفّرهم هؤلاء الجهلة!

يقول الإمام الدردير رضي الله عنه عمود المذهب المالكي وإمام الدنيا في عصره:

"فقبض قبضةً من نوره؛ أي: بذاته فـ(مِن) بمعنى: الباء ، والنور بمعنى: الذات، والاضافه للبيان، والمراد:
أبرزَه بقدرته من غير واسطةِ مادّةٍ، وهذا المقبوض.. هو المسمى بالنور المحمدي، وبروح الأرواح، وبالسر المحمدي، وبعرش الله الأكبر، وبآدم الأول، وبالأب الأكبر، وبالإنسان الكامل"

والدليل القاطع على أن ابن عجيبة لا يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم جزءٌ من الله، أنه لو كان جزءًا من الله تعالى -وحاشا الله أن يتجزأ- لكان قديمًا واجب الوجود غير مخلوق.
والقدرة لا تتعلق بواجب الوجود ولا مستحيل الوجود كما هو معلوم للمبتدئين في علم العقيدة، بل تتعلق بالممكنات.
فقول ابن عجيبة: "أظهر بقدرته قبضة" قاطعٌ في أنه يرى هذه القبضة مخلوقة، ولو كانت جزءًا من الله لما كانت مخلوقة فلما جاز أن تتعلق بالقدرة. فهذا أوضح دليل على فساد فهم أولئك الصبية التكفيريين.

وقد ضحكت ملء فمي وأنا أقرأ لأخفّهم عقلًا منشورًا كتب فيه: إن الإمام الدردير لا يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه مخلوق لأنه يعتقده جزءًا من الله غير مخلوق!

فسبحان الذي وزّع العقول على خلقه كيف شاء! أيدري هذا الجاهل السكران ماذا يقول؟!

ألم تقرأ أيها التكفيري قول الإمام الدردير في النبي صلى الله عليه وسلم:
"وَاسِطَةِ عِقْدِ النَّبِيِّينَ وَمُقَدِّمِ جَيْشِ الْمُرْسَلِينَ وَقَائِدِ رَكْبِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُكْرَمِينَ وَأَفْضَلِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ"

فنصّ على أنه أفضل الخلق أجمعين.

فكيف تزعم أنه لا يجعل النبي صلى الله عليه وسلم مخلوقًا لأنه يعتقده جزءًا من الله؟! ثم تكفره بهذه الأوهام والخيالات؟!

ولعمري لو أن قاضيًا قرأ هذا الكلام فاعتبره دليلًا قاطعًا على أن كاتبه كان يعاقر الخمر قبل كتابته فأخذه من قفاه وأقام عليه الحدّ لما كان ملومًا ولا مذموما!

———————-

وختامًا فقد تبيّن لك وجهُ كلام الإمام ابن عجيبة ومعه الإمام الدردير والإمام الصاوي وجميع العلماء الذين كفرهم الأشقياء، مما نصّ عليه الدردير بنفسه نصًّا، لا مما تخيّلناه وتكلّفناه لهم.
ولم نحتج في تفسير هذا الكلام إلى شيء غير العلم بلغة العرب ومعاني حروف الجر، والعلم باصطلاح الصوفية لكلمة "مقام الجمع" مما نقلناه عن ابن القيم رضي الله عنه.

ولعلك قد علمت بعد هذه الرحلة الدسمة لمَ قال ابن القيم رضي الله عنه:
"والعارفون من القوم أطلقوا هذه الألفاظ ونحوها، وأرادوا بها معاني صحيحة في نفسها فغلط الغالطون في فهم ما أرادوه ونسبوهم إلى إلحادهم وكفرهم"

وإن الجهل باللغة العربية وطرائقها، والجهل باصطلاح الصوفية الذين نتعرض لكلامهم، هو الذي أوقع هؤلاء السفهاء في تكفير الإمام ابن عجيبة، وجعل أرذلهم ينفعل حتى كفّر معه سبعين وليًا من الأولياء وعالمًا من العلماء دون أن يغمض له جفن!
فجعل ينشر منشورات تلو المنشورات بطريقة هستيرية يحسب نفسه وقع على كنز، وما وقع المُسَيكين إلا على عنقه فدقّها لما عادى أولياء الله بجهله!
فليته اتّعظ بوعظ الذهبي لما قال: "وهو مقامٌ خَطِر، إذ القادِحُ في مُحِقِّ الصُّوفية داخلٌ في حديث: (مَن عادى لي ولِيًّا، فقد بارَزَني بالمُحارَبة)."

رزقنا الله وإياكم العلم بحقيقة أنفسنا، والوقوف عند حدّها، حتى لا نرهق بتبعة ولا معتبة.

وصلى الله وسلم على من منه انشقت الأسرار وانفلقت الأنوار صلاة دائمةً دوام الليل والنهار وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار والحمد لله رب العالمين.

الحسن البخاري جزاه الله خيرا
الكيف على الله مستحيل والمقولة التي نسبت للإمام مالك رحمه الله:" والكيف مجهول" لا تصح عنه ولا عن غيره البتة. فعلى الذين استمروا الاستشهاد بمقولة: "والكيف مجهول" ان يعلموا انه يستحيل قولهم في حق الله تعالى لأن ظاهر هذه العبارة موهم للتشبيه، ولا يجوز لهم التمسك بعبارة مروية لا تصح. فالله تعالى لا يعقل له كيف، لأن في الكيف مشابهة وقد أفتى أهل العلم بتحريم الكلام في مثل هذه الأمور.. قال الإمام النووي:(676ه‍):«ويا ليت شعري ما الذي جمع اهل السنة والحق كلهم على وجوب الإمساك عن الفكر في الذات كما أمروا وسكتوا لحيرة العقل، واتفقوا على تحريم التكييف والتشكيل وأن ذلك من وقوفهم وإمساكهم غير شاك في الوجود والموجود، وغير قادح في التوحيد بل هو حقيقته ثم تسامح بعضهم بإثبات الجهة خاشيا من مثل هذا التسامح وهل بين التكييف وإثبات الجهات فرق»..( المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج. 25/5)
_فالتكييف مستحيل عليه تعالى وممتنع بالإجماع، لكن من يدعون السلفية يصرحون بأن لله تعالى كيفا إلا أن كيفه مجهول لديهم. والقول بالتكييف مجهول مدخل واسع للتشبيه والتجسيم، ولذلك وجدنا السلف الصالح يجري الالفاظ المهمه لتشبيه على ظاهر لفظها، لا على ظاهر معناها كما يزعم مدعوا السلفية. والإيمان بها على طريق الإجمال مع تنزيه الله تعالى عن الكيفية والتشبيه. وقد نقله الإمام البيهقي وغيره من الأئمه الأربعة والسفيانين،( سفيان الثوري161ه‍.و سفيان بن ه‍) والحمادين( حماد بن سلمة 167 ه‍. وحماد بن زيد 179ه‍،) والاوزاعي157ه‍.. والليث وغيرهم كثير....
. فكيف ومن أين علم من يدعون السلفية بأن لله تعالى كيف. ونظن أننا منزهين حين حينما نقول أننا نجهل كنه الذات، بل يجب أن ننفي عن الله عز وجل المعنى الظاهر، ولا نتفكر في ذات الخالق، لأن التفكر في الذات عبث ومهلكة وطلب للاكتناه، وهو مستحيل على العقل البشري، فكل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك.« ليس كمثله شيء وهو السميع البصير»، فللعقل البشري حدود إذا جاوزها عجز وضل.
قال الإمام السيوطي: ( واعلم انه لا سبيل لك الى معرفة إياك كما إياك، فكيف لك السبيل الى معرفة إياه كما إياه؟؟ فكأنه في قوله"من عرف نفسه عرف ربه" علق المستحيل. لأنه مستحيل أن تعرف نفسك وكيفيتها وكميتها..
فإنك إذا كنت لا تطيق بأن تصف نفسك التي هي بين جنبيك بكيفية وأينية ولا بسجية ولا هيكلية ولا هي بمرئية، فكيف يليق بعبوديتك أن تصف الربوبية بكيف وأين وهو مقدس عن الكيف والأين).
قال ابو حامد الغزالي رحمه الله تعالى:
هو لا كيف ولا اين له.... وهو رب الكيف والكيف يحول.
وهو فوق الفوق لا فوق له.... وهو في كل النواحي لا يزول.
جل ذاتا وصفاتا وسما... وتعالى قدره عما تقول.
(الحاوي للفتاوى).
والله هو الكلام عن الشيخ ابن عربي ليس بجديد، ولا أحد أصلًا يتبنى معتقد الوحدة المطلقة بين الخالق والمخلوق من أتباعه ممن نعلمهم، والكل متفق على بطلان ظواهر هذا الكلام الموجود في الفصوص، وإنما الخلاف -والذي يتفرع عنه خلاف العلماء فيه- إلى نسبة الرمزية إليه، فمن قال أنه كان يكتب كتابةً رمزية تأول له، ومن هؤلاء الشيخ عبد الغني النابلسي في شرح الفصوص، ومن نسب إليه الظاهر فهو أحد اثنين، إما قائل بالدس، وهي دعوى اشتهرت لدى الإمام الشعراني، أو ينسب له بلا دس ولا رمزية وهؤلاء كفروه، ولكن هؤلاء العلماء بسائر أصنافهم عملوا بمقتضى تكليفهم الفقهي والعلمي، فلم ينشروا المسألة للعامة يلعبون فيها بأسماء العلماء وينزلونهم مقام الرعاع، لكن في زمن الفسقة توقع كل شيء.
منقول بنصه
مختصر الكلام حول صفة الكلام: ✍🏻
مسألة الكلام قد اضطربت أقوال العلماء فيها وهي صعبة المسالك بعيدة المدارك، ولذلك كثرت فيها المقالات وعظمت فيها الجهالات. حتى قيل: إنما سمي علم العقائد بعلم الكلام لأن مسألة الكلام أشهر مباحثه وأكثرها نزاعا وجدالا.
✍🏻 ذهب السادة الأشاعرة والماتريدية إلى أن كلام الله تعالى القديم القائم بذاته تعالى هو الكلام النفسي المعبر عنه بالعبارة او الكتابة أو الإشارة ليس بحرف ولا صوت، وهو به آمر ناه مخبر منزها عن التقدم والتأخر والإعراب والبناء منافيا للسكوت والعجز والآفة والخرس والطفولية وأما الكلام اللفظي الحادث فهو أصوات، وحروف غير قائمة بذاته تعالى.(الغزالي~ الاقتصاد في علم الاعتقاد صفحه 74)
✍🏻 اتفق أبو الحسن الأشعري مع ابن كلاب ان كلام الله تعالى أزلي قائم به، لكن اختلفوا في وصفه في الأزل، بكونه أمرا ونهيا ومخاطبة وتكلما.
قال الإمام الآمدي رحمه الله تعالى:«لكن اختلفوا في وصف الكلام لله تعالى في الأزل بكونه أمرا ونهيا ومخاطبة وتكلما»
فأثبت ذلك الشيخ أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى، ونفاه الإمام ابن عبد الله بن سعيد بن كلاب وطائفة كثيرة من المتقدمين مع اتفاقهم على وصفه تعالى بذلك فيما لا يزال.
(الآمدي- أبكار الأفكار- جزء01.. صفحه 265).
ومما نقله الاشعري عن ابن كلاب أنه قال:
«إن الله لم يزل متكلما والكلام من صفات النفس كالعلم والقدرة»(الأشعري~ مقالات الإسلاميين جزء02.. صفحه 380).
وقوله:«ان كلامه قائم به كما أن العلم قائم به والقدرة قائمة به».(الأشعري~ مقالات الإسلاميين.. جزء02.. صفحه 421).
✍🏻 إذن كلام الله تعالى عند ابن كلاب هو معنى قائم بالنفس يعبر عنه بالحروف..(الأشعري مقالات الإسلاميين جزء02.. صفحه 432).
ورأت المعتزلة أن كلام الله تعالى هي أصوات وحروف حادثة يخلقها الله تعالى في غيره، وهي غير قائمة بذاته..
(البيجوري.. تحفة المريد.. صفحه 71- القاضي عبد الجبار.. شرح الأصول الخمسة… صفحة 357).

✍🏻عرَّف أهل السنة والجماعة أن الكلام هو صفه أزلية قائمة بذاته تعالى، وهي المعنى القديم القائم بالذات المعبر عنه بالعبارات المختلفات المباين لجنس الحروف والأصوات المنزّه عن البعض والكل والتقديم والتأخير والسكوت واللحن والإعراب والزيادة والنقصان وسائر التغيرات لاختصاص ذلك بالحروف، ولو كانت الحروف في كلامه لكان أبكم. لأن الناطق بالحروف في حال نطقه به أبكم عن غيره من الحروف، وذلك لا يكون إلا للحادث، والعبارات المختلفات كالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان وهي مختلفة العبارة لكن مدلولها واحد، والمعنى الأزلي القائم بذاته تعالى، وإنما اختلفت أسماؤها بحسب اللغات التي نزلت بها، فإن نزل ذلك المعنى بلغة العرب سمي فرقانا وقرآنا وذكرا، وإن نزل بلغة العبرانية سمي توراةً،وإن نزل بلغة داود سمي زبورا..وليست هذه العبارة عين كلامه بل دالة عليه لأنها بالحروف والأصوات، ولا شك في حدوثهما لأنهما من خواص الحوادث..
✍🏻 كما قال أبو الحجاج الضريري في عقيدته:
قراءة الخلق الصفات لهم...فواجب حدوثها مثلهم.
وقوله المقروء من صفاته... فواجب قدمه كذاته.
وهذه الحروف والأصوات... دلائل عليه موضوعات.
✍🏻 والمراد بقوله تعالى: «وما يأتيهم من ذكر من ربهم محدثٍ».. أنه محدث الإتيان لا محدث العين. فحدث علمه عندهم حيث سمعوه. كما تقول: حدث اليوم عندنا ضيف. ومعلوم أنه موجود قبل أن يأتي، فله الحدوث من وجه والقدم من وجه.(ذكره في اليواقيت)..
✍🏻ونقل عن الإمام علي الخواص في تفسير قوله تعالى: «والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمئان ماء..» وليس هو بالماء. كذلك حكم من يسمع كلام الله يحسبه بحرف وصوت، وليس في نفس الأمر بصوت ولا حرف، فكما أن الظمآن إذا جاء السراب لم يجده ماء كما كان يظن، كذلك من سمع كلام الله بصوت او حرف اذا كُشف عنه الغطاء لم يجده بحرف ولا بصوت كما سمعه.
(حاشية الدسوقي …صفحه 115).
✍🏻 فاعلم أن صفة كلامه عز وجل قديمة واجبة القدم والبقاء، متعلقة بجميع ما تعلق به العلم، وكنهه محجوب عن العقل إذ لا مثل له لا عقليا ولا وهميا ولا خياليا ولا موجودا ولا مقدرا، وذلك كذات العلية، وسائر صفاته السنية، ويستحيل ان يحل في شيء من ولا غيرها لاستحالة مفارقته للذات ولسلامته من الحروف وسائر ما تقدم، لكن لما كانت حروف القرآن دالة على كلامه تعالى أطلق عليه أنه كلام الله من باب تسمية الدال باسم المدلول.
وذلك كقول عائشة رضي الله عنها:«ما بين دفتي المصحف كلام الله»..(أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن).
فهو موجود في الدال عليه وكتلاوة اللسان وكلام الجنان وكتابة البنان فهما وعلما، لا حلولا.. لأن الشيء له وجودات أربع. "وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان ووجود في اللسان ووجود في البنان."..
2024/11/06 01:33:56
Back to Top
HTML Embed Code: