Telegram Web Link
قال الذَّهبيُّ في السِّيَرِ ( ١٣ / ٥٢٥ ) عن مُسنَدِ الإمامِ أحمدَ: "فلعلَّ اللهَ يُقيِّضُ لهذا الدِّيوانِ العظيمِ مَن يُرتِّبُه ويُهذِّبُه، ويحذفُ ما كُرِّرَ فيه، ويُصلِحُ ما تصحَّفَ، ويُوضِحُ حالَ كثيرٍ من رِجالِه، ويُنبِّهُ على مُرسَلِه، ويُوهِّنُ ما ينبغي من مناكيرِه، ويُرتِّبُ الصَّحابةَ على المُعجَمِ، وكذلكَ أصحابَهُم على المُعجَمِ، ويَرمِزُ على رُؤوسِ الحديثِ بأسماءِ الكُتُبِ السِّتَّةِ، وإن رتَّبَه على الأبوابِ فحَسَنٌ جميلٌ، ولولا أنِّي قد عَجِزتُ عن ذلكَ لضَعفِ البَصَر، وعدَمِ النِّيَّةِ، وقُربِ الرَّحيلِ، لَعملتُ في ذلكَ". اهـ
سُبحانَ اللهِ القادرِ على كلِّ شيءٍ!

قال الإمامُ عيسى بنُ مُحمَّدٍ الطَّهمانيُّ: "رأيتُ بخُوارِزمَ امرأةً لا تأكلُ ولا تشربُ ولا تَرُوثُ".

وقال يحيى العنبريُّ: سمعتُ الطَّهمانيَّ يحكي شأنَ التي لا تأكلُ ولا تشربُ، وأنَّها عاشَتْ كذلك نيِّفًا وعشرينَ سنةً، وأنَّه عايَنَ ذلك.

ذكَرَهما الذَّهبيُّ في سِيَرِ أعلامِ النُّبَلاءِ ( ١٣ / ٥٧٢ ) ثم قال: قلتُ: سقتُ قِصَّتَها في تاريخِ الإسلامِ، وهي: رحمةُ بنتُ إبراهيمَ، قُتِلَ زوجُها، وترَكَ ولَدَينِ، وكانَتْ مِسكينةً، فنامَتْ فرأَتْ زوجَها مع الشُّهَداءِ يأكلُ على موائدَ، وكانَتْ صائمةً، قالَتْ: فاستَأذَنَهُم، وناوَلَني كِسرةً، أكلتُها، فوجدتُها أطيبَ من كلِّ شيءٍ، فاستَيقَظَتْ شبعانةً، واستمرَّتْ.
وهذه حِكايةٌ صحيحةٌ، فسُبحانَ القادرِ على كلِّ شيءٍ. اهـ

تعالوا لنرى ما ذكَرَهُ الإمامُ الذَّهبيُّ في تاريخِه..

قال رحمه اللهُ: قال الحاكم: سمعتُ أبا زكريَّا العنبريَّ يقول: سمعتُ أبا العبَّاس، فذكرَ قصَّةَ المرأةِ التي لا تأكلُ ولا تشربُ، وأنها عاشتْ كذلك نيّفًا وعشرينَ سنةً.
فقال -يعني الطّهمانيّ-: إنّ الله يُظهِرُ إذا شاء ما شاء من آياتِه، فيزيدُ الإسلامَ بها عزًّا وقوَّةً، وإنَّ ممَّا أدركنا عيانًا، وشاهدناه في زمانِنا: أنّني وردتُ سنةَ ثمانٍ وثلاثينَ مدينةً من مدائنِ خُوارزمَ، بينها وبين المدينةِ العُظمى نصفُ يومٍ، فأُخبِرتُ أنَّ بها امرأةً من نساءِ الشُّهداءِ رأتْ رُؤيا كأنَّها أُطعِمَتْ في منامِها شيئًا، فهي لا تأكلُ ولا تشربُ منذُ عهدِ عبدِ اللهِ بنِ طاهرٍ.
ثمّ مررتُ بها سنةَ اثنتَينِ وأربعينَ، فرأيتُها وحدَّثَتْني بحديثِها، ثمّ رأيتُها بعد عشرِ سنينَ، فرأيتُ حديثَها شائعًا، فاجتمعتُ بها وهي مارَّةٌ، فرأيتُ مِشْيَتَها قويَّةً، وإذا هي امرأةٌ نَصَفٌ، جيِّدةُ القامةِ، حسنةُ البِنْيةِ، مُتورِّدةُ الخدَّينِ، فسايرتني وأنا راكبٌ، فعرضتُ عليها مركبًا، فأبَتْ وبقيتْ تمشي معي.
وحضر مجلسي محمَّدُ بنُ حَمدَوَيه الحارثيّ، وهو فقيهٌ قد كتب عنه مُوسى بنُ هارونَ، وكَهْلٌ له عبارةٌ وبيانٌ يُسمَّى عبدَ الله بنَ عبدِ الرَّحمنِ، وكان يَخلفُ أصحابَ المظالمِ في ناحيتِه، فسألتُهم عنها، فأحسنوا القولَ فيها، وأثنوا عليها، وقالوا: أمرُها ظاهرٌ، ليس فينا من يختلفُ فيه.
وقال عبدُ اللهِ بنُ عبدِ الرَّحمنِ: أنا أسمعُ أمرَها من أيَّامِ الحَداثةِ، وقد فرَّغتُ بالي لها، فلم أرَ إلّا سِترًا وعفافًا، ولم أعثرْ منها على كذبٍ في دعواها، وذكر أنَّ مَن كان يلي خُوَارِزمَ كانوا يُحْضِرونها الشَّهرَ والشَّهْرَينِ في بيتٍ، ويُغلقونَ عليها.
قال: فلمّا تواطأ أهلُ النّاحيةِ على تصديقِها سألتُها، فقالت: اسمي رحمةُ بنتُ إبراهيمَ، كان لي زوجٌ نجَّارٌ يأتيه رِزقُه يومًا فيومًا. وأنّها ولدتْ منه عدّةَ أولادٍ.
وجاء الأقطعُ ملكُ التُّركِ الغُزِّيَّةَ، فعبرَ الواديَ عند جُمودِه إلينا في زُهاء ثلاثةِ آلافِ فارسٍ.
قال الطَّهمانيُّ: والأقطعُ هذا كان كافرًا عاتيًا، شديدَ العداوةِ للمُسلمينَ، قد أثَّرَ على أهلِ الثُّغورِ، وألحَّ على أهلِ خُوارزمَ، وكان وُلاةُ خُراسانَ يتألَّفونه، ويبعثون إليه بمالٍ وأَلْطافٍ، وأنه أقبل مرّةً في خُيولِه، فعاثَ وأفسدَ وقتل، فأنهض إليه ابنُ طاهرٍ أربعةً من القُوَّادِ، وأنَّ وادي جَيحُونَ -وهو الذي في أعلى نهرِ بَلْخَ- جَمَدٌ، وهو وادٍ عظيمٌ، شديدُ الطُّغيانِ، كثيرُ الآفاتِ، وإذا امتدَّ كان عرضُه نحوًا من فَرسَخٍ، وإذا جَمَدَ انطبقَ، فلم يُوصلْ منه إلى شيءٍ، حتَّى يُحفَرَ فيه، كما تُحفَرُ الآبارُ في الصُّخورِ، وقد رأيتُ كَثَفَ الجَمَدِ عشرةَ أشبارٍ، فأُخبِرتُ أنَّه كان فيما خلا يزيدُ على عشرينَ شِبرًا، وإذا هو انطبق صار الجَمَدُ جسرًا لأهلِ البلدِ، تسيرُ عليه القوافلُ والعَجَلُ، وربما بقي الجمدُ مائةً وعشرينَ يومًا، وأقلُّه سبعونَ يومًا.
قالت المرأةُ: فعبر الكافرُ، وصار إلى بابِ الحِصنِ، فأراد النَّاسُ الخُروجَ لقِتالِه، فمنعهم العاملُ دونَ أن تتوافى العساكرُ.
فشدَّ طائفةٌ من شُبَّانِ النَّاسِ، فتقاربوا من السُّورِ، وحملوا على الكَفَرةِ، فتهازَمُوا، واستَجَرُّوهم بين البُيوتِ، ثمّ كَرُّوا عليهم، وصار المسلمون في مثلِ الحَرجَة فحاربوا أشدَّ حربٍ، وثبتوا حتّى تقطَّعت الأوتارُ، وأدرَكَهم اللُّغوبُ والجوعُ والعَطَشُ، وقُتِل عامَّتُهم، وأُثْخِنَ مَن بقي، فلمَّا جنَّ عليهم اللَّيلُ، تحاجز الفريقانِ.
قالت: ورُفِعَت النِّيرانِ من المناظرِ ساعةَ عُبورِ الكافرِ، فاتَّصلت بجُرْجانيَّةِ خُوارِزمَ، وكان بها مِيكالُ مولى طاهرٍ في عَسكَرٍ، فخفَّ وركض إلى حِصنِنا في يومٍ وليلةٍ أربعينَ فرسخًا، وغدا التُّركُ للفراغِ من أمرِ أولئك، فبينا هم كذلك إذا ارتفعت لهم الأعلامُ السُّودُ، وسمعوا الطُّبولَ، فأفرجوا عن القومِ، ووافى ميكالُ موضعَ المعركةِ، فارتَثَّ القَتلى، وحَمَل الجرحى، وأدخل الحصن عَشِيَّتَئِذٍ زُهاء أربعِ
مائةِ جنازةٍ، وعمَّتِ المُصيبةُ، وارتجَّتِ الناحيةُ بالبُكاءِ والنَّوحِ، ووُضِعِ زوجي بين يديَّ قتيلًا، فأدركني من الجَزَعِ والهَلَعِ عليه ما يُدرِكَ المرأةَ الشَّابَّةَ المِسكينةَ على زوجٍ أبي أولاد، وكاسِبِ عِيالٍ.
فاجتمع النِّساءُ من قراباتي والجيرانِ، وجاء الصِّبيانُ، وهم أطفال يطلبون الخُبزَ، وليس عندي ما أعطيهم، فضِقتُ صَدرًا، وأذّن المغربُ، فصلَّيتُ ما قُضِيَ لي، ثم سجدتُ أدعو، وأتضرَّعُ وأسألُ، فنمتُ، فرأيتُ كأنِّي في أرضٍ حسناءَ ذاتِ حِجارةٍ وشَوكٍ، أهيمُ فيها والِهةً حرَّى أطلبُ زوجي، فناداني رجلٌ: خُذي ذاتَ اليمينِ، فأخذتُ، فرُفِعَتْ لي أرضٌ سهلةٌ طيِّبةُ الثَّرى، طاهرةُ العُشبِ، وإذا قصورٌ وأبنيةٌ لا أُحسِنُ أن أصِفَها، وأنهارٌ تجري من غير أخاديدَ، فانتهيتُ إلى قومٍ جُلوسٍ حِلَقًا حِلَقًا، عليهم ثيابٌ خُضرٌ، قد علاهم النُّورُ، فإذا هم الذين قُتِلوا، يأكلونَ على موائدَ.
فجعلتُ أبغي زوجي، فناداني: يا رحمةُ، يا رحمةُ، فيمَّمتُ الصَّوتَ، فإذا به في مِثلُ حالِ مَن رأيتُ من الشُّهداءِ، ووجهُه مثلُ القمرِ ليلةَ البدرِ، وهو يأكلُ مع رِفقةٍ، فقال لهم: إنَّ هذه البائسةَ جائعةٌ منذُ اليومِ، أفتأذنون أن أناولَها؟
فأذنوا له، فناولَني كِسرةً أبيضَ من الثَّلجِ، وأحلى من العسلِ، وألينَ من الزُّبدِ، فأكلتُها، فلمَّا استقرَّتْ في جوفي قال: اذهبي، فقد كفاكِ اللهُ مؤونةَ الطَّعامِ والشَّرابِ ما حييتِ.
فانتبهتُ وأنا شَبعى رَيًّا، لا أحتاجْ إلى طعامٍ ولا إلى شرابٍ، فما ذقتُهما إلى الآنِ.
قال الطَّهمانيُّ: وكانت تحضُرُنا، وكنَّا نأكلُ، فتتنحَّى، وتأخذُ على أنفِها، تزعم أنّها تتأذَّى برائحةِ الطَّعامِ، فسألتُها: هل يخرجُ منك رِيحٌ؟ قالت: لا، قلتُ: والحيضُ؟ أظنُّها قالت: انقطع، قلتُ: فهل تحتاجينَ حاجةَ النِّساءِ إلى الرِّجالِ؟ قالت: أما تستحي منِّي، تسألُني عن مِثلِ هذا؟ قلتُ: إنّي لعلِّي أُحدِّثُ النّاسَ عنكِ، قالت: لا أحتاجُ، قلتُ: فتنامينَ؟ قالت: نعم، قلتُ: فما ترينَ في منامِكِ؟ قالت: مثلَ النَّاسِ، قلتُ: فتَجِدينَ لفقدِ الطَّعامِ وَهنًا في نفسِكَ؟ قالت: ما أحسستُ بالجوعِ منذ طعمتُ ذلك الطَّعامَ.
وكانت تقبلُ الصَّدقةَ، فقلتُ: ما تصنعين بها؟ قالت: أكتسي وأكسو ولدي، قلت: فهل تجدينَ البردَ؟ قالت: نعم، قلتُ: فهل يُدرِكُكِ اللُّغوبُ والإعياءُ إذا مشيتِ؟ قالت: نعم، ألستُ من البشرِ؟ قلت: فتتوضَّئينَ للصَّلواتِ؟ قالت: نعم، قلت: ولِمَ؟ قالت: تأمرُني بذلك الفُقَهاءُ، تعني للنّومِ.
وذكرتْ لي أنَّ بطنَها لاصِقٌ بظهرِها، فأمرتُ امرأةً من نسائِنا، فنظَرَتْ، فإذا بطنُها كما وصَفتْ، وإذا قد اتَّخذتْ كيسًا وضمَّت القُطنَ وشدَّتْه على بطنِها كي لا ينقصفَ ظهرُها إذا مَشَت.

قال: ثم لم أزلْ أختلفُ إلى هَزارَسْفَ، -يعني بُلَيدَتَها- فتحضرُ، فأُعيدُ مسألتَها، وهي تتكلَّمُ بلُغَةِ أهلِ خُوارِزمَ، فلا تزيدُ في الحديثِ، ولا تُنقِصُ منه.
فعرضتُ كلامَها كلَّه على عبدِ اللهِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ الفقيهَ، قال: أنا أسمع هذا الحديثَ منذ نشأتُ، فلا أرى من يدفعِه.
وأجريتُ ذِكْرَها لأبي العبَّاسِ أحمدَ بنِ مُحمَّدِ بنِ طلحةَ بنِ طاهرٍ والي خُوارزمَ في سنةِ ستٍّ وستِّينَ، فقال: هذا غيرُ كائنٍ، قلتُ: فالأمرُ سهلٌ، والمسافةُ قريبةٌ، تأمُرُ بها، فتُحمَلُ إليك، وتمتحنُها بنفسِكَ.
فأمَرَني، فكتبتُ عنه إلى العاملِ، فأشْخَصَها على رِفقٍ، فأخبرني أبو العبَّاسِ أحمدُ أنَّه وكَّل أُمَّه دون النَّاسِ بمُراعاتِها، وسألَها أن تستقصيَ عليها، وتتفقَّدَها في ساعاتِ الغَفلاتِ.
وأنّها بقيت عند أمِّه نحوًا من شهرينَ، في بيتٍ لا تخرجْ منه، فلم يرَوَها تأكلُ ولا تشربُ، وكثُرَ من ذلك تعَجُّبُه، وقال: لا يُنكَرُ للهِ قُدرةٌ.
وبرَّها وصَرَفها، فلم يأتِ عليها إلَّا القليلُ حتَّى ماتت، رحمها الله.

انظُرْ تاريخَ الإسلامِ ( ٦ / ٩٩٢ - ٩٩٥ ) للذَّهبيِّ.

وقد رواها ابنُ الجوزيِّ في المُنتَظَمِ ( ١١ / ١٥١ - ١٥٤ ) بإسنادٍ صحيحٍ، فقال رحمه اللهُ: وظهر في هذه السَّنَةِ في بعضِ قُرى خُوارِزم عجبٌ من امرأةٍ رأتْ منامًا، فكانت لا تأكلُ ولا تشربُ، وقد ذكر قصَّتَها أبو عبدِ اللهِ الحاكمُ في تاريخِ نيسابورَ.
أخبرنا زاهرُ بنُ طاهرٍ، أخبرنا أبو بكرٍ البيهقيُّ، أخبرنا الحاكم أبو عبدِ اللهِ مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ النَّيسابوريُّ قال: سمعتُ أبا زكريَّا يحيى بنَ مُحمَّدٍ العنبريَّ يقولُ: سمعتُ أبا العبَّاسِ عيسى بنَ مُحمَّدٍ المَروَزيَّ يقولُ: وردتُ في سنةِ ثمانٍ وثلاثينَ مدينةً من مدائن خُوارزم تُدعى هَزَارَسْف…… ثم ذكر القصَّةَ كاملةً.
أبو عَمرٍو الحارِثُ بنُ مِسكِينِ بنِ مُحمَّدٍ المِصريُّ.

قاضي القُضاةِ بمصرَ، وكان إمامًا عالِمًا زاهدًا فقيهًا مُحدِّثًا ثَبتًا ثِقةً حُجَّةً جليلًا قوَّالًا بالحقِّ من قُضاةِ العدلِ.
امتُحِنَ في خَلقِ القُرآنِ فلم يُجِبْ.

يروي عن سُفيانَ بنِ عُيَينةَ، وابنِ وهبٍ، وأشهبَ بنِ عبدِ العزيزِ، وغيرِهم.
وأخذَ فِقهَ الإمامِ مالكٍ عن ابنِ القاسمِ.

طلبَ العلمَ على كِبَرٍ؛ لذلك فاتَهُ اللَّيثُ بنُ سعدٍ، ومالكُ بنُ أنسٍ، وعبدُ اللهِ بنُ لهيعةَ، والكِبارُ.

وروى عنه أبو داودَ، والنَّسائيُّ، وعبدُ اللهِ بنُ أحمدَ بنِ حنبلٍ، وأبو يعلى الموصليُّ، وغيرُهم.

حدثَ بينه وبين والإمامِ النَّسائيِّ خِلافٌ، وكان بينهما خشونةٌ، فلم يُمكِّنِ الحارثُ النَّسائيَّ من حُضورِ مجلسِه والسَّماعِ منه!
فكان النَّسائيُّ يستترُ في موضعٍ من حلقةِ الحارثِ حيثُ لا يراه، ويسمعُ منه.

ونرى الإمامَ النَّسائيَّ قد تورَّعَ وتحرَّى في الأداءِ، فعدَلَ عن العبارةِ المألوفةِ في الرِّوايةِ، وهي: حدَّثنا أو أخبرنا.

فكان يقولُ: أخبرنا الحارثُ بنُ مسكينٍ قراءةً عليه وأنا أسمعُ.
وتارةً يقولُ: حدَّثنا الحارثُ بنُ مسكينٍ قراءةً عليه وأنا أسمعُ.
وتارةً يقولُ: قال الحارثُ بنُ مسكينٍ قراءةً عليه وأنا أسمعُ.
وتارةً يقولُ: أنبأنا الحارثُ بنُ مسكينٍ قراءةً عليه وأنا أسمعُ.

انظُرْ مثالًا على ذلك في سُنَنِه: ( ٩ و١٢ و٢٨٧ و٣٣١ و٣٧٦ و٧٨٨ و١٥١٩ و١٧١٣ و١٨٣٥ و٢٠١٩ و٢٣٤١ و٢٣٤٣ و٢٥٩٦ و٣١٣١ و٣٦٥٠ ) وغيرِها في مواضعَ أُخرى.

ومِثلُ الإمامِ النَّسائيِّ الإمامُ أبو داودَ! فكان يسمعُ من الحارثِ بنِ مِسكِينٍ دُونَ عِلمِه، فلا أدري، هل كان بينهما شيءٌ؟

فكان أبو داودَ يقولُ: قُرِئَ على الحارثِ بنِ مِسكِينٍ وأنا شاهدٌ.
انظُرْ سُنَنَ أبي داودَ ( ٣٠١٧ و٣٠٣٤ و٣٢٨٨ و٣٧٤٨ و٣٩١٤ و٣٩٢٢ و٤٧١٥ ).

فانظُرْ إلى دِقَّةِ هذَينِ الإمامَينِ الجليلَينِ وأمانَتِهما..
اللهمَّ فرجًا عاجِلًا لأهلِ غزَّةَ وسُوريَّةَ..
لا تنسَوا المُعتَقَلِينَ والمُهجَّرِينَ من دُعائِكم..
فائدةٌ إسناديَّةٌ:

قال الإمامُ أحمدُ ( ٢٣٥٥٤ ): حدَّثنا عبدُ الرَّحمنِ بنُ مهدِيٍّ، عن زائدةَ بنِ قُدامةَ، عن منصورٍ، عن هلالِ بنِ يسافٍ، عنِ الرَّبيعِ بنِ خُثَيمٍ، عن عمرِو بنِ ميمونٍ، عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي ليلى، عن امرأةٍ من الأنصارِ، عن أبي أيُّوبَ، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال: "أيعجزُ أحدُكم أن يقرأَ ثُلُثَ القُرآنِ في ليلةٍ؟ فإنَّه مَن قرأ ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ ) في ليلةٍ؛ فقد قرأَ لَيلَتَئِذٍ ثُلُثَ القُرآنِ".

رواه الذَّهبيُّ في مُعجمِ شُيوخِه ( ٢ / ٢٨٩ ) من طريقِ الإمامِ أحمدَ هذا، ثم قال: "هذا حديثٌ صالحُ الإسنادِ من الأفرادِ، ولا نعلمُ حديثًا بين أحمدَ بنِ حنبلٍ فيهِ وبين النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تِسعةُ أنفُسٍ سواه، وهو ممَّا اجتمع في سندِه سِتَّةٌ تابعيُّونَ يروي بعضُهم عن بعضٍ، وهذا لا نظيرَ له؛ فإنَّ منصورَ بنَ المُعتمرِ معدودٌ في صِغارِ التَّابعينَ، وقد أخرجه التِّرمذيُّ والنَّسائيُّ من طريقِ زائدةَ، وحسَّنهُ التِّرمذيُّ، مع أنَّه مُعلَّلٌ". اهـ

وقال ابنُ كثيرٍ في تفسيرِه ( ٨ / ٥٢١ ): "وهذا حديثٌ تُساعيُّ الإسنادِ للإمامِ أحمدَ".

ورواه النَّسائيُّ ( ٩٩٦ ) قال: أخبرنا مُحمَّدُ بنُ بشَّارٍ قال: حدَّثنا عبدُ الرَّحمنِ، عن زائدةَ، به.

ورواه التِّرمذيُّ ( ٢٨٩٦ ) قال: حدَّثَنا قُتَيبةُ ومُحمَّدُ بنُ بشَّارٍ قالا: حدَّثنا عبدُ الرَّحمنِ بنُ مهديٍّ، به.

فصار الإسنادُ لهما عُشَاريًّا.

وقولُ الذَّهبيِّ: "..مع أنَّه مُعلَّلٌ": يُريدُ الإسنادَ، لأنَّ فيه اختِلافًا كثيرًا واضطِرابًا.
أمَّا المتنُ فهو صحيحٌ؛ فقد رُوِيَ من غيرِ ما طريقٍ عن صحابةٍ آخَرِينَ، منها في الصَّحيحَينِ.
قال أبو جعفرٍ التُّستَريُّ: حَضَرْنا أبا زُرعةَ بماشَهرَانَ، وهو في السَّوقِ، وعنده أبو حاتمٍ، وابنُ وارةَ، والمُنذِرُ بنُ شاذانَ، وجماعةٌ من العُلَماءِ، فذكَرُوا حديثَ التَّلقينِ: "لقِّنُوا موتاكم: لا إلهَ إلَّا اللهُ"، واستَحْيَوْا من أبي زُرعةَ أن يُلقِّنُوهُ، فقالوا: تعالَوا نذكُرِ الحديثَ.

فقال ابنُ وارةَ: حدَّثنا أبو عاصمٍ الضَّحَّاكُ بنُ مَخلَدٍ، حدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ جعفرٍ، عن صالحٍ، وجعل يقولُ: ابنُ أبي.. ولم يُجاوِزْه.

وقال أبو حاتمٍ: حدَّثنا بُندارٌ، حدَّثنا أبو عاصمٍ، عن عبدِ الحميدِ بنِ جعفرٍ، عن صالحٍ.. ولم يُجاوِزْ.
والباقونَ سكتوا.

فقال أبو زُرعةَ وهو في السَّوقِ: حدَّثنا بُندارٌ، حدَّثنا أبو عاصمٍ، حدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ جعفرٍ، عن صالحِ بنِ أبي عَرِيبٍ، عن كثيرِ بنِ مُرَّةَ الحضرميِّ، عن مُعاذِ بنِ جبلٍ، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "مَن كان آخِرُ كلامِه: لا إلهَ إلَّا اللهُ، دخلَ الجنَّةَ".
وتُوُفِّيَ رحمه اللهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قولُه: "حَضَرْنا أبا زُرعةَ": هو الإمامُ الجليلُ المُحدِّثُ الكبيرُ الحافظُ أبو زُرعةَ عُبَيدُ اللهِ بنُ عبدِ الكريمِ الرَّازيُّ.

وقولُه: "بماشَهرَان": هي قريةٌ من قُرى الرَّيِّ.
والرَّيُّ مدينةٌ كبيرةٌ مشهورةٌ من أُمَّهاتِ البلادِ، كان تزخرُ بالعُلَماءِ، والنِّسبةُ إليها: رازِيٌّ.
وهي تقعُ اليومَ في إيرانَ عجَّلَ اللهُ بزوالِها وهلاكِها.

وقولُه: "وهو في السَّوقِ": السَّوق: أي في نزعِ الموتِ، كأنَّ الرُّوحَ تُساقُ لتخرجَ من البدنِ.

وقولُه: "وعنده أبو حاتمٍ": هو الإمامُ الكبيرُ الحافظُ أبو حاتمٍ مُحمَّدُ بنُ إدريسَ الرَّازيُّ.

"وابنُ وارةَ": هو الإمامُ الحافظُ أبو عبدِ اللهِ مُحمَّدُ بنُ مُسلِمِ بنِ عُثمانِ بنِ وارةَ الرَّازيُّ، من أقرانِ صاحبَيهِ أبي زُرعةَ وأبي حاتمٍ.
وكان أبو زُرعةَ يُبَجِّلُه ويُكرِمُه.

قال الطَّحاويُّ: "ثلاثةٌ من عُلَماءِ الزَّمانِ بالحديثِ، اتَّفقوا بالرَّي، لم يكن في الأرضِ مِثلُهم في وقتِهم: ابنُ وارةَ، وأبو حاتمٍ، وأبو زُرعةَ".

"والمُنذرُ بنُ شاذانَ": أبو عَمرِو الرَّازيُّ التَّمَّارُ، أحدُ الأعلامِ، ومن تلاميذِ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ.

روى هذه القصَّةَ: الخطيبُ البغداديُّ في تاريخِ بغدادَ ( ١٢ / ٤٤ - ٤٥ ) قال: حدَّثنا أبو عليٍّ عبدُ الرَّحمنِ بنُ مُحمَّدِ بنِ أحمدَ بنِ مُحمَّدِ بنِ فَضالةَ النَّيسابوريُّ الحافظُ بالرَّيِّ، قال: أخبرنا أبو بكرٍ مُحمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ شاذانَ الرَّازيُّ بنيسابورَ، قال: سمعتُ أبا جعفرٍ التُّستَريَّ، فذكرها.

ثم قال الخطيبُ: "كتبَ عنِّي هذا الخبرَ أبو بكرٍ البرقانيُّ، والقاضي أبو العلاءِ الواسطيُّ، وأبو القاسمِ التَّنُّوخيُّ، وأحمدُ بنُ مُحمَّدٍ العَتِيقيُّ، وغيرُهم من الشُّيوخِ".

قلتُ: هؤلاءِ من شُيوخِ الخطيبِ البغداديِّ، فهو يفخرُ بروايتِهم عنه!

ورواها ابنُ الجوزيِّ في المُنتَظمِ ( ١٢ / ١٩٥ ) وفي الثَّباتِ حتَّى المماتِ ( ص١٦١ - ١٦٢ )، وابنُ عساكرَ في تاريخِ دمشقَ ( ٣٨ / ٣٥ )، والمِزِّيُّ في تهذيبِ الكمالِ ( ١٩ / ١٠١ - ١٠٢ )، وابنُ المُلقِّنِ في البدرِ المُنيرِ ( ١٢ / ٤٨٣ - ٤٨٦ ) من طريقِ الخطيبِ البغداديِّ، بهذا الإسنادِ.

ورواها الذَّهبيُّ في سِيَرِ أعلامِ النُّبَلاءِ ( ١٣ / ٨٥ ) من طريقٍ آخرَ، عن عُمرَ بنِ مُحمَّدِ بنِ إسحاقَ قال: سمعتُ ابنَ وارةَ يقولُ: حضرتُ أنا وأبو حاتمٍ عند وفاةِ أبي زُرعةَ، فقُلنا: كيف تُلقِّنُ مِثلَ أبي زُرعةَ؟ فقلتُ: حدَّثنا أبو عاصمٍ، حدَّثنا عبدُ الحميدِ بنُ جعفرٍ.
وقال أبو حاتمٍ: حدَّثنا بُندَارٌ في آخَرِينَ، حدَّثنا أبو عاصمٍ، حدَّثنا عبدُ الحميدِ.
ففتح عينَيهِ، وقال: حدَّثنا بُندَارٌ، حدَّثنا أبو عاصمٍ، أخبرنا عبدُ الحميدِ، حدَّثنا صالحُ بنُ أبي عَرِيبٍ، عن كثيرِ بنِ مُرَّةَ، عن مُعاذٍ قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "مَن كان آخِرُ كلامِه: لا إلهَ إلاَّ الله"، وخرَجَتْ رُوحُه معه.

وعندَ ابنِ البنَّاءِ في فضلِ التَّهليلِ ( ٤٩ ) وابنِ العِمادِ في شَذَراتِ الذَّهبِ ( ٣ / ٢٧٩ ): "..فخرَجَتْ رُوحُه مع الهاءِ قبل أن يقولَ: دخلَ الجنَّةَ".

ورواها أيضًا ابنُ أبي حاتمِ في مُقدِّمةِ الجرحِ والتَّعديلِ ( ١ / ٣٤٥ - ٣٤٦ ) قال: سمعتُ أبي يقولُ: مات أبو زُرعةَ مطعونًا مبطونًا يعرقُ جبينُه في النَّزعِ، فقلتُ لمُحمَّدِ بنِ مُسلِمٍ: ما تحفظُ في تلقينِ الموتى لا إلهَ إلا اللهُ؟ فقال مُحمَّدُ بنُ مُسلمٍ: يُروى عن مُعاذِ بنِ جبلٍ.. فمَن قبلَ أن يستتمَّ رفعَ أبو زُرعةَ رأسَه وهو في النَّزعِ فقال: روى عبدُ الحميدِ بنُ جعفرٍ عن صالحِ بنِ أبي عَرِيبٍ، عن كثيرِ بنِ مُرَّةَ، عن مُعاذٍ، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "من كان آخرُ كلامِه: لا إلهَ إلا اللهُ دخل الجنَّةَ".
فصار البيتُ ضجَّةً ببُكاءِ مَن حضرَ.
قولُه: "فمَن قبلَ أن يستتمَّ": يعني قبل أن ينهيَ مُحمَّدُ بنُ مُسلِمِ بنِ وارةَ كلامَه عن حديثِ مُعاذِ بنِ جبلٍ؛ نهض أبو زُرعةَ رحمه اللهُ وروى الحديثَ بإسنادِه.
قال أبو نُعَيمٍ الأصبهانيُّ في حِليةِ الأولياءِ ( ٩ / ٢٢٠ - ٢٢١ ): حدَّثنا إبراهيمُ بنُ عبدِ اللهِ الأصبهانيُّ، ثنا مُحمَّدُ بنُ إسحاقَ السَّرَّاجُ قال: سمعتُ مُحمَّدَ بنَ مُسلمِ بنِ وارةَ يقولُ: رأيتُ أبا زُرعةَ في المنامِ، فقلتُ له: ما حالُكَ يا أبا زُرعةَ؟
قال: أحمدُ اللهَ على الأحوالِ كُلِّها، إنَّي أُحضِرتُ فوقفتُ بين يدَي اللهِ تعالى، فقال لي: يا عُبَيدَ اللهِ، لِمَ تذرَّعتَ في القولِ في عِبادي؟
فقلتُ: يا ربِّ، إنَّهم حادَلوا دِينَكَ، فقال: صدقتَ.
ثم أُتِيَ بطاهرٍ الخُلْقانيِّ، فاستَعدَيتُ عليه إلى ربِّي تعالى، فضُرِبَ الحدَّ مِائةً، ثم أُمِرَ به إلى الحبسِ.
ثم قال: ألحِقُوا عُبيدَ اللهِ بأصحابِه، بأبي عبدِ اللهِ، وأبي عبدِ اللهِ، وأبي عبدِ اللهِ: سُفيانَ الثَّوريِّ، ومالكِ بنِ أنسٍ، وأحمدَ بنِ حنبلٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهذا إسنادٌ صحيحٌ، رِجالُه أئمَّةٌ.

إبراهيمُ بنُ عبدِ اللهِ الأصبهانيُّ، هو المعروفُ بالقصَّارِ، لُقِّبَ به لأنه كان يغسلُ الموتى لورَعِه وزُهدِه، واجتهادِه في العبادةِ، ومُتابَعَتِه السُّنَّةَ.

والسَّرَّاجُ وابنُ وارةَ إمامانِ كبيرانِ جليلانِ ثِقَتانِ.

ورواه الخطيبُ البغداديُّ في تاريخِ بغدادَ ( ١٢ / ٤٦ - ٤٧ ) قال: أخبرنا أبو نُعَيمٍ الحافظُ، حدَّثنا إبراهيمُ، به.

ورواه ابنُ عساكرَ في تاريخِ دمشقَ ( ٣٨ / ٣٤ )، والمِزِّيُّ في تهذيبِ الكمالِ ( ١٩ / ١٠٢ - ١٠٣ )، والذَّهبيُّ في السِّيَرِ ( ١٣ / ٨٤ - ٨٥ ) من طريقِ الخطيبِ البغداديِّ، بهذا الإسنادِ.

وقال الذَّهبيُّ: "إسنادُها كالشَّمسِ".

ورواه ابنُ أبي حاتمِ في مُقدِّمةِ الجرحِ والتَّعديلِ ( ١ / ٣٤٦ ) قال: سمعتُ مُحمَّدَ بنَ مُسلِمٍ يقولُ: رأيتُ أبا زُرعةَ رحمه اللهُ في المنامِ، فقلتُ: ما فعل بكَ ربُّكَ؟ فقال: قرَّبَني وأدناني، وقرَّبني وأدناني، حتَّى هكذا وأومأُ بيدِه، ثم قال لي: يا عُبَيدَ اللهِ تذرَّعتَ بالكلامِ؟ قلتُ: لأنَّهم حاولوا دِينَكَ ،قال: ألحِقُوهَ بأبي عبدِ اللهِ، وأبي عبدِ اللهِ، وأبي عبدِ اللهِ.
قال مُحمَّدُ بنُ مُسلِمٍ: فوقع في نفسي في النَّومِ أنَّ أبا عبدِ اللهِ سُفيانُ الثَّوريُّ، وأنَّ أبا عبدِ اللهِ مالكُ بنُ أنسٍ، وأنَّ أبا عبدِ اللهِ أحمدُ بنُ حنبلٍ. اهـ

قولُه: "تذرَّعتَ في القولِ..": أي أكثرتَ الكلامَ وبالغتَ فيه.
يعني كلامَه في الجرحِ والتَّعديلِ.

وقولُه: "إنَّهم حادَلوا دينَك": أي جارُوا على دينِكَ وخادَعوهُ، ووضعوا الأحاديثَ المكذوبةَ.

وعند ابنِ عساكرَ: "خاذلوا دينَك"، وعند المزِّيِّ: "حاربوا دينك"، وعند الذَّهبيِّ: "حاولوا دينك".
قال البُخاريُّ ( ٥٦٨٠ ): حدَّثني الحُسَينُ، حدَّثنا أحمدُ بنُ مَنِيعٍ، حدَّثنا مروانُ بنُ شُجاعٍ، حدَّثنا سالمٌ الأفطسُ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ، عنِ ابنِ عبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما قال: "الشِّفاءُ في ثلاثةٍ: شَربَةِ عَسَلٍ، وشَرطةِ مِحجَمٍ، وكَيَّةِ نارٍ، وأنهى أُمَّتي عن الكيِّ". رفعَ الحديثَ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحُسَينُ هذا هو ابنُ مُحمَّدِ بنِ زِيادٍ القَبَّانيُّ النَّيسابوريُّ، الإمامُ الحافظُ.

يروي عن إسحاقَ بنِ راهويه، وأحمدَ بنِ مَنِيعٍ، وأبي بكرِ بنِ أبي شيبةَ، وأبي معمرٍ الهُذَليِّ، وأبي مُصعَبٍ الزُّهريِّ، والقواريريِّ، والبُخاريِّ، وغيرِهم.

وهو من تلاميذِ الإمامِ البُخاريِّ، وكان مُلازِمًا للبُخاريِّ في إقامتِه بنيسابورَ.
وقد روى البُخاريُّ هنا عنه، وهذا من قبيلِ روايةِ الأكابرِ عن الأصاغرِ.

وقال الحُسَينُ هذا مرَّةً: "حدَّثتُ البُخاريَّ بحديثٍ عن سُرَيجِ بنِ يُونسَ، فرأيتُ في كتابِ بعضِ الطَّلَبةِ قد سَمِعَهُ من البُخاريِّ عنِّي".

قال أبو نصرٍ الكَلاباذيُّ في رجالِ صحيحِ البُخاريِّ ( ١ / ١٧٥ ): "الحُسَينُ هذا هو عندي ابنُ مُحمَّدِ بنِ زِيادِ القبَّانيُّ النَّيسابوريُّ، وعنده مُسنَدُ أحمدَ بنِ منيعٍ، وبلغني أنَّه كان يلزمُ البُخاريَّ ويهوى هواه لما وقع له بنيساورَ ما وقع". اهـ

ويُنظَرُ: تهذيب الكمالِ ( ٦ / ٤٧٧ و٥٠٠ - ٥٠٣ ) للمِزِّيِّ، وسِير الأعلامِ ( ١٣ / ٥٠١ ) وتذكرة الحُفَّاظِ ( ٢ / ٦٨١ ) كلاهما للذَّهبيِّ، وفتح الباري ( ١٣ / ٥٩ ) لابنِ حَجَرٍ.

وقد عاش القبَّانيُّ بعد البُخاريِّ ثلاثًا وثلاثينَ سنةً، وهو من أقرانِ الإمامِ مُسلِمٍ، رحم اللهُ الجميعَ.

وقِيلَ: هو الحُسَينُ بنُ يحيى بنِ جعفرٍ البارقيُّ البِيكَنديُّ.
قال ذلك الحاكمُ، وابنُ مندةَ، وغيرُهما.

والبُخاريُّ يروي عن أبيه يحيى بنِ جعفرٍ البيكنديِّ.

والقرائنُ التي تدلُّ على أنَّه القبَّانيُّ أقوى.

وأحمدُ بنُ منيعٍ، هو البغويُّ، إمامٌ حافظٌ.
روى عنه مُسلِمٌ، وأبو داودَ، والتِّرمذيُّ، والنَّسائيُّ، وابنُ ماجه.
والبخاريُّ روى عنه هذا الحديثَ بواسطةٍ كما ترى.

وليس للحُسَينِ -سواءٌ كان القبَّانيَّ أو البِيكَنديَّ- وأحمدَ بنِ منيعٍ في صحيحِ البُخاريِّ إلَّا هذا الموضعُ فقط.

وقد يظنُّ الظَّانُّ أنَّ هذا الحديثَ موقوفٌ، لكنَّ آخرَهُ يُشعِرُ بأنَّه مرفوعٌ لقولِه: "وأنهى أُمَّتي عن الكيِّ"، ولقولِ الرَّاوي: رفعَ الحديثَ.
وقد جاءَ من طُرُقٍ أخرى مُصرَّحًا برفعِه.

فائدةٌ:
قال الخطَّابيُّ: "انتظمَ هذا الحديثُ عَلى جُملةِ ما يتداوى به النَّاسُ، وذلكَ أنَّ الحَجْمَ يستفرغُ الدَّمَ وهو أعظمُ الأخلاطِ، والحَجْمُ أنجحُها شِفاءً عند هَيَجانِ الدَّمِ.
وأمَّا العسلُ فهو مُسهِّلٌ للأخلاطِ البَلغَمِيَّةِ، ويدخلُ في المعجوناتِ لِيحفظَ على تلكَ الأدويةِ قُواها ويُخرِجَها من البَدَنِ.
وأمَّا الكيُّ فإنَّما يُستَعمَلُ في الخَلطِ الباغي الذي لا تنحسمُ مادَّتُه إلَّا به، ولهذا وصَفَهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ثم نهى عنه، وإنَّما كَرِهَهُ لِما فيه من الألَمِ الشَّديدِ والخَطَرِ العظيمِ، ولهذا كانَتِ العربُ تقولُ في أمثالِها: آخِرُ الدَّواءِ الكيُّ، وقد كوى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سعدَ بنَ مُعاذٍ وغيرَهُ، واكتوى غيرُ واحدٍ من الصَّحابةِ". اهـ

قال الحافظُ ابنُ حَجَرٍ العسقلانيُّ: قلتُ: ولم يُرِدِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الحصرَ في الثَّلاثةِ، فإنَّ الشِّفاءَ قد يكونُ في غيرِها، وإنَّما نبَّهَ بها على أُصولِ العِلاجِ، وذلكَ أنَّ الأمراضَ الامتِلائيَّةَ تكونُ دَمَويَّةً وصفراويَّةً وبَلغَمِيَّةً وسَوداوِيَّةً، وشِفاءُ الدَّمَويَّةِ بإخراجِ الدَّمِ، وإنَّما خُصَّ الحجمُ بالذِّكرِ لكثرةِ استِعمالِ العربِ وإِلْفِهِم له، بخِلافِ الفصدِ؛ فإنَّه وإن كان في معنى الحَجمِ، لكنَّه لم يكن معهودًا لها غالبًا، على أنَّ في التَّعبيرِ بقولِه: شَرطَة مِحجَم ما قد يتناولُ الفصدَ.
وأيضًا فالحجمُ في البِلادِ الحارَّةِ أنجحُ من الفصدِ، والفصدُ في البِلادِ التي ليسَتْ بحارَّةٍ أنجحُ من الحجمِ.
وأمَّا الامتِلاءُ الصَّفراويُّ وما ذُكِرَ معه فدواؤُه بالمُسهِّلِ، وقد نبَّهَ عليه بذِكرِ العسلِ.
وأمَّا الكيُّ فإنَّه يقعُ آخِرًا لإخراجِ ما يتعسَّرُ إخراجُه من الفَضَلاتِ، وإنما نهى عنه مع إثباتِه الشِّفاءَ فيه؛ إمَّا لكونِهم كانوا يرونَ أنَّه يحسمُ المادَّةَ بطَبعِه فكَرِهَهُ لذلكَ، ولذلكَ كانوا يُبادِرُونَ إليه قبل حُصولِ الدَّاءِ لظنِّهم أنَّه يحسمُ الدَّاءَ فيتعجَّلَ الذي يكتوي التَّعذيبَ بالنَّارِ لأمرٍ مظنونٍ، وقد لا يتَّفقُ أن يقعَ له ذلك المرضُ الذي يقطعُه الكيُّ.
ويُؤخَذُ من الجمعِ بين كراهتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للكيِّ وبين استِعمالِه له أنَّه لا يُترَكُ مُطلَقًا ولا يُستَعملُ مُطلقًا، بل يُستَعملُ عند تَعيُّنِه طريقًا إلى الشِّفاءِ مع مُصاحَبةِ اعتِقادِ أنَّ الشِّفاءَ بإذنِ اللهِ تعالى. اهـ

فتحُ الباري ( ١٣ / ٦٢ - ٦٣ ).
الحمدُ للهِ، وبعدُ:

روى الإمامُ البُخاريُّ ( ٩٦٩ ) عن عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه قال: "ما العَمَلُ في أيَّامِ العشرِ أفضلَ من العملِ في هذه".
قالوا: ولا الجِهادُ؟ قال: "ولا الجِهادُ، إلَّا رجلٌ خرج يُخاطِرُ بنفسِه ومالِه فلم يرجعْ بشيءٍ".

وعندَ أبي داودَ ( ٢٤٣٨ )، والتِّرمذيِّ ( ٧٥٧ )، وابنِ ماجه ( ١٧٢٧ ): "ما من أيَّامٍ العَمَلُ الصَّالحُ فيها أحبُّ إلى اللهِ من هذه الأيَّامِ".

وعندَ الدَّارميِّ ( ١٩٠٢ ): "ما من عَمَلٍ أزكى عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ ولا أعظمُ أجرًا من خيرٍ يَعمَلُه في عشرِ الأضحى".

وانظُرْ فتحَ الباري ( ٣ / ٢٨٨ - ٢٩٢ دار طيبة ) للحافظِ ابنِ حَجَرٍ العسقلانيِّ؛ فقدِ استوفى طُرُقَ الحديثِ وألفاظَهُ، وذكرَ ما فيها من الفوائدِ والزَّوائدِ.

يقولُ الإمامُ ابنُ رَجَبٍ الحنبليُّ في لطائفِ المعارفِ ( ص٥٧٩ - ٥٨٠ ): "وقد دلَّ هذا الحديثُ على أنَّ العَمَلَ في أيَّامِهِ أحبُّ إلى اللهِ من العَمَلِ في أيَّامِ الدُّنيا من غيرِ استثناءِ شيءٍ منها، وإذا كان أحبَّ إلى اللهِ فهو أفضلُ عنده.
وإذا كان العَمَلُ في أيَّامِ العشرِ أفضلَ وأحبَّ إلى اللهِ من العَمَلِ في غيرِه من أيَّامِ السَّنَةِ كلِّها؛ صار العَمَلُ فيه -وإن كان مفضولًا- أفضلَ من العَمَلِ في غيرِه وإن كان فاضلًا.
ولهذا قالوا: يا رسولَ اللهِ، ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ؟ قال: ولا الجهادُ.
ثم استثنى جهادًا واحدًا هو أفضلُ الجهادِ". اهـ

وقال الإمامُ ابنُ حَجَرٍ في الفتحِ ( ٣ / ٢٩١ ): "والذي يظهرُ أنَّ السَّبَبَ في امتيازِ عشرِ ذي الحِجَّةِ؛ لمكانِ اجتِماعِ أُمَّهاتِ العِبادةِ فيه، وهي الصَّلاةُ والصِّيامُ والصَّدَقةُ والحجُّ، ولا يتأتَّى ذلك في غيرِه". اهـ

وقال الإمامُ ابنُ عُثَيمين في شرحِ صحيحِ البُخاريِّ ( ٣ / ٦٣٣ ): "هذا الحديثٌ عامٌّ في أنَّ جميعَ الأعمالِ الصَّالحةِ في هذه العشرِ محبوبةٌ إلى اللهِ، وأفضلُ من العَمَلِ في غيرِها، وهو شاملٌ لجميعِ الأعمالِ من صلاةٍ وصدقةٍ وقِراءةٍ وذِكرٍ وصِيامٍ وغيرِها". اهـ

وقال الإمامُ ابنُ القيِّمِ في مدارجِ السَّالِكِينَ ( ١ / ١١٠ ): "والأفضلُ في أيَّامِ عشرِ ذي الحِجَّةِ الإكثارُ من التَّعبُّدِ، لا سيما التَّكبيرُ والتَّهليلُ والتَّحميدُ، فهو أفضلُ من الجِهادِ غيرِ المُتَعيَّنِ". اهـ

وسُئِلَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ عن عشرِ ذي الحِجَّةِ والعشرِ الأواخرِ من رمضانَ؛ أيُّهما أفضلُ؟

فأجابَ: "أيَّامُ عشرِ ذي الحِجَّةِ أفضلُ من أيَّامِ العشرِ من رمضانَ، واللَّيالي العشرُ الأواخرُ من رمضانَ أفضلُ من ليالي عشرِ ذي الحِجَّةِ". اهـ

علَّقَ الإمامُ ابنُ القيِّمِ بقولِه: "وإذا تأَمَّلَ الفاضلُ اللَّبيبُ هذا الجوابَ؛ وجَدَهُ شافيًا كافيًا؛ فإنَّه ليسَ من أيَّامٍ العَمَلُ فيها أحبُّ إلى اللهِ من أيَّامِ عشرِ ذي الحِجَّةِ، وفيها: يومُ عَرَفةَ، ويومُ النَّحرِ، ويومُ التَّرويةِ.
وأمَّا ليالي عشرِ رمضانَ فهيَ ليالي الإحياءِ، التي كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُحييها كلَّها، وفيها ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ.
فمن أجابَ بغيرِ هذا التَّفصيلِ لم يُمكِنْهُ أن يُدلِيَ بحُجَّةٍ صحيحةٍ". اهـ

مجموعُ الفتاوى ( ٢٥ / ٢٨٧ ).

وقد أقسمَ اللهُ تعالى بهذه الأيَّامِ لفضلِها في قولِه: ( وَلَيَالٍ عَشْرٍ ).

قال الإمامُ ابنُ كثيرٍ في تفسيرِه ( ٨ / ٣٩٠ ): "واللَّيالي العشرُ: المُرادُ بها عشرُ ذي الحجَّةِ، كما قالَهُ ابنُ عبَّاسٍ، وابنُ الزُّبَيرِ، ومُجاهِدٌ، وغيرُ واحدٍ من السَّلَفِ والخَلَفِ". اهـ

وعنِ ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنه في قولِه تعالى: ( وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ) قال: "أيَّامُ العشرِ".

علَّقَهُ البُخاريُّ في صحيحِه بصِيغةِ الجزمِ.
وذَكَرَهُ ابنُ كثيرٍ في تفسيرِه ( ٥ / ٤١٥ ) ثم قال: "ويُروى مِثلُه عن أبي مُوسى الأشعريِّ، ومُجاهدٍ، وعطاءٍ، وسعيدِ بنِ جُبَيرٍ، والحسنِ، وقتادةَ، والضَّحَّاكِ، وعطاءٍ الخُراسانيِّ، وإبراهيمَ النَّخَعيِّ.
وهو مذهبُ الشَّافعيِّ، والمشهورُ عن أحمدَ بنِ حنبلٍ".

وذكَرَ الإمامُ مُحمَّدُ بنُ نصرٍ المروزيُّ في قيامِ رمضانَ ( ص٢٤٧ / مختصره )، والإمامُ ابنُ رَجَبٍ في لطائفِ المعارفِ ( ص٨٨ ) عن التَّابعيِّ الجليلِ أبي عُثمانَ النَّهديِّ أنَّه قال: "كانوا يُعظِّمُونَ ثلاثَ عشراتٍ: العشرَ الأُوَلَ من المُحرَّمِ، والعشرَ الأُوَلَ من ذي الحجَّةِ، والعشرَ الأواخرَ من رمضانَ".

وروى الإمامُ أبو نُعَيمٍ في الحِليةِ ( ٤ / ٢٨١ ) عن التَّابعيِّ الجليلِ سعيدِ بنِ جُبَيرٍ أنَّه قال: "لا تُطفِئُوا سُرُجَكُم ليالي العشرِ".
تُعجِبُه العِبادةُ.

وكان سعيدُ بنُ جُبَيرٍ إذا دخل أيَّامُ العشرِ اجتهدَ اجتِهادًا شديدًا، حتَّى ما يكادُ يُقدَرُ عليه.
رواه الدَّارميُّ ( ١٩٠٢ ).
يا ربِّ عَفوَكَ!

روى الحافِظُ أبو نُعَيمٍ في الحِليةِ ( ٨ / ١٧١ ) عن ابنِ وهبٍ، قال: رأى رجلٌ سُهَيلَ بنَ عليٍّ في المنامِ فقال: ما فعل بكَ ربُّكَ؟ قال: نجوتُ بكلمةٍ عَلَّمَنِيها ابنُ المُبارَكِ. 
قلتُ له: ما تلكَ الكلمةُ؟ قال: قولُ الرجلِ: يا ربِّ عفوَكَ عفوَكَ.
الحمدُ للهِ، وبعدُ:

فضائلُ يومِ عَرَفةَ:

- فضلُ صومِه:

روى مُسلِمٌ ( ١١٦٢ ) عن أبي قتادةَ الأنصاريِّ، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "صِيامُ يومِ عرفةَ أحتسبُ على اللهِ أن يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قبلَهُ، والسَّنَةَ التي بعدَهُ".

وفي روايةٍ عندَ مُسلِمٍ أيضًا: وسُئِلَ عن صومِ يومِ عرفةَ؟
فقال: "يُكَفِّرُ السَّنَةَ الماضيةَ والباقيةَ".

وروى أبو بكرِ بنُ أبي شيبةَ ( ٩٩٧٦ )، والطَّبريُّ في تهذيبِ الآثارِ ( ٦٠٠ / مسند عمر ) بإسنادٍ صحيحٍ عن أمِّ المُؤمنينَ عائشةَ رضي اللهُ عنها أنَّها قالَتْ: "ما من السَّنَةِ يومٌ أحبُّ إليَّ أن أصومَهُ من يومِ عرفةَ".

وروى الطَّبريُّ في تهذيبِ الآثارِ ( ٦٠٨ / مسند عمر )، وأبو نُعَيمٍ في حِليةِ الأولياءِ ( ٤ / ٢٨١ ) عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ قال: "أيقِظُوا خدَمَكُم يتسحَّرونَ لصومِ يومِ عرفةَ".
وذكَرَهُ الذَّهَبيُّ في سِيَرِ أعلامِ النُّبَلاءِ ( ٤ / ٣٢٦ ).

- العِتقُ من النِّيرانِ، والمُباهاةُ بأهلِ الموقفِ فيه:

روى مُسلِمٌ ( ١٣٤٨ ) عن عائشةَ قالَتْ: إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "ما من يومٍ أكثرَ من أن يُعتِقَ اللهُ فيه عبدًا من النَّارِ من يومِ عرفةَ، وإنَّه لَيَدنُو، ثم يُباهي بهم الملائكةَ، فيقولُ: ما أرادَ هؤلاءِ".

- فيه أكملُ اللهُ الدِّينَ، وأتمَّ علينا النِّعمةَ، ورضيَ لنا الإسلامَ دينًا:

روى البُخاريُّ ( ٤٥ )، ومُسلِمٌ ( ٣٠١٧ ) عن طارقِ بنِ شِهابٍ، عن عُمَرَ بنِ الخطَّابِ أنَّ رجلًا من اليهودِ قال له: يا أميرَ المُؤمنينَ، آيةٌ في كِتابِكُم تقرأونَها لو علينا معشرَ اليهودِ نزَلَتْ لَاتَّخذْنا ذلك اليومَ عِيدًا.
قال: أيُّ آيةٍ؟ قال: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ).
قال عُمَرُ: قد عَرَفْنا ذلك اليومَ والمكانَ الذي نَزَلَتْ فيه على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو قائمٌ بعرفةَ يومَ جُمُعةٍ.

وروى التِّرمذيُّ ( ٣٠٤٤ )، وابنُ نصرٍ في تعظيمِ قَدرِ الصَّلاةِ ( ٣٥٤ )، وابنُ جريرٍ في التَّفسيرِ ( ٨ / ٨٧ )، والطَّبرانيُّ في الكبيرِ ( ١٢٨٣٥ ) عن عمَّارِ بنِ أبي عمَّارٍ قال: قرأَ ابنُ عبَّاسٍ: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) وعنده يهوديٌّ فقال: لو أُنزِلَتْ هذه علينا لَاتَّخذْنا يومَها عِيدًا.
قال ابنُ عبَّاسٍ: فإنَّها نزلَتْ في يومِ عِيدَينِ؛ في يومِ جُمُعةٍ ويومِ عرفةَ.
وهو أثرٌ صحيحٌ.

وروى ابنُ جريرٍ في تفسيرِه ( ٨ / ٨٤ ): عن الشَّعبيِّ في هذه الآيةِ: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) قال: "نزَلَتْ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو واقفٌ بعرفاتٍ، وقد أطاف به النَّاسُ، وتهدَّمَتْ منارُ الجاهليَّةِ ومناسِكُهم، واضمحلَّ الشِّركُ، ولم يطُفْ حولَ البيتِ عُريانٌ، فأنزل اللهُ: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ )".

وإسنادُه إلى الشَّعبيِّ صحيحٌ؛ إلَّا أنَّ عامرًا الشَّعبيَّ تابعيٌّ، فهو مُرسَلٌ، لكنَّه قد قال: "واللهِ ما من آيةٍ إلَّا وقد سألتُ عنها".

- ما خيرُ ما قالَهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في هذا اليومِ؟

روى التِّرمذيُّ ( ٣٥٨٥ ) عن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "خيرُ الدُّعاءِ دُعاءُ يومِ عرفةَ، وخيرُ ما قلتُ أنا والنَّبيُّونَ من قبلي: لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، له المُلكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ".
وهو حديثٌ حسنٌ.

وكان من دُعاءِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما في هذا اليومِ رافعًا به صوتَهُ: "لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، له المُلكُ وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، اللَّهُمَّ اهدِنا بالهُدى، وزيِّنَّا بالتَّقوى، واغْفِرْ لنا في الآخرةِ والأُولى".
ثم يخفضُ صوتَهُ ثم يقولُ: "اللَّهُمَّ إنِّي أسألُكَ من فضلِكَ وعطائِكَ رِزقًا طيِّبًا مُبارَكًا، اللَّهُمَّ إنَّكَ أمرتَ بالدُّعاءِ، وقضيتَ على نفسِكَ بالاستِجابةِ، وأنتَ لا تُخلِفُ وعدَكَ، ولا تكذبُ عهدَكَ، اللَّهُمَّ ما أحببتَ من خيرٍ فحَبِّبهُ إلينا ويسِّرهُ لنا، وما كرهتَ من شيءٍ فكرِّههُ إلينا وجنِّبناهُ، ولا تنزِعْ عنَّا الإسلامَ بعدَ إذ أعطيتَنا".
رواه الطَّبرانيُّ في الدُّعاءِ ( ٨٧٨ ) بإسنادٍ صحيحٍ.
يقولُ الإمامُ ابنُ رَجَبٍ الحنبليُّ: "وعمَّا قليلٍ يقفُ إخوانُكم بعرفةَ في ذلك الموقفِ، فهنيئًا لمن رُزِقَهُ، يجأرونَ إلى اللهِ بقُلوبٍ مُحتَرِقةٍ ودُموعٍ مُستَبِقةٍ.
فكم فيهم من خائفٍ أزعَجَهُ الخوفُ وأقلَقَه؟، ومُحِبٍّ ألهَبَهُ الشَّوقُ وأحرَقَه؟، وراجٍ أحسنَ الظَّنَّ بوعدِ اللهِ وصَدَّقَه؟، وتائبٍ نصحَ للهِ في التَّوبةِ وصَدَقَه؟، وهاربٍ لجأَ إلى بابِ اللهِ وطَرَقَه؟، فكم هنالك من مُستَوجِبٍ للنَّارِ أنقَذَهُ اللهُ وأعتَقَه؟، ومن أسيرٍ للأوزارِ فكَّهُ وأطلَقَه؟، وحينئذٍ يطَّلعُ عليهم أرحمُ الرُّحَماء، ويُباهي بجمعِهم أهلَ السَّماء، ويدنو ثم يقولُ: ما أراد هؤلاء؟
لقد قَطَعْنا عند وُصولِهم الحِرمان، وأعطاهم نهايةَ سُؤلِهم الرَّحمان، هو الذي أعطى ومنع ووصلَ وقطع.
مَن فاتَهُ في هذا العامِ القِيامُ بعَرَفَة؛ فلْيَقُمْ للهِ بحقِّه الذي عرَفَه! مَن عجزَ عنِ المَبيتِ بمُزدَلِفة؛ فلْيَبُتَّ عَزمَه على طاعةِ اللهِ وقد قرَّبَهُ اللهُ وأزلَفَه! مَن لم يُمكِنْهُ القِيامُ بأرجاءِ الخَيف؛ فلْيَقُمْ للهِ بحقِّ الرَّجاءِ والخوف! مَن لم يَقدِرْ على نحرِ هديِهِ بمِنى؛ فلْيَذبَحْ هواهُ هنا وقد بلغَ المُنى! مَن لم يَصِلْ إلى البيتِ لأنَّه منهُ بعيد؛ فلْيقصِدْ ربَّ البيتِ؛ فإنَّه أقربُ إلى مَن دعاهُ ورجاهُ من حبلِ الوريد!
نَفَحَتْ في هذه الأيَّامِ نفحةٌ من نفحاتِ الأُنسِ من رياضِ القُدسِ على كلِّ قلبٍ أجابَ إلى ما دُعِي، يا هِمَمَ العارفينَ! بغيرِ اللهِ لا تقنعي، يا عزائمَ النَّاسكينَ! لجميعِ أنساكِ السَّالكينَ اجمعي! لحُبِّ مولاكِ أفردِي، وبينَ خوفِه ورجائِه أقرِني، وبذكرِه تمتَّعي، يا أسرارَ المُحِبِّينَ! بكعبةِ الحُبِّ طوفي واركعي، وبين صفاءِ الصَّفا ومَروةِ المروةِ اسعَيْ وأسرعي، وفي عَرَفاتِ العِرفانِ قِفي وتضرَّعي، ثم إلى مُزدَلِفةَ الزُّلفى فادفعي، ثم إلى مِنىً نيلِ المُنى فارجعِي! فإذا قرَّبُوا القَرابِينَ فقرِّبي الأرواحَ ولا تمنعي، لقد وضحَ اليومَ الطَّريقُ ولكن قلَّ السَّالكُ على التَّحقيقِ وكَثُرَ المُدَّعي!".

لطائفُ المعارفِ ( ص٦٣٢ - ٦٣٣ ).

واللهُ أعلمُ.
وكتبَ: أبو عبدِ اللهِ الأثَريُّ.
سيُصادِفُ يومُ عرفةَ غدًا يومَ سبتٍ.. وصيامُه لا بأسَ به إن شاء اللهُ، لأنَّه لم يَصُمْهُ لأنَّه يومُ السَّبتِ؛ بل لأنَّه من الأيَّامِ التي يُشرَعُ صومُها.
2024/11/16 11:55:03
Back to Top
HTML Embed Code: