Telegram Web Link
" بهذا أصبحَ نبيُّ الله إبراهيم خليلَ الرحمن "

الأنبياءُ أكرمُ الخلق على الله وأقربُهم إليه سبحانه وتعالى، ولو اجتمع الخلقُ جميعًا بأوليائهم وصالحيهم ما بلغوا درجة النبوة، فهم الذين اصطفاهم الله واختارهم لنفسه واصطنعهم على عينه {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} وهم الذين أنعم الله عليهم بالنبوة والرسالة دون غيرهم {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا } وقد جعل الله من إيماننا به أن نؤمن بكل الأنبياء دون أن نفرق بين أحدٍ منهم وقال الله ذلك على لسان المؤمنين الصادقين {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} وأخبرنا الله في كتابه أن الذين يفرقون بينه وبين رسله بأن لهم عذابًا مهينًا {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} أمَّا الذين آمنوا {بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}.
فضَّل اللهُ بعضَهم على بعض:
ومع إيماننا بهم جميعًا دون تفرقة غير أننا كذلك نؤمن بأن الله رفع بعضَهم فوقَ بعضٍ درجات، وفضَّل بعضَهم على بعضٍ فقالَ {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} فقد اصطفى من الأنبياء الرسل، ومن الرسل أولي العزم، ومن أولي العزم سيدنا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فعَن وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ" رواه مسلم في صحيحه: 2276
أمرٌ عامٌّ بالاقتداء بالأنبياء، وآخرُ خاصٌّ لإبراهيم:
في القرآن الكريم أمر الله المؤمنين أن يتأسَوا بالأنبياء جميعًا -وهم أهلٌ لذلك- فبعدما ذكر في سورة الأنعام: "إِبْرَاهِيمَ، وإِسْحَاقَ، ونُوحًا، ودَاوُودَ، وَسُلَيْمَانَ، وَأَيُّوبَ، وَيُوسُفَ، وَمُوسَى، وَهَارُونَ، وَزَكَرِيَّا، وَيَحْيَى، وَعِيسَى، وَإِلْيَاسَ، وَإِسْمَاعِيلَ، وَالْيَسَعَ، وَيُونُسَ، وَلُوطًا" قال {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وهذا أمرٌ عام بالاقتداء بهم، غير أن هناك نبيين جاء في حقهما أمرٌ خاص؛ وهما نبي الله يونس والآخر إبراهيم -عليهما السلام- أما نبي الله يونس فقد نُهِي النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكون مثله في موقفه من ترك قومه دون أذنٍ من الله، قال الله سبحانه {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} أما نبي الله إبراهيم -عليه السلام- فقد جاء الأمر الخاص بالاقتداء به لنبينا محمد -صلى الله عليهما وسلم- فقال {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
ولكن بماذا أصبح إبراهيمُ خليلَ الرحمن؟
إن الناظر في سيرة نبي الله إبراهيم -عليه السلام- يجدُ عجبًا، حيث الهمةُ العالية والعزيمةُ الصادقة والإرادةُ القوية، فمنذ صغره ويوم أن قال عنه القائلون {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} وهو واقف بكل فتوة الشباب أمام الطغاة والمستبدين من قومه وبما فيهم أبيه، حيث ما تواني أن يجهر بالتوحيد والبراءة من الأوثان والأنداد وكل ما يعبد من دون الله -وقد كان وحده- دون نصير، وكان صلبًا في الحق قويًّا في الدعوة واضحًا في الدعوة فقال {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.
1. جهرَ بالدعوة ولم يَعبأ بما يكون، ووقف أمام الطغاة والمستبدين ممن نُكست فطرتهم وتدنست عقولهم، وجهر أمامهم بأنهم عدوٌ لكل هذه الأصنام والأنداد، وأنه لا يوالي إلا الله ولو كان ما كان، وبدون رحمة اجتمع الطغاة وقرروا أن يحرقوه في النار، وعرَّوه من ملابسه ليكون أول من عُرِّيَ في سبيل الله ثم أُلقي في النار وهو يردد: "حُسْبُنا اللهُ ونِعمَ الوَكِيل" فكان الله له نعم الحسيب والوكيل وعلى الفور قال الله "يَا نَارُ كُونِي بَردًا وسَلَامًا عَلَى إبرَاهِيم".
2. وقف أمامَ الظالم مُحاجِجًا بكل قوة، ولم يخف من جبروت الظالم ولا من طغيان الزبانية بل جادل عن الله بكل قوة، ودافع عن عقيدته بكل جرأة، وصرخ في وجه الظالم وفي وجه كل ظالم {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}
3. أُمرَ بتركِ الأهل بوادٍ غير ذي زرعٍ ففعلَ، ولم يتردد بل مضى حين أمره الله أن يأخذ زوجته وولدَها الصغير ليجعلهما هناك في وادٍ غير زرعٍ -حياة- وليعود قافلًا وهو يناجي ربَّه بقلبه قائلًا {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} وعاد قافلًا إلى حيث أمره الله، ولم يعبأ بترك زوجته وولده في هذه الصحراء القاحلة التي لا جنَّ فيها ولا إنس، وزوجته المسكينة تقول له "آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ فيقُولُ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذًا لَا يُضَيِّعُنَا".
4. أمرَ بذبح الولد -مهجة القلب- فاستعد، وهذا وربِّ الكعبة هو البلاء المبين، حيث أُوري إبراهيم في منامه أنه يذبح ولده بنفسه، ويتكرر المشهد معه كلما نام؛ فهو يقول {إنِّي أَرَى} ولم يقل إني رأيت وفقط، والأمر أصعب من أن يتصور، غير أن المأمور هنا إبراهيم وليس غيره {افْعَلْ مَا تُؤْمَرْ} هو إذًا العبد المأمور واللهُ هو الآمر سبحانه وتعالى، وما كان من إبراهيم إلا أن استجاب هو وولده إسماعيل {أَسْلَمَا} فنزع عن ولده القميصَ، ثم قيَّد يديه، وشحذَ سكينه، وتلَّ ولده للجبين معلنًا استعداده التام لتنفيذ أمر به؛ فهو الذي {جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.

وأخيرًا ...
بعد كل ما سبق أمر الله نبينَا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قائلًا {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} ذلك لأنه أمَّة وحده {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وامتد الأمر لنا كأمة مسلمة {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} وعلى إثر هذه التضحيات الجسام التي تقدم بها نبي الله إبراهيم -عليه السلام- قال الله {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} وتخليدًا لذكراه وإبقاءً لذكره ولكي يجعل له لسان {صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} أُمرنا في الصلاة أن نقول دومًا: "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ".

فهل عرفتم الآن كيف أصبح النبيُّ إبراهيمُ خليلَ الرحمن؟

بقلم :
أ. د. وائل الزُرد
🌾🌿
وهل يجب أن أكون فقيرًا
اختلطتْ بعضُ المفاهيم لدى شرائح كبيرة من أبناء المسلمين، ومنها مفهوم: الغنى والفقر، وأعتقد أن بعضًا من الدعاء والعلماء -للأسف- ساهم بقصدٍ أو بغير قصدٍ في هذا الاختلاط البغيض بين المفاهيم، وفي المسألة التي نحن بصددها واجهت كثيرًا من الشباب -خاصة الملتزم- ينكرون على الأغنياء غناهم ويتندرون عليهم ببعض النصوص التي تُساق لهم فيسقونها في غير موضعها، مستشهدين بها على أهل اليسر والخير...
وأصبح هذا الفريق من الشباب لا يعرف عن الدنيا والمال والغِنى إلا الآيات الذَّامة للدنيا والأحاديث المحذرة من المال والعبارات المُخوفة من الغِنى، وكأنه واجبٌ علينا أن نعيش فقراء عالةً على غيرنا، فـــ "الدنيا ملعونةٌ ملعونٌ ما فيها" و "الدنيا جيفةٌ وطلابُها الكلابُ" و "لا يملأ فمَ ابن آدم إلا التراب" و "إن من أموالكم وأولادكم عدوٌ لكم فاحذروهم" إلى غير ذلك مما يُساق من آيات وأحاديث لذم الدنيا والحياة بالجملة ودون تفصيل، وكأن الله خلقنا لنعيش فقراء عالةً على غيرنا محتاجين، نأخذ ولا نعطي، نصبر ولا نشكر، خُلقنا لنموت لا لنحيا، والمطلوب منا بعد الخلق: أن نبقى ملازمين لسجادة الصلاة ومسبحة الذكر، ولندع الدنيا لغيرنا ونحن يكفينا أروقة المساجد أو زوايا الزوايا !!
وينسى هذا الفريق من الشباب عن قصد أو عن جهل عشرات من الصحابة والتابعين الذين كانوا أغنياء أصحاب أموال لا تُعد ولا تُحصى، خدموا الإسلام أكثر من آلاف من غيرهم، كان في مقدمة هؤلاء كبار الصحابة: أبو بكر، عثمان، عبد الرحمن وغيرهم كثير، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حق أبي بكر: "مَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ، مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ" وقال بعد إنفاق ضخمٍ من عثمان: "مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذَا أَبَدًا" وقال في حق عبد الرحمن بن عوف: "لَمْ يَمُتْ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَؤُمَّهُ رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِهِ" فكان عبد الرحمن بن عوف، وقال عنه: "سَقَى اللَّهُ ابْنَ عَوْفٍ مِنْ سَلْسَبِيلِ الْجَنَّةِ" وهو الذي اقتسم ورثته ميراثه بعد موته بالفؤوس لكثرة ما ترك.
للأسف الشديد: إن أكبر المآسي التي ابتُليت بها الأمة "قلة الفهم" وأحيانًا تكون هذه المأساة مع كثرة الحفظ، فإذا استقر في أذهان بعضٍ من هؤلاء أمرٌ ما فإنه ربما تزول السموات ولا يزول ما في رؤوسهم -إلا أن يشاء الله- ولو وُجهوا بنصوص أخرى غير التي في رأسهم -وكأنهم يسمعونها أول مرة- يسارعون في تأويلها وصرفها عن ظاهرها، وعمليًا يرددون ما كان يقول المقلدون الأوائل من جهلة هذه الأمة: "كل دليل يعارض ما نحن عليه، فهو إما منسوخ أو ضعيف" هكذا بكل إطلاقية دون نظر في هذا الدليل أو ذاك، فلا يكلفون أنفسهم البحث ولا النظر ولا ... الفهم!
كيف يغفل هؤلاء عن قول الله تعالى "وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا" وقوله "الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ" أم كيف يغفلون عن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، من مثل: "إِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى" وقوله "لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ ... وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَهُوَ يُنْفِقُهُ فِي الْحَقِّ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَار" وقوله لمن يريد التصدق بكثير ماله "إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاس" وقوله لمن جاء يطلب حاجة ومساعدة "اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ، وَلَا أَرَاكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا" فَجَعَلَ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ" إلى غير ذلك من الأحاديث النبوية الآمرة بجمع المال من حلال وإنفاقه في حلال، أم نسينا أن الزكاة ركن من أركان الإسلام ؟؟
ثم إنني لم أجد ولن يجد غيري في كل السنة النبوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل الله الفقر أو أنه يتعوذ بالله من الغِنى، بل إن الذي ثبت هو العكس فقد كان رسول الله صلى الله وسلم يسأل الله الغِنى ويتعوذ بالله من الفقر، يقول: "اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ، وَالْفَقْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ" ويقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى" وحين اشتكى الفقراء ما يفعل إخوانهم أهل الدثور -المال- قال لهم: "ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ".
فالمال لا يوصف بذاته حلال أو حرام، أو خير وشر، أو طيب وخبيث، بل إن الذي يجعل المالَ حلالًا، وخيرًا، وطيبًا هو جلبُه من حال وإنفاقه في درجات الخير، وإن الذي يجعل المالَ حرامًا، وشرًّا، وخبيثًا هو جلبه من حرام وإنفاقه في دركات الشر، ثم مَن وكيفَ تُبنى المساجد، وتشيد المدارس، وتفتح المستشفيات؟ ومَن وكيفَ تُكفل مراكز القرآن، ويُدعم المجاهدون، وتُستر البيوت؟
والكلام يطول في هذا المضمار، وأكتفي بما ذكرت ففيه غُنيةٌ وسلام..

بقلم : أ. د. وائل الزُرد
الصورة ليست سوداوية ...

بين الحين والآخر نجلس مع بعض الشباب فنجدهم قد قاربوا على اليأس وهم على حافة الإحباط، قد أصبح بعضُهم مستقرًا للمصائب ومستودعًا للهموم، اجتمعت عليه من كل حدبٍ وصوبٍ فكادت أن تقتله لولا بقايا ما حوله من بيئة مجاهدة تعمل دون كلل أو ملل، تواصل الليل بالنهار صناعةً وتطويرًا وتجريبًا، ولولا بقية من دعاة خير لا زالوا متشبثين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.

وقد ساهم في اسوداد نظرة هذا الصنف من الشباب التضخيم المتعمد لما يراه من مشاكل في البلد وسوء إدارة في بعض الملفات هنا وهناك، مع قلةٍ وعيٍ وعلمٍ أحيانًا وفقدانٍ للمعلومة أحيانًا أخرى، ولست هنا -من البداية- أدافع عن خطأ إداري ولا أبرر لفساد مالي وإنما أحاول أن أقول للشبابِ الحُرِّ الأَبِي الكَريم: لَو خَلَت البِلادُ مِنَ النَّاصِحين لاستَحَقَّ أهلهَا العَذاب، ولَو كَثرَ الخَبثُ لهَلكَ الصَّالحُون قبلَ غيرِهم، وفي الحديث: قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: "نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ" صحيح البخاري حديث رقم 3346

يا شبابُ: أحبكم وربِّ الكعبة وإني والله أرى فيكم جيلًا كريمًا عزيزًا شهمًا، لا يضيق صدرُه إلا مما يغضب الله، ولا يتكدر مزاجُه إلا حين تنتهك محارمُ الله، فأكرِم بكم من شباب وأنعِم بكم من شباب، وحبي لكم هو الذي يدفعني لنصيحتكم والحديث معكم، وما وجودُكم ووجودي ووجود غيرنا من العاملين في حقل الدعوة الإسلامية إلا دليلٌ على أن هذه الأمة ما ماتت، وأن الدعوة لا زالت بخير، وأننا مستمرون في طريق الحق والقوة والحرية وسنصل لمرادنا بإذن الله -تعالى- من تحكيم شريعة الله فوق أرضنا المباركة بعد تحريرها قريبًا.

يا شبابُ: لا تسمعوا للبائسين المُحِبطين الذين راحوا يلوون أعناقَ الآيات لتخدم يأسَهم وإحباطَهم ويلوون أعناقَ الأحاديث لتبرر عجزَهم وخمولَهم، فالآيات والأحاديث التي تتكلم عن الفتن واعتزالها إنما تُساق للضِّعاف ولمن لا يقوى على صناعة الحياة ولمن لا يقوى على مواجهة التيار ولا السباحة ضد الموج، إنما تُساق لتناسب ضعفَ البعض، ومثلُ هؤلاء البائسين اليائسين المُحبَطين -والله- لن يُعيدوا للأمة مجدًا ولن يبنوا للأمة عزًّا ولن يشيدوا للأمة حضارةً، إن غايةَ أحدِهم أن يقول: "لَيسَ لَنا إلا أنْ نَنتظِر ... المَوتَ أو المَهديَّ المُنتَظر" لأنَّهم أَقنَعُوا أنفُسَهم بِعبارة أحدِهم: "آهٍ لو يُجدي الكلام ... ماتت الأمةُ والسلام!"

إن الذين يحلو لهم التندر بمصائب الأمة ومشاكل المجتمعات وهم جالسون على آرائِكهم لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، هؤلاء من أهلكِ الناس بل هم يشاركون في هلاك الأمة ولهم نصيب من الإثم على عجزهم وخورهم ورضاهم بالدون، لهم نصيب من الإثم على سكوتهم وخمولهم وعدم خوضهم لمعارك التدافع بين الحق والباطل، لهم نصيب من الإثم كونهم ما شاركوا في مسيرة الإصلاح وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ" رواه مسلم: 2623.

وأقول لكم ومن واقع الوجود العلمي والعملي داخل حقل الدعوة الإسلامية:

لم يكثُرِ الخَبثُ ولم يفشُ المُنكرُ ولم ينتشرُ الشرُّ ولم يسيطرِ الحرامُ ولم يندثرُ الحلالُ، لم يسكتِ الدعاة ولم يخرس العلماء ولم يتوقف الآمرون بالمعروف ولم يتراجع الناهون عن المنكر، لم تغلق أبواب المساجد ولم تطوَ سجَّادات الصلاة ولم تنقطع مسبحة الذكر ولم يُعزف عن القرآن، بل بفضل الله -تعالى- لا زال العلماءُ والدعاةُ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وينصحون للقريب والبعيد، لا زال القرآنُ يتلى صباح مساء ولا زالت الصلواتُ تقام في اليوم والليلة، ولا زالت مجالسُ العلم تكثُر يومًا بعد يوم ولا زال الخيرُ ينتشر والحلالُ يفشو والمعروف يُعَمَّم.

فبفضل الله سبحانه دورات تعليم القرآن -تلاوةً وسندًا وقراءاتٍ- يُقبل عليها الناس في الليل والنهار بأكثر من أي وقت مضى، حفظ القرآن يكثر ويزداد حتى بِتنا نشاهد قراءة القرآن كله كاملًا على جلسة واحدة ومن عددٍ كبير، بالإضافة إلى دورات السنة النبوية ومجالس العلم المنتشرة وحلقات التعليم في المساجد، هذا بجانب عدد المساجد الكبير التي بُنيت واستقبلت عشرات ومئات المصلين الجدد، بالإضافة إلى انتشار الدعاة في كل مكان وفي كل زمان دون أن يُغلق في وجههم باب أو يقف دونهم حجاب، يأمرون بالمعروف بكل قوة دون أن يوقفوا من أحد، وينهون عن المنكر دون أن يُراجعوا من أحد، لهم حرية التعبير وحرية الأمر وحرية النهي، ولكم وقف من منكر أطلَّ برأسه من قبل بعض الناس، وكم أُحيي من معروف كاد أن يُفقد لولا ألسنة العلماء والدعاة، فالخمر والمخدرات والعمالة والجريمة بأنواعها كل هذا ملاحقٌ ومرصودٌ ومتابعٌ
-قدر الاستطاعة- هذا مع حروب متتالية وحصار ظالم وملاحقة فاجرة ومقاطعة آثمة وأيادٍ خبيثة خفية تعيث فسادًا، ولكن بفضل الله سبحانه وتعالى يبقى الخير موجودًا ويقوى ويكثر ويزداد،،،

فَالصُّورَةُ لَيْسَتْ سَوْدَاوِيَّةً ...

بقلم : أ. د. وائل الزُرد
حُسنُ الخِتام
ما أقسى هذه الأيام التي نعيشها، ففي كل يوم يمر نزداد تفاجئًا ببعض الناس كيف كانوا في أقصى اليمين ثم هم في أقصى اليسار؛ بعضهم خطوة خطوة والبعض الآخر مرة واحدة ينقلب من الإيمان إلى الكفر -والعياذ بالله- ويرد على خاطرنا فورًا حين نرى المفاجآت قولُ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا" رواه مسلم: 118.
عايشنا بعضَ الشخصيات من الذين كانوا يتربعون على عرش القنوات الإسلامية، يفتون الناس في الحلال والحرام ويعلمون الناس المعروف والخير وينهون الناس عن المنكر والشر، كانت قلوب الناس تتقلب معهم حسبما يقولون من حلاوة القول وجمال المنطق، ثم إذا هم ينحرفون وينقلبون ويبدلون ويقلبون {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}.
ويكادُ الإنسانُ -وَاللهِ العَظِيم- أن يُصاب بالجنون؛ كيف ضحك الشيطان على هؤلاء؟ أم كيف استساغ هؤلاء هذه الحالة؟ وكيف رضي هؤلاء بهذا المنقلب؟ كيف فرَّط هؤلاء بدينهم وباعوه بثمن بخسٍ دراهم معدودة؟ كيف رضي هؤلاء أن يكونوا في دينهم من الزاهدين؟ أين علمهم وأين دينهم وأين عقولهم وأين أمرهم ونهيهم، أين وأين؟ ومما يُذهب شيئًا من الاستغراب ما رُويَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ" رواه الإمام أحمد في المسند: 143.
رأينا في حياتنا من كان يزلزل المنبر بخطاباته القوية وكلماته الرنانة، فيحرك المشاعر ويلهب العواطف ثم إذا به ينقلب على عقبيه ليخسر الدنيا وربما الآخرة، ورأينا في حياتنا من كان مقدامًا مجاهدًا وداعيةً مفوَّهًا وسياسيًّا إسلاميًّا مُحَنَّكًا ثم دارت الدنيا وتقلبت الأيام وإذا بهذا وذاك يرغبون في الدنيا عن الآخرة ويستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويرضَون عن طواعية أن يكونوا أحذية في أقدام الذين يتبعون الشهوات، وقد شغلني هذا الأمر كثيرًا حتى نبَّهني كريمٌ لقول الله {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وتذكرتُ على الأثر قولَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَسَرَّ عَبْدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَلْبَسَهُ اللهُ رِدَاءَهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ" رواه الطبراني: 1702 وهو حديث حسن.
وأدركتُ مع الأيام حقيقةً أن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء، وأدركت كذلك أن القلوب لا يعلم ما فيها على وجه الحق إلا الله وأن الناس -ونحن منهم- ننخدع بما يظهر لنا من صالح عمل فلان والله يعلم -وحده- بما في السرائر، وحين سمع الصحابة رضي الله عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكثر من قوله: "يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ" قالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قال: "نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ" رواه الترمذي: 2140.
والأمرُ خطيرُ جدًّا؛ فختامُ الإنسان متوقفٌ عليه مصير العبد في الآخرة إما إلى جنةٍ وإما إلى نار، وقد كانت هذه اللحظة هي التي تؤرق المتقين الأبرار على الدوام وهي "بماذا سيتختم لهم" خاصة حين بلغنا أنَّ أم المؤمنين أم سلمة سُئلت: "يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ: "يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ" رواه الإمام أحمد في المسند: 26679. وأنا أزعم أن من الآيات التي جعلت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يكثر من هذا الدعاء قولُ الله رب العالمين {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا}
وأشهدُ -واللهِ- أنني أكتبُ هذهِ الكلماتِ والخوفُ يلفُ قلبِي؛ لِمَا أرَى مِن تقلُباتِ الأيام ِوانحرافِ بعضِ النَّاس، ولا زِلتُ أذكرُ كلمةَ الإمامِ ابنِ القيمِ -رحمهُ اللهُ- في مدارجِ السَّالكين: "لَيْسَ الْعَجَبُ مِمَّنْ هَلَكَ كَيْفَ هَلَكَ؟ إِنَّمَا الْعَجَبُ مِمَّنْ نَجَا كَيْفَ نَجَا؟" فاللهُمَّ نَسْألُكَ نَجَاةً لَا هَلَاكَ بَعدَهَا أَبَدًا، واسْتِقَامَةً علَى الحَقِّ وثَبَاتًا عَلَى الأَمْرِ حَتَّى نَلقَاكَ وأنْتَ رَاضٍ عَنَّا يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِين.

بقلم : أ. د. وائل الزُرد
Channel name was changed to «الرابطة العلـمية - WMSA»
#صلاح_الدين رحلة النصر !
*التُّجَّارُ فُجَّارٌ إِلَّا ...*
في البدايةِ يطيبُ لي أنَ أقولَ:
*ألفُ تحيةٍ وشكرٍ ودعاءٍ باليُمن والبركة لكل التجار الذين رفضوا رفعَ أسعار البضائع رفضوا استغلال حاجة الناس، وأصروا على بقاء الأسعار كما هي، يَربحون ويَرحمون، وأمَّا غيرُهم من الذين أصروا على عدمِ رحمةِ الناس، وقَرروا أن يَرفعوا الأسعار ويَستغلوا حاجةَ الناس، فهؤلاء: "لَيْسُوْا مِنَّا وَلَا نُحْنُ مِنْهُم".*
إنَّ الضربَ في الأرض بحثًا عن الرزق والسيرَ في هذه الحياة طلبًا للمعاش؛ لا يحسنه إلا قليل من الناس من ذوي القدرات العالية في التعامل مع السوق ربحًا لا خسارة وتقدمًا لا كسرًا وتأخرًا، وخاصة حين تكون التجارة في بلدٍ مثل "غزة" حيثُ الحصارُ الظالمُ ومنعُ كثيرٍ من البضائع من الوصول، حيثُ إغلاقُ المعابر ومصادرةُ البضائع، حيثُ المساومةُ على لقمةِ العيشِ والحربُ على قرارِ الحياة، حيثُ المعابرُ والعمالُ والحواجزُ والضرائبُ؛ وقائمةُ النجاحِ في جلبِ البضائعِ وبيعِها في غزة تطولُ وتطولُ جدًّا.
ومع تقدير الوظائف سواء كانت الحكومية أو غيرها وأهميتها؛ غير أنها لا تجعل من الموظف غنيًّا -إلا أصحاب الوظائف العُليا- وإنما تبقيه في حالة الستر والكفاف، حتى جرى على ألسنة الناس عبارة عن الوظيفة مفادها: "الوظيفة إن لم تُغنِ بتستر"، أما التجار فهم بالتجارة والكد والتعب يتجاوزون حالة الكفاف والحاجة، ويصبحون من أهل الدثور والأجور، وقد جاء فقراء المدينة مرةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: "ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنَ الأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ العُلاَ، وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا، وَيَعْتَمِرُونَ، وَيُجَاهِدُونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ" رواه البخاري حديث رقم: 843. وقطعًا هؤلاء أهلُ الدثور لم يكونوا من الموظفين، وإنما كانوا أصحابَ شركاتٍ ورجالَ أعمالٍ وأربابَ تجارات؛ تمكنهم من: العمرة، والجهاد، والصدقة!
ونحن هنا لا نتكلم عمَّن برَّ واتقى من التُّجار الأُمناء، ولكنا نتكلمُ عمَّن يستغلُ حاجةَ الناس ويريدُ أن يغنى على حسابِ قوتِ الفقراءِ والمُحتاجين، يريدُ أن يُنبتَ جسدَه من حرامٍ ليكونَ أهلًا للنار يوم القيامة، وفي الحديث عَنْ رِفَاعَةَ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِذَا النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ بُكْرَةً، فَنَادَاهُمْ: "يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ"، فَلَمَّا رَفَعُوا أَبْصَارَهُمْ، وَمَدُّوا أَعْنَاقَهُمْ، قَالَ: "إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا، إِلَّا مَنْ اتَّقَى وَبَرَّ وَصَدَقَ".ط رواه ابن ماجه حديث رقم: 2146 وهو حديث حسن لغيره. نعم عن هذا الصنف من التجار الذين ما أن يسمعون صيحةً في حربٍ حتى يتنادَوا إلى رفع الأسعار واحتكار البضائع وإخفاء السلع الرئيسية دون مراعاة لـــــــ: دينٍ أو ضميرٍ أو أخلاقٍ.
مثل هذا الصنف من التجار -للأسف- يأخذون بجريرتهم أتقياءَ التجار وأبرارَ رجالِ الأعمال، حين يظهرُ أكثرُهم في وقت الأزمات ويحتجون بحجج واهية داحضة،
ونحنُ بلا شكٍّ لسنَا بدعًا من العالم، نرى ونسمع ما يحدث من حولنا ونقدر أن الواقع أثناء الحروب ليس كغيره، خاصة إن منعتِ الدول المصدرة بعض السلع الرئيسية مما يؤدي -بلا شك- إلى ارتفاع الأسعار بسبب غلاء الاستيراد والشحن من دولة لأخرى، أقول: لو وقع مثل هذا في بعض السلع وخرجت الوزارة المعنية بالتوضيح فساعتها سيكون الناس مضطرين على قبول الأمر على ما هو عليه، أما أن تُفقد البضائع ويرتفع سعر السلع وتحتكر المواد التموينية *فهذا هو الظلم بعينه، ولا يفعله إلا محتكر كذاب أشر مخطئ...* فَعَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ» رواه مسلم حديث رقم: 1605.
يقول الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: قال أهل اللغة: الْخَاطِئُ بِالْهَمْزِ هُوَ الْعَاصِي الْآثِمُ وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي تَحْرِيمِ الِاحْتِكَارِ... وَالْحِكْمَةُ فِي تَحْرِيمِ الِاحْتِكَارِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ عَامَّةِ النَّاسِ كَمَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَ إِنْسَانٍ طَعَامٌ واضطر الناس إليه ولم يجدوا غيره أجير عَلَى بَيْعِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ النَّاسِ" وقد أورد الإمام ابنُ حجر رواياتٍ مأثورة في ذم الاحتكار منها: "مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طعامَهُم ضَربَه اللهُ بالجُذامِ والإفْلَاسِ" وقَالَ "الْجَالِبُ مَرْزُوق والمحتكر مَلْعُون" فتح الباري لابن حجر.
وأخيـــــــــــــرًا :

فَعَلَى هَذا الصنْفِ مِنَ التُّجارِ أنْ يَتقوا اللهَ، فَاليومَ دُنيَا وَغدًا آخِرة، ولَا يَحلُّ لَهم أنْ يُتخِموا أنفسَهُم بِالحَرامِ وهمُ يَرونَ النَّاسَ لَا يَجدُون مَا يُقيتُهم إِلا بِشقِّ الأنْفُس، ،ولْيَعلمُوا أنَّ الرِّبحَ القَليلَ معَ البركةِ والرحمةِ خيرٌ -واللهِ- مِن الربحِ الكَثيرِ معَ المحقِ واللعنَةِ، وعَلَى الجِهاتِ المَسؤولةِ في الحُكومةِ أنْ تُتَابعَ الأمْرَ وألا تَتركَ النَّاسَ عُرضةً للنهشِ مِن قِبلِ فُلانٍ أو عِلانٍ ممَّن لَا دِينَ لَه وَلَا ضَمِير.

د. مالك الزرد
شُؤونُ المُوظفِين وَحِمايةُ الغَافِلين
أصبحت الوظيفة حُلمًا لأكثر الشباب في وقتنا الحاضر ذلك لأنها تكفل له الستر والكفاف وإن كانت لا تضمن له الغِنى وقضاء كل الحاجات، ولأجل نيل الوظيفة تجد الشباب يتسابقون في التحلي بكل ما تتطلبه هذه الوظيفة أو تلك من: دورات وشهادات ولغات ومهارات، لعلَّ الواحد منهم يحظى بهذه الوظيفة، والتي من شأنها أن تجعله مُنسلًا من قائمة: البطَّالين عن العمل، وهي بلا شك في واقعنا المعاش وخاصة في قطاع غزة أصحبت تشكل سبيل نجاة من الفقر والحاجة، بل الدرجة الأولى في بداية مشروع الحياة الذي يحلُم به كل شاب.
ولستُ هنا في معرض تحريضي الشباب على عدم التعلق بالوظيفة، بل ولا تشجيعهم على النزول إلى سوق العمل والضرب في الأرض وخوض غمار التجارة ففيها الرزق الوفير، أقول: لست هنا في معرض الحديث عن هذا غير أني هنا أتطرق لما عُرف حكوميًّا بشؤون الموظفين، وهي دائرة ربما كانت موجودة في كل مؤسسة، سواء حكومية أو خاصة، وهؤلاء الذين يعملون في هذه الدائرة هم أكثر الناس علمًا بحقوق وواجبات الموظفين، فعندهم لا عند غيرهم ترِد الشهادات والدورات والترقيات والسفر والإجازات والانذارات وصولًا إلى التقاعد أو الاستقالة أو حتى الطرد من العمل وانهاء التعاقد لهذا السبب -القانوني- أو لآخر.
والظنُّ في العاملين في دائرة شؤون الموظفين أن يكونوا: أكثر الموظفين حرصًا تحقيق ما ينفع الموظف وتجنيبه ما يضره، أن ينبهوا الموظف على ما ينفعه ليفعل ويزيد من راتبه وترقيته وأن ينبهوه على ما يمكن أن يضره ويقعد به ويسبب له حرجًا وعنتًا وربما خصمًا وطردًا، الظَّنُّ بِهَؤلاءِ الحافظين للمواد القانونية والعارفين بالنظم واللوائح الداخلية أن يكونوا بمثابة الأبِ الحريص على الموظف؛ يُنبهوه إذا غفِل، ويُذكروه إن نسِي، ويُحذروه إن تَمادى، الظَّنُّ بِهَؤلاءِ أن يجعلوا الموظف في مأمنٍ على حقوقه لأنهم الأعلم، وأن يجعلوا الموظف مرتاحَ البال هادئَ الخاطر لأنهم مَن يمتلك المعلومات والبيانات، حتى وإن كان الموظفُ في غفلةٍ من حقوقٍ له لم تُكتب، أو واجباتٍ عليه لم تُرصد، أو ترقياتٍ للموظف لم تُعلن ولم تُعلم بعد...
وأقولُ: إن من أكبر واجبات العاملين في شؤون الموظفين رعاية الغافلين عن حقوقهم وغير العارفين بما لهم وما عليهم، وهؤلاء هم الأكثر من الموظفين في كل الوظائف سواء الحكومية أو الخاصة، وهذا يجعل العبء يعظم والمسؤولية تكبر على هؤلاء الإخوة الذين قدَّر الله لهم أن يكونوا في منطقة متقدمة على غيرهم من الموظفين.
أما أن يكون هؤلاء العاملون في شؤون الموظفين ملوكًا أكثر من الملك، بحيث يَضِنُّون على الموظفين بمعرفة ما لهم من حقوق، ويسارعون في تنبيه الموظفين بما عليهم من واجبات للمؤسسة بعبارات تخويفية وتحذيرات توتيرية، ويسود بينهم خُلقان ذميمان:
الأول: "لَا حَقَّ لِغَافِلٍ" ويقصدون بها أنَّ الموظف ما دام أنه غافلٌ عن حقه، لا يعرفه ولم ينبهه أحدٌ عليه، ولم يمر له على خاطر؛ إذًا فليبقَ الموظف على حاله: غافلٍ لاهٍ لا يدري، ولتستمر مسيرة المؤسسة وهي تهضم حقَّ الموظف المسكين الذي -ربما- لم يقرأ عقدَ توقيع الوظيفة حين استلم الوظيفة من فرط فرحته أو أنه قرأه دون أن يتبين له ما بين السطور من حقوق وواجبات، وقد حدثتنا السنة النبوية أن عاملًا سخِط عن حقه فتركه غفلةً منْهُ مدةً من الزمن ثم عاد ليسأل عنه فوجد صاحب العمل قد نمَّى له حقَّه حتى غدا قطيعًا من الإبل والغنم فأخذه كله ولم يذَر منه شيئًا.
الثاني: "القَانُونُ لَا يَحْمِي المُغَفَّلِين" يعتمدون هذه العبارة وكأنها نزلت من السماء، لها نصيب من القداسة والهيمنة بحيث لا اجتهاد في فهما فهي نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، وهي عبارة خاطئة جملة وتفصيلًا، بل إنها تحمل في طياتها استمراءً وتبريرًا لظلم الموظفين وضياع حقوقهم بحجة أنهم لم ينتبهوا ولم يبحثوا ولم ينقبوا، مع أنَّ العبارةَ مغلوطةٌ ظالمةٌ؛ فالقانونُ والشريعةُ قبلَه جاءَ لرعايةِ حقوقِ الجميع وخاصةً غير المُنتبهين، الغافِلين وليس -المُغفلين-، فليس في الموظفين من يتعمد ترك حقِّه وحقِّ أولاده في حياته ومن بعده، لكنه يمكن أن يغفل -يسهو- عن هذا الحق أو ذاك، ويأتي دور النظام والقانون لحماية الغافلين وتنبيهم لحقوقهم وتذكيرهم بواجباتهم، وفي الشريعة الإسلامية قواعد محكمة لمثل هؤلاء منها: "خيار الغبن" و "خير النظرين" و "خيار الرد" بل إن الشريعة جاءت لتحمي كل المتعاقدين لا الغافلين فقط.
أمَّا العَاملون في شُؤون المُوظفين بأمانة وصدق، يَجبرون الكسرَ ويُعينون المُتعبَ ويُنبهون الغافلَ فهؤلاء لهم أجرُ الصدقة ولو لم يتصدقوا، فَعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن النبيِّ -صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم- أَنَّهُ قَالَ: «الخَاِزنُ المسلم الأمين الَّذِي يُنْفِذُ ما أُمِرَ بِهِ فَيُعْطِيهِ كَامِلاً مُوَفَّراً طَيِّبَةً بِهِ نَفسُهُ فَيَدْفَعُه إلى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ، أَحَدُ المُتَصَدِّقِين» رواه
البخاري ومسلم.
إنَّ القَائِمِينَ عَلَى شُؤوُنِ المُوَظَّفِينَ تَحَمَّلُوا أَمَانَةَ المُؤَسَّسَةِ وَالمُوظَّفِينَ، فَهُم إِمَّا أَكْثَرُ المُوَظَّفِينَ أَجْرًا وَإِمَّا أَنَّهُم أَكْثَرُ المُوَظَّفِينَ إِثمًا وَوِزْرًا

د. وائل الزرد
زُرْتُ شَيْخًا يَائِسًا ....

اتصلتُ به أسأل عن صحته وأطلب منه تحديد موعدٍ للزيارة وذلك بعد شوق له، فكان أول ما سألني: كم واحد سيأتي معك؟ وكم ستمكثون عندي؟ فقلت: سآتيك وحدي ولن أطيل عليك، وأخفيتُ ضيقي من سؤاله، فلم أعتد أن أكون سببًا في ضياع وقت أحد حتى يسألني كم ستمكث؟ ولن ألتقي به من أجل الأكل والشرب ولا من أجل لهوٍ أو لعب، وإنما أزوره في الله ولله، والله يعلم مرادي في هذه الزيارة خاصة، فقد كانت لله من بدايتها إلى نهايتها.
وصلتُ بيته على الموعد فوجدته في مكتبته الزاخرة بالكتب فرحَّب بي وجلست أسأل عن صحته وأولاده وبناته فمنذ زمن بعيد ما التقيته؛ والشيخ يخبرني عن حاله وحال أولاده وبناته فيقول: هذا تزوج وهذه أنجبت وهذا وذاك حتى جاء على كل أفراد عائلته -ربي يحفظهم جميعًا- ثم بادرتُه سائلًا: وكيف أنت ونشر الأبحاث العلمية وتأليف الكتب وكتابة المقالات وإصدار الفتاوى؟ فصال هنا وجال وهو يتكلم عن عددِ الأبحاث العلمية التي نشرها، وعدَّد الكتب العلمية التي ألَّفها فطبعت وبعضها قيد الطباعة الآن، ثم أسهب في نشر الفتاوى الإلكترونية وعبر الجوال في أوقات محددة لكنها كثيرة.
شكرتُ له كل ما يقوم به وسألت الله أن يكون كل هذا خالصًا لوجه الله الكريم، أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، ولكني بادرتُه -وربما فاجأتُه- فقلت: "وَأَينَ نَصِيبُ النَّاسِ مِنْكَ يَا شَيْخُ؟"
فصمتَ فأخذتُ أسترسلُ في الكلام وأقول: نعم أين نصيب الناس منك يا شيخ؟ لماذا لا نراك في المساجد مُعلمًا ومُذكرًا؟ لماذا لا نراك في الأماكن العامة ناصِحًا وواعِظًا؟ لماذا ليس لك مجلس علم في المساجد الكبرى؟ ولماذا لا تطوف على المساجد الصغرى؟ لماذا ترى بعض المنكرات ولا تنهى عنه بين الناس وعند الزحام؟ لماذا ترى بعض المعروف مفقودًا عند بعض الناس ولا تأمر به؟ لماذا لا تشارك الدعاة العاملين دعوتهم وأمرهم ونهيهم؟ لماذا قنِعتَ بالمكتبة والجو المكيف؟ وارتضيت حياة التأليف والكتابة؟ ولماذا انتهيت -بعد كل العلم- إلى الأبحاث العلمية والتعليم الأكاديمي؟ ثم وجدتُ نفسي صارخًا في وجه الشيخ قائلًا: "مَنْ لِلنَّاسِ يَا شَيخُ إِنْ سَكَتَّ أَنْتَ؛ قُلْ لِي بِاللهِ عَلَيكَ مَنْ لِلنَّاسِ؟"
ساد الصمتُ قليلًا في غرفة الضيافة وأنا مطرقٌ رأسي، والشيخ لا ينطق بكلمة واحدة سوى أنه قال وليته لم يتكلم "أنَا يَئِستُ يَا أَخِي أَبُو حُسَام" ثم صمتنا طويلًا حتى دخل أحدُ أولاد الشيخ -وكان يسترق السمع- فقلتُ: استأذن لي يا حبيبي حتى أنصرف، وفعلًا فتح الشابُّ لي الطريقَ وخرجتُ دون أن أُسلِّم على الشيخ وتركتُه وحيدًا يُراجعُ ذاتَه ويُحاسبُ نفسَه في هذه الدقائق الحزينة، وأنا واللهِ خرجتُ حزينًا على شيخٍ قد أُصيبَ باليأسِ والإحباطِ وقد جمع علمًا كثيرًا وتاريخًا نظيفًا ...
مِسْكِينٌ والله هذا الشيخ يظن أنه قد برأت ساحته حين قال لي "أنَا يَئِستُ يَا أَخِي أَبُو حُسَام"، نعم مِسْكِينٌ هذا الشيخ الذي أصيب باليأس فترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مِسْكِينٌ هذا الشيخ الذي أُصيب باليأس فترك أمرَ الدعوة إلى الله وإلى الخير، مِسْكِينٌ هذا الشيخ وقد أُصيب باليأس فما عاد ينصح وما عاد يذكر وما عاد يعظ الناس... لقد أفرح الشيطان ورضي منه إبليس ذلك حين ظفر منه بهذه الكلمة، وراح -لعنه الله- يزين له الجلوس في المكتبة والرضى بالتأليف والبحث، وبغَّض له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأسكن في عقله وقلبه أن الناس لا خير فيهم، وأنهم لا يستجيبون، وأنه كما قال أحدُهم: آهٍ لو يجدي الكلام .. ماتت الأمة والسلام !!!
وتذكرتُ الآن وأنا أكتب هذه الكلمات شيخ الأمة الإمام أحمد ياسين -رحمه الله رحمة واسعة- فقد كان الشيخ ذا همة لم أرَ بعين مثلَه، مع مرضه بل أمراضه وإعاقته وعذره لكنه رفض حياة اليأس والإحباط، وأبى أن يستسلم للمرض والإعاقة والأعذار، ومضى في طريق ذات الشوكة يبثُّ فينا وفي الأجيال همةً من حيث كان مقعدًا، وينفثُ في روحنا عزيمةً من حيث كان مريضًا معذورًا، فيا لرحمات الله عليك تترا يا شيخ الأمة "اليَاسِيْن".

وأَجِدُ نَفسِي أَقُولُ أَخِيرًا: {ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.

د. وائل الزرد
ذِكرىٰ رسولِ اللهِ ﷺ حيَّةٌ فينا دومًا، فقد جمع كل الفضائل في ذاتهِ الشريفة، وتقلد كل المكارم فكانَ المثل الأعلى في كل خير ، وارتفع في ذروة النجاح والإنجاز والمجد فكان أعظم قدوة في كل مجالات الحياة، إنّما نخصُّ بذكِره ﷺ ليلتنا هذهِ لِكريم خِصالِها وتعدد فضائلها ألا وهي ليلةُ الجُمعةِ الفاصلة بينَ شعبان ورمضان أهلّهُ اللهُ علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام .

َلُّوا_عَلَيْهِ_وَسَلِّمُوا
•• مَرحَبًا بِمُطَهِر ذُنُوبَنا .. مَرحَبًا بِشَهرٍ الرَّحَمَات والعَفْو والمَغْفرة ، شَهر تُرمم فيهِ حِطَامنا ، وتَطيب بِه أروَاحَنَا ، وتُجبَر فيهِ قلُوبَنا ، وتُغفَر فيهِ زلاتنا ، وتُستجاب فيهِ دعواتَنَا ، وتُعتَق رِقَابَنا مَن النَّار وتُفتَح أبْواب الجَنَّة .. رمَضان مُبَارک يا کِرام ، كُل عَام وأنتم بخَير وإلى اللَّـه أقْرب ، وعلىٰ طاعتِهِ أدوم ..
تخصكم الرابطة بالتهنئة الجزيلة
﴿ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾

بِهَا افتتحَ اللهُ الهُدىٰ والحكمة والفرقان الذي أنزلهُ، فكانت هذه الكلماتُ مفتاحًا للخيرات أنّى استعمِلت، وإيَّاها علمنا اللهُ لِنفتتحَ بها كُلّ أعمالنا وخُططنا وكتاباتنا ، كُتِبت من سليمان عليه السَّلام إلى بلقيس، وأوحاها الربُّ إلى رسولهِ ﷺ فكانِت الكلمات التي توجت كل كُتبِه للملوك والأمرآء والخطاباتِ في تطبيقٍ عملي للهَدْي الربانيّ ؛ لِنَعلمهُ ونَعمَله !

[ ١ رمضــان ١٤٤٣ هـ ]
🌿🌙
﴿ ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ۝﴾

العقلُ يتميَّز بقدراتٍ عجيبة للإدراكِ والوعي والاستجابةِ، وما إن تهجم عليهِ الشكوكُ والأوهام ، وتتناقضُ المعطيات ، حتى يتشوش النظام العصبي للإنسان ولا يؤدي العقل مهمتهُ كاملةً، وقد كانِتِ القراءة سبيلًا لِمدِّ الإنسانِ بالطاقة العلميَّة التي تعد بمثابة غذاء العقل كما يساعد في ذلكَ التأمل والتفكُّر والبحث .

لكنَّ العقل البشري لا يمكنهُ تحتَ أيّ ظرف إنتاجَ مصدر نقي لِتغذى منهُ ؛ فالعقل ليسَ ذاتي التغذية بل يعتمدُ على غيره، ومهما تعددت المصادر واختلفت المنابِع فلا يوجد لهذا إطلاقًا إلا الكتابُ الخالي من الشكوكِ والأوهام، الناضح بالحقائقِ المطلقة، والشامل للعلومِ المختلفة، والمرشد إلى الأخلاقِ الكريمة والصِفاتِ الساميَّة ؛ الذي لم يأتي من عقل بشري، بل وحي إلـٰهـي، وقد جعلَ اللـهُ ﷻ القرآنَ الكريم هو المنبع الصافِي الأوحد الذي يشكِّلُ غذاءًا للروح والعقل وبناءًا قويمًا للذات البشريّة على تعدد المجالات واختلافها .

وإنَّ هذا الكتابَ هو الصِراط المستقيمُ ، والهدى المبينُ الذِي يقود الإنسانَ إلى واحةِ السعادة ، ومصدر الغِذاء العلميّ الروحيّ الأوحد الذي يُشكِّلُ العظماءَ والأبطالَ والعُلماءُ الذينَ غيَّروا البشريَّة باقتدار ، ولِحكمةِ اللـه البالغة فقد جعلَ هذا الهدى مُسطورًا بالقرآن، وجسَّدهُ في أعظم خلقه سَيِّدِنَا مُحمَّد ﷺ ليكونَ مِثالًا بشريَّا يُبيَنُ من خِلاله إمكانيّة تحمل الإنسان للنِظامِ القرآني العظيم وما هِيَ الشخصيَّة التي ستكونَ لدينا حينئذٍ ؛ لِنَعلمهُ ونَعمَله !

[ ٢ رمضــان ١٤٤٣هـ ]
#الكافيات
#تدبرات_رمضـانية
2024/07/01 16:21:43
Back to Top
HTML Embed Code: